أسود علينا وفي الحروب نعامة!
27/May/2007
د. فيصل القاسم:
تذكرت هذا القول المؤلم وأنا أشاهد "بطولات" الجيش اللبناني "العظيم" على الأطفال والنساء والشيوخ و"الغلابه" في مخيم "نهر البارد" في شمال لبنان. ما كنت أبداً أظن أن في لبنان دبابات ومدرعات وجيشاً أصلاً حتى أرانا "مراجله" على الفلسطينيين العزل داخل لبنان. فكان ظني، وبعض الظن أثم، أن القوات المسلحة في لبنان اسم على غير مسمى، بدليل أنها لم تدخل في أي صراع مسلح ذي قيمة مع إسرائيل رغم الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على بلاد الأرز منذ سبعينيات القرن الماضي، مما جعل إسرائيل تطالب الأمم المتحدة أكثر من مرة بوضع الجيش اللبناني الوديع على الحدود مع الدولة العبرية بدلاً من رجال المقاومة اللبنانية الأشداء الذين يقضّون مضاجع تل أبيب ليل نهار. وقد كان الرئيس اللبناني إميل لحود محقاً تماماً في أحد لقاءاته عندما قال إن الجيش، لو تم نشره في الجنوب، سيكون أشبه بـ"شرطي مرور" لا أكثر ولا أقل بالنسبة لإسرائيل، لأنه لا يقدر على غير ذلك.
وقد تأكدت تقديرات الرئيس لحود أثناء عدوان يوليو الأخير على لبنان حيث كنا نشاهد الطائرات الإسرائيلية وهي تصطاد
عساكر الجيش اللبناني النظامي في ثكناته النائمة كما نصطاد نحن العصافير دون أي مقاومة من جانبهم. لم نسمع صوتاً يـُذكر للقوات المسلحة اللبنانية في تلك الحرب الأخيرة التي هزمت فيها المقاومة الباسلة الجيش الإسرائيلي الذي كان يدّعي أنه لا يقهر. كل ما رأيناه عربات لبنانية مدمرة وجنود مصابون ومناظر تبعث على الحزن والأسى في صفوف القوات اللبنانية، لكننا لم نر دخاناً يخرج من فوهات مدافعها وراجماتها وينتشر بكثافة في السماء ضد الطائرات الإسرائيلية كما انتشر في أجواء مخيم "نهر البارد" أثناء الهجوم "المظفـّر" على سكان المخيم البائس والمتمردين داخله.
لا عجب إذن أن الحكومة اللبنانية ورعاتها الأمريكان يريدون القضاء على المقاومة وتسليم زمام الدفاع عن لبنان للجيش النظامي كي تتمكن إسرائيل أن تصول وتجول على الأرض اللبنانية على هواها، أو "على كيفها" كما يقول الأخوة في لبنان، على اعتبار أن الجيش "صاحب مراجل" مشهودة على الداخل ولطيف وحضاري جداً مع الأعداء الحقيقيين.
يبرر الجيش اللبناني "بسالته" بحق العزّل في مخيم "نهر البارد" بأنه يريد الحفاظ على هيبته وكرامته كجيش وطني، خاصة بعد اتهامه أكثر من مرة بأنه ليس جيشاً. لكن السؤال المطروح، ألم يأخذ في طريقه ألوف الأبرياء قتلاً وترهيباً وتهجيراً؟ هل كان بحاجة لتحويل منطقة مكتظة باللاجئين المساكين إلى ساحة حرب ضروس لم يخض الجيش مثيلاً لها في حياته؟ ثم والأنكى من ذلك، لماذا لا تتذكر الجيوش العربية كرامتها المهدورة إلا عندما تواجه أبناء جلداتها من المغلوب على أمرهم؟ لماذا تقبل بأن تـُهدر هيبتها أمام الإسرائيليين وغيرهم، ثم تتحول إلى وحوش كاسرة في وجه الأشقاء؟ لماذا لا تستبسل بعض جيوشنا إلا في الداخل؟ ربما لأنها مثل فرق كرة القدم تحب أن تلعب على أرضها!!
كم كنت آمل أن أرى سحب الدخان الهائلة التي أحدثها قصف الجيش اللبناني لمخيم "نهر البارد" فوق المستوطنات الإسرائيلية التي لا تبعد عن المخيم كثيراً! كم كنت آمل أن تكون قذائف الدبابات الثقيلة التي ربما استخدمها الجيش لأول مرة لا تدمر منازل اللاجئين الفلسطينيين "المعتـّرين"، بل تدك بيوت الأعداء المطلة على الجنوب، كما فعل حزب الله من قبل! كم كنت آمل أن يستخدم الجيش اللبناني القنابل المسمارية ليس ضد أحياء مدنية لبنانية- فلسطينية، بل ضد من يستحقها فعلاً من أعداء لبنان الفاشيين! كم كنت آمل أن تكون النسوة اللواتي كن يطلقن صرخات النجدة من داخل المخيم نساء العدو وليس عربيات فلسطينيات لا حول لهن ولا قوة! كم كانت مؤلمة تلك الصور الفظيعة التي نقلتها القنوات الفضائية لنساء وأطفال وبنات يهربن من زاوية إلى أخرى تحت نيران القصف وهن يستنجدن بالعرب كي ينقذوهن من جحيم المخيم الذي حوله الجيش اللبناني "الباسل" إلى ساحة وغى فظيعة، وحرمه من المأكل والمشرب والدواء! كم كنت آمل أن يكون الآلاف الذين نزحوا بشكل جماعي تحت وابل القصف اللبناني النظامي من سكان القرى الإسرائيلية المجاورة! لكن هيهات! لقد خيب الجيش اللبناني ظن الرئيس لحود وثأر لكرامته المهدورة بسحق الأبرياء في المخيم المذكور. ما كنت أبداً أحسب القوات المسلحة اللبنانية بتلك الجسارة والعزيمة!
لقد أثبت الجيش اللبناني في أحداث "نهر البارد" أنه جيش عربي "أصيل" ليس غريباً أبداً إذن أن هبت الحكومات العربية عن طريق جامعة الدول العربية لمد يد العون العسكري للجيش اللبناني على الفور كي يسحق المتمردين عن بكرة أبيهم.
لقد ذكرتني "مـــآثر" الجيش اللبناني الأخيرة في مخيم "نهر البارد" بقصيدة شاعر البصرة الخارجي عمران بن حطان التي نتذكرها جميعاً كلما رأينا الوحوش المتشاطرة علينا تتحول إلى نعامات أمام الآخرين، فعمران البصري هو صائغ ذلك البيت الذي احتفت به الذاكرة العربية أكثر من غيره، وذلك في القصيدة التي يعيّر فيها الحجاج بهربه أمام غزالة الحرورية حين ترك نعليه في ساحة المعركة وأسرع إلى الكوفة يتحصن داخل قصره:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة
ربداء تجفل من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى
بل كان قلبك في جناحي طائر
* مذيع بقناة الجزيرة الفضائية