بحث في معتقد الاباضية ,
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
أحبتي في الله نكمل اليوم ما بدأناه من هذه السلسلة ، و قد رأيت أن أضيف مبحث جديد يتحدث عن عقائد الإباضية ، و ذلك لتكتمل الصورة عن هذه الفرقة .. وقد انتهينا في الحلقة الماضية من الحديث عن هذه الفرقة ، و خرجنا بنتيجة واحدة وهي أن الأباضية فرقة من فرق الخوارج ، بشهادة أهل السنة و الأباضية أنفسهم .. و سواء رضي بذلك الأباضية أم أبوا ..
يتفق العلماء والباحثون قديماً و حديثاً على أن الأباضية في أصولها العقدية فرع عن الخوارج ، و تلتقي معهم في أغلب الأصول التي خرجت بها الخوارج عن الأمة وأن الخلاف الذي انشعبت به عنهم كان في موقفهم من بقية المسلمين ، و حكم الإقامة معهم و متى يكون قتالهم ، وأحكامهم في السلم والحرب . انظر على سبيل المثال : مقالات الإسلاميين للأشعري (1/183 ) و الفرق بين الفرق (ص 103 ) والملل والنحل (1/133 ) . كما وأن عقائد الأباضية تبدو كثير من أوجه الشبه بين آرائهم وآراء المعتزلة ، كما و تلتقي بعض آرائهم مع آراء بعض الفرق الأخرى التي سوف نراها بعد قليل .. وهذا مختصر موجز لأصول ومعتقدات الأباضية ..
ففي مسألة الصفات مثلاً : ذهب الأباضية كما ذهب المعتزلة إلى أن صفات الله تعالى هي ذاته ، ولا تدل على معان زائدة على الذات ، يقول أحد أئمة الأباضية : والأصل الذي ذهب إليه أصحابنا في هذا أن صفاته تعالى هي عين ذاته الأزلية ، ولا ينكشف هذا إلا بتجريد الذات المقدسة عن الصفات الكلية .. انظر : نثار الجوهر للرواجي (1/23 ) و الإباضية عقيدة و مذهباً لصابر طعيمة ( ص 95 – 96 ) و جامع أبي الحسن البسيوي (1/36 ) ومختصر تاريخ الأباضية (ص 65 ) و مشاق أنوار العقول ( ص 177 – 181 ) . و هم بهذا يخالفون أهل السنة والأشاعرة ، و يوافقون المعتزلة والشيعة الإمامية ، الذين قالوا بأن إثبات الصفات لله يستلزم إثبات قدماء مع الله تعالى ، و من ثم حاولوا تجنب ذلك بأن نفوا الصفات وأبقوا على الأوصاف أو قالوا بعدم التمييز بين الصفات و بين الله تعالى .
و سعياً لتنزيه الله تعالى كما يقولون ، نفى الأباضية كل الصفات التي توهم المشابهة بين الله تعالى و بين خلقه كالوجه واليد والدنو والتجلي والنزول ، وأولوا كل الآيات والأحاديث التي تثبت هذه الصفات ، بحجة أن ظاهر هذه الصفات يوجب التشبيه والتجسيم ، وأوردوا بعض التأويلات رواية عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنه ، سنداً لرأيهم هذا . انظر : مسند الربيع بن حبيب (3/36-37 ) و جامع أبي الحسن البسيوي
(1/ 65 – 66)و قاموس الشريعة لجميل بن خميس السعدي (5/257-304 ) ، و بهجة أنوار العقول (1/85 ) . و أرجوزة أحمد بن النضر و هو من الأباضية في كتابه الدعائم ( ص 34 ) و كذلك أرجوزة السالمي في كتابه غاية المراد ( ص 7 ) . فهم يقولون بأن صفات الله توقيفية ، فهم بهذا يوافقون أهل السنة من وجه ( نظرياً ) لكنهم عند التفصيل يخوضون في التأويل وعلى هذا فهم عملياً مع الأشاعرة وأهل الكلام في مسألة الصفات .
ولاشك أن هذه التأويلات تتطابق مع ما ذهب إليه المعتزلة و الأشاعرة و الماتريدية والجهمية المريسية ، وهي لا تتفق مع آراء السلف الذين امتنعوا عن التأويل وأثبتوا هذه الصفات لله تعالى من غير تمثيل ولا تشبيه ولا تأويل ولا تعطيل .
وأنكر الأباضية ما فهمه السلف من استواء الله تعالى على العرش ، و فسروا قول الله تعالى {الرحمن على العرش استوى }[طه/5] ، بأن المراد بالاستواء استواء أمره وقدرته و لطفه فوق خلقه و بريته . انظر : مسند الربيع (3/35 ) و قاموس الشريعة (5/305 ) و ما بعدها .
و هذا الرأي مخالف لعقيدة السلف الذين أثبتوا لله تعالى الاستواء من غير تكييف ولا تمثيل ، و عبر عن رأيهم إمام دار الهجرة مالك بن أنس حينما سئل عن الاستواء فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . انظر : ترتيب المدارك القاضي عياض ( ص 188 ) .
و نفى الأباضية أيضاً رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وقالوا كما قالت المعتزلة و الجهمية والرافضة ، بأن إثبات الرؤية يستلزم الجهة والحصر والتحيز والمكان ، و غير ذلك من صفات الأجسام التي يتنزه الله تعالى عنها . انظر : رسالة الديانات للشماخي ص 1 ) والكشف والبيان (1/152 ) ومنهج الطالبين (1/409 – 413 ) و بهجة أنوار العقول (1/61)ومشارق أنوار العقول (ص 186 – 197 ) والحق الدامغ (ص 95 – 96 ) و في غيرها من كتب الأباضية .
و فسورا ( النظر ) الوارد في قوله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}- و الذي يدل عند أهل السنة على إثبات الرؤية – كالمعتزلة ، بمعنى الانتظار وأن الناس في الآخرة منتظرة متى يأذن الله لهم في دخول الجنة ، أو منتظرة ثواب ربها ، و فسروا الزيادة الواردة في قوله تعالى{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} والتي فهم منها السلف بأنها تعني رؤية الله تعالى ، فسروها بأن المراد منها مطلق زيادة النعيم والكرامة والثواب في الجنة ، واستشهدوا على استحالة الرؤية بنفس ما استشهد به المعتزلة من قوله تعالى{لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار} ، كدليل على نفي الرؤية واستحالتها إلى غير ذلك مما استشهد به المعتزلة واستدلوا به . انظر : مسند الربيع (3/25-31 ) و إزالة الاعتراض عن محقي آل أباض لمحمد يوسف أطفيش (2/5 )
أما بالنسبة للقرآن فقد ذهب بعض الأباضية لاسيما في المشرق – أباضية عُمان - إلى القول بقدمه و نفوا القول بخلقه ، و من هؤلاء البسيوي الذي قدم العديد من الحجج والبراهين التي ترد على من قال بخلق القرآن . انظر : جامع أبي الحسن البسيوي (1/55 – 60 ) . إلا أن الأباضية المعاصرين من أباضية المشرق و بالأخص مفتي السلطنة الخليلي ، يقول بخلق القرآن وينصر قول الجهمية . انظر : الحق الدامغ ( ص 180 ) . أما أباضية المغرب فقد أكدوا القول بخلق القرآن متفقين في ذلك مع المعتزلة ، و مستدلين بنفس الحجج التي استدلوا بها . انظر : الموجز في تحصيل السؤال و تلخيص المقال في الرد على أهل الخلاف لأبي عمار عبد الكافي (2/132-137 ) و العقود الفضية ( ص 287 ) . و من الأباضية من يميل إلى قول الواقفة في القرآن ، فلا يقولون هو مخلوق ولا غير مخلوق . انظر : منهج الطالبين (1/204) .
فعلى هذا من قال منهم بخلق القرآن وافق المعتزلة والجهمية و نحوهم ، من قال بأن القرآن منزل غير مخلوق وافق أهل الكلام ، حيث قد يفسرون كلام الله تعالى – منه القرآن – بأنه الكلام النفسي أو هو معنى قائم بالنفس و نحو ذلك كما تقول الفرق الكلامية ( الكلابية والأشاعرة والماتريدية ) .
و في مسألة القدر تبنى الأباضية آراء الأشاعرة و الجبرية والقدرية ، حيث أثبتوا أن العالم بأسره جواهره وأعراضه و ما فيه من خير و شر و طاعة و معصية خلقه الله و دبره ، وأن الله مقدر كل ذلك وصانعه ولا شيء من ذلك بخارج عن قدرته وإرادته وعلمه و تقديره وسواء في ذلك ما يضاف إلى العباد و ما لايضاف إليهم ، وأن أفعال الإنسان مضافة إليه عن طريق الكسب ، وأثبتوا للإنسان استطاعته على الفعل ، وقالوا كما قال الأشاعرة بأن هذه الاستطاعة تحدث مع الفعل لا قبله وأنها موجهة للفعل بعينه ، و من ثم قالوا إن الله خالق لأفعال الإنسان مكتسب لها ، و بسبب هذا الاكتساب تقع مسؤولية الإنسان عن أفعاله . انظر : الموجز في تحصيل السؤال (2/190) و متن النونية للنفوسي ( ص 12 ) و غاية المراد للسالمي ( ص 9 ) والحجة في بيان المحجة للعيزابي ( ص 23 ) و الأباضية بين الفرق لعلي يحيى معمر ( ص 248 ) .
أما مسألة الإيمان ، فقد ذهب الأباضية إلى أن الإيمان قول وعمل واعتقاد ، وبالقول تعصم الدماء والأموال وبالعمل يصح الإيمان العملي ، و بالاعتقاد يتحقق الإيمان الصادق ، و هو الذي يقول عنه الأباضية أنه لا يزيد و لا ينقص بل إذا انهدم بعضه انهدم كله .. أما الإيمان العملي هو الذي يزيد و ينقص .. انظر : أصدق المناهج ( ص 33 ) و مسند الربيع ( 3/5 – 6)
إن المتأمل في عقائد الأباضية في مسألة الإيمان يجد أن فيها شيئاً من الاضطراب و ذلك أنهم : يقولون بأن الإيمان والإسلام وردا في الشرع على جهة الاختلاف والتداخل معاً . انظر : قناطر الخيرات (1/337 ) و منهج الطالبين (1/ 566 ) . وعلى ذلك هم يوافقون أهل السنة في أن الإيمان قول وعمل فهم في هذه المسألة يكونون أقرب إلى السنة من أكثر المرجئة : الأشاعرة والماتريدية و نحوهم القائلين بأن العمل غير داخل في مسمى الإيمان . انظر : منهج الطالبين (1/567) . أما مسألة زيادة الإيمان و نقصانه فهم فريقان ، فريق يقول : إن الإيمان يزيد و ينقص ، وهم بهذا يوافقون أهل السنة في الجملة ، لكنهم عندما يفصلون قد يخالفون أهل السنة في بعض المسائل مثل مسألة درجات الإيمان . انظر : جوهر النظام (1/14 ) و مهج الطالبين (1/569 ) و قناطر الخيرات(1/337). و قول بعضهم : إن الإيمان العلمي فقط هو الذي يزيد و ينقص ، أما الاعتقادي فإنه يزيد و لا ينقص إنما ينهدم ، و هذا تناقض بيّن . انظر : أصدق المناهج (ص 33 ) و مشارق أنوار العقول ( ص 334) مع تعليق الخليلي . أما الفريق الثاني فيقول : إن الإيمان الشرعي لا يزيد ولا ينقص ، وهم بهذا يوافقون المرجئة وأكثر أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية والجهمية . انظر : بهجة أنوار العقول (1/150)وأصدق المناهج ( ص 33 ) .
يتبع
__________________
البارجة هي استاذة فلسفة علوم اسلامية ,
إلى الكتاب و الباحثين
1- نرجو من الكاتب الإسلامي أن يحاسب نفسه قبل أن يخط أي كلمة، و أن يتصور أمامه حالة المسلمين و ما هم عليه من تفرق أدى بهم إلى حضيض البؤس و الشقاء، و ما نتج عن تسمم الأفكار من آثار تساعد على انتشار اللادينية و الإلحاد.
2- و نرجو من الباحث المحقق- إن شاء الكتابة عن أية طائفة من الطوائف الإسلامية – أن يتحري الحقيقة في الكلام عن عقائدها – و ألا يعتمد إلا على المراجع المعتبرة عندها، و أن يتجنب الأخذ بالشائعات و تحميل وزرها لمن تبرأ منها، و ألا يأخذ معتقداتها من مخالفيها.
3- و نرجو من الذين يحبون أن يجادلوا عن آرائهم أو مذاهبهم أن يكون جدالهم بالتي هى أحسن، و ألا يجرحوا شعور غيرهم، حتى يمهدوا لهم سبيل الاطلاع على ما يكتبون، فإن ذلك أولى بهم، و أجدى عليهم، و أحفظ للمودة بينهم و بين إخوانهم.
4-من المعروف أن (سياسة الحكم و الحكام) كثيرا ما تدخلت قديما في الشئون الدينية، فأفسدت الدين و أثارت الخلافات لا لشىء إلا لصالح الحاكمين و تثبيتا لأقدامهم، و أنهم سخروا – مع الأسف – بعض الأقلام في هذه الأغراض، و قد ذهب الحكام و انقرضوا، بيد أن آثار الأقلام لا تزال باقية، تؤثر في العقول أثرها، و تعمل عملها، فعلينا أن نقدر ذلك، و أن نأخذ الأمر فيه بمنتهى الحذر و الحيطة.
و على الجملة نرجو ألا يأخذ أحد القلم، إلا و هو يحسب حساب العقول المستنيرة، و يقدم مصلحة الإسلام و المسلمين على كل اعتبار.
6- العمل على جمع كلمة أرباب المذاهب الإسلامية (الطوائف الإسلامية) الذين باعدت بينهم آراء لا تمس العقائد التي يجب الإيمان
|