{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي أعرضتم عن الميثاق بعد أخذه {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي بقبول التوبة {وَرَحْمَتُهُ} بالعفو عن الزلة {لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي لكنتم من الهالكين في الدنيا والآخرة.
فائدة: الفضل هو الزيادة عمّا تستحقه ولذا جاء في الحديث "سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يُدخِلُ أحداً الجنة عَمَلُه. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة" [رواه الشيخان وغيرهما]، لأن عمل الإنسان كله لا يعدل نعمة واحدة من نعم الله على الإنسان، فيأتي فضل الله ليدخله الجنة.
أما الرحمة فهي التي فتحت طريق التوبة لغفران الذنوب.
ومن رحمته تعالى وفضله على بني إسرائيل أن ذكر لهم أوصاف خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام في التوراة ليخرجهم من الضلالة إلى الهدى ومن الخسران المبين إلى الفوز العظيم، ولكنهم استكبروا وجحدوا وتعنتوا فاستحقوا غضب الله تعالى.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أي عرفتم ما فعلنا بمن عصى أمرنا حين خالفوا واصطادوا يوم السبت وقد نهيناهم عن ذلك.
والقصة معروفة عند اليهود -ولذا جاء التعبير القرآني {ولقد علمتم}- وهي أنتهم أرادوا يوماً للراحة فأعطاهم الله يوم السبت، وكانوا يعيشون على صيد السمك فأراد الله ابتلاءهم فحرم عليهم العمل يوم السبت، وجعل الحيتان تأتي في هذا اليوم وتطفوا على سطح الماء لتفتنهم، فإذا جاء صباح الأحد ذهبت بعيداً، فأرادوا التحايل على الله فصنعوا حياضاً عميقة، وكان السمك إذا دخلها صعب عليه الخروج منها فيصطادونه صبيحة الأحد. فبحماقة من يحتال على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور! فكان جزاؤهم:
{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي مسخناهم قردة بعد أن كانوا بشراً مع الذلة والإِهانة {فَجَعَلْنَاهَا} أي المسخة {نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي عقوبة زاجرة لمن شاهدها وعاينها {وَمَا خَلْفَهَا} وعبرة لمن جاء بعدها من الأمم ولم يشاهدها {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي عظةً وذكرى لكل عبدٍ صالحٍ متّقٍ لله سبحانه وتعالى.
ما يستخلص من الآيات [63-66]:
1- ذكرت هذه الآيات قصتين، الأولى: قصة رفع جبل الطور فوق بني إسرائيل، والثانية: قصة تحايل بني إسرائيل على الله.
الأولى: يؤخذ منها أن اليهود لا يعترفون ولا يلتزمون إلا بمنطق القوة، فلا حوار ينفع معهم، ولا عهود ولا مواثيق يثبتون عليها. والتاريخ خير شاهد على غدرهم وخيانتهم، فمبال بعض الناس يكذبون التاريخ ويعرضون عن كلام الله الشافي الواقي ويؤولونه على حسب ما تمليه عليهم أمزجتهم لتبرير مواقفهم، فتراهم يستشهدون بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ويطبّقونها في غير موضعها، ويعرضون عن قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
ولا تعارض بين الآيتين، فمَن أراد السلم حقيقة وردّ الحقوق كاملة إلى أصحابها سالمناه، ومن أعرض ورفع شعار السلم ليسخر منّا أدّبناه بالقوة كما علّمنا ربُّنا الخبير بخفايا النفوس وما يصلح لكلٍّ منها.
الثانية: قصة تحايل بني إسرائيل على الله ومسخهم قردة: ذهب جمهور العلماء إلى أن الله تعالى مسخ المعتدين منهم بصيد السمك يوم السبت، فقال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فما نجا إلا الذين نَهَوْا عن السوء -لما ذكر القرآن في سورة الأعراف- وهلك سائرهم.
وقال بعض العلماء: لمّا وجدوا أنفسهم قد تحولوا إلى خلق أقل من الإنسان لم يأكلوا ولم يشربوا حتى ماتوا. والإنسان إذا مُسخ لا يتناسل لكي ينقرض رحمة بمن جاء بعده قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فمقتضى العدل الإلهي ألاّ يتحمل الأبناء أوزار الآباء.
2- دلت هذه الآيات على أن المقصود بالكتب السماوية تلاوتها وفهمها للعمل بمقتضاها، وأما مجرد التغني بالألفاظ دون الوقوف على المعاني لفهم خطاب الشارع قصد التزامه فإنه يعرض صاحبه لغضب الله كما حَلَّ ببني إسرائيل، ولذا جاء في الحديث الذي رواه النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من شرّ الناس رجلاً فاسقاً يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه". وقال أيضاً: "رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه". ولا يكون ذلك إلا عند عدم تدبّره وترك العمل به.
قصة البقرة وإحياء الميت
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ(67)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ(68)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(70)قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ(71)وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72)فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)}.
المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى بعض قبائح اليهود وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت، وتمردهم على الله عز وجل في تطبيق شريعته المنزلة، أعقبه بذكر نوعٍ من مساوئهم ألا وهو مخالفتهم للأنبياء وتكذبيهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها الله إِليهم، ثم كثرة اللجاج والعناد للرسل صلوات الله عليهم، وجفاؤهم في مخاطبة نبيّهم الكريم موسى عليه السلام، إلى أن ما هنالك من قبائح ومساوئ.
سبب هذه الحادثة العظيمة التي سميت أطول سورة باسمها، أن رجلاً من بني إسرائيل كان ثرياً جداً ولم يكن له وارث، فتآمر على ابن أخيه فقتله ليلاً ثم أخذ الجثة وألقاها في مكان قريب من إحدى القرى المجاورة ليتهموا بقتله. وكذلك كان الحال واحتدم الخلاف بينهم وأقارب القتيل، فذهبوا إلى موسى عليه السلام ليدعو ربه فيكشف القاتل، فاستجاب الله دعاءه وأمرهم بذبح البقرة.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قال لكم نبيكم موسى إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
جاء الأمر هنا من غير علة وقد أرجئت إلى آخر القصة، والحكمة في ذلك أن الأمر إذا كان صادراً ممّن هو أعلى ينبغي المبادرة إلى تنفيذه من غير البحث عن علة ذلك، فالعبد يمتثل أوامر مولاه ظهرت له الحكمة والعلة أو أخفيت عنه للابتلاء. قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
{قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي فكان جوابكم الوقح لنبيكم أن قلتم: أتهزأ بنا يا موسى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} أي ألتجئ إِلى الله أن أكون في زمرة المستهزئين الجاهلين.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أي ما هي هذه البقرة وأي شيء صفتها؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} أي لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلحقها الفحل {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي وسط بين الكبيرة والصغيرة {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} أي افعلوا ما أمركم به ربكم ولا تتعنتوا ولا تشدّدوا فيشدّد الله عليكم.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} أي ما هو لونها أبيض أم أسود أم غير ذلك؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي إِنها بقرة صفراء شديدة الصفرة، حسن منظرها تسر كل من رآها. ومع هذا اختلفوا بينهم في تحديدها فرجعوا إلى موسى عليه السلام.
و {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أعادوا السؤال عن حال البقرة بعد أن عرفوا سنها ولونها ليزدادوا بياناً لوصفها، ثم اعتذروا بأن البقر الموصوف بكونه عواناً وبالصفرة الفاقعة كثيرٌ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} أي التبس الأمر علينا فلم ندر ما البقرة المأمورة بذبحها {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} أي سنهتدي إِلى معرفتها إِن شاء الله، ولو لم يقولوا ذلك لم يهتدوا إِليها أبداً كما ثبت في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لو لم يستثنوا ويقولوا: إن شاء الله لما تبينت لهم آخر الأبد".
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي ليست هذه البقرة مسخرة لحراثة الأرض، ولا لسقاية الزرع {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} أي سليمة من العيوب ليس فيها لونٌ آخر يخالف لونها فهي صفراء كلها {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي الآن بينتها لنا بياناً شافياً لا غموض فيه ولا لبس، وكأن ما قاله لهم موسى عليه السلام وحياً من ربه قبل ذلك ليس حقاً. قال تعالى إِخباراً عنهم {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة أو تماطلاً في تطبيق الأوامر الإلهية كما هو شأنهم ولعله الأرجح.
ثم أخبر تعالى عن سبب أمرهم بذبح البقرة، وعما شهدوه من آيات الله الباهرة {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قتلتم نفساً {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أي تخاصمتم وتدافعتم بشأنها، وأصبح كل فريق يدفع التهمة عن نفسه وينسبها لغيره {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي مظهر ما تخفونه {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أي اضربوا القتيل بشيء من البقرة يحيا ويخبركم عن قاتله {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} أي كما أحيا هذا القتيل أمام أبصاركم يحيي الموتى من قبورهم {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي يريكم دلائل قدرته لتتفكروا وتتدبروا وتعلموا أن الله على كل شيء قدير.
ما يستخلص من الآيات [67-73]:
1- أراد الله تعالى من قصة ذبح البقرة وضرْب الميت ببعضها أن يثبت لبني إسرائيل ومَنْ جاء بعدهم من المتشكيين أن الله {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6-7].
ومن هنا سميت أطول سورة في القرآن باسمها -سورة البقرة- لأن القصة عالجت قضية تتعلق بركن أساسي من أركان الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر الذي يسبقه بعث الناس من القبور.
2- إن بني إسرائيل أكثروا من الأسئلة وشددوا فشدد الله عليهم ولو أنهم امتثلوا الأمر في البداية وذبحوا أية بقرة لأجزأتهم. لأجل ذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من كثرة الأسئلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" [رواه الشيخان]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ…} [المائدة: 101].