بدعة تقبيل المصحف-------------------
فتاوى لأبن تيمية
- - - - - - -
كتاب السنة والبدعة
< 49 > مسألة :
هل القيام للمصحف وتقبيله , وجعله عند القبر , ووقيد قنديل في موضع يكون من غير أن يقرأ فيه , مكروه ؟ وهل يكره أيضا أن يفتح فيه الفال ؟
الجواب : الحمد لله القيام للمصحف وتقبيله لا نعلم فيه شيئا مأثورا عن السلف وقد سئل الإمام أحمد عن تقبيل المصحف , فقال : ما سمعت فيه شيئا , ولكن روي عن عكرمة بن أبي جهل أنه كان يفتح المصحف , ويضع وجهه عليه ويقول كلام ربي كلام ربي , ولكن السلف , وإن لم يكن من عادتهم القيام له , فلم يكن من عادتهم قيام بعضهم لبعض , اللهم إلا لمثل القادم من غيبة ونحو ذلك , ولهذا قال أنس : لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك , والأفضل للناس أن يتبعوا طريق السلف في كل شيء , فلا يقومون إلا حيث كانوا يقومون .
فأما إذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض , فقد يقال : لو تركوا القيام للمصحف مع هذه العادة لم يكونوا محسنين في ذلك ولا محمودين , بل هم إلى الذم أقرب , حيث يقوم بعضهم لبعض , ولا يقومون للمصحف الذي هو أحق بالقيام , حيث يجب من احترامه وتعظيمه ما لا يجب لغيره , حتى ينهى أن يمس القرآن إلا طاهر , والناس يمس بعضهم بعضا مع الحدث , لا سيما في ذلك من تعظيم حرمات الله وشعائره ما ليس في غير ذلك . وقد ذكر من ذكر من الفقهاء الكبار قيام الناس للمصحف ذكر مقرر له , غير منكر له . < 50 >
وأما جعل المصحف عند القبور , وإيقاد القناديل هناك فهذا مكروه منهي عنه , ولو كان قد جعل للقراءة فيه هنالك , فكيف إذا لم يقرأ فيه ؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لعن الله زوارات القبور , والمتخذين عليها المساجد والسرج } . فإيقاد السرج من قنديل وغيره على القبور منهي عنه مطلقا ; لأنه أحد الفعلين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يفعلهما كما قال : { لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عوراتهما يتحدثان , فإن الله يمقت على ذلك } . رواه أبو داود وغيره
ومعلوم أنه ينهى عن كشف العورة وحده , وعن التحدث وحده , وذلك قوله تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } .
فتوعد على مجموع أفعال , وكل فعل منها محرم ; وذلك لأن ترتيب الذم على المجموع يقتضي أن كل واحد له تأثير في الذم , ولو كان بعضها مباحا لم يكن له تأثير في الذم , والحرام لا يتوكد بانضمام المباح المخصص إليه والأئمة قد تنازعوا في القراءة عند القبر , فكرهها أبو حنيفة ومالك وأحمد في < 51 > أكثر الروايات , ورخص فيها في الرواية الأخرى عنه هو وطائفة من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم .
وأما جعل المصاحف عند القبور لمن يقصد قراءة القرآن هناك وتلاوته , فبدعة منكرة , لم يفعلها أحد من السلف , بل هي تدخل في معنى اتخاذ المساجد على القبور , وقد استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك حتى قال : { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } . يحذر ما صنعوا , قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره , ولكن كره أن يتخذ مسجدا , وقال { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ; ألا فلا تتخذوا القبور مساجد , فإني أنهاكم عن ذلك } ولا نزاع بين السلف والأئمة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد .
ومعلوم أن المساجد بيت الصلاة والذكر وقراءة القرآن , فإذا اتخذ القبر لبعض ذلك كان داخلا في النهي , فإذا كان هذا مع كونهم يقرءون فيها , فكيف إذا جعلت المصاحف بحيث لا يقرأ فيها ولا ينتفع بها لا حي ولا ميت , فإن هذا لا نزاع في النهي عنه , ولو كان الميت ينتفع بمثل ذلك لفعله السلف , فإنهم كانوا أعلم بما يحبه الله ويرضاه , وأسرع إلى فعل ذلك وتحريه .
وأما استفتاح الفال في المصحف فلم ينقل عن السلف فيه شيء , وقد تنازع فيه المتأخرون .
وذكر القاضي أبو يعلى فيه نزاعا ذكر عن ابن بطة أنه فعله , وذكر عن غيره < 52 > أنه كرهه , فإن هذا ليس الفال الذي يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه { كان يحب الفال ويكره الطيرة } , والفال الذي يحبه هو أن يفعل أمرا أو يعزم عليه متوكلا على الله , فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره مثل أن يسمع : يا نجيح , يا مفلح , يا سعيد , يا منصور , ونحو ذلك , كما { لقي في سفر الهجرة رجلا فقال : ما اسمك ؟ قال : يزيد , قال : يا أبا بكر يزيد أمرنا } .
وأما الطيرة , بأن يكون قد فعل أمرا متوكلا على الله , أو يعزم عليه فيسمع كلمة مكروهة مثل : ما يتم , أو ما يفلح , ونحو ذلك , فيتطير ويترك الأمر , فهذا منهي عنه , كما في الصحيح عن { معاوية بن الحكم السلمي , قال : قلت : يا رسول الله , منا قوم يتطيرون , قال : ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم } .
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تصد الطيرة العبد عما أراد , فهو في كل واحد من محبته للفال , وكراهته للطيرة , إنما يسلك مسلك الاستخارة لله , والتوكل عليه , والعمل بما شرع له من الأسباب , لم يجعل الفال آمرا له وباعثا له على الفعل , ولا الطيرة ناهية له عن الفعل , وإنما يأتمر وينتهي عن مثل ذلك أهل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام , وقد حرم الله الاستقسام بالأزلام في آيتين من كتابه , وكانوا إذا أرادوا أمرا من الأمور أحالوا به قداحا مثل السهام أو الحصى أو غير ذلك , وقد علموا على هذا علامة الخير , وعلى هذا علامة الشر , وآخر غفل , فإذا خرج هذا فعلوا , وإذا خرج هذا تركوا , وإذا خرج الغفل أعادوا الاستقسام .
فهذه الأنواع التي تدخل في ذلك مثل الضرب بالحصى والشعير , واللوح والخشب والورق المكتوب عليه حروف أبجد , أو أبيات من الشعر , أو نحو ذلك مما يطلب به الخيرة , فما يفعله الرجل ويتركه ينهى عنها ; لأنها من باب الاستقسام بالأزلام , وإنما يسن له استخارة الخالق , واستشارة المخلوق , والاستدلال بالأدلة الشرعية التي تبين ما يحبه الله ويرضاه , وما يكرهه وينهى عنه , وهذه الأمور تارة يقصد بها الاستدلال على ما يفعله العبد , هل هو خير أم شر ؟ وتارة الاستدلال على ما يكون < 53 > فيه نفع في الماضي والمستقبل , وكلا غير مشروع , والله سبحانه أعلم .
|