امرأتان مؤمنتان في رحلة التحرر النسوي الجاد
شهرزاد العربي
في السنوات الأخيرة من القرن الماضي , وبداية القرن - الذي يوشك على الانتهاء - ظهرت إرهاصات أولية في دول مختلفة من العالم الإسلامي , على مستوى النخبة أولاً - كما هو بالنسبة للجزائر ومصر وتونس - ثم على مستوى الأجهزة الرسمية للدولة ثانياً - كما هو بالنسبة لإيران - ترى أن تطوير العالم الإسلامي وتحديثه يمر عبر "المرأة" , فالنهضة والتقدم ومحاربة الاستعمار , والقضاء على التخلف , كل هذه الظواهر جميعها , تبدأ بالمرأة وتنتهي عندها , ولا شك أن ذلك ارتبط مدنياً وسياسياً - بل وحضارياً - بحالة العجز , وبالتأثر بالآخر ؛ ولذلك لا غرو حين تكون قضية المرأة مسألة "رجالية" بالدرجة الأولى , على الرغم من أنها تطورت بعد ذلك لتشمل المرأة .
وعلى طول قرن - ها هو يمضي دون رجعة - شغل موضوع المرأة - مكانتها وأدوارها وحرياتها وحقوقها - كثيراً من الكُّتاب العرب والمسلمين , وتتخذ النقاشات بشأنها طابعاً حاداً يضعها ضمن الموضوعات الأكثر إثارة للجدل والخلاف في العالمين العربي والإسلامي"(1) , لكن ذلك الانشغال البحثي - وأحياناً الاستهلاكي - وتلك النقاشات الحادة بين تيارات مختلفة أكثرها وضوحاً دعاة الفكر اليساري , وأصحاب المشروع الحضاري الإسلامي , لم تؤتِ أُكُلها , وبقيت قاصرة على ما يمكن أن نطلق عليه "حديث الرفاهية" ؛ باعتبارها مجالاً للتنافس والصدام , وليس من الضروري أن يكون هذا العمل واعياً , هذا بالنسبة للطرف الأولي , أما فيما يتعلق بالفريق الإسلامي - وإن اختلفت جماعاته وفرقه وتنظيماته - فقد تمكن من إيقاف الزحف نحو معاني القداسة والقيم , وبذلك منع - في حدود ما أتيحت له من قوة وظروف - الذوبان الكلي في ثقافة الآخر .
يلاحظ أن الهجمة - في بدايتها - على التخلف من خلال دفع المرأة إلى التمرد على التقاليد ؛ كانت براقة وجذابة , كأي دعوة جديدة للتغيير , هذا إلى جانب أسباب أخرى ارتبطت بالأفكار الجديدة نفسها , منها أنها دعوة لحقوق المرأة في ضوء الشريعة الإسلامية كما هو في كتاب "الاكتراث في حقوق الإناث" للكاتب والشاعر الجزائري (محمد بن مصطفى بن الخوجة)(2) , وإن كانت قراءته تُبرِز حقوق الرجل أكثر من حقوق المرأة , ومنها أيضاً أن الدعوات المختلفة للتحرر لم تبتعد كثيراً عن روح الإسلام - كما في الكتاب الأول (لقاسم أمين)(3) , ومنها محاولة ربط تطوير المرأة بضرورة تقتضيها الشريعة , كما هو في كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للكاتب التونسي "الطاهر حداد"(4) .
ومن غير الواضح إن كانت الأفكار المطروحة قد بدأت انطلاقتها من أرضية الإسلام بهدف التطوير الحقيقي للمجتمعات الإسلامية أم أنها لخوف من الرفض والإبعاد , وربما التكفير -أحياناً - قد لجأت إلى ذلك الأسلوب , أم لسبب ثالث يتمثل في طبيعة التفكير السائدة آنذاك , وعلى العموم فإنه من الصعب الحكم على أفكار ظهرت منذ قرن , إلا إذا كان هدفنا التأكيد على أن الدعوات القائمة من تيارات محددة لا صلة لها بالإرث الحضاري , حتى لو كان ذاك "الإرث" دعوة جديدة لتحرير المرأة .
والواقع أن الأمر كله أكبر من النظر إليه من خلال تعدد النقاشات وتنوُّعها , وإنما يجب علينا متابعته من خلال مشاركة المرأة - إيجابياً - في توظيف الأفكار الجديدة لصالحها , ما دامت هي المعنية بالموضوع , وبالطبع فإننا سنجد صعوبة في فصل هذا كله عن نوعية السلطة القائمة , والمناخ الاجتماعي العام , وقوة الطبقات , وهو ما نجده جلياً في التجربة المصرية ممثَّلة في السيدة (هدى شعراوي)(5) , التي تذكر بعض المراجع أنها تقدمت المظاهرات أثناء ثورة 1919 ضد الإنكليز سافرة , فكانت - حسب تلك المراجع - أول مسلمة رفعت الحجاب , وبعدها أنشأت جمعية "الاتحاد النسائي - بمصر" , وعقدت عدة مؤتمرات .
ولم يبقَ الأمر مقصوراً على حالات فردية , كما في مصر أولاً , ثم تونس بعد ذلك , وإنما ظهر باعتباره "سياسة دولة" , كما هو في إيران , فقد أصدر الشاه "رضا بهلوي" عام 1936 أمراً بمنع الحجاب , بل إنه حرم النساء (غير السافرات) من وظائفهن في أجهزة الدولة , ومنع المنتقبات من استعمال وسائل النقل العام , كما دأب على تنظيم حفلات ساهرة ومناسبات كان يدعو إليها كبار الموظفين وعلماء الدين , وكان على هؤلاء أن يظهروا مع نسائهم السافرات , مما اضطر المواطنين إلى أنواع من التحايل على هذا القانون الجائر .
ولم يكن ما يحدث في بلاد إسلامية بعيداً عما حدث في إيران , وما كادت عدة دول تنال استقلالها حتى اهتمت بمسألة تحرير المرأة , وبأسلوب هو أقرب إلى الغرب منه إلى الإسلام , لا لأن الدين ضد التطور , وكيف يكون كذلك , وهو ما جاء إلا بهدف تحرير الإنسان ؟! , ولكن لأن الاهتمام قد تركز على "الثورة" - إن جاز التعبير - على عالم القيم وجمالياتها , ومعانيها السامية .. وهكذا وجدنا أنفسنا - بعد عقود - في حال من الصراع الرجالي / النسائي - على الرغم من مشاركة المرأة في مختلف مجالات الحياة - أدى إلى تفتت شبكة العلاقات الاجتماعية أولاً , وإلى تضليل لوعي المرأة , وإلى استعبادها , وهذه الحالة تبين الجراحات المتتالية والعميقة في الذات الاجتماعية للأمة إلى درجة جعلت من العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة سيد وجارية(6) , ومع ذلك كله فهناك من رفضت أن تكون على النحو السابق , وتمسكت بالدين الإسلامي , ومنه انطلقت , وبه حققت ذاتها , وأصبحت نموذجاً يُقتدى به , ولا شك أن هناك العديد من النساء - في عدة دولة إسلامية - لم تتوفر لدينا المعلومات الكافية عنهن , وهناك نموذجان شاع ذكرهما , واقتضى الحال سرد تجربتيهما بشكل مقتضب في هذا البحث القصير .
تمثل كل من الداعية (زينب الغزالي) , والمفكرة والباحثة الراحلة (عائشة عبد الرحمن) نموذجين في مشاركة المرأة المسلمة في الحقل العالمي للثقافة على المستوى الميداني العملي بالنسبة للأولى , وعلى المستوى البحت النظري بالنسبة للثانية , ونحن لا نسعى للمقارنة بينهما , ولكن نذكرهما باعتبارهما "رداً مفحماً" على كل التيارات الأخرى التي حاولت ربط تخلف المرأة بالإسلام , ناهيك عن أنهما نتاج المرحلة التي اعتقد البعض أن الدور الرسالي للمرأة المسلمة قد تراجع , إضافة إلى هذا كله فقد أثرتا - بشكل ملحوظ - في الأجيال , ومع ذلك فقد ظل لكل واحدة منهما حضورها المميز في نشاطها , وقد تفرغتا للعمل الإسلامي على حساب الحياة الخاصة .
وبحكم المعايشة عن قرب , والجلسات واللقاءات , فإنني أقرب إلى معرفة الداعية "زينب الغزالي" على المستوى الإنساني الشخصي , غير أن هذا لا يعني أنني بعيدة كل البعد عن كتابات الدكتورة عائشة عبد الرحمن .
وباختصار فإن علاقتي - كباحثة - بالأولى "زينب" علاقة مباشرة , طبقاً لعملها- الذي تراجع لكبر سنها , وابتعادها عن النشاط - بشكل مباشر - بعد خروجها من السجن , في عهد الرئيس السادات , أما الثانية "عائشة" فعلاقتي بها - أيضاً - مباشرة , لكن على مستوى النصوص , خصوصاً كتابها "التفسير البياني للقرآن الكريم"(7).
تفاعلت (زينب الغزالي) مع القرآن , مثلما كانت (عائشة عبد الرحمن) , وإن اختلفت الطرق بينهما من ناحية العمل , وليست من ناحية النتيجة , فالأولى طبَّقته في العمل الدعوي - بشكل مباشر - مع العامة من النساء والرجال , والثانية اهتمت به دراسة ؛ فجاءت نتائجه إلى "النخبة" أقرب منه إلى العامة , وكأنهما تتمان بعضهما , حسب المستويات الثلاثة التي يخاطبها القرآن , كما جاء في كتابة بعض المفسرين وهم : العامة , والخاصة , وخاصة الخاصة , لكنهما التقتا حول "حب القرآن" , حتى أن "زينب الغزالي" تقول - بعد صدور كتابها "نظرات في كتاب الله" -(8) : "أنا أحببت القرآن حتى عشته , فلما عشته أحببت أن أدندن به لمَن أحب , فدندنت بعض دندنة المفسرين , ولا أقول إني مفسرة , ولكني أقول : إنني محبة للقرآن , عاشقة له , والعاشق يدندن لمن يحب , والعاشق يحكي لمن يحب , ويجالس من يحب , ويعانق من يحب , فعانقت القرآن , وتحدثت به وله في جميع الملايين من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات , وعشت أدندن به في المساجد لأكثر من ستين عاماً , أي عمر الدعوة التي أسستها في المساجد منذ 1937"(9) .
هكذا إذن .. تختصر عملها الدعوي في تلك العلاقة القائمة بينها وبين القرآن , وكأنها تؤكد أن كل ما قامت به , وسُجنت من أجله , ووهبته حياتها .. هو القرآن , أسمع بها , ثم تبصّر , وهي تقول : "ما عشقت غير الدعوة - بعد القرآن طبعاً - وما قبلت بغيرها , حتى "رباط الزوجية" كان تابعاً لها , وكان توثيقي له ؛ ببقائي في الدعوة وهو المهر الذي طلبته"(10) .
لقد مثلت "زينب الغزالي" إجابة مبكرة لدعوات تحرير المرأة , حين اختارت طريقاً غير الذي رسمت - أو بالأحرى - تمنت لها السيدة "هدى شعراوي" , ولطالما وقفت وجادلت "علماء الأزهر" من أجلها , لكنها بعد أن تعرضت لحادثة الحرق دعت الله لكي يشفيها , وعاهدته على ارتداء الحجاب ؛ فلما استجاب الله - تعالى - لدعائها , تخلت عن الاتحاد النسائي بقيادة "هدى شعراوي" , لكن هذه "الأخيرة" لم تتركها , وإنما طلبت منها مقابلتها ؛ ففعلت , وحين قابلتها أخذتها بين ذراعيها وضمتها إلى صدرها , وقبَّلتها , ثم بكت , وقالت لها :
"يا زينب كنت أريدك أن تكوني خليفتي من بعدي للاتحاد النسائي" ؛ فردت زينب الغزالي : "لقد اخترت , واختار الله , فأنا مع اختيار الله , وإن شاء الله سأظل ابنتك الوفية , وسأتحدث عنك بالخير ما حييت , وأتكلم عن فضلك وأخلاقك ومكارمك العالية , وهذا عهد بيني وبينك"(11) .
ولم تنقطع الصلة - على المستوى الإنساني - بين "هدى شعراوي" و"زينب الغزالي" بعد خروج "هذه الأخيرة" من الاتحاد النسائي , وتأسيسها لجماعة أخرى منافسة هي (السيدات المسلمات) , ذلك التنظيم النسوي الإسلامي الذي حُلّ بعد دخولها السجن , وقد كان يقدم خدمات جليلة لآلاف العائلات المسلمة في مصر(12) , وقد كان الخلاف بينهما حول "علمانية" الحركة , ومسألة "السفور" , وهذه الأخيرة كما نلاحظ - كانت وما تزال وأعتقد أنها ستبقى - المجال الأوسع للنقاش حول "طُهر" المرأة من عدمه , وعلاقتها بالمجتمع , وبالرجل خاصة , ومع مرور الوقت تحول إلى عمل سياسي للأنظمة , كما هو في تركيا الآن(13) , وكذلك تونس وبلاد إسلامية أخرى , مع أن الجانب السياسي - في حقيقته - لا يمثل إلا بُعداً واحداً من عدة أبعاد أخرى , خاصة بالمرأة في الأساس(14) .
والواقع أن مسألة الحجاب - التي هي خاصة بالمرأة - قد تناولها بالنقاش الرجال أيضاً , وأصبحت ملمحاً لجماعات وفرق داخل المجتمع الإسلامي , بل تطورت بعد ذلك لتجعل الغربيين - الأوربيين خاصة - يولون هذا الموضوع اهتماماً خاصاً , وينتقلون من الممارسة والمظهر إلى القيمة الدينية للموضوع , من ذلك ما ذهب إليه الباحث الألماني المسلم (مراد هوفمان) بقوله : "لنقُل إن الإسلام في تمسُّكه بالفضيلة عتيق , ولنا أن نعتز بذلك , فنؤكد أن الإسلام فخور بهذا .." , وفي هذا المجال يحرص الإسلام على التنبيه إلى دور "الملابس" أو "الزي" في الحياة , سواء بالنسبة للذكر أو الأنثى , خاصة مسألة الحجاب أو النقاب , فالإسلام يرى أن من المنطقي عدم إثارة الأشياء إذا كانت غير مرغوبة"(15) .
وهكذا إذن .. ظهرت في المجتمعات الإسلامية حالة من الدفاع الذاتي نابعة من قوة الدين , ولم تكن العلاقات الإنسانية لتنتهي عند تغيُّر المواقف , وإنما لكلٍّ عمله ؛ ولهذا لم تشكك "زينب الغزالي" في إيمان "هدى شعراوي" - على الرغم من مواقفها التحررية - وذكرت أنها كانت تبرّ الفقراء , وتساهم في أعمال الخير , وتحج لبيت الله , وإنما الخلاف حول الأفكار المطروحة , التي توجه المجتمع سلباً أو إيجاباً , وربما لا يعلم الكثيرون أن "هدى شعراوي" حين اشتد عليها المرض طلبت رؤية "زينب الغزالي" , فذهبت إليها , ووافتها المنية , وهي بجانبها ؛ فحضرت بذلك آخر سكناتها من الدنيا , وشاركت في جنازتها ؛ لأنها كانت امرأة فاضلة متدينة , وإن اختلف مظهر "جمعيتها النسوية" عن ذلك , على حد ما ذكرت زينب الغزالي(16) .
|