السلام عليكم
ما اعتزمت أن أتحدث في السياسة، وإنما أحب أن أقارن نفسي دائما بمن هم أقل مني حظا.
لعلي أبدأ هنا بشيء من البوح قبل أن أجيب على سؤالك.
كما قلت سابقا فإن المغتربين أنواع، منهم من خرج من موطنه لطلب العلم، ومنهم من خرج لطلب الرزق، ومنهم من خرج للدعوة، ومنهم من خرج مجبرا لا متطوعا. والذي يجمع كل هذه الأنواع هو أنهم جميعا خرجوا وفي قرارة أنفسهم حب لوطنهم، يجعلهم يقولون -ولو لم يتعد الأمر القول- أنهم عائدون بعد سنة، أو سنتين، أو خمس أو عشر. والذي يجري عادة هو أن الواحد منهم يعلل نفسه بهذه الأوهام إلى أن يجد نفسه مفجوعا بإحدى قاصمات الظهر؛ إما الموت أو المرض العضال، أو موت أحد الأبناء، وأقصد بالأخيرة إما أن يقضي ولده نحبه، أو أن يموت الدين في قلبه، فهو كالميت أو أقل حسـّـا. وكم عرفنا من المغتربين الذي أفاقوا بعد عشرين سنة وإذا بأولادهم قد تركوا الإسلام وأصبحوا لا دينيين، تماشيا مع المجتمعات التي يعيشون بها.
وقد اعتدنا هنا في المهجر أن من يقول لك سأعود إلى وطني كاذب أو خادع لنفسه، لأن من دخل الدوامة لا يملك أن يقرر متى يخرج منها، وما أشبه حياتنا هنا بمن يقود سيارته بسرعة هائلة داخل مدار دائري مغلق، فلا المدار ينتهي ولا السائق يملّ، ولكن في النهاية، إما أن ينتهي وقود هذه السيارة، أو أن يلفظه المدار إلى خارج بقوة تكسر عظمه إن لم تـُردِه قتيلا.
ولا شك أنه خلال هذه الحركات البهلوانية الدائرية كانت هناك محاولات جريئة لكسر العادة والخروج عن المألوف، فقد حاول البعض حزم حقائق السفر، وتهيئة النفوس، والعودة إلى الوطن الغالي الذي طالما حلموا بالعودة إليه، ولست أكذبك إن قلت أن جميع الذين أعرفهم أصيبوا بصدمة عظيمة، تشبه صدمة السالي يقطع شارعا خاليا من السيارات فإذا وصل منتصف الشارع سمع بوق شاحنة ضخمة، وشاهد أضواءها تقترب منه كلمح البصر، فتمسمر في مكانه تماما كما يفعل الغزال في ذات الموقف.
وأسباب الصدمة متعددة ولكنها تصب في وعاء واحد، وهو أن الوطن الذي كان في ذاكرتهم، وهو أشبه بصورة فوتوغرافية خليط بين الأبيض والأسود وما بينهما من الألوان الشاحبة، قد تغير، فتلون بألوان لم يكن الرائي يعلم أنها من ألوان الطيف، أو الطيف الوطني على الأقل. ويبدأ الإنسان يقارن ما كان بما صار، ويقارن المكان الذي أتى إليه بالمكان الذي أتى منه، ويدخل في المقارنة هذه شياطين الإنس قبل شياطين الجن، فيقال له، تركت أمريكا -على سبيل المثال- بكل ما فيها من تطور وحرية وعدت إلى هنا، يا لك من مجنون! وإن رجلا ما أعاده إلى الوطن إلا صورة فوتغرافية رسمها في ذاكرته لـَيجد نفسه أقرب إلى المنافقين منه إلى المؤمنين، وإني لأشبه ذلك الموقف - على اختلاف ما بينهما- بسكرات الموت، لا يثبت عندها إلا من سار في حياته على عقيدة واضحة من المبادئ والأهداف، أما من تعلق بالأوهام فليس له من الأمر نصيب، وإنما يرتد على عقبيه فيخسر الأولى والآخرة.
هناك يكون الامتحان، وأصف هنا امتحان من تغرّب* إلى بلاد الغرب خصوصا، ولعل الباقين يجدون في كلامي ما يوافق بعض ما لديهم. يريد المرء أن يستقر في بلده، فيحمل همته على كاهله، ويتوجه نحو دائرة السير ليحصل على رخصة القيادة، فيصل هناك في تمام الثامنة صباحا، وإذا بطابور الإنتظار يمتد من (دائرة السير) إلى (مطعم هاشم) في وسط البلد، فيقول الرجل توكلنا على الله، ما هي إلا ساعات ويصلني دوري، ويفتح مكتب الدائرة، فإذا بالطابور يتحول موجة من الأجساد على غير ما اعتاده الرجل من صفات الطوابير، فكأن تعريف الطابور في وطننا اكتسب أشكالا جديدة غير الخط المستقيم. وإذا بهذا الموج الغامر من الناس يهاجم مكتب موظف الدائرة، يكاد يفترسه. والعجب العجاب أن هذا الموظف الوحيد في وجه التيار الطاغي، يملك شجاعة الأسد وشيئا من أنفته، فإذا بالسيل العرم يتحول إلى فوج من المستغفرين والمتوسلين لصاحب المقام. فيصيب الموظف بعطفه من يشاء ويسخط على من يشاء. إلا أن تقديرات الموظف المتكبر تـُرمى أحيانا بتدخلات (علوية)، فلا يملك إزاءها إلى الانصياع للأوامر، فينزل السائق من (البنز) السوداء، ويصرخ بالموظف: أريد رخصة لابن الذات الفلانية، ثم ينزل طفل صغير من (البنز) لا يكاد يرى فوق المقود إذا جلس على كرسي السائق، فيتقدم إلى الموظف، وفي لحظات تصدر له رخصة قيادة دون فحص عملي ولا حتى كتابي. ولم يكن نزول الطفل من (البنز) إلا من أجل وضع صورته على الرخصة، وإلا فقد كان يكفيه أن يومئ من بعيد. ثم يغلق مكتب الدائرة ويوعز إلى فوج المستغفرين بالعودة في القادم.
ومثل هذه الأمور كثير، ولكنني أقتصر على هذه وأنتقل إلى البحث عن العمل. يخرج المغترب (سابقا) ليقابل مسؤول التوظيف في إحدى الشركات المعلنة في الصحيفة اليومية، فإذا به رجل وقور قد أثقلت معصمه ساعة (الرولكس) المطلية بالذهب، فهو يجر يده على المكتب جرا، يكاد الناظر يظنه صاحب إعاقة إلى أن يبهره بريق (الرولكس)، فيقول الرجل لصاحبنا: ما مؤهلاتك؟ فيشرع المسكين بسرد سيرته الذاتية، بكل ما فيها من شهاداتٍ تفوقُ عقود عمره، وعقود عمل مع كبرى الشركات تفوقُ عدد أولاده، ويتحدث ويتحدث ولكن الرجل يتأذى من كلامه فيوقفه عند حده قائلا: أسألك عن مؤهلاتك فتجيبني بشهاداتك وخبراتك؟ إما أن تكون أحمق، أو غريبا لا تعرف بقوانين البلد.
ولست أنكر أن صاحبنا يعثر على عملين أو ثلاثة يدفع كل منهم ما يكاد يغطي جميع نفقات موصلاته من وإلى العمل، ولكن الرجل يرفض هذه الأعمال طمعا فيما هو خير.
وأنا إذ أصف ما يفاجأ به المغترب لن أنسى أن أصف لكم توقعات المغترب حتى نكون منصفين للجميع. كان الرجل قد جمع بعض المال قبل عودته، وهو الآن يعيش من هذا المال إلى أن يجد عملا، لكن الرجل يذهب الرجل فيشترى بيتا (وليس شقة لأن مستواه كمغترب سابق لا يسمح له بالعيش كباقي الناس في شقق)، ويذهب فيشتري سيارة، ويجب أن تكون ألمانية لا كورية، حيث أن (العين) عليه ولن ترحمه الناس إذا ركب (دايو) أو (هنداي)، ثم يذهب ليسجل أولاده في المدارس الأمريكية - حتى لا ينسوا الإنجليزي-، ويذهب ليسجل في (الجـِم الرياضي) كيلا يزيد وزنه بعد كل هذه (المناسف) التي يدعى إليها كل يوم من قبل أقربائه وأصحابه، بل ومن قبل أناس لا يعرفهم إلا أنهم يعرفون ابن عمة أمه بالرضاعة.
خلاصة القول أن صاحبنا يأتي ليعيش (هنا) وقلبه لايزال معلقا (هناك)، يريد أن يحوز على نعيم الدنيا والآخرة، فيفاجأ بأن هذا شبه مستحيل، فيؤثر الدنيا على الآخرة، ويعود أدراجه إلى الغربة، ويقول لمن خلفه، أنا جربت ولكني لم أستطع، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وهنا أعود فأقول أنه موقف شبيه بسكرات الموت، لا يثبت عنده إلا من كان على عقيدة واضحة، ورؤى واضحة، ووسائل مدروسة، أما من كان قلبه معلق بين هذه وتلك فلا أمل له.
(التتمة في الحلقة القادمة)
* نقول لمن هاجر إلى الغرب متغرب، فهل نقول لمن هاجر إلى بلاد الشرق متشرق؟
لعلها تكون أقرب إلى المتشرق بريقِهِ منها إلى المُيمم شرقا.
ولي عودة إلى حبيبي الوطن