الإقامة: وأينما ذُكر اسم الله في بلدٍ عدَدْتُ أرجاءه من لُبِّ أوطاني
المشاركات: 5,873
الحياة بلا قلب أسهل من قلب الحياة
مذكرات " علياء "
أمسك الشاب بكف ابنة عمه الصغيرة وقد أوصاه أبوها أن يوصلها للمدرسة ويحفظها في الطريق من أي أذى .. وهكذا فعل كلَّ صباح .. كان يصطحب ابنة عمه " علياء " ذات الجدائل السوداء الجميلة من بيت عمه إلى مدرستها .. لم يكن لها اخوة كبار فكان أخاها .. ولم تكن لها صديقات فكان صديقها .. غمرها بحنان الأخوَّة و رعاها كما يرعى الأخ أخته .. وكل صباحٍ كان يستيقظ ويصلي الفجر ويدعو لها .. كان كلما رأى دمعةً على خدها يبادر ويمسحها .. كان كلما يرى بسمةً على وجهها المضيء يتبسم دون أن يعرف سبب فرحتها .. لم يتغيب في أي صباحٍ عن موعده .. لم يتأخر أي صباحٍ في مرقده .. و كانت تنتظره دائماً .. تتلهف لرؤيته .. تشتاق لكلمته .. تضع كفها الصغيرة في كفه فتشعر بأمان لا حدود له .. كان أكثر ما يزعجها هو الإجازة المدرسية .. تعد أيامها كالسجين طال بعده عن أهله و كالغريب امتدَّ نأيه عن وطنه .. و تنطوي الأيام ويبدأ العام الجديد .. وهاهو الصبح يتنفس .. وهاهي تقف أمام مرآتها الصغيرة .. تمشط شعرها والفرحة تغمر قلبها تترنم بلحنٍ جميل .. تبتسم أمام المرآة .. وتتحرك أمامها يمنة ويسرة .. تشعر أنها اليوم أكبر من ذي قبل .. و أجمل من ذي قبل وبالتأكيد أسعد من ذي قبل .. حملت حقيبتها الفارغة .. وخرجت من حجرتها وهي تنظر إلى الساعة .. تترقب موعد وصوله .. يقبلها والدها .. يمسك بكفها .. و في كفه الأخرى مفتاح السيارة .. فستذهب اليوم إلى المدرسة معه وليس مع ابن عمها .. فمهما يكن فإن ابن عمها ليس بشقيقها والأصول أصول .. ذابت فرحتها و تساءلت بينها وبين نفسها ؟ أتراه يعلم أنني لن أذهب معه ؟ و منذ متى يعلم ذلك ؟ ولماذا لم يقل لي ذلك ؟ أليس أخي ؟ أليست كل البنات يذهبن إلى المدرسة مع إخوانهن ؟ وهنا خرج سؤالها من بين شفتيها الورديتين دون أن تشعر : لماذا لا أذهب مع ( نعيم ) يا أبي ؟ نظر والدها إلى عينيها اللتين اختلطت فيهما حيرة السؤال وخوف الجواب .. وقال لها : غداَ تفهمين .. غداً تكبرين .. وسكت الأب .. وعادت من المدرسة .. دخلت حجرتها والدمع يترقرق من عينيها تشعر وكأن من ظنته أخاها قد خانها وخيب أملها الذي بنته عليه فهي لم تيأس أبداً ظلت تنتظر قدومه للمدرسة كي يصطحبها للعودة إلى البيت لكنه لم يأت كذلك .. دخل والدها حجرتها ورآها مستلقيةً على سريرها تحتضن وسادتها ودمعتها الصامتة تنساب على خدها .. اقترب منها بهدوء .. فأغمضت عينيها دون أن تحاول مسح دمعتها .. فهي لم تعتد ذلك .. لقد كان ( نعيم ) وحده الذي يمسح دموعها .. مدَّ والدها كفه ليمسح أثر الدمعة ودون أن تقصد ارتجفت من ملمس يده .. ودون أن تقصد خفق قلبها .. وتذكرت كفَّ ( نعيم ) .. و هنالك فهمت .. وهنالك فقط عرفت معنى أن تصبح أكبر من ذي قبل و أجمل من ذي قبل و أســ.. ، كلا لا أظنها أسعد من ذي قبل .. تمتم أبوها دون أن تغيب عنه تلك الرعشة الصغيرة : على الخير يا حلوتي تصبحين .. على الخير يا حلوتي تصبحين ..بل الخير للخير يا خير خيرٍ .. إذا ما عليه غداً تصبحين ..
الجزء الثاني :
أشهرٌ طويلةٌ مرَّت وعلياء تكنز الحزن في قلبها و لا تنفسه إلا على أوراقها الصغيرة التي تكتب فيها قصصاً هي من وحي الخيال تارة و من واقع الآلام أحياناً أخرى .. كانت تكتب بضعة أسطر ثم تعود وتمزق الورقة وتلقي بها في سلة المهملات و تتمنى لو كان بإمكانها أن ترمي قلبها مع تلك الأوراق أو على الأقل ترمي ذلك الإنسان الذي في قلبها ..
و ذات صباح شعرت بطعنة خيانةٍ أخرى فهاهو والدها حبيبها الحاني والقاسي في الوقت نفسه يقول لها أنها ستذهب لمدرستها بالحافلة وليس معه .. ابتلعت تلك الغصة في ريقها ولم تعرف ماذا تقول فلم يكن أحد في البيت قادراً على أن يراجع الأستاذ مفيد في أي قرار من قراراته .. نظرت إلى أمها الطيبة نظرةً تستجدي بها أن تساندها .. تستعطفها لتكلم والدها ألا يفعل ذلك .. لكن المرأة الحنون تبسمَّت في وجه ابنتها و كأنها تقول لها : لا فائدة يا بنيتي فقد قُضي الأمر
وفي صباح اليوم التالي ارتدت ملابسها بانزعاج و نزلت تنتظر تلك الحافلة .. كانت مرتبكةً جداً فبالرغم من حجابها الكامل إلا أنها كانت تشعر بأعين الناس ستأكلها .. حتى لو لم يكن هنالك أحد في الشارع فإنها تشعر بأن هنالك من يراقبها من بعيد وينظر إليها كانت متأكدة من ذلك الشعور .. ولم ينهِ معاناتها مع هذا القلق إلا قدوم حافلة المدرسة ولم تعرف لماذا أحبت مقدمها إلى هذه الدرجة .. صعدت سلمة الحافلة يسرعة كادت أن توقعها و اختارت لنفسها مقعداً شاغراً لا تشاركها فيه أي زميلة .. و وصلت الحافلة إلى المدرسة و ما أن نزلت منها حتى عاودها ذلك الشعور بأن أحداً ما يراقبها أو يتابعها ..
و في كل صباح وعند السادسة والنصف كانت تلك الدقائق الخمسة عشر التي تنتظر بها حافلة المدرسة تمر بطيئة متثاقلة عليها لكنها كانت سريعة وجميلة على ابن عمها الذي يقف من بعيد يراقبها و ينظر إليها كمن يحرس جوهرةً ثمينة .. لم تكن تعلم بوجوده لكنها تشعر به .. تشعر بأن تلك العين التي تراقبها هي عين محبة لا تريد الأذى لها فكانت طمأنينتها تزداد كل يوم و امتنانها لتلك العين يزداد و خجلها منها يزداد و يزداد ..
ومع كل المستجدات في حياتها لم تكن لتنس ابن عمها " نعيم " أو بالأصح لم تكن لتغفر له ما فعله فكانت تكتب وتكتب .. كتبت الكثير من الرسائل له لكنها لم ترسل واحدة منها !! كانت تكتبها لتقرأها هي ثم تمزق بعضها و تحتفظ بالبعض الآخر .. وذات يوم ودون أن تعرف كيف و لا لماذا وصلتها رسالة من " نعيم " وكانت تلك الرسالة تعني أنه قرأ بشكلٍ ما بعض رسائلها وعرف ما في نفسها .. لم تكن الرسالة غير أبياتٍ شعرية قليلة العدد ركيكة المستوى على قدر ثقافة ابن عمها اليسيرة و تعليمه المحدود .. كانت رسالته تقول :
كتبتْ إليَّ تلومني وتقول ? ... إن الوفاء لدى الرجال قليلُ
مثَّلت دور الشهم ثم تركتني ... أحيا وقلبي يا " نعيمُ " قتيلُ
كم حذَّروني أن شعرك فاتنٌ ... و بأن أرخص فنك التمثيلُ
كانت رسائلك البريئة بلسماً ... تشفي جراحاً كالبحار تسيلُ
كانت حروفك و حدها في وحدتي ... أملاً يُميل النفسَ حيث تميلُ
قد كنتُ أرقبها وكلي لهفةٌ ... و تساؤلٌ هل للقاء سبيلُ
في كل سطرٍ شهقةٌ و تأوُّهٌ ... والدمع يمحو بعضها و يزيلُ
***
بالله حسبكِ لا تلوميني فما ... غبتم و ما شوقي إليك قليلُ
الشعر دنياي التي أسكنتُها ... جسماً ذوى كالغصن فهو عليلُ
الله يعلم كم بنا من لهفةٍ ... للقاك لكن ما لذاك سبيل
هذا دليلي دمع عيني – إنني ... حُرٌ – وإن دموعها لدليلُ
حملتْ إليك رسالتي إنسانةٌ ... كانت كأفضل ما يكون رسولُ
قرأتْ علياء تلك الأبيات البسيطة في معناها والركيكة الأسلوب لكنها عفوَ الخاطر و غير متكلفةٍ أبداً فتيقنت أنها من ابن عمها حقاً .. ويلها فهاهو ما تخشاه قد حصل و انكشف سرها الصغير فمن يا تراه قد علم بالأمر كذلك و ماذا تعني أبيات " نعيم " ؟؟
__________________
معين بن محمد
آخر تعديل بواسطة يتيم الشعر ، 01-10-2004 الساعة 05:48 AM.