ما أعظم الإسلام!
(الأحداث جرت في الولايات المتحدة)
خرجت في الصباح من البيت الذي أسكنه بعد أن سمعت صوت صديقي يناديني من الخارج أن هيا إلى العمل. فأسرعت لتلبية النداء حيث أني مستيقظ منذ الفجر وكنت عندها أقرأ في كتاب الرائد في الأدب العربي. فلما أغلقت باب البيت، لاحظت حافلة صغيرة بقرب سيارة صاحبي فيها سائقة سوداء، وفي الخلف بضع رجال قد شهدوا من الزمان ما تبديه وجوههم.
ركبت سيارة صديقي وانتظرنا صديقنا الثلاث فهو كسول الطبع، لا يعمل إلا للحظته ولا يفكر في المستقبل أبدا. وما أن بدأت أتعجب من أمر الحافلة، خرج من البيت المجاور لنا رجل مُسِنّ، يُرى عجزه في مشيته، يأخذ خطواته لا تدري أواقف هو أم ماشٍ، يدفع قدمه اليمنى ثم يغرسها في الأرض، ثم يلحقها اليسرى فلا تجرؤ على سبق يمناه، وبعد أن مللنا مواكبة خطواته، انصرفنا للحديث في ما بيننا حتى نسلب من الوقت ما لا يمنحنا إياه طوعا، وفجأة صاح صديقي: يا ساتر.
نظرت فإذا الرجل المسن قد خانته قدمه، وحال الإعياء دون لحوق يسراه بيمناه، فزل وعثر به جسمه، فانسلخ الجلد، وسال دمه على ساقه ببطئ كبطئ مشيته، وكأن الكِبر بلغ منه مجرى الدم.
فانتفضت من مكاني وسارعت إلى فكّ كربه، وتبعني صديقي، فسألته عن مدى جور المصاب عليه، فقال: لا شيء. فمددت يدي لأحلّ محل التي خانته، وفعل صديقي، فأقمناه وسندناه، ومشينا به إلى الحافلة وهو يشتكي لنا حفرة في الطريق لا يكاد يمر بها إلا أعثرته، تباً لها من حفرة.
وصلنا إلى الحافلة التي أدركتُ حينها أنها للعجزة، تديرها دار العجزة التابعة للحكومة الأمريكية، فإذا بالزنجية تلقانا كأنا قد أتيناها بمنكر، وعلا صوتها بقولها: ماذا تراكم فاعلون؟ الرجل ينزف ولن أستطيع أن أسمح له بالركوب في هذه الحافلة فذلك مخالف لتعليماتي.
حاول صديقي استعطافها، وبين لها أن الرجل يحتاج إلى طبيب يداويه، فكأنه يخاطب حجرا واقفا بصورة إنسان، "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله..."(البقرة 74)
نظر كل منا إلى صاحبه، ومشينا بالعجوز القهقري، حتى وصلنا باب بيته، فسأله صديقي: هل من أحد يعيش معك فيطببك؟ فأجاب: لا أنا أعيش لوحدي، ولكني سأتصل بالطبيب وستكون الأمور على ما يرام.
لا أدري إن كان للذي جرى وقعٌ في قلب المسنّ كوقعه في قلبينا، ولكنّ القوم اعتادوا هذه الحياة، فلا صديق ولا رفيق، ولا ابن ولا حفيد، ولا رأفة قد تصيب البعيد، حياة بلا عاطفة وقلوب من حديد، هكذا أرادوها فهكذا كانت.
أقفل الرجل بابه، وشرعنا بالحوقلة، وكل منا يقول مع أنفاسه: ما أعظم الإسلام.
وما أن وصلنا إلى السيارة حتى خرج صديقنا الثالث من البيت، ورأى الشجا التف على أعناقنا فكاد يحبس أنفاسنا، فجزع وأسرع بالسؤال: ماذا جرى، فنظر كلانا في وجه صاحبه وزفرنا: ما أعظم الإسلام.
عمر مطر
|