الحضارة الاسلامية والحضارة الغربية ايهما يتفوق على الآخر
لقد كثر الحديث في الاونة الاخيرة عن الحضارة والقيم ، وقد اعتبر الغرب ان الهجوم على نيويورك وواشنطن هجوم على القيم الغربية ، وقال رئيس وزراء ايطاليا ان الحضارة الغربية متفوقة على الحضارة الاسلامية ، فهل الغرب متفوق علينا حضاريا ، ام مدنيا فقط ، وعليه ما الفرق بين الحضارة والمدنية ، وما هي القيم ؟ وهل هناك اختلاف بين الحضارتين وقيمهما ؟ وايهما يتفوق على الاخر ؟ .
هنالك فرق بين الحضارة والمدنية ، فالحضارة هي مجموع المفاهيم عن الحياة ، والمدنية هي الاشكال المادية للاشياء المحسوسة التي تستعمل في شؤون الحياة .
وتكون الحضارة خاصة حسب وجهة النظر في الحياة ، في حين تكون المدنية خاصة وعامة ، فالاشكال المدنية التي تنتج عن الحضارة كالتماثيل تكون خاصة ، والاشكال المدنية التي تنتج عن العلم وتقدمه ، والصناعة ورقيها ، تكون عامة ، ولا تختص بها أمة من الامم ، بل تكون عالمية كالصناعة والعلم .
وهذا التفريق بين الحضارة والمدنية يلزم ان يلاحظ دائما ، كما يلزم ان يلاحظ التفريق بين الاشكال المدنية الناجمة عن الحضارة ، وبين الاشكال المدنية الناجمة عن العلم والصناعة . وذلك ليلاحظ عند اخذ المدنية التفريق بين اشكالها ، والتفريق بينها وبين الحضارة ، فالمدنية الغربية الناجمة عن العلم والصناعة لا يوجد ما يمنع من اخذها ، واما المدنية الغربية الناجمة عن الحضارة الغربية فلا يجوز اخذها بحال ، لانه لايجوز اخذ الحضارة الغربية ، لتناقضها مع الحضارة الاسلامية في الاساس الذي تقوم عليه ، وفي تصوير الحياة الدنيا وفي معنى السعادة للانسان .`
اما الحضارة الغربية فانها تقوم على اساس فصل الدين عن الحياة ، وانكار ان للدين اثرا في الحياة ، فنتج عن ذلك فكرة فصل الدين عن الدولة لانها طبيعية عند من يفصل الدين عن الحياة ، وينكر وجود الدين في الحياة ، وعلى هذا الاساس قامت الحياة ، وقام نظام الحياة .
اما تصوير الحياة فانه المنفعة ، لانها هي مقياس الاعمال ، ولذلك كانت النفعية هي التي يقوم عليها النظام ، وتقوم عليها الحضارة ، ومن هنا كانت النفعية هي المفهوم البارز في النظام ، وفي الحضارة ، لانها تصور الحياة بانها المنفعة .ولذلك كانت السعادة عندهم اعطاء الانسان اكبر قسط من المتع الجسدية وتوفير اسبابها له .
ولهذا كانت الحضارة الغربية حضارة نفعية بحتة ، لاتقيم لغير المنفعة اي وزن ، ولاتعترف الا بالنفعية ، وتجعلها هي المقياس للاعمال .
واما الناحية الروحية فهي فردية لاشأن للجماعة بها ، وهي محصورة في الكنيسة ورجال الكنيسة ، ولذلك لاتوجد في الحضارة الغربية قيم أخلاقية او روحية او انسانية ، وانما توجد قيم مادية ونفعية فقط . وعلى هذا الاساس جعلت الاعمال الانسانية تابعة لمنظمات منفصلة عن الدولة ، كمؤسسة الصليب الاحمر ، والارساليات التبشيرية ، وعزلت عن الحياة كل قيمة الا القيمة المادية وهي الربح . فكانت الحضارة الغربية هي هذه المجموعة من المفاهيم عن الحياة .
اما الحضارة الاسلامية فانها تقوم على اساس هو النقيض من اساس الحضارة الغربية ، وتصويرها للحياة غير تصوير الحضارة الغربية لها ، ومفهوم السعادة فيها يختلف عن مفهومها في الحضارة الغربية كل الاختلاف .
فالحضارة الاسلامية تقوم على اساس الايمان بالله ، وانه جعل للكون والانسان والحياة نظاما يسير بموجبه ، وانه ارسل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالاسلام دينا ، اي ان الحضارة الاسلامية تقوم على اساس العقيدة الاسلامية ، وهي الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الاخر وبالقضاء والقدر خيرهما وشرهما من الله تعالى . فكانت العقيدة هي الاساس للحضارة .
اما تصوير الحياة في الحضارة الاسلامية فانه يتمثل في ان الحياة هي دار ابتلاء واختبار وليست دار خلود ، وبالتالي فان مقياس الاعمال للمسلم هو الحلال والحرام ، وبناء على ذلك كان المسير لاعمال المسلم هو اوامر الله ونواهيه ، والغاية من تسيير اعماله بأوامر الله ونواهيه ، هي رضوان الله تعالى ، وليس النفعية مطلقا .
وقد جعل الشرع للاعمال قيمة تختلف باختلاف الاعمال ، فقد تكون قيمة مادية كمن يتاجر بقصد الربح ، وقد تكون القيمة روحية كالصلاة والزكاة ، وقد تكون القيمة اخلاقية كالصدق والامانة والوفاء ، وقد تكون القيمة انسانية كانقاذ الغريق واغاثة الملهوف .
واما السعادة فهي نيل رضوان الله ، وليست اشباع جوعات الانسان ، لان اشباع الجوعات وسيلة لازمة للمحافظة على ذات الانسان ولا يلزم من وجودها السعادة . لان السعادة هي الطمأنينة الدائمة في جميع احوال الحياة ، وهذه الطمأنينة لاتوجد الا بشعور الانسان برضى الله عز وجل .
ونظرة خاطفة للحضارة الغربية التي تتحكم في العالم اليوم ، ترينا ان الحضارة الغربية لا تستطيع ان تضمن للانسانية طمأنينتها ، بل انها على العكس من ذلك سببت هذا الشقاء الذي يتقلب العالم على أشواكه ، ويصطلي بناره ، والحضارة التي تجعل اساسها فصل الدين عن الحياة خلاف فطرة الانسان ، ولاتقيم للناحية الروحية وزنا في الحياة العامة ، وتصور الحياة بانها المنفعة فقط ، وتجعل الصلة بين الانسان والانسان في الحياة هي المنفعة ، هذه الحضارة لاتنتج الا شقاء وقلقا دائمين ، فما دامت هذه المنفعة هي الاساس فالتنازع عليها طبيعي ، والنضال في سبيلها طبيعي ، والاعتماد على القوة في اقامة الصلات بين البشر طبيعي ، ولذلك يكون الاستعمار طبيعيا عند اهل هذه الحضارة ، وتكون الاخلاق مزعزعة ، لان المنفعة وحدها ستظل هي اساس الحياة ، ولهذا فمن الطبيعي ان تنفى من الحياة الاخلاق الكريمة كما نفيت منها القيم الروحية ، وان تقوم الحياة على اساس التنافس والنضال والاعتداء والاستعمار ، وان تنتشر الجريمة والرذيلة بكل اشكالها ، لان الحضارة الغربية تجعل المنفعة هي المقياس ولا تبالي بما يجب ان يكون عليه المجتمع من قيم سامية ، لان المهم ضمان حريات الافراد ، بغض النظر عما سيؤول اليه حال المجتمع في ظل هذه الحريات ، وما هو واقع في العالم اليوم من وجود ازمات روحية في نفوس البشر ، ومن قلق دائم وشر مستطير ، خير دليل على نتائج هذه الحضارة الغربية ، لانها هي التي تتحكم في العالم وهي التي ادت الى هذه النتائج الخطيرة على الانسانية .
ونظرة الى الحضارة الاسلامية التي تحكمت في العالم منذ القرن السادس الميلادي حتى اواخر القرن الثامن عشر الميلادي ، ترينا انها لم تكن مستعمرة ، وليس من طبعها الاستعمار ، لانها لم تفرق بين المسلمين وغيرهم ، فضمنت العدالة لجميع الشعوب التي دانت لها طوال مدة حكمها ، لانها حضارة تقوم على الاساس الروحي الذي يحقق القيم جميعها من مادية وروحية واخلاقية وانسانية .هذا التحقيق للقيم من قبل الافراد يوجد توازنا في المجتمع الانساني ، فبتحقيق القيمة الانسانية يجد الفقير من يتصدق عليه ، ويجد الملهوف من يغيثه ، وتحصل الثقة بين افراد المجتمع لاتصافهم بالاخلاق الحميدة ، كالصدق والعدل والعفة ، ويرتفع مستواهم المعيشي بتحقيق القيمة المادية ، ويسيطر على المجتمع الجو الايماني بتحقيق القيمة الروحية ، وهذه الحضارة تجعل الوزن كله في الحياة للعقيدة ، وتصور الحياة بانها مسيرة باوامر الله ونواهيه ، وتجعل معنى السعادة بانها رضوان الله ، وحين تسود هذه الحضارة الاسلامية كما سادت من قبل فانها ستكفل معالجة ازمات العالم وتضمن الرفاهية للانسانية جمعاء .
وعليه فاننا نعترف بتفوق الغرب على المسلمين مدنيا ، اي في الصناعة والعلوم ، وان كان هذا الوضع طاريء وليس باصيل ، وله اسبابه التي تتمثل في ابتعاد المسلمين عن الاسلام ، اما تاريخيا فان المدنية الاسلامية قد تفوقت على ما عداها ووصلت الى مستويات مذهلة لاينكرها منصف ونزيه ، ومع ان الامر غني عن الاستدلال ولكن لابأس من ذكر ما قاله الفيلسوف الالماني المعروف ( نيتشه ) في وصفه للمدنية الاسلامية : ( لقد حرمتنا المسيحية ، ميراث العبقرية القديمة ، ثم حرمتنا بعد ذلك من الاسلام ، فقد ديست بالاقدام تلك المدنية العظيمة ، مدنية الاندلس المغربية ، ولماذا ؟ لانها نشأت من اصول رفيعة ومن غرائز شريفة ، نعم من غرائز رجال ، تلك المدنية لم تنكر الحياة بل اجابتها بالايجاب وفتحت لها صدرها .
وقد قاتل الصليبيون تلك المدنية بعد ذلك ، قاتلوها وكان اولى بهم ان يسجدوا لها على التراب ويعبدوها ، وليست مدنيتنا في هذا القرن التاسع عشر ، الا مثالا على الفقر والزوال امام مدنية الاسلام في ذلك الوقت ).
اما حضاريا فانه من الظلم للحقيقة ان نقول ان الحضارة الغربية متفوقة على الحضارة الاسلامية ، ومن الظلم للانسانية ان نتركها فريسة للحضارة الغربية ومفاهيمها التي حولت المجتمعات الى غابة وحوش انحدر فيها الانسان الى درك الحيوان ، ولا ريب ان الله عز وجل سيسألنا يوم القيامة ويحاسبنا على عدم ايصال الاسلام الى العالم ، قال تعالى ( وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) .
|