السلام عليكم
آسف لتأخري في تتمة باقي هذا الموضوع و لكن كان ذلك سببا في انشغالي .. أسرد عليكم باقي القصة.. من أخبار النساء…
قال أصلح الله الأمير، كانت لي بيت عم خطبتها إلى أبيها فزوجني منها، و كنت كلفا بها لما كانت فيه من كمال جمالها و عقلها و القرابة، فبقيت معها يا أمير المؤمنين في أصلح حال و أنعم بال، مسرورا زمانا، قرير العين، و كانت لي صرمة من إبل و شويهات، فكنت أعولها و نفسي بها. فدارت عليها أقضية الله و حوادث، فوقع فيها داء فذهبت بقدرة الله، فبقيت لا أملك شيئا، و صرت مهينا مفكرا، قد ذهب عقلي، و ساءت حالي، و صرت ثقلا على وجه الأرض. فلما بلغ ذلك أباها حال بيني و بينها، و أنكرني، و جحدني، و طردني، و دفعها عني. فلم أقدر لنفسي بحيلة و لا نصرة. فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم مشتكيا بعمي، فبعث إليه، فلما وقف بين يديه، قال: أصلح الله الأمير، ليس له عندي زوجة و لا زوجته من ابنتي قط. قلت أنا: أصلح الله الأمير، أنا راض بالجارية، فإن رأى الأمير أن يبعث إليها و يسمع منها ما تقول؟ فبعث إليها فأتت الجارية مسرعة، فلما وقفت بين يديه و نظر إليها و إلى حسنها و قعت منه موقع الإعجاب و الاستحسان، فصار لي يا أمير المؤمنين خصما، و انتهرني، و أمر بي إلى السجن. فبقيت كأني خررت من السماء في مكان سحيق، ثم قال لأبيها بعدي: هل لك أن توجها مني، و أنقدك ألف دينار، و أزيدك أنت عشرة آلاف درهم تنتفع بها، و أنا أضمن طلاقها؟ قال له أبوها: إن أنت فعلت ذلك زوجتها منك.
فلما كان من الغد بعث إلي، فلما أدخلت عليه نظر إلي كالأسد الغضبان، فقال لي: يا أعرابي، طلق سعدى. قلت: لا أفعل. فأمر بضربي، ثم ردني إى السجن، فلما كان في اليوم الثاني قال: عليَّ بالأعرابي. فلما وقفت بين يديه، قال: طلق سعدى. فقلت: لا أفعل. فسلط علي يا أمير المؤمنين خدامه فضربوني ضربا لا يقدر أحد على وصفه، ثم أمر بي إلى السجن، فلما كان في اليوم الثالث قال: علي بالأعرابي، فلما وقفت بين يديه، قال: علي بالسيف و النطع و أخضر السياف، ثم قال: يا أعرابي، و جلالة ربي، و كرامة والدي، لئن لم تطلق سعدى لأفرقن بين جسدك و موضع لسانك. فخشيت على نفسي القتل، فطلقتها طلعة واحدة على طلاق السنة، ثم أمر بي إلى السجن، فحبسني فيه حتى تمت عدتها ثم تزوجها، فبنى بها، ثم أطلقني. فأتيك مستغيثا قد رجوت عدلك و أنصافك، فارحمني يا أمير المؤمنين. فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجهدني الأرق، و أذابني القلق، و بقيت في حبها بلا عقل. ثم انتحب حتى كادت نفسه تفيض. ثم أنشأ يقول:
في القلب مني نار
و النار فيه الدمار
و الجسم مني سقيم
فيه الطبيب يحار
و العين تهطل دمعا
فدمعها مدرار
حملت منه عظيما
فما عليه اصطبار
فليس ليلي ليل
و لا نهاري نهار
فارحم كئيبا حزينا
فؤاده مستطار
اردد علي سعادي
يثيبك الجبار
ثم خر مغشيا عليه بين يدي أمير المؤمنين كأنه قد صعق به.
قال: و كان في ذلك الوقت معاوية متكئا، فلما نظر إليه قد خر بين يديه قام ثم جلس، و قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. اعتدى و الله مروان بن الحكم ضرارا في حدود الدين، و إحسارا في حرم المسلمين، ثم قال : و الله يا أعرابي لقد أتيتني بحديث ما سمعت بمثله. ثم قال: يا غلام، علي بدواة و قرطاس. فكتب إلى مروان:
( أما بعد، فإنه بلغني عنك أنك اعتديت على رعيتك في بعض حدود الدين، و انتهكت حرمة لرجل من المسلمين. و إنما ينبغي لمن كان واليا على كورة أو إقليم أن يغض بصرة و شهواته، و يزجر نفسه عن لذاته. و إنما الوالي كالراعي لغنمه، فإذا رفق بها بقيت معه، و إذا كان لها ذئبا فمن يحوطها بعده؟ ثم كتب بهذه الأبيات:
و ليت ويحك أمرا لست تحكمه
فاستغفر الله من فعل امرئ زاني
قد كنت عندي ذا عقل و ذا أدب
مع القراطيس تمثالا و فرقان
حتى أتانا الفتى العذري منتحبا
يشكو إلينا ببث ثم أحزان
أُعطي الإله يمينا لا أكفرها
حقا و أبرأ من ديني و دياني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به
لأجعلنك لحما بين عقبان
طلق سعاد و عجلها مجهزة
مع الكميت و مع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بلغت في بشر
و لا كفعلك حقا فعل إنسان
فاختر لنفسك إما أن تجود بها
أو أن تلاقي المنايا بين أكفان
ثم ختم الكتاب، و قال: علي بنصر بن ذبيان و الكميت صاحبي البريد. فلما وقفا بين يديه، قال: اخرجا بهذا الكتاب إلى مروان بن الحكم و لا تضعاه إلا بيده. قال: فخرجا بالكتاب حتى وردا عليه فسلما، ثم ناولاه الكتاب، فجعل مروان يقرؤه و يردده، ثم قام و دخل على سعدى و هو باك، فلما نظرت إليه قالت له: سيدي، ما الذي يبكيك؟
قال: كتاب أمير المؤمنين ورد في أمرك يأمرني فيه أن أطلقك و أجهزك و أبعث بك إليه, و كنت أود أن يتركني معك حولين ثم يقتلني، فكان ذلك أحب إلي.
فطلقها و جهزها، ثم كتب إلى معاوية بهذه الأبيات:
لا تعجلن أمير المؤمنين فقد
أوفي بنذرك في رفق و إحسان
و ما ركبت حراما حين أعجبني
فكيف أدعي باسم الخائن الزاني
أعذر فإنك لو أبصرتها لجرت
منك الأماقي على أمثال إنسان
فسوف يأتيك شمس لا يعادلها
عند الخليفة إنس لا و لا جان
لولا الخليفة ما طلقتها أبدا
حتى أضمن في لحد و أكفان
على سعاد سلام من فتى قلق
قد خلفته بأوصاب و أحزان
ثم دفعه إليهما، و دفع الجارية على الصفة التي ذكر له، فلما وردا على معاوية فك كتابه، و قرأ أبياته ثم قال: و الله لقد أحسن في هذه الأبيات، و لقد أساء إلى نفسه. ثم أمر بالجارية فأدخلت إليه، فإذا بجارية رعبوبة، لا تبقي لناظرها عقلا من حسنها و كمالها، فعجب معاوية من حسنها، ثم تحول إلى جلسائه، و قال: و الله إن هذا الجارية لكاملة الخلق، فلئن كملت لها النعمة مع حسن الصفة لقد كملت النعمة لمالكها. فاستنطقها فإذا هي أفصح نساء العرب، ثم قال: علي بالأعرابي. فلما وقف بين يديه قال له معاوية: هل لك عنها من سلو؟ و أعوضك عنها ثلاث جوار أبكار، مع كل جارية منهن ألف درهم، على كل واحدة منهن عشر خلع من الخز و الديباج و الحرير و الكتان، و أجري عليك و عليهن ما يجرى على المسلمين، و أجعل لك و لهن حظا من الصلات و النفقات؟ فلما أتم معاوية كلامه غشي على الأعرابي و شهق شهقة ظن معاوية أنه قد مات منها، فلما أفاق، قال له معاوية: ما بالك يا أعرابي؟ قال: شر بال و أسوأ حال، أعوذ بعدلك يا أمير المؤمنين من جور مروان، ثم أنشأ يقول:
لا تجعلني هداك الله من ملك
كالمستجير من الرمضاء النار
اردد سعاد على حران مكتئب
يمسي و يصبح في هم و تذكار
قد شفه قلق ما مثله قلق
و أسعر القلب منه أي إسعار
و الله و الله لا أنسى محبتها
حتى أغيب في قبري و أحجاري
كيف السلو و قد هام الفؤاد بها
فإن فعلت فإني غير كفار
فاجمل بفضلك و افعل فعل ذي كرم
لا فعل غيرك فعل اللؤم و العار
ثم قال: و الله يا أمير المؤمنين، لو أعطيتني كل ما احتوته الخلافة ما رضيت به دون سعدى، و لقد صدق مجنون بني عامر حيث يقول:
أبى القلب إلا حب ليلى و بغضت
إلي نساء ما لهن ذنوب
و ما هي إلا أن أراها فجأة
فأبهت حتى لا أكاد أجيب
فلما فرغ من شعره قال له معاوية: يا أعرابي، قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: إنك مقر عندنا أنك قد طلقتها، و قد بانت منك و من مروان، و لكن نخيرها بيننا.
قال: ذاك إليك يا أمير المؤمنين
فتحول معاوية نحوها ثم قال لها: يا سعدى، أينا أحب إليك؟ أمير المؤمنين في عزه و شرفه و قصوره، أو مروان في غصبه و اعتدائه، أو هذا الأعرابي، ثم أنشأت تقول:
هذا و إن كان من جوع و أطمار
أعز عندي من أهلي و من جاري
و صاحب التاج أو مروان عامله
و كل ذي درهم منهم و دينار
ثم قالت: لست و الله يا أمير المؤمنين لحدثان الدهر بخاذلته، و لقد كانت لي معه صحبة جميلة، و أنا أحق من صبر معه على السراء و الضراء و على الشدة والرخاء، وعلى العافية و البلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي معه.
فعجب معاوية و من معه من جلسائه من عقلها و كمالها و مروءتها، و أمر لها بعشرة آلاف درهم، و ألحقها في صدقات بين مال المسلمين ..
__________________
اللهم اعفو عنا يا كريم
|