[center]
دُروسٌ في العَقِيدَة
( مِنْهَاجٌ مُعَدٌّ للمُجَاهِدينَ في سَبِيلِ الله )
أعدّ هذه الدروس/ عبد العزيز بن محمّد (أبو أسامة العراقي)
الدرس الثامن (ذو الحجّة 1427 للهجرة)
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره . ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيّئات أعمالنا . مَن يهده الله فلا مُضلّ له ، ومَن يُضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلّم .أمّا بعد .
توحيد الإلهيّة يتضمّن توحيد الربوبيّة
ذكرنا في الدرس الرابع أنّ توحيد الربوبيّة يستلزم توحيد الإلهيّة ، بمعنى : أنّ الشهادة بتوحيد الربوبيّة لله تعالى يستلزم إفراده جلّ وعلا وحده بالعبادة . فهو دليل على توحيد الإلهيّة .
قال الإمام ابن أبي العزّ رحمه الله في ( شرح العقيدة الطحاويّة )(85):
( والقرآن مملوءٌ مِن تقرير هذا التوحيد [ يقصد: توحيد الإلهيّة ] وبيانه وضَرْب الأمثال له . ومِن ذلك أنّه يقرر توحيد الربوبيّة ، ويبيّن أنّه لا خالق إلا الله . وأنّ ذلك مستلزم أنْ لا يُعبد إلا الله ، فيجعل الأوّل دليلاً على الثاني ..) .
وليس معنى هذا أنّ كلّ مَن شهد بتوحيد الربوبيّة لله تعالى يكون عابداً لله تعالى دون ما سواه . كما تقدّم بيانه .
فهذا أصل ، وهو : استلزام توحيد الربوبيّة لتوحيد الإلهيّة .
وأصلٌ ثانٍ وهو : أنّ توحيد الإلهيّة يتضمّن توحيد الربوبيّة . بمعنى أنّ الإله الحقّ هو الذي يكون خالقاً متّصفاً بصفات الربوبيّة . وهذا لا يكون إلا لله تعالى .
وكذلك فالذي يشهد لله تعالى بتوحيد الإلهيّة فإنّه لا شكّ يشهد ضمناً بتوحيد الربوبيّة لله جلّ وعلا .
قال الإمام ابن أبي العزّ رحمه الله في ( شرح العقيدة الطحاويّة )(88):
(وتوحيد الإلهيّة متضمّنٌ لتوحيد الربوبيّة دون العكس . فمَن لا يقدر على أنْ يخلق يكون عاجزاً ، والعاجز لا يصلح أنْ يكون إلهاً . قال تعالى ( أيُشرِكون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلَقون ) [ ألأعراف:191 ] وقال تعالى ( أفَمَن يخلق كَمَن لا يخلق أفَلا تَذَكَّرون ) [ ألنَّحْل:17 ] ) .
دلالةُ اسْم : ( الإله ) واسْم : ( الربّ )
عند الانْفِرَاد وعند الاقْتِرَان
واعلمْ أنّ اسم : ( الإله ) معناه : المعبود ، الذي يستحقّ أنْ يُعبد .
واسم : ( الربّ ) معناه : الذي يربّ عبده فيدبّره ، وله معاني الربوبيّة التي ذكرناها سابقاً .
واسم : ( الإله ) قد يُذكر منفرداً عن اسم : ( الربّ ) فيدخل فيه معنى ( الربّ ) . مثاله كلمة التوحيد : لا إله إلا الله . فمعناها : لا معبود بحقّ إلا الله ، ولا ربّ إلا الله .
وكذلك اسم : ( الربّ ) قد يُذكر منفرداً عن اسم : ( الإله ) فيدخل فيه معنى ( الإله ) . ومثاله قوله تعالى ( قل أغَيْر الله أبْغي ربّاً وهو ربّ كلّ شيء ) [ ألأنعام : 164 ]. أي: هو سبحانه الإله الربّ وحده لا شريك له .
فهذا ما يتعلّق بانفراد كلّ منهما عن الآخر .
وأمّا عند اقترانهما وذكرهما معاً فإنّ كُلاً منهما يختصّ بمعناه .كما في قوله تعالى ( قل أعوذ بربّ الناس ملك الناس إله الناس ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ( مجموع الفتاوى ) ( 10/178ـ179 ) :
( وإنْ كانت الإلهيّة تتضمّن الربوبيّة ، والربوبيّة تستلزم الإلهيّة ، فإنّ أحَدَهما إذا تضمّن الآخر عند الانفراد ، لم يمنع أنْ يختصّ بمعناه عند الاقتران . كما في قوله : ( قل أعوذ بربّ الناس ملك الناس إله الناس ) [ ألناس:1ـ3 ] . وفي قوله ( الحمد لله ربّ العالمين ) [ ألفاتحة:1 ] . فجمع بين الاسْمَيْن : اسم ( الإله ) واسم ( الربّ ) . فإنّ الإله هو المعبود الذي يستحقّ أنْ يُعبد . والربّ هو الذي يربّ عبده فيدبّره .
ولهذا كانت العبادة متعلّقة باسمه ( الله ) ، والسؤال متعلّقاً باسمه ( الربّ ) ) . ـ إلى أنْ قال شيخ الإسلام ـ : ( ولمّا كانت العبادة متعلّقة باسمه ( الله ) تعالى جاءت الأذكار المشروعة بهذا الاسم ، مثل كلمات الأذان : الله أكبر ، الله أكبر . ومثل الشهادتين : أشهد أنْ لا إله إلا الله ، أشهد أنّ محمّداً رسول الله . ومثل التشهّد : التحيّات لله . ومثل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
وأمّا السؤال فكثيراً ما يجيء باسمه ( الربّ ) .كقول آدم وحوّاء : ( ربّنا ظلمنا أنفسنا وإنْ لم تغفر لنا وترحمنا لَنَكونَنَّ مِن الخاسرين ) [ ألأعراف : 23 ] . وقول نوح : ( ربِّ إنّي أعوذ بك أنْ أسأَلَكَ ما ليس لي به عِلْم ) [ هود:47 ] . وقول موسى : ( ربِّ إنّي ظلمتُ نفسي فاغفرْ لي ) [ ألقَصص : 16 ] . وقول الخليل : ( ربّنا إنّي أسْكَنْتُ مِن ذرِّيَّتي بِوَادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرّم ربّنا لِيُقيموا الصلاة ) [ إبراهيم : 37 ] . وقوله مع إسماعيل : ( ربّنا تَقَبَّلْ مِنّا إنّك أنت السميع العليم ) [ ألبقرة : 127 ] . وكذلك قول الذين قالوا : ( ربّنا آتِنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار ) [ ألبقرة: 201 ] . ومثل هذا كثير ) . انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله .
وتتّضح لنا مِن الكلام السابق مسألة : وهي سبب وُرود التشهّد ( لا إله إلا الله ) باسم : ( الإله ) . ولم تَرِد باسم ( الربّ ) أي : لا ربّ إلا الله . وذلك لأنّه لمّا كانت الحكمة مِن خَلْق الخلق وإرسال الرسل وإنزال الكتب هي إفراد الله تعالى بالعبادة، وفاتحةُ دعوة الرسل : الأمرُ بعبادة الله تعالى وحده . فاسم الإله أدلّ على هذا المقصود مِن اسم الربّ . فلذلك ورد التشهّد باسم الإله : لا إله إلا الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ( مجموع الفتاوى ) ( 2/15ـ16 ) :
( ففاتحة دعوة الرسل : الأمر بالعبادة .قال تعالى ( يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين مِن قبلكم ) [ ألبقرة:21 ] . وقال صلّى الله عليه وسلّم : ( أُمِرْتُ أنْ أُقاتل الناس حتّى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله ) .وذلك يتضمّن الإقرار به ، وعبادته وحده . فإنّ الإله هو المعبود . ولم يقل : حتّى يشهدوا أنْ لا ربّ إلا الله ، فإنّ اسم ( الله ) أَدَلّ على مقصود العبادة له ، التي لها خلق الخلق ، وبها أُمِروا ) .
مع ملاحظة ما ذكرناه سابقاً وهو أنّ أسم الإله هنا لمّا أُفرد فإنّه يدخل فيه معنى اسم الربّ ، فتنبّه .
معنى توحيد الإلهيّة
ذكرنا في درسٍ سابقٍ أنّ توحيد الإلهيّة هو : إفراد الله تعالى بالعبادة .
فمعناه : اجتناب الشرك ، ونفي جميع ما يُعبد مِن دون الله ، والبراءة مِن هذا المنفي والكفر به وخلعه ، وإثبات العبادة وصرفها لله وحده لا شريك له ، وأن يكون الولاء في الله عزّ وجلّ ، والبراء والمعاداة فيه سبحانه ، فلا يُوالى إلا فيه ، ولا يُعادى إلا فيه ، ولا يُحب إلا فيه ، ولا يُبغض إلا فيه ، فنحبّ أهل التوحيد والإيمان ونواليهم ، ونبغض أهل الشرك والكفر ونتبرأ منهم ونعاديهم ونجاهدهم ، وأنْ لا نعبده سبحانه إلا بما أمر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم وشرعه وسنّه .
فمدار توحيد الإلهيّة على هذه الأصول العظيمة .
وعليك أنْ تعلم هنا مسألة عظيمة مهمّة جدّاً ذكرها الإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله في ( كشف الشبهات ) فقال :
( لا خلاف أنّ التوحيد لا بُدَّ أنْ يكون بالقلب واللسان والعمل ، فإن اختلّ شيءٌ مِن هذا لم يكن الرجل مسلماً .
فإنْ عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند ككفر فرعون وإبليس وأمثالهما . وهذا يغلط فيه كثير مِن الناس ، يقولون : إنّ هذا حقّ ، ونحن نفهم هذا ، ونشهد أنّه الحقّ ، ولكنّا لا نقدر أنْ نفعله ، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا مَن وافقهم ، أو غير ذلك مِن الأعذار . ولم يَدْرِ المسكين أنّ غالب أئمّة الكفر يعرفون الحقّ ، ولم يتركوه إلا لِشيءٍ مِن الأعذار ، كما قال تعالى ( اشتَرَوا بِآيات الله ثمناً قليلاً ) [ ألتوبة : 9 ] . وغير ذلك مِن الآيات كقوله : ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) [ ألبقرة : 146 ] [ ألأنعام : 20 ] .
فإنْ عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ، ولا يعتقده بِقلبه ، فهو منافق ، وهو شرٌّ مِن الكافر الخالص . ( إنّ المنافقين في الدَّرْك الأسفل مِن النار ) [ ألنساء : 145 ] .
وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تتبيّن لك إذا تأَمَّلْتَها في ألْسِنة الناس ، ترى مَن يعرف الحقّ ويترك العمل به ، لِخَوف نقص دنيا ، أو جاه ، أو مداراة لأحَد . وترى مَن يعمل به ظاهراً لا باطناً ، فإذا سألْتَه عمّا يعتقده بِقلبه فإذا هو لا يعرفه ) . انتهى كلامه رحمه الله .
فتلخّص أنّ التوحيد لا بدّ أنْ يكون : باللسان ومعرفة معناه وشروطه والإقرار بذلك والانقياد والعمل بما أقرّ به العبد ظاهراً وباطناً .