"الـعـقـد الاجـتـمـاعـي" الـبـعـثـي وتـنـاقـضــاتــه
"الـعـقـد الاجـتـمـاعـي" الـبـعـثـي وتـنـاقـضــاتــه
ياسـيـن الـحـاج صـالـح
لا شيء يجمع في الظاهر بين الغارة الإسرائيلية على موقع عين الصاحب السوري في 5 تشرين الأول من عام 2003، واعتصام طلاب في جامعة حلب في 25 شباط الماضي احتجاجا على المرسوم الرئاسي رقم 6 الذي يخلي الدولة من التزام سابق بتوظيف متخرجي كلية الهندسة لمدة خمس سنوات. بيد أن الارتباط وثيق بالفعل. وهو على وجه التحديد ارتباط بين امتناع الحكم السوري عن الرد على الغارة الإسرائيلية وكلٍّ من المرسوم رقم 6 والرد بالقوة على اعتصام الاحتجاج عليه في جامعة حلب. ويحيل الترابط بين الحدثين على ما قد نصطلح على تسميته، بغير قليل من التجاوز، "العقد الاجتماعي البعثي"، أعني التزام نظام الحزب الواحد البعثي بالدفاع عن البلاد في وجه ايّة أخطار خارجية من جهة، وبضمان حد أدنى من الحقوق الاجتماعية للسوريين من جهة أخرى، مقابل احتكار الحزب للسلطة وقيامه فعليا بمصادرة الحقوق السياسية للسوريين ومنعهم من العمل السياسي المستقل، وتقنين ذلك عبر حال الطوارئ التي تجعل من ممارستهم للسياسة اعتداء على السيادة الوطنية، مثلها تماما مثل أي عدوان إسرائيلي. يوظف هذا المقال مفهوم العقد الاجتماعي توظيفا محض إجرائي. فالمفهوم يتيح لنا رؤية تطورات الواقع السياسي السوري خلال الأشهر الأخيرة من زاوية تعارضها مع التعهدات المعلنة للعقيدة البعثية، وفي الوقت نفسه نقد أسس العقيدة البعثية في ضوء التطورات الواقعية. هذا "التعاقد" الاصطلاحي لا يُلزِم قارئ المقال الإقرار بوجود إرادة تعاقدية بعثية، ولا بوجود هذا العقد على شكل مؤسسي أو دستوري في أي يوم من ايام حكم "الحزب" التي تعادل نصف عمر الكيان السوري الحديث. وفي سياق نقد الأسس العقدية لنظام الحزب الواحد على ضوء تطورات الاشهر الأخيرة سنفرد تناولا مستقلا لمفهوم "الوحدة الوطنية" البعثي من منظور تفجر العنف في مدينة القامشلي في 12 آذار الماضي وانتشاره خارجها في الأيام التالية.
دمشق...
لثلاثة اعتبارات لا تستطيع السلطات السورية، ولا يحق لها، أن لا ترد على غارة عين الصاحب التي استهدفت التراب الوطني.
أولاً ثانياً ثالثاً
أول الاعتبارات مشتق من محض مفهوم الدولة السيدة بصرف النظر عن نظام حكمها وعقيدة الحزب الحاكم فيها. فالدفاع عن البلاد ركن اساسي من أركان سيادة الدولة، التي تنفرد، لذلك، بامتلاك الحق في إعلان حال الحرب وعقد السلم، وتحتكر مجمل علاقات البلد الخارجية مع الدول الأخرى. فإن فشلت في القيام بهذه الالتزام السيادي فإن الباب يغدو مفتوحا لقيام بعض مواطنيها بانتداب أنفسهم للقيام بهذا الواجب، وتاليا منازعة الدولة سلطتها وشرعيتها (وما يسمّى الإرهاب الإسلامي والعربي هو في معظم حالاته رد على تقاعس الدول وعجزها عن القيام بالوظيفة الدفاعية الحيوية).
يرتبط الاعتبار الثاني بالعقيدة البعثية المؤسسة على قيم الوطنية وتحرير الأرض ومواجهة الأعداء. تركز هذه العقيدة بالذات على تصور حربي حصرا للمواجهة مع العدو، وتنشر خطاب حرب وتعبئة، وثقافة طوارئ وخطر وأمن. كذلك تجعل النخبة البعثية من نفسها معيارا للوطنية، ومن مدى اقتراب السوريين الاخرين من مواقفها وسياساتها برهانا على وطنيتهم، وتصادر حقهم في النقد وتمارس ضدهم سلاح التخوين حين يرتأون تصورا مختلفا للوطنية السورية. وتصادر ما سمّيناها ثقافة الطوارئ على اعتبار الرد على العدوان الخارجي أو صمود البلاد في وجهه المبرر الأسمى لأي إجراءات سياسية او اقتصادية أو قانونية تتخذها.
من هنا الاعتبار الثالث الذي يتصل تحديدا بحقيقة أن تهيئة الشروط المناسبة للرد على العدوان هي الذريعة المعلنة لحال الطوارئ المفروضة في البلاد منذ استولى حزب البعث على السلطة قبل 41 عاما. فإذا لم تفد حال الطوارئ في ضمان شروط أفضل لحماية البلاد من اعتداء صريح على التراب الوطني، فبِمَ تفيد؟!
واختصارا: إذا امتنعت السلطة عن الرد على عدوان خارجي فإنها تخسر، من حيث المبدأ، حقها في: (1) منع مواطنيها من محاولة الرد عليه; (2) مصادرة حقهم في النقد والاحتجاج; (3) إدامة حال الطوارئ. وهذا ما يعني طرح شرعية نظام حكم الحزب الواحد وأسسه للتساؤل العام من السوريين جميعا.
ومن ناحية سياسية، فإن للرد على أي اعتداء على البلاد مفعولا ردعيا يوفر عليها أخطار التعرض لاعتداءات أخرى إذا أفلت المعتدي من العقاب. وبالعكس فإن عدم الرد، مهما يكن السبب، "يكسر عين" الدولة ويفضي عمليا إلى خفض مرتبة سيادتها بين الدول السيدة.
وصفة للانفجار الاجتماعي
كذلك لا يستطيع النظام أن يتنكر من طرف واحد لالتزام سابق من دون أن يبيح للطرف الآخر أن يدافع عن نفسه. كانت متطلبات التنمية التي حددتها نخبة النظام نفسه قد دفعته، قبل ثلاثين عاما، إلى التعهد بتوظيف متخرجي كليات الهندسة لمدة خمس سنوات; وهذا التعهد هو السبب في تفضيل طلاب كثيرين الالتحاق بهذه الكليات، بمن فيهم طلاب كان في وسعهم الالتحاق بكليات أخرى. في السبعينات والثمانينات وأكثر من نصف التسعينات كان بعض الطلاب المرتاحين ماديا يشكون التطبيق الإجباري للتوظيف. في النصف الثاني من التسعينات صار التوظيف اختياريا: الدولة ملزمة توظيف الذي يرغب من المهندسين. اليوم صار عدم التوظيف إجباريا، من دون أي حوار مسبق مع الطلاب أو الذين قد يمثلونهم (اتحاد الطلبة، نقابة المهندسين)، ومن دون أية إجراءات تصحيحية (تمييز إيجابي في حقهم في مجال القروض أو السكن...)، ومن دون اي شرح لمبررات القرار، ومن دون إعطاء مهلة سماح (خمس سنوات مثلا، مدة الدراسة في كليات الهندسة) بحيث ينطبق المرسوم فقط على الذين يلتحقون بكليات الهندسة بعد صدوره.
هنا أيضا لا تستطيع السلطة أن تجمع بين حشف "الاشتراكية" وسوء كيلة عدم التوظيف، ولا بين التخلي عن مبدأ التوظيف العام ومصادرة حق الإضراب أو الاعتصام والتنظيم النقابي المستقل. فجوهر "العقد" الاشتراكي أو الديموقراطي الشعبي - وسوريا دولة ديموقراطية شعبية واشتراكية بصريح نص دستورها ذاته الذي أعطى حزب البعث احتكار السلطة - يقوم على ضمان ما يفترض أنها حقوق المواطنين الاجتماعية من عمل وتعليم وطبابة وسكن مقابل تجريدهم من حقوقهم السياسية والإنسانية. ورغم ان نظام الحزب الواحد لم يلتزم في أي يوم تلك الحقوق الاجتماعية بصورة منسجمة، فإنه لأول مرة يجمع بين تقنين التخلي عنها وقمع الاحتجاج عليها.
من جهة أخرى، إن الموقع الذي تحتله سلطة حزب البعث الاشتراكي في الاقتصاد الوطني يرتب عليها مسؤولية اساسية في تأمين الحد الأدنى من الدخل للمواطنين السوريين جميعا. فالنظام الاشتراكي البعثي يحتكر إدارة الموارد الوطنية، وينفرد في تحديد أولويات الانفاق العام، ويملك المشاريع الاقتصادية الأساسية، ويتحكم بتوزيع المشاريع الرابحة على من يناسب نخبته (الهاتف الخليوي مثلا)، ويضع الخطط التنموية، وهو فوق ذلك يشرف إشرافا حصريا على الجامعات، ويتحكم بخيارات الطلاب لكلياتهم، ويحتكر النشاط النقابي. الغنم بالغرم. وكل هذه السلطة والامتيازات من دون التزامات مقابلة هي وصفة للانفجار الاجتماعي.
نهاية عقود
قلنا: لا يمكن السلطة أن لا تدافع عن البلاد وأن تستمر في فرض حال الطوارئ; وقلنا: لا يمكنها أن تتخلى عن التزاماتها الاجتماعية وان تمنع المتضررين من الاحتجاج، بل وأن تفصل خمسة من الطلاب المعتصمين فصلا نهائيا من جامعة حلب. لكن هذا بالضبط ما حصل، ولم يكن لامتناع الإمكان الحقوقي أو الأخلاقي أن يؤثر على الإمكان السياسي. هذا يكشف في الواقع حدود المقاربة الحقوقية، وفي الخصوص في غياب سلطات مستقلة (تشريعية، قضائية، اجتماعية...) تراقب انضباط العلاقة بين السلطة السياسية والمبادئ والقيم الاجتماعية. ومن دون سلطة معدِّلة تنفلت السلطة السياسية بلا ضوابط وترتد في الوقت نفسه إلى القوة الخام. والقوة تتيح جمع ما لا تجمعه مبادئ العدالة من حشف وسوء الكيل. لكن هذا الاجتماع المستحيل، أخلاقيا وإنسانيا ووطنيا، هو بالضبط أصل المزيج الانحلالي الذي ننغمر فيه: تفكك اجتماعي وقهر سياسي وخراب لغوي وتشوش عقلي واغتراب معنوي وضعف عسكري.
قد لا تكون السياسة حقوقا وأخلاقا ومبادئ، لكن سياسة من دون حقوق وأخلاق ومبادئ هي تدمير ذاتي لا أكثر ولا أقل.
لا يُرد على هذه المناقشة بأن سوريا، وبصرف النظر عن نظام حكمها والحزب الحاكم فيها، لا تستطيع الرد عسكريا على العدوان الإسرائيلي. فليس للمناقشة الحالية علاقة من قريب أو بعيد بمنطق التهييج الإيديولوجي والسياسي من نوع المطالبة بفتح جبهة الجولان الذي انتعش محليا ووقتيا بعد الغارة، ولا بالمنطق التخويني الذي نجده منتعشا هذه الأيام عند أصوات سورية في الخارج. كذلك لا يحيل التحليل على ضرورة إلغاء المرسوم رقم 6 وعودة الدولة إلى الالتزام بتوظيف المهندسين. المسألة بالأحرى تتصل بضرورة إعادة النظر في قواعد عمل النظام السياسي الذي يراكم العجز عن مواكبة حاجات السوريين ومطالبهم الاجتماعية والسياسية والمعنوية من جهة، وعن الرد على الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته من جهة أخرى، فضلا عن تطوير قدرة البلد على الاستجابة الفاعلة لتحديات تغير البيئة الإقليمية والدولية ومشاريع إعادة هيكلة المنطقة. إن تراكم الاختلالات السياسية والاجتماعية والقانونية والإيديولوجية في البلاد يطرح مسألة التغيير السياسي بصورة بديهية. بكل بساطة، ثمة مطالب وطنية واجتماعية باتت تفوق قدرة النظام القائم على تلبيتها أو استجابتها.
انتهى العقد الاشتراكي السوري، وانتهى أيضا عقد حال الطوارئ إن جاز التعبير. تحللت السلطة من التزام ينص عليه الأول (في سياق تحلل شامل، وإن يكن مقنعا، من "الاشتراكية")، وامتنعت عن التزام ما يمليه عليها الثاني. فإذا استمر نظام الحزب الواحد بعد انفساخ عقوده فلن يقود إلا إلى انحلال عام.
في المقابل، لا يمكن السوريين تحمل أعباء مرحلة ما بعد عقود الحزب الواحد إلا بقدر ما تتحرر طاقاتهم على العمل المشترك والدفاع الجماعي عن النفس. هذا يعني: (1) إلغاء حال الطوارئ والقوانين والمحاكم الاستثنائية وجميع مترتباتها، وبمفعول رجعي; (2) حرية العمل النقابي والسياسي والاحتجاج السلمي.
|