الصوفية في الميزان
الحمد لله الذي حفظ عباده من الغرور والتكلف، وصان فكرهم وألسنتهم من اللغو والتعسف، وأشهد أن لا إله إلا الله خص بالحقائق كل صادق منصف، وأغلق على الجفاة طريق المعرفة والتصوف، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام الزهد والتعفف، اللهم صلِّ وسلم على هذا السيد الكامل من خص بالكمال وحسن التصرف، وعلى آله الأطهار منابع الحقيقة، وموارد الطريقة، ورضي الله عن أصحابه أعلام الرشاد، وأئمة السداد، أما بعد عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله وأحضكم على التمسك بالأئمة الفحول، وُرَّاثِ الرسول صلى الله عليه وسلم من جمع الله لهم بين علمي الشريعة والحقيقة، فكانوا حرز الوقاية، من الغي والغواية، التي نفثها الشيطان، وتنفست بها الأنسام، فأحيوا القلوب من مواتها، وأنقذوا النفوس من عثراتها، فضيقوا بالصدق والتقوى مناسم الشيطان، فأجفلت الشرور، وأُحكمت الأمور، فأقبل الصادقون على الله بالسريرة الصادقة والحكمة الناطقة، فأشرقت أسرار الشريعة على الجبين، وظهر نور القرآن المبين على ألسنة الموحدين، بحلل الإيمان، وأسرار القرآن، فازدهى المجتمع بالترابط والتوافق، إمامه الصادق الأمين اتباعاً وحباً، وتعشقاً وقرباً، ترسموا الشريعة في كل مواقفها، إسلام وإيمان وإحسان، دعوة صدق من صادق، ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم.
أنت أزكى الأنـام في كل خير ..... للـمـزكـين مـنك جــاء الـزكاء
في التزكية عزٌ وحكمة لأن مريدها أفنى السوى، وانطوى في حامل اللواء، فخلعت عليه حلته، وظهرت على أسارير وجهه بهجته، هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، فلم يعرفوا سوى الله، ولم يتحققوا إلا بالله فهم عباد الله وخاصته، أصبحوا أرضاً يُلقى عليها كلُّ قبيح، ولا يبرز منها إلا كل مليح، دخلوا في كل خُلق سني، وخرجوا من كل خُلُق دني، همهم الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق، لا يكدرهم شيء، ويصفو بهم كل شيء، صفَوا من الكدر، وامتلئوا من الفكر، وانقطعوا إلى الله عن البشر، واستوى عندهم الذهب والمدر، ضبطوا القوى، فكبحوا الهوى، أولئك هم الصوفية الأخيار إمامهم الحسن البصري، وأويس القرني الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه فيما رواه مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( إن خير التابعين رجلٌ يقال له أويس وله والدةٌ وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم )) سرٌّ سَرى في أويس وأصحاب اليقين وأهل التمكين، الزهراء وعليًّ والحسن والحسين، وعبدالله بن العباس، والعشرة المبشرين، والأئمة المهديين، أوضح معناه الكتاب وعلمناه من لدنا علما وحدد وعاءه الخطاب، من الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم على ألسنة الناقلين، فيما رواه البخاري في الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (( أخذت من رسول الله وعاءين، وعاء بثثته ووعاء لو بثثته لقطع مني هذا الحلقوم ))
وقد أثنت العصور والدهور، على أهل التصوف، لما علم منهم من التقى والنقا، والصفا والوفا، وحسن الطوية والاجتهاد في الطاعات، ومجاهدة النفس على كبح الشهوات.
قال الإمام مالك: (( من تفقّه ولم يتصوف فقد تفسَّق، ومن تصوّف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق )).
كما في حاشية العلامة علي العدوي على شرح الإمام أبي الحسن في الفقه المالكي (2/195). وكما في شرح عين العلم وزين الحلم للإمام ملا علي قاريء (1/33).
وقال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: قال الشافعي رضي الله عنه: صحبتُ الصوفية فانتفعت منهم بكلمتين: سمعتهم يقولون: الوقت كالسيف فإن قطعته وإلا قطعك. ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. قال سفيان الثوري: (( لو لا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقائق الرياء)) كما في الفتاوى الحديثية لابن حجر (327).
نقل ابن الحاج في حواشيه على الدر الثمين عن التستري في رسالته العلمية أن الحسن البصري قال: أول من تكلم في التصوف والفقر علي عليه السلام، وقال ابن الحاج ويعلم من ذلك أن أول من وضع علم ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام« كما في التراتيب الإدارية (2/371).
وقال الإمام أحمد: عليك بمجالسة هؤلاء القوم فإنهم زادوا علينا بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد.
وقال أيضاً: لم أعلم أحداً أفضل منهم، كما في الجزء الخامس من كتاب الفروع لابن مفلح الحنبلي والتراتيب الإدارية للكتاني (2/137). وقال الحافظ أبو نعيم: فأما التصوف فاشتقاقه عند أهل الإشارات والمنبئين عنهم بالعبارات من الصفاء والوفاء، فالصوفي من كُفي من حاله، ونُعم من ماله، وأعطى من عقباه، وحُفظ من حظ دنياه، أحد أعلام الهدى لعدولهم عن الموبقات، واجتهادهم في القربات، وتزودهم من الساعات، وحفظهم للأوقات، فسالك منهجهم ناجٍ من الغمرات، وسالم من الهلكات. اهـ كما في الحلية (1/18).
وأما ابن تيمية فإنه وصف الصوفية بأنهم صديقو هذه الأمة كما في رسالته [ الصوفية والفقراء] وذلك في أول كتابه التصوف الواقع في الفتاوى برقم (11).
وقال الإمام الذهبي في الموقظة: (( وهو مقام خطر، إذ القادح في محقِّ الصوفية داخل في حديث : من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة))
وقال الإمام الشاطبي عن الصوفية: (( فقد علم منهم المحافظة على حدود الشريعة ظاهراً وباطناً، وهم القائمون بأحكام السنة على ما ينبغي، المحافظون على اتباعها..)). كما في الموافقات 2/207.
وقال ابن خلدون: وهذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها. وكان ذلك عامّاً في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية.
وقال عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي في آخر رسالته لأهل مكة: ولا ننكر طريقة الصوفية، وتنزيه الباطن عن رذائل المعاصي. اهـ كما في الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية لسليمان بن سحمان النجدي.
فالصوفية غرر الناس، طهرهم الله من الأرجاس، في كل عصر ومصر، مأوى الخيرات، ومأرز البركات، على أيديهم انتشر الإسلام، وعمَّ الأنام الوئام، ربطوا القلوب بمحبة علام الغيوب، فلم يستحوذ عليهم الشيطان، صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
ورثوا العلوم كابراً عن كابر، عن أكابر الصحابة، كأبي بكر وعلي، وحارثة ثم القاسم بن محمد، وجعفر الصادق، حماة الشريعة وورّاثها، ومنبع الحقائق وأساطينها، سُرَرْ الناس، ومفخرة الجلاس، برزت على أكتافهم دولة الإسلام، وارتفعت على سواعدهم ألوية السلام، وبعد أن ساءت الأحوال، واضمحلت الفعال، وكثرت الأقوال، قويت لهجة المارقين، على الصفوة من المتقين، فأصبح منهج التقرب سُبَّةً، واتباع منهجهم خيبة، وأنى للقاصد في هذا الزمن أن يبلغ شأوهم، أو يسلك دربهم، فضلاً عن أن يوسم بهم، ويحسب من أشياعهم، فأين الثرى من الثريا، ومجمل التاريخ يمجُ ذلك التبجح، ويصدُ ذلك التصفح السافر والغي الظاهر في خيار الأمة، وقد نسي أنه حقق ما حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه العراقي: (( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حلَّ بها البلاء ... وذكر منها: ولعن آخر هذه الأمة أولها..)) .
فبنى منهجه على التصوير والتحقير والتكفير حقق فيه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو نعيم بسند جيد عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إنَّ مما أتخوف عليكم رجلاً قرأ القرآن حتى إذا رؤيت عليه بهجته وكان ردءاً للإسلام غيّره الله إلى ما شاء انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وخرج على جاره بالسب ورماه بالشرك )) . قلت: يا رسول الله: أيهما أولى بالشرك الرامي أم المرمي، قال: (( بل الرامي )) . نسي عواره وأسس فكره إزاء تلك الطائفة الطاهرة، على عبارات مدسوسة، وآراء مشبوهة في كتب المتأخرين، وأخلاق المدعين لمنهج المتقين، في العصور الغابرة، أو عصره الحاضر، لذا أصبح لزاماً على أهل العلم أن يكشفوا النقاب، عن أحوال تلك الطائفة، بالنقول المنصفة، لبيان الحق من الباطل، والصادق من المتحامل، وقبل أن نبرز الحقائق، مثار الدليل واضح لكل موفق، في جميع طبقات المجتمع، الخلق الحسن مقياس الفضيلة، والفضيلة شاهد حق على أهل الرذيلة، فالصوفي لا يجسم الحق، ولا يحقر الخلق، ولا يكفر الناس، والثائر عليهم هو من خوارج الخلف، اتسم بالفضاضة والغلظة، وادعاء الدعاوى العريضة، وانتحل رداء أهل الفضيلة، ففضحته المنابر، فأغلقت عليه البصائر ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين .
نعت الحق سِمته، فقال سبحانه: ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم.
وقال أيضاً: فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذّكر إلا أولو الألباب فالصوفي مفوض في التسليم أو التأويل، والزائغ متقول على دلائل التنزيل، ينفي المتشابه في القرآن، ليغرر بالسذج والطُغام، فيدعي أرباب هذا الفكر الإثبات للصفات، وأن سواهم معطلة نفاة، افتراء وزوراً، هذا منحى سنبينه مفصلاً أثناء الحديث عن منهج هذه الطائفة إن شاء الله تعالى.
وأما المنحى الآخر فإنهم يتهمون الصوفية بأنهم حلولية، فهذه دعوى باطلة عارية عن الصواب لأن منهج الصوفي محق السوى، والحلول يقتضي إيجاد السوى، فالتهمة عائدة على من رمى. قال عمر الأصفهاني رحمه الله: التصوف هو التبري عمن دونه، والتخلي عمن سواه.
قال الإمام النووي في رسالته المقاصد : (( أصول التصوف خمسة أولها: تقوى الله في السر والعلانية. وثانيها: اتباع الكتاب والسنة. وثالثها: الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار. ورابعها: الرضا عن الله في القليل والكثير. وخامسها: الرجوع إلى الله في السراء والضراء)) ا.هـ
فالصوفي لا يعتقد نفعاً ولا ضراً لأحد لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا في الحياة ولا في الممات، وأن كل ما يجري بتدبير الحق.
وذلك مع إيمان الصوفي بضر ونفع السبب بإذن الله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً.
تعلم الصوفي من هدي الحق مراد الحق من الأسباب، ففي مقام السبب يمضي إلى التوكل على الله، وفي مقام التوكل على الله يمضي إلى السبب، فهذه الصدِّيقة مريم ابنة عمران عليها السلام، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً. يأمرها ربها وهي في أشد الأوقات بقوله سبحانه: وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً.
يا عباد الله: علم ذلك في كتب المسلمين مسطور، وأسرار تلك المعاني في صدور المخلصين موقور، الدين علم وحلم وذوق وفهم ورأفة ورحمة، وليس الدين شقاشقَ أقوالٍ، وسفهاً وانتحال أحوال، وغلظةً وتشدداً وفظاظةً وعناداً، وكبراً وبطراً، وجَحداً للسداد فمن كان كذلك يصدق فيه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: (( الكبر بطر الحق وغمط النار )) أي رفض كل تأويل لا يوافق تأويلهم، وتخطئة كل حقيقة لا توافق رأيهم، وعلم التصوف مبني على أصول التشريع، ومقامه إحساني، مبني على الذوق الإيماني الرفيع، وهم للذوق فاقدون وبالفقه جاهلون، ولولا خشية التطويل، لسردنا كل مقامات التصوف بآيات التنزيل، وأحاديث الرسول الجليل صلى الله عليه وسلم وسنتعرض في الخطبة القادمة إلى هذا التفصيل، ونسأل الله يا عباد الله لنا ولكم وللمسلمين التوفيق في إيضاح الدليل، ودحض السفه والتضليل لطائفة الفضل والتكميل، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
نقلا عن:
http://www.godubai.com/awqaaf