الخطبة الثانية
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: ففي خِضمِّ هذه الأحداث الملتهِبة ووسط هذه الزوابعِ المتلاطِمةِ تبرزُ الحكمةُ والحِلم والعفوُ والصّفحُ، وتمتدُّ أيادي الإعذارِ عند المقدرة والتمكُّن، وقديمًا قيل: العفوُ عند المقدرة.
ألا فإنّ المرءَ في هذه البلادِ ليبارك العفوَ الكريم والتطلُّعَ النبيل من ولاةِ أمر هذه البلاد حرسها الله؛ ليتراجع متراجِع ويؤوب شارد. وإنَّ هذه المبادرةَ الموفّقَة ليست بِدعًا من التأريخ، بل هي منطِق الحكمة والصّفح عند الاقتدار، والأسوةُ في هذا كلِّه رسولُ الله حين قام عامَ الفتح في المسجد الحرام قائلاً: ((يا معشر قريش، ما تظنّون أني فاعلٌ بكم؟)) قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: ((فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريبَ عليكم اليومَ، اذهبوا فأنتم الطُّلقاء))[1].
وفعل مثلَ ذلك أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه حينما حاصَر الأشعثَ بنَ قيس بعد أن ارتدَّ عن الإسلام فأخذه أبو بكر بالأمان، فأخذ هو الأمانَ لسبعين مِن رجاله ولم يأخُذه لنفسِه، فأُتي به أبا بكر رضي الله عنه فقال له: إنّا قاتِلوك لا أمانَ لك، فقال: تمنُّ عليَّ وأُسلم؟ قال: نعم، ففعل.
ومثلُه الخليفةُ المعتمِد على الله حين دعا قائدَ ثورةِ الزّنج إلى التوبة، فتاب بعضُ أعوانِه واستأمنوا الخليفةَ فأكرمهم، وأمّا هو فقد عتا حتى قُتِل شرَّ قِتلَة.
وهكذا فعَل الحكَمُ بن هشام الأمويّ أميرُ الأندلس في القرن الثاني حين افتات عليه جماعةٌ من أهل قُرطبة وثارُوا وشهروا السلاحَ، فغلبهم الحَكَم، ثم كتب كتابَ أمانٍ عامّ، فرجع إليه من رجع، وقُتِل من قتل.
ومثلُه الخليفةُ المعتصِم حين أعطى الأمانَ لبابكٍ الخُرَّمي بعد أن حاصَره، لكنه لم يستجب وفرَّ إلى أن قُبِض عليه وقُطِعت رأسُه وطيفَ به في الناس.
وحاصِلُ الأمر ـ عبادَ الله ـ أنّ العفوَ عند المقدرة من سيمَا الكُرمَاء الأقوياء، وإنها لفرصةٌ سانِحة لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد.
ألا فسَارِعوا ـ أيها المخطِئون المختبِئون ـ ولتجعَلوا من هذه المبادرةِ نقطةَ انطلاقٍ في التصحيح والرجوع إلى الحقّ، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94].
فالبدارَ البدارَ في اللّحاق بركاب الموعودين بالعَفو والصّفح في الدارين في قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:34].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
تحياتي