لم يفسد كل الهواء
شاعرا كان.
شاعر محتمل.
غالب أشواك الصبار في القرية الصغيرة، وواجه تيه المدن القريبة والبعيدة. وكوم بين أوراقه في صندوق بالقرية الصغيرة شهادة بعد شهادة. وانتفخ رأسه بالكلمات، وزاحمت كتبه فراغ الدجاج التي تعبث في ردهات البيت الطيني.
وحين كتب قصيدته الأولى، قرأها على ديك البيت ودجاجاته.
قال له الديك : هذه أمك تجمع الحطب وحشائش الأرض وتطعمنا حبا وفتات خبز،فماذا تطعمنا أنت ؟ نحن لا نأكل الكلمات.
حين رأى أول خربشاته منشورة في الصحيفة،رفع عينيه إلى سحابة وقال لها : اشهدي أن الشاعر يولد وحيدا في قرية لا يملك أهلها حتى متعة الظلم. وقرأ في عيني أمه سؤال العشيرة. فنزل إلى المدينة يبحث عن رقم تأجير.
من قصيدة إلى قصيدة.
ومن إدارة إلى إدارة.
ومن وسيط إلى وسيط.
ومن سنة إلى سنة.
هكذا خطر بباله البلد البعيد الذي لا يحب. جمع الأوراق،واهتدى إلى جواز السفر وبقي أمر التأشيرة.
قيل له : نحن لم نعد في حاجة إلى يد عاملة،ولا إلى مهندسين و أطباء. لكن الباب لا يغلق أبدا في وطننا أمام الشاعر.
قص كل كلماته من الصحف،واستخرج منها شهادة أنه مبدع وقدم ملفه.
وكان أن ركب البحر،وركب السماء. وحط في ذلك الوطن الآخر البعيد مواطنا معترفا به،لأنه شاعر.
تصلني منه أحيانا رسائل بسطور قليلة،لا يطلع من كلماتها أي حنين.
كان هنا،ولم يكن لأحد فراغ من حزنه الخاص ليشاطر الشاعر،حامل الشهادات الكثيرة،الطالع من قرية صغيرة،حزنه العنيد،وسافر،لم تنشر أية زاوية في صحف اليوم وصحف الأسبوع خبرا عن هجرته..
لكنني أتوقع أننا سنكتب عنه ذات يوم..
سنكتب عن شاعر تزفه لنا صحف كندا وفرنسا وكل صحف ما وراء البحار.
***
لا ضرورة لتسميته باسمه الخاص.
لكنني سأخترق الماضي ، وسأضع اسم الطاهر بن جلون في الموقع المماثل .
لو أنه كان هنا ، واستمر هنا ، يسافر بين طنجة وفاس والرباط ، يبحث عن ناشر وعن قارئ .
ويصعد الدرج النظيف لهذه الإدارة أو تلك ، يبحث عن رقم تأجير .
أما كان مصير بن جلون ، سيكون مختلفا عن مصيره وقد ركب السماء ، واستوطن بلدا وراء البحار زفه لنا بعد ذلك بالنياشين والجوائز . ؟!
***
حين يصدر ديوان شعر ، مجموعة قصصية ، رواية ، أعرف أن المقاولات وتجار الانتخابات لم يفسدوا بعد ، كل الهواء في هذا الوطن .
عبد الجبار السحيمي - بخط اليد
|