الحلقة الخامسة والستون
نعود لحكايتنا ..
سمعت عن شاب مصاب بمرض عضال ..
وذلك قبل ذهابي للقصيم ومعرفتي بشيخنا رحمة الله عليه..
وقالوا لي أنه منذ سنوات يعيش وحيدا فريدا في مستشفى القوات المسلحة
في الطائف..
وحثني أصحابي على زيارته حتى قال لي أحدهم : والله إن رؤية هذا
الشاب سترفع همتك
وستزيد إيمانك!!
طمعت بذلك ومن ذا لا يريد زيادة إيمانه ورفع همته؟؟
تحدثت مع احد جيراننا في الحي في الطائف عن ذلك الشاب ..
فرق له وقال سوف أرافقك ..
وذهبنا بعد أيام للمستشفى المذكور..
وصلنا للاستقبال..
فسألنا عن الشاب..
قلت لهم اسمه فواز العسيري)..
فقال : لعلك تقصد فوزي العسيري!!
فقلت : نعم هو ..
فابتسم في وجهي وقال ..ستجده في غرفته أو سيكون الآن في الحديقة
يتنزه !!
ثم ناولني بطاقة الزيارة وأعطاني رقم غرفته ..
صعدت للغرفة وكنت اتعجب في نفسي لماذا ابتسم الرجل من سؤالي!!
لما وصلت الغرفة وجدتها خالية سوى من ممرضة ترتب السرير ..
قلت لها : وين فوزي ؟؟
قالت : سيأتي بعد قليل هو يتنزه في الخارج..
قلت لها : ممكن نجلس؟؟
قالت : نعم ..
جلست أنا وصاحبي وقلبت نظري في غرفة فوزي..
لم تكن غرفة مريض !!
كأنني في غرفتي في عنيزة بعد سنوات!!
رفوف كتب آلاف الأشرطة ..
مجلات إسلامية كل شيء يدل على العلم ..
قال لي صاحبي: هل أنت متأكد أن هذا صاحبك؟؟
قطع علينا صوت عربية تقترب من الغرفة ..
فكان نظرنا على الداخل..
قالت الممرضة وابتسمت ابتسامة عريضة هذا فوزي وصل..
دعوني اصف لكم فوزي..
مقعد على العربية جسمه كأنه عمرة ست سنوات أو عشر!!
ورأسه مكتمل النمو يزيد على العشرين سنة!!
وجهه كأنه كوكب دري..
جميل وأنت تعجز أن تقول انه جميل..
ابتسم في وجهنا ابتسامة اعجز عن وصفها ..
رقيقة عذبة و جميلة ..
كان يلبس ثوبا ازرق وعلى رأسه طاقية بيضاء ناصعة البياض
نبتت على وجهه لحية صفراء جميلة ..
ووجهه مستدير وصاف كالعسل..
لما رأيناه قمنا له ..
فسلم علينا فدنوت منه لأصافحه..
فأرخى رأسه حياء لأنه يعجز عن مصافحتي فربت على يده وقبلت
جبينه..
وفعل صاحبي مثل ما فعلت..
عرفناه بأنفسنا فرحب بنا وشكرنا على زيارته ..
وقال : أنا افرح بزيارة الناس لي ..
كان يتكلم و كنت أفكر في كلام الفقهاء أن من أدب الزيارة للمريض عدم
الإطالة عنده حتى لا تشق عليه
ولكن فوزي هذا من طراز مختلف ..
يأسرك بمنطقه وأدبه حتى لا تريد مغادرته والله ..
لم نجرأ عن سؤاله عن مرضه وعن مدة بقائة وما لذي حدث له ..
ولكنه بادرنا بذلك من خلال كلامه ..
قال : مرضي غريب وسماه لنا وهو مرض يتوقف فيه نمو الجسم ماعدى
الرأس والعقل ..
حيث تبقى الأعضاء كما هي دون الرأس فينمو مع السنين..
وقال لنا : أنا منذ ست سنوات مقيم هنا !!
وعائلتي في منطقة عسير ونظرا لحاجتي الماسة للمستشفى فقد أصريت
على المكوث هنا حتى لا اشق عليهم بإحضاري دوما ..
وكان هذا هو رأي الأطباء..
روى لنا تفاصيل حياته وبرنامجه وقراءته وانه حفظ جزءا كبيرا من
القرءان وأنه يستمع للدروس والمحاضرات ويقرأ في الكتب ..
وأنه لا يمل من القراءة ولا تضيع عليه دقيقة في فراغ..
وقال : أن الناس تزوره دوما وأغلبهم لا يعرفهم..
وأحيانا تتوقف الزيارات فتمر عليه الأسابيع ولا يرى أحدا ..
ولم يتأفف من مرضه وحاله ولم يشك من صحته بل كان يحمد الله تعالى
ويشكره على أن أبقى له عقله ليتمكن من الاستفادة والدراسة وطلب
العلم..
كان فوزي يتحدث وكنت أتأمل وجهه وكلامه وعباراته وأقول في نفسي..
كم نحن محرومون؟؟
لله دره ..
كم نحن ضعفاء أمام بهارج الحياة ومشاغلها ..
كان صاحبي يستمع لفوزي فأرى في عينيه الدموع محتبسة مما يسمع ..
خرجنا من عند فوزي ونحن واجمون ..
أصر على مرافقتنا للخارج ..
فخرج معنا حتى وصلنا للمصعد ..
وكان الجميع بلا استثناء يسلم على فوزي من ممرضات وأطباء وعمال
كلهم يعرفه ويضحك ويبش في وجهه ..
ماهي أخبارك يا فوزي اليوم..
أهلا يا فوزي..
وكأنه ليس بمريض..
قال لنا ونحن نغادره ..
لعلكم تزوروني مرة أخرى !!
قلت له : بكل سرور والله ..
فابتسم ابتسامة جميلة أسرت قلبي ولا أنساها ما حييت ..
بقيت أنا وصاحبي نتحدث في الطريق عن ذلك الشاب فقال لي:
لم أفرح بزيارة احد كما فرحت اليوم..