مرتكزات الاقتصاد السياسي للفساد:
بالرغم من الأعطال التي حلت بالاقتصاد العالمي، فإن التحليل الاقتصادي لا زال يعتمد الأسس والأدبيات التي وضعت في القرن التاسع عشر كما أسلفنا.
من المستحيل أن تصنف نشاطات صغار الحرفيين والريفيين وصغار التجار في دول الجنوب، على أنها من ضمن مظاهر الاقتصاد الفاسد. لكن الأمر يختلف بالنسبة الى النشاطات الخفية الواسعة النطاق التي يجري تعاطيها في الشمال و الجنوب وكذلك في بلدان المعسكر الاشتراكي (السابق). وإن تكن تلك النشاطات غير غارقة في شبهات لا شرعية بشكل واضح، إنما تجري على نحو يجعلها بمنأى عن مراقبة الضرائب و الانخراط في الاقتصاد العريض الذي يحقق نموا واسعا في عموم الاقتصادات الوطنية, مما يجعلها تنحاز الى مسببات ومظاهر الفساد ..
وتعود أسباب الانحراف العديدة في آليات الاقتصاد الحديث الكامنة وراء الإثراء غير المشروع الى سلسلتين من الظواهر:
• الاستهتار بهيبة الدولة. والذي يقود الى ما يسمى ب (الفساد الكبير) الذي يسمح لأفراد ومؤسسات بالثراء الفاحش والمفاجئ وبلا مجهود إنتاجي خاص.
• تفاقم ظواهر اللاتكافؤ الاقتصادي، والتي تؤدي الى انخفاض خطير في مستوى حياة فئات واسعة من السكان. وهذا النموذج والذي يسمى ب (الفساد الصغير العام)، ينتج عن النموذج الأول الذي تكون فيه هيبة الدولة منحطة.
الفساد: شذوذ أخلاقي أم صفة اقتصادية؟
لو ابتعدنا قليلا عن المفاهيم الأخلاقية، لنستطيع تحليل ظاهرة الفساد من زاوية اقتصادية.. فإن (الفساد) سيكون صفقة بين طرفين المفسِد(بكسر السين) الذي يملك أو يقدر له أنه سيملك (بعد الصفقة) وسائل مالية، والمفسَد (بفتح السين) الذي يملك بحكم وظيفته أو قربه من قمة هرم بنيان الدولة، القدرة على التأثير بصناعة القرار.. وتكون صيغة (الصفقة) أن يتعهد الطرف الأول للطرف الثاني أموالا أو حصصا مالية يتم التفاهم عليها، نظير تحمل الطرف الثاني مخاطر التلاعب بالقواعد المعهودة والتي تقرب (حظوظ) الطرف الأول بالانفراد بتلك الغنائم.. وهذا النموذج منتشر في دول العالم الثالث والبلدان النفطية أكثر مما هو عليه في البلدان الغنية (الصناعية).
تكرار ظاهرة الفساد من قرن الى آخر
لم يكن الفساد وليد هذه الأيام فقط، فقد كان قديما، وفي القرن التاسع عشر أسس للفساد الحديث عندما كانت الشركات الكبرى تتنافس على امتيازات ذات طابع استعماري خارج بلدانها، لتدفع لرجال الدولة في البلد الذي يراد الاستثمار فيه (كما حدث في روسيا القيصرية) وتتم الاستثمارات بأموال المودعين في المصارف(حتى صغار المودعين) .. ثم تؤول تلك الأموال الى التأميم أو عدم السداد لها .. لتعاود الشركات المالية الكبرى اللعب بمضاربات الأسهم لامتصاص الأموال أو قيمتها من جديد، ولكنها ستؤول هذه المرة الى جيوب غير التي دفعتها، لتمعن في تشظية الاقتصاد العالمي ..
نحو تشكل جديد لنظام شراء الوظائف وتوارثها :
قبل عصر الاقتصاد الصناعي، كانت الأموال تتأتى بسهولة لخزينة مال الدولة من الضرائب و غنائم الحرب، وإقطاع الممتلكات (كون الأراضي والدولة للحاكم!) وتخفيف وزن قطع (النقد)..والرشاوى وغيرها من الطرق المعروفة.
فكانت وظائف مثل القضاء و الجباية والإدارات المحلية للمدن والقرى والولايات، تشترى و يدفع ثمنها عاليا لما لها من مردود كبير، وقد كانت حتى مواقع الترتيب الكنسي (أو الديني) لها مثل هذا التقليد. وكانت تلك الأنماط منتشرة في كل أنحاء العالم وليست مقتصرة على أوروبا، بل حتى في العالم الإسلامي و غيره .
وبعد عصر الأنوار والحداثة التي زامنت الثورة الصناعية، ظهر في الأدبيات الاقتصادية والسياسية استنكارا كبيرا (أخلاقيا) لتلك الصور.. حتى بدا وكأنها زالت أو في طريقها للزوال ..
لكنها في الحقيقة، لم تختف نهائيا، بل إنها منتشرة وفي كل أنحاء العالم، فمن يتستر و(يعاون) على ديمومة الفساد هو من سيقتطع الحاكم أو هيئة الحكم له وظيفة ذات شأن ليكون جزءا من ماكنة الفساد (المستتر).
__________________
ابن حوران
|