مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #21  
قديم 20-04-2006, 08:13 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

سعدي المذيع

كثيرا ما تستمد الشخصيات قوتها من بيئتها .. وقد تكون البيئة ضيقة .. كما في حال من يركب سيارة فارهة أو يجلس خلف مكتب فخم ، أو حتى يلبس ملابس أنيقة ، فان حركاته ستثقل و تتناسب مع ما دخل فيه من حيز جديد !

و أحيانا تكون البيئة معنوية ، كأن يتباهى أحدهم في انتماءه الى عشيرة كبيرة ويظهر ذلك على طريقة كلامه مع ابن عائلة بسيطة ، قد يفوقه علما و خلقا ومكانة اقتصادية واجتماعية ..

وأحيانا ـ كما في حالة بوش ـ فإنه يسير كأنه طاووس يزهو بريشه ، في حين لو تصورنا أنه مدير ناحية في غينيا بيساو ، فلا أحد يضمن له أن ينجو من حمام من ( البصاق ) يوميا ..

في حالة سعدي المذيع ، التي لا تبتعد كثيرا عن تلك القواعد ، كان يزهو كونه ينتمي لأسرة محطة تلفزيونية ، لها الملايين من المشاهدين يوميا ، وكان يتصرف وفق هذا الشعور ..

كان يتنقل بين مواضيع كثيرة ، ففي الأسبوع تشاهده ، ينتقل بين أزمة اليسار العالمي ، الى موضوع شح المياه ، الى انفلونزا الطيور ، الى أسرار المفاعلات النووية ، وكأنه اكتشف ( أقراصا ) من الدواء ، لو بلع أحدها سيتسوعب خمسة كتب في الثانية !

كان يتلذذ في جعل من يقابلهم ، يشعرون بشعور دوني تجاهه ، فكان ينادي ضيوفه بأسمائهم ، دون ألقاب ، وإن كان القصد الظاهر ، هو إضفاء جو حميمي على المقابلة ، لكنني كنت ألاحظ أنه كان يتعمد ذلك ، لملئ داخله بكبرياء من نوع ما ، أو أنه قد تراهن مع صنف من المشاهدين ، قد تكون زوجته أو خليلته أن يوجه إهانة خفية لأكبر رأس ..

كان يستقبل أكثر من ضيف ، ولا يستمع اليهم ، بل كان يعمل كميقاتي ، تقفز من فمه الأسئلة ، وفق تدريب خاص ، فيطرح سؤاله التالي ، حتى لو لم يكن هناك تأسيسا له في الإجابة السابقة .. وينتقل من ضيف الى آخر ، وفق نظرية الأكل و( أنت ماشي ) .. حيث يقضم من سندويشته قضمة ، ويجرع فوقها جرعة من علبة بها مشروب غازي ..

كان يضع رجلا على رجل ، وبيده أوراق السيناريو ، فيتكلم بصوت كأنه أعد للرد على المكالمات الهاتفية ، فلم يكن بنغمة صوته ما يوحي أنه يفهم ما يطرح

بالمقابل كان ضيفاه ، على ما يبدو أنهما حديثي العهد بذلك النوع من المقابلات التلفزيونية ، وقد تكون تلك أول مرة يجلسان بها أمام كاميرا التلفزيون ، ورغم أن ثقافتهما كانت عالية ، إلا أن شخص متوسط الانتباه يمكن أن يلاحظ ظاهرة الجهل والاستسلام لسعدي المذيع ..

ومن يدري علهما ، انشغلا بتحضير فيديو لتسجيل تلك الحلقة ، وقاما بالاتصال بكل معارفهما ليتسمروا حول أجهزة التلفزيون لمراقبة الحدث العظيم ..

ومن يدري ، لعلهما راجعا أكبر قدر ممكن من كتبهما اللاتي ألفاها ، أو قرأاها، خشية أن يواجههما هذا الصنديد سعدي بسؤال محرج !

لم يكن لأحدهما ، أي فكرة عن عمليات التصوير ، داخل الاستوديوهات ، بل كان يعتقد أن التكلم بصوت رزين والتقليل من إشارات اليد ، ومسحة مبتسمة قليلة على محياه ، مع الاهتمام بتناسق ربطة العنق مع القميص والجاكت ، ستجعله صاحب طلة مؤثرة على الجمهور ..

كان طويلا ونحيفا ، وعندما جلس على الكرسي ، ارتفع بنطلونه ليصبح طرفه الأسفل أعلى من كعبه بأكثر من شبر و نصف ، فبانت جواربه التي كف جزء من إحداها وظهر جزء من ساقه النحيل الأبيض الشاحب ..

كان المصور يعمل كقناص ، وبالطبع فلم يثر المصور ما تم من كلام ، بقدر ما كان فرحا بقنص تلك اللقطات ..

لقد ضاع علي ما طرح من موضوع في تلك الحلقة ، فكنت أنا الآخر مشغولا بتوليف مقالتي ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #22  
قديم 25-04-2006, 06:35 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

يوسف مدير البنك

ارتبط اسم البنوك بالربا ، ولا تكاد تتزحزح تلك الفكرة من رؤوس الناس ، بل تتعمق وتزداد يوما بعد يوم .. ومع ذلك فان أعداد من يتوجه لتلك البنوك للتعامل معها ، تزداد يوما بعد يوم ..

كان هناك قبل انتشار البنوك بهذا الحجم ، بعض المرابين الذين يعطون الناس أموالا بالمضاعف ، وهي أن يقترض مائة دينار مثلا لمدة عام ، ويسددها للمرابي بعد مرور سنة مائتي دينار .. وذلك بعد ظهور موسم الحصاد .. وكان هناك شكل آخر ، إذ يقوم المرابي بشراء محصول الفلاح أو جزءا منه بسعر بخس ، وذلك قبل الموسم ، ليفك ضيقه !

كانت كل تلك الأمور تتم بسرية كاملة ، وترتبط بوثائق يشهد عليها شهود مخصصين لذلك ، وأحيانا تضمن بواسطة رهن قطعة أرض ، أو ذهب المقترض . كانت سريتها آتية من الخوف من الحرام ثانيا ، وكلام الناس أولا ..

عندما انتشرت البنوك ، وكان انتشارها بإذن من الدولة ، على هيئة بنوك تسليف زراعي ، أو عقاري ، كانت أرحم كثيرا من الشكل الذي يتعامل به المرابون ، وقد ساعد على تقبلها ، الممانعة التي ترافق طلب القرض ، فكان مشوار المعاملة يطول لعدة شهور ، وهي مدة كانت كافية لفضح المتعامل وترويضه ، كما كانت كافية للتبشير بفكرة التعامل مع البنوك ، إذ أن النظرة التي كان ينظر بها للمقترض ، هي مزيج من كونه مارقا ومحظوظا .. ثم طغت الصفة الثانية على الأولى ..

لقد ارتبط الربا بالذاكرة الإنسانية عند المسلمين ، إضافة لكونه أحد الكبائر ، بأنه مشروع لسحق الإنسانية ، فكان المرابي عندما نزل التحريم ، يتفق على مضاعفة قيمة القرض بعد مرور عام ، وان عجز المقترض عن التسديد ، فان القيمة الجديدة ( الضعف) ستتضاعف ، وفق قانون المتواليات الهندسية .. ثم اذا عجز المقترض عن التسديد ، فان المرابي يأخذ زوجته و بناته ويبيعهم بسوق النخاسة ، وقد ورد ذلك بشرائع حمورابي ..

لقد استفاد مؤسسو البنوك و أصحابها ، من تلك النظرة الدفينة للبنوك في جني أرباح ضخمة ، فتكاد نسب الفوائد في بلادنا تزيد سبعة أضعاف عما هي عليه في بلاد الغرب ، وعشرة أضعاف عما هي عليه باليابان ، و أصبح البنك ودخوله ، معبرا لدخول عالم الإفلاس عند المقترض ، عاجلا أم آجلا ..

إذا دخلت الى مكتب يوسف ، فانه قد يقوم لمصافحتك ، و قد لا يرد التحية ، وقد يقوم لعناقك ، وقد يبادر ويطلب لك شرابا ، أو يمد يده فيخرج لك قلما فاخرا أو دفترا أو علاقة مفاتيح كهدية ، أو قد يرمقك بنظرة تبلغك بأنك شخص غير مرغوب فيه .. وكل هذا يتوقف عليك أنت .. من تكون ..

إذا كنت نكرة ، وهذه أول مرة تدخل عند يوسف ، وتكرم عليك بالجلوس ، فإن قدراتك على الحديث ستخونك بكل تأكيد ، حتى لو كان يوسف قد جمع عنك معلومات ، بأنك رجل أعمال ناجح أو مشروع رجل أعمال ناجح ..

سينقطع حديث الثلاثة أو الأربعة رجال الجالسين في حضرة يوسف ، وتتسمر نظراتهم تجاهك ، كأنهم وجهوا أشعة ليزر لفحص داخلك ، وعيونهم كلها فضول فلديهم متسع من الوقت ، ستسعفهم في جعلك مادة لأحاديثهم لفترة ما ..

يدخل مستخدم ، لا تتناسب هيئته مع ديكور مكتب يوسف ، المكون من الستيل والجلد الفاخر ، و جهاز تكييف يتم السيطرة عليه بالريموت ، ويتناول سخان قهوة ويسكب لك رشفة ، ليست حارة بالقدر الكافي ، وتستنتج أن هذه الخطوة الإضافية ، لم تكن من تصاميم الجهات العليا ، بل ابتكرها يوسف من تلقاء نفسه .

يدخل موظف يرتدي بذلة قاتمة و ربطة عنق تتناسب مع القميص و لون البذلة ، وعلى ما يبدو أن معظم الموظفين ، يلبسون مثل ذلك ، فيتكلم كلاما لم يسمعه أحد إلا يوسف ، ويرد عليه يوسف بكلام ، لم يسمعه إلا الموظف ، وكأن مهاراتهم المتراكمة ، أوصلتهم لذلك الامتياز .. حتى التلفونات التي كان يرد عليها يوسف ، لم يكن باستطاعة أحد أن يفهم كلمة واحدة منها !

يتوجه يوسف ليحيي ضيفه الطارئ ، بتحية اقتصادية مقتضبة ، مع ابتسامة بلاستيكية ، تمرن عليها طويلا ، ثم يمد عليه ورقة مكتوب عليها بعض المعلومات ، كان يدرك أن ضيفه لن يرى ما كتب عليها ، لكنها كانت دعوة لضيفه أن ينهض و يقترب من يوسف ، ليتكلم معه بكلمات لم يسمعها إلا هو ..
شكره ضيفه ، حاملا الورقة و خرج ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #23  
قديم 04-05-2006, 08:36 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

أبو كفاح المتفرغ

في أواسط القرن الماضي ، انخرط الشباب العربي ، في معظم الأقطار ، بالعمل السياسي أو تأييد العمل السياسي والتعاطف معه ، فانقسموا الى ثلاثة خطوط أيديولوجية ( الإسلامية و اليسارية و القومية ) ..

وعندما تزوج هؤلاء الشباب ، كان من السهل التمييز بين اتجاهات هؤلاء الشباب السياسية من خلال أسماء أبنائهم .. فعند الإسلاميين كنت تلحظ تكرار اسم مصعب و معاذ وعند اليساريين والقوميين ، كنت تلحظ أسماء نضال ، كفاح ، جهاد الخ ..

كان أحدهم إذا سمى ابنه صلاح ، فانه يستحضر القائد صلاح الدين ويتقمص دور أبيه ، فهو لم يكن قادرا على اختيار اسمه الشخصي ، فيقوم بتعويض ذلك بابنه ، أو يهجس بأنه هو أبو النضال أو أبو الجهاد ، وان كانت له بنت بكر ، فقد يسميها عروبة أو تماضر أو روزا ..

كان هؤلاء الشباب الذين بالكاد قد تعرفوا على أطر أيديولوجية ، لم تكتمل لا في عقولهم ولا في النشرات التي كانوا يحصلون عليها بتكتم شديد .. كانوا يريدون التعبير عن ذاتهم بأسماء أولادهم .. و نمط ملابسهم .. وشكل المداخلات التي كانوا يسهمون بها في نقاشاتهم ..

كانوا يتفاخرون بذواتهم ، من خلال ما يحضرون من أنباء عن أقطار يفتتنون بها ، وهي عموما أنباء مبتسرة ، يضيفون عليها إضافات من عندهم ، فيحاولون إقناع من يسمعهم بأن سيارة ( لادا أو موسكوفيتج أو صلاح الدين أو النصر ) هي أقوى و أفضل من ( المرسيدس والشيفورلية و الفولفو ) .. وأن إنتاج الدولة التي يفتنوا بها هي الأولى في العالم من حيث كذا و كذا ..

كان أبو كفاح من ذلك النوع من الناس ، كان من يواظب على حضور الندوات أو المشاركة في مسيرة ، أو يحضر مأتما أو مأدبة أو عرسا إلا أن يلحظ أبا كفاح بين الحضور ..

لم يكن يقرأ ، ولا يحاول كتابة موضوع ، رغم أنه أمضى أكثر من نصف قرن على حاله .. وإن سأل أحدهم ماذا يعمل هذا الرجل ، لسمع إجابة من أحد العارفين بأنه ( متفرغ ) .. فيصمت السائل عند تلك الإجابة ، ولا يحاول الاستزادة بالسؤال ، حتى لا يظهر أمام الآخرين بأنه جاهل !

كان أبو كفاح يكتفي بتعريف نفسه للآخرين بأنه ( أبو كفاح ) .. ف (الروزنامة ) وحدها هي رصيده .. وقد يكون قد استدعي مرة أو اثنتين أو ثلاثة لدائرة أمنية هنا أو هناك .. ورصع بذلك الاستدعاء سجله الحافل بالنضال ..

كان يفترض بالآخرين أنهم يعرفونه ، ويستهجن من يحاول نقاشه بشكل مطول ، كما يستهجن ذلك الحضور الذين يشهدوا تلك المحاولة ..

لقد كان جليسا طيبا ، عنده بعض الطرافة ، و يهب لمحاولة مساعدة من يطلب منه المساعدة ، فله من المعارف في كل بقعة من البلاد ، فهو يواظب لحضور دفن كل الرجال المهمين ، ودائما يلقى من ينقله الى مكان الدفن حتى لو كان بعيدا عن مكان إقامته بسير خمس ساعات في سيارة حديثة ، وطبعا لم يمتلك سيارة ولا يعرف يقود سيارة .

كانت بشاشته و محاولته مساعدة الآخرين ، تشفع له ، عندما تفشل محاولاته وتلك الحالة قد تكررت ، ولم يتضايق من كلفه أو قصده لتلك الخدمة .. كان أصدقاءه متنوعون ، فهو يعرف وزراء و رؤساء وزارات وسفراء ، ومدراء عامين .. ولكنهم كلهم كانوا يتعاملوا معه بروح طيبة ولا تتعدى ذلك ، فيبدو أنهم قد كونوا عنه الصورة التي نراها الآن .. فلا خطورة منه ولا فائدة ضخمة يتم حسابها إذا امتنع أحد عن مساعدته ..

لقد تم توزيع خمسمائة بطاقة في حفل تأبين أبي كفاح ، ولكن الحضور فاق الألفين .. وتبارى خمسة رجال مهمون على إلقاء كلمات بتلك المناسبة ، وكانت كلماتهم سلسة ومؤثرة رغم الكذب الموجود بين ثناياها ..

رحم الله أبا كفاح فقد كان متفرغا و مات متفرغا ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #24  
قديم 13-05-2006, 01:12 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

بائع الموز :

كان يوقف عربته ذات الإطارات الثلاثة ، بجانب رصيف شارع عريض ، وكان الشارع لا يتجول به شرطة المرور كثيرا ، ولا تقف سيارات المشترين بكثرة ، و كان عرض الشارع الزائد يسمح له بالوقوف هناك ..

كانت عربته قد فقدت ألوانها ، فقد كان لون الأخشاب الرئيسية التي تحمل جسم العربة خضراء قاتمة ، أما اللون الذي يصبغ باقي الأخشاب فكان أخضرا فاتحا ، لكن طول عمر الصبغ قد قارب أن يوحد بين اللونين ..

كان يجلس على حجر الرصيف الذي يفصل بين الشارع والرصيف العريض الذي كان أصحاب المحال قد اقتطعوا منه مظلات ليعلنوا عن موجودات محلاتهم وكانت معظمها مطاعم تشوي اللحوم أو الشاورما .. فكانت رائحة المشاوي تغري المارين لأخذ القليل منها أو تناولها داخل المحلات .. وقد كانوا ينجحون في تلك الحيلة عندما تم افتتاحها .. لكن تلك الحيل لم تعد تستطيع قنص الزبائن ، فكان من الطبيعي إذا غبت عن الشارع شهرا أو أكثر أن تفاجئ بتحويل بعض تلك المطاعم الى مقهى للإنترنت ، أو محل لبيع الأدوات الكهربائية ..

كان منشغلا في حشو لفافة تبغ ، وكان يضع التبغ بها على مهل ، ولم يكن متحمسا كثيرا للصوت الذي سأله بكم كيلو الموز ؟ أجابه بكلمة واحدة دون أن يرفع رأسه عن عمله في حشو لفافة التبغ .. طلب منه من سأله أن يضع له كيلوين ونصف ريثما يعود من شراء بعض الحاجات ..

وقف عند بائع المشويات ليشتري بعض الساندويشات لأحد أولاده الذين لا يرغبون بصنف طعام العائلة بعض الأحيان .. فكان وراء الساتر المكون من حافظات زجاجية مبردة لعرض بعض أصناف المقبلات .. ثلاثة أشخاص شاب بعمر خمس وعشرين عاما يقف وراء مخروط الشاورما وصبي ابن خمسة عشر عاما ، يلبي طلبات من يصدر إليه بأوامر .. ورجل يرتدي بنطلون أبيض سميك وقميص بلون زهر السفرجل و يضع نظارتين سوداويين في جيب قميصه ويتنقل من مكان لمكان يشرف بنفسه على صناعة رغيف بالشاورما ..

أكمل الرجل صنع رغيفه ، فلفه بورقة رقيقة ، وجاوب رنة جرس جهاز الهاتف في جيبه ودار من وراء الساتر وتوقف عند الشارع قريبا من بائع الموز ومستندا الى سيارة مرسيدس سوداء حديثة الصنع .. كان عيون الصبي الصغير تتبع الرجل وتنظر تارة إليه وتارة الى السيارة .. في حين انشغل الشاب بتقطيع قطع اللحم المشوي .. وكان يبدو على اللحم أنه من بقايا ( شيش ) الأمس ، فلم يكن الشيش مكتملا ، بل كان بقطر لا يزيد عن عشرة سنتيمترات ، ويعتبر المساء هو ذروة البيع لمثل تلك السلع !

دفع ثمن ما اشتراه لصاحب المطعم ، وتوجه لبائع الموز سائلا إياه : هل أكملت وزن الموز الذي طلبته منك ؟

نهض الرجل بتثاقل ووضع لفافة التبغ التي أكمل صنعها ، ووضعها على حافة العربة ، فانفلت جزء منها ولم تكن مشتعلة من مدة .. وضع الأوزان في كفة ، واقتطع بواسطة سكين صدئة خصلة من الموز الذي كان يبدو أنه في مرحلة ما بعد النضج بقليل .. وكان لونه شاحبا مغبرا ، كأنه جمع مما سقط من سيارة في صحراء ..

كان وجه بائع الموز نحاسي صارم بلاستيكي ملامحه كملامح وجوه لاعبي البوكر ، وأما لون بياض عينيه فلم يكن أبيضا لدرجة أن تفرقه عن سواد القزحية .. كان يلبس ملابس ليست لمثل هذه الأيام بل تناسب أشهر الشتاء الباردة ، وكانت ألوان ملابسه قد تحالفت مع لون بشرته ، لتجعله أحد أبطال روايات أجاثا كريستي .. فسترة جلدية سوداء شاحبة ، أكبر من قياسه بنمرتين وبلوزة ثقيلة رمادية ، وقميص أزرق قاتم ، وملابس داخلية تطل بين تلك الملابس بلون أحمر متسخ .. لعله لبسها كلها في عز الشتاء ونسي أن يبدلها .

لم يكن مقتنعا باضطرار المشتري ، لشراء بضاعته الرديئة ، وهذا زاد من صرامته وقسوة نظراته ، فقد قطع هذا المشتري تفقده لحدود زمانه ، ولعله يكون أحد ضحايا الزمان ، فقد يكون زوجا لامرأة لم تنجب ، توفت منذ مدة فباع كل ممتلكاته ، واكتفى بهذه العربة ، وقد يكون يلبس تلك الملابس لأنه يقضي ليله قرب عربته ، فيمكن أن لا يكون له بيت ، أو أنه لم يتزوج أصلا .. وقد يكون أرملا ولكن أولاده لم يطيقوه فاختار هذه المهنة ليكتفي من مضايقاتهم !

لو أردت أن تقدر عمره ، لأعطيته خمس وستين عاما ، ولكن لو تفحصت شعر رأسه الكث لما وجدت شعرة بيضاء واحدة ، فكان شعره أقرب لشعر أهل كولومبيا .. ولا يوحي وضعه أنه يعرف صبغ الرأس .. ولو قلت أنه كان سجينا أفرج عنه قبل مدة من مؤبد .. لكان ظهر على رأسه بعض الشيب !

لم ينتبه لملاحظة المشتري أن يبقي ما فضل من قطع نقدية له .. أو لعله انتبه لكنه أعاد بقية قطع النقود ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #25  
قديم 20-05-2006, 06:13 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

عاطف الحداد

تكون فرص ثبات أحد الحرفيين بمهنته ، مرهونة بمجموعة من العوامل ، فمن القدرة على إتقان عمله بمهارة ، الى بشاشة خلقته وحسن معاملته لمن يتعامل معه ، الى الصدق بمواعيد إنجاز العمل ، الى الاكتفاء بهامش ربح كريم لكنه ليس فاحش ، الى حسن نوعية المواد الخام المستعملة في صنعته ، الى حسن سلوكه إذا دخل بيوت من يتعامل معه وغض بصره ، الى صبره على مضطر في تأخير ما عليه ، الى متابعة عمله إذا ما احتاجه العميل لصيانتها ، وفوق كل ذلك حسن السوق ..

كان عاطف الحداد ، لا يحتوي من كل تلك الشمائل الطيبة إلا القيل ، فإن طلبت منه أن يصنع لك نافذة مربعة طول ضلع مربعها مترا ، فلن تجد أي ضلع من الأضلاع الأربعة بطول متر ، بل سيكون كل ضلع زائدا جزء من سنتيمتر أو ناقصا جزء من سنتيمتر ، ومع ذلك لن يتساوى أي ضلعين بالمربع ..

كان طوله يقل عن المترين بنصف شبر ، وشعره منكوثا ، ويكاد كل كتف من كتفيه أن يكون على استقامة الآخر ، ليحتضنان رأسا مائلا للأمام ، و لحية باستمرار كأنها حلقت قبل خمسة أيام ، فلم يذكر أحد أن صادفه باليوم الأول للحلاقة ، أو أنه يحلقها بأداة حلق الرأس ، فتبدو كذلك ..

كان مطاردا من عشرات الزبائن يوميا ، فكان جيرانه يسمعون كل ربع ساعة على الأقل من يصرخ ( عاطف .. عاطف ) .. أو يسمعون على الرصيف ، جدالا بين عاطف و أحد الزبائن .. كان الزبون يذكر فهرس التواريخ التي وعده عاطف لإنجاز ما طلب منه ..

أما عاطف ، والذي يطلب من زبونه التحلي بالصبر ، فإنه كان يتكلم بنبرة حادة مبحوحة كمن يتكلم من خلف ورقة ( نايلون) .. كان يشرق كلمتين من كل جملة لا تقل عن خمس كلمات ، وكان وهو يتكلم أحيانا تظهر الطبقة العليا من لحم أسنانه ، كان لا ينظر الى من يتكلم معه ، بل كان ينظر الى (لا مكان ) .. ويطالب من أحد الصناع الذين تحت إمرته أن ينفذوا له طلبا .. كان يعلم أن لا أحد يستمع من العمال لديه ، ولكنها كانت أحد طرقه لتمزيق تركيز الزبون .. فقد كان له أسلوب أشبه بأسلوب المعلقين الرياضيين ، فما أن يكون يعلق على هجمة ، حتى تراه غاص في طقس بوليفيا أو عمل شوربة العدس من ماء المطر وجودتها عن التي تعمل من ماء الحنفية ..

وبعد أن يضمن عاطف أن زبونه استوى ، ولم يعد بنفس الحماس له ، يطالبه بدفعة أو دين قديم ، فإن لم يعطه الزبون شيئا ، يضمن عاطف أنه سيحل عنه ، ويبتعد ..

وأحيانا يتجمع لديه أكثر من زبون للصراخ عليه في وقت واحد ، وكان لديه فن في استثمار هذه الحالة أفضل من الزبون المنفرد ، فكان يستعطف أحدهما ليناصره على الآخر بصفقة معنوية خبيثة ، كأن يمتدح الزبون وكيف أنه قد قصر بحقه ، وان شاء الله بعد أن أنتهي من العمل لتنفيذ طلبه ، سأقوم بإنهاء عملك مباشرة ، فيتولى الزبون الموعود بتصبير الزبون الآخر الثائر ..

كانت معظم مشاكل الزبائن تتعلق بتوفيق عمل عاطف الحداد مع حرفي آخر ، مثلا ( القصير .. المبيض ) فهؤلاء لن يستطيعوا إنجاز عملهم قبل أن ينجز عاطف عمله .. أو أن الزبون يشتكي من عدم طبق الأبواب أو سقوط أحد ظرفتي شباك ، أو انفلات لحام بعض ( المفصلات ) .. أو تكتل نقاط اللحام بحجم حبة الحمص وتحريض الصباغ للزبون على تغيير ذلك ..

لقد ظهر عاطف في أوائل الثمانينات عندما كان هناك فورة عمل ضخمة ، حيث لا يدقق الزبون في مهارة الحرفي ، بل يريد فقط من يعمل له ، فظهر بناءون ضعيفي الأداء والمهارات وظهر سباكون و صباغون و حدادون ونجارون ، كلهم تحت مستوى نقطتين من عشرة ..

وكونهم قد لمسوا حسن السوق ، فقد تجمع أكثر الصناع الذين كانوا يخدمون عند معلمين مهرة ، واستقلوا في عملهم ، و أتوا بأردأ الشغيلة ليعملوا معهم ، فكان مع عاطف ، أحد الشغيلة ، يزيد وزنه عن 150 كغم ، كان إذا صعد الى سطح قاعة تحتاج سقف من الزينكو ، فإن قمة ( الجملون ) لن تعود تظهر بشموخ .. كان مغرما بعلب ( الطون ) فان طلبته لعمل ينجز بثلاث ساعات وتم انتدابه لانجاز هذا العمل ، فبعد أن ينتهي ، ستصدف بأثره لا يقل عن عشرة علب (طون ) فارغة ..

تكونت علاقة عاطف بزبائنه بشكل متداخل ، فهم رغم معرفتهم برداءة عمله ، إلا أنهم ارتبطوا به بشكل استراتيجي ، فإما كان يأخذ منهم مقدما ، أو أن لا أحد من الحدادين يقبل أن يقوم بعمله أو يعدله .. حتى بنا بيتا وكبر أولاده وذهب أحدهم لدراسة الطب في روسيا ، وافتتح أحد ميني ماركت ، فأفلس عاطف و سجن ، وقل عمل ورشته وإذا سأل أحدهم عنه ، أجيب بأنه ذهب لزيارة ابنه في روسيا ..

خرج عاطف من السجن ، أو عاد من روسيا ، فجاءه أحدهم وكان يطلق على عاطف اسم ( مسيلمة الحداد ) .. فطلب منه أن يعمل له بوابة ، فأنجزها له بنفس الموعد ، وكانت متقنة ..

عاد صاحب البوابة في اليوم الثاني وكان طريفا ، إذ وبخ عاطف بصوت عالي جدا حتى تجمع حوله عدة أشخاص .. وعاطف يلح بالسؤال على صاحب البوابة : لماذا تصرخ علي و لماذا أنت هائج ؟ .. فيلتفت صاحب البوابة ويسأل من حوله ممن تجمعوا : أنتم .. أنتم .. ماذا تعرفون عن عاطف الحداد ؟ فأجابوا معا ( كأنهم كورال ) : إنه كاذب ..

يضحك صاحب البوابة .. ويقول لقد صدق معي .. وأنجز شغله على أحسن وجه ، فيضحك عاطف و يضحك الجميع وينصرفون ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #26  
قديم 04-06-2006, 05:25 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

مكتب تقديم الخدمات :

لا أحد يعلم كيف يخطر على بال بعض الأشخاص أن يبدأ بافتتاح عمل ما ، فقد لا يكون هذا العمل ، قد عمله والده ، وقد لا يكون هذا العمل له علاقة بدراسته الجامعية ، وقد يكون قد رآه في عمل تلفزيوني أو سينمائي ، أو فكرة تكونت لديه أثناء خدمته المختلفة عن هذا العمل الذي ابتكره ..

أبو وائل كان موظفا في بنك ، وقد يكون أنيط به عمليات تحويل فلوس الخادمات الأجنبيات ، فتكونت لديه فكرة عن طبيعة هذا اللون من الخدمات ، وقرر بعد أن تقاعد من البنك أن يفتتح مكتبا لتأمين الخادمات في البيوت لمن يطلبهن .

عندما تتشابك الأمور لدى أحد أرباب الأسر ، وتكون امرأته مريضة ، أو أمه عاجزة ، فإنه سيفكر في حل تلك المشكلة عن طريق استقدام خادمة ، إذا كان قادرا على تأمين دفع ما يترتب على تلك الرغبة ..

لقد مضى على استقدام الخادمة الإندونيسية ، عامان ، ويعني أن عليه الآن التفكير بتسفيرها ، أحضر أوراقها لمراجعة ما يساعده في إتمام عملية تسفيرها فوجد رقم هاتف المكتب الذي أحضرها في الأساس .. فاتصل بهم ، فطلبوا حضوره للمكتب ..

دخل المكتب وبعد أن حيا الموجودين ، لم يلحظ وجود أبي وائل ، فسأل عنه فأجابت سيدة تجلس على المكتب بأنه مسافر إلى جنوب شرق آسيا ..

كان يجلس بالمكتب أشخاص كثيرون ، امرأة بالخمسينات من عمرها تتحدث مع لا أحد ، فتحكي قصة قصيرة عن عدم ملائمة الخادمة التي أخذتها منذ أسبوع ، حيث أنها تنام في النهار طويلا ، ولا تقوم بعمل ، وتنفر بمن يناديها لتناول الغداء .. لم يكن حديث المرأة موجها لأحد ، فلم تركز عينيها أو وجهتها تجاه أحد الموجودين ، ولم يكن أحد يصغي باهتمام لما تقول ..

شابان يتكلمان في آن واحد ، يتكلمان عن سيدة عجوز تطلب خادمة لمؤانستها ، لم يكن بين الشابين أي شبه وراثي ، لا من حيث حجمهما ولا من حيث تقاطيع الوجهين ولا من حيث لون العيون ، كان أحدهما ضخما يبدو عليه بعض البله ، والآخر نحيف ، يتناوب معه في سرد مبررات الطلب ، ولم يكن هناك من يصغي إليهما ، كانا يتكلمان بالتناوب ووجهتهما نحو الباب خافضين نظرهما ، لارتفاع نصف متر تجاه الباب ، فكانت الشكوك توحي بأنهما يتكلما مع مخلوق لا يراه سواهما ..

السيدة التي تجلس على المكتب ، كان خداها ساحلين و شفتاها رقيقتين ، تقضم بعض البسكويت ، وتتجرع سائلا من علبة صفيح ، ودون شعورها بأي حرج من الموجودين .. كانت نموذجا لسكرتيرات هتلر التي يختارها منتجو أفلام النازية .. و يبدو أن هناك طفلا أو طفلة تجلس على الأرض وتنادي من تجلس على المكتب ، لكنها متوارية عن الجميع ، حيث يحجب رؤيتها أثاث المكتب المزدحم بالمقاعد والمراجعين ..

على الزاوية اليسرى لسيدة المكتب ، كانت تقف فتاتان واحدة في منتصف العشرينات من عمرها ، وواحدة بمنتصف عمر الأولى تقريبا ، وكانتا على ما يبدو من إندونيسيا ، الصغرى منهما كانت كمن انتهى من البكاء قبل دقيقة ، لم يكن على خديها أثر للدموع ، ولكن عيناها كانتا رطبتين ، وتنظر نحو الجميع ، بعينين حزينتين ، كعيني أرنب ، فلت من مطاردة ثعلب ، ولكنه لم يتيقن من النجاة بعد ..

كانت الكبرى من الإندونيسيتين ، تعمل كمترجمة ، فكانت تتكلم مع الصغرى بلغة غير مفهومة ، وقد تكون مهمتها شاقة أكثر من مهمة معلقي مباريات كرة القدم ، حيث أن كل من في المكتب كان يتكلم في نفس الوقت ..

كانت السيدة التي وراء المكتب ، لها قدرة عجيبة على فهم كل ما يجري ، ففي حين تسكت الطفل الذي يناديها من أسفل مكتبها ، وتقضم البسكويت و تشرب البيبسي و ترد على التلفون ، وتشير بطلب الأوراق لتسفير الخادمة ، وتطمئن الشابين أن قضيتهما سهلة ، وتنظر للإندونيسية التي فرغت من البكاء قبل قليل ، وتقول للشابين ها هي الفتاة ، قد تكون لم تتوفق في خدمة السيدة التي ضجرت من طول نومها ، لكنها ستفيدكما ، فما عليكما إلا أن تدفعا 1500 دولار للسيدة ، وتأخذا الفتاة فورا ..

وتلتفت الى من أراد تسفير خادمته ، وتقول : أهلا أستاذ ، نحن نقوم بكل شيء ، وسيكلفك هذا 300 دولار .. فوافق و أخرج دفتر الشيكات ، وسألها باسم من أكتب الشيك ، فأجابت : باسم منى محمد الدغير ، فاستفسر : هل أكتب آنسة أم سيدة ، ولم يكن يعلم من هي المقصودة .. فابتسمت ابتسامة حمقاء قائلة : وهل تراني آنسة يا أستاذ ؟ و أنا قد رزقت بفريق كرة قدم مع احتياطهم ؟ ضحك لتساؤلها الغبي وأعطاها الشيك وخرج ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #27  
قديم 17-06-2006, 04:24 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

مخمن الضريبة ( موسى ) :

ينشغل من يصطف في طابور للانتظار ، في النظر الى من هو أمامه ، فيحفظ طوله ، و ألوان ثوبه ، وعمر حلاقة رأسه ، وان طالت فترة المكوث بالطابور ، فإن طريقة التنفس ستكون معروفة ، هل النفس طويل أو به بحة ، أو أنه نفس متعب ؟

لكن تكون مهمة من يصطف بالطابور ، بالإضافة للانتظار ، مراقبة من يغادر الطابور عائدا ، فمعرفة ذلك تعطي حالة من الطمأنة لمن يقف بالطابور ، بأن وصول دوره قد اقترب ، بما يعادل فترة (شخص مصطف ) .. وهو التوقيت الذي يستخدم في الطوابير .. بعكس طوابير الخبز في المخابز الشعبية ، حيث يكون الرغيف هو وحدة الوقت ، بدل الثانية و الدقيقة ..

إن من يصطف بالخلف ، لا يكون مهما ولا يتم تركيز الإهتمام بتفاصيل ما يقوم به ، وإن حاول تخطي من أمامه ، فإن ثورة ستقوم لإعادته الى مكانه .

في الوظائف الحكومية ، تتشابه العلاقة بين الموظفين في سلم الوظائف ، مع علاقة من يصطف بالطابور ، فالموظف الذي في المقدمة ، يكون محل اهتمام وتركيز من يليه ، حتى يصل أسفل السلم الوظيفي .. لكن لا يهتم موظفو المقدمة بمن يتبعهم ، إلا في إعاقتهم عن احتلال مواقعهم واستغلالهم في أسوأ وجه ..

عندما يكون موظف المقدمة مستقيما وفاضلا ، فإن معايير الفضيلة ، ستسود الطابور الذي يليه ، فلذلك تقاس قوة الحضارات وازدهارها بقوة فضيلة حكامها ، وبالعكس عندما يكون من في رأس الطابور فاسدا ، فإن الفساد سيعم كامل الطابور .. تماما ، كما تفعل ( الأوكسينات) في أغصان الأشجار ، فأعلى برعم بالغصن سيزهر ، و يعطي إشارة للبراعم التي دونه أن تزهر ..

عندما يرى الموظف الثاني في الجمارك ، أن مديره قد ارتشى بسيارة موديل سنتها فإنه يتكيف مع هذا الوضع ، ليحصل على رشوة تتناسب مع مكانته الوظيفية ، محترما وضعه بين الأوضاع الوظيفية ، حتى تنتهي السلسلة بأقل موظفي الجمارك شأنا الذي يكتفي بعلبة ( سجائر ) ..

بالمقابل ، إن المواطنين الذين يفهموا شيئا عما يحصل ، عند هذا النوع من الموظفين ، فإنهم يجيزون لأنفسهم أن يقدموا الرشوة ، ويسمونها هدية ، أو يلقوا لها تبريرا يعتبرونه مخرجا ( فقهيا ـ فتوى ) .. للقيام بعملهم ، فهم يرغبون في تخفيض نسبة الضرائب عليهم ، أو إدخال بعض بضائعهم دون جمرك أو بجمرك قليل .. كما يعطون لأنفسهم مبررا لسرقة مياه الإسالة الحكومية أو الكهرباء إن استطاعوا الى ذلك سبيلا ..

وإن سألتهم لما تفعلون ذلك ؟ وفي بلاد الغرب ، تفضح الجرائد من يتهرب من دفع الضرائب وتسقطه في الانتخابات لأنه قام بعمل خائن .. فيجيبونك : إنهم في الغرب يتصرفون بأموال الضرائب بعدل ، فلا يقدمون بعثة لطالب قد حصل على معدل منحط ، ويتركون الطلاب المتفوقين يتصارعون مع بؤسهم ، إنهم يعالجون الناس وفق قانون يحترمونه .. أما نحن ، فهل ترى أن الأمور لدينا تسير حسب الأصول لدينا ؟؟

موظفو الضرائب ، يحتكمون الى قواعد وضعت لتحصيل الضرائب ، وفق عمليات حسابية ، كذا ناقص كذا يساوي كذا .. و غالبا ما يستندوا الى ظنونهم وتخمينهم ، فلذلك سمي أحدهم ( مخمن ) .

هناك من لو ربح مليونا في اليوم ، لا يظهر عليه أنه ليس فقيرا ، وهناك من لو لم يربح إلا القليل ، لبانت عليه النعمة ، وقاده سلوكه الى أن يكون فريسة المخمنين .. فلو ركب سيارة حديثة ، أو قام بوليمة كبرى دفعته عقده لعملها ، فلا يطول الوقت حتى يزوره المخمنون و يدخلوه في مسلسلاتهم ..

عند مستخدمي الكمبيوتر المبتدئين ، قد يتلف أحدهم جهازه ، نتيجة للإجابات الخاطئة التي يجيبها عن رسائل تظهر له على الشاشة ، فيقول نعم .. نعم .. وما هي إلا لحظات حتى يفقد محتويات جهازه .. وتبدأ رحلة عذابه ..

دخل موسى مخمن الضريبة ، فبان على وجه فالح الارتباك ، فبعد أن رد تحية موسى ، أجابه بصدق عن كل أسئلته ، ولم يكن فالح قد سألها لنفسه سابقا ، أو لم يكن يتدرب لإخراج صدقه بصورة صادقة ، فاختلطت أمانيه بما يجب أن يكون عليه ، مع واقعه الذي لم يكن باستطاعته وصفه وصفا دقيقا ، لا بلغة الحسابات و لا بلغة الأدب ..

قام فالح بجولة مع موسى ، فقطف له بعض ثمار الكمثرى ، و أحضر له بعض البيض ( البلدي ) .. فاعتذر موسى عن أخذها .. لكن فالح أصر أن يأخذها ، قائلا له أنت ضيفي ، وعملك شيء و ضيافتك شيء آخر .. كان يدور بخلده أنه إذا أبدى قدرا من الود تجاه هذا الموظف فإنه قد يكون رحيما ورفيقا معه في تخمين ما يستوجب دفعه كضريبة ..


يسمع أحدنا أن فلانا قد جمع ثروته من التهريب ، وما أن ينجر أحدنا لتلك المهنة ( التهريب) إلا و أن يمسك من أولها ، ويخسر كل شيء جمعه في حياته ، فالخروج من مطبات التهريب و الضريبة و الرشوة وغيرها ، له فقهه وله فقهائه .. وليس بإمكان أي إنسان أن يقتحم تلك الحقول ، لمجرد أنه رغب بذلك ، فكما يقول المثل اللبناني ( مثل ما الفارة ليها البيسي .. القضايا ليها المحامي )

ما هي إلا أسابيع ، حتى تلقى فالح إشعارا من ضريبة الدخل يطلب منه تسديد مبالغ وصلت الى أكثر من نصف رأسماله !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #28  
قديم 25-06-2006, 07:49 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

سالم .. رئيس البلدية ..

إدارة البلديات و المدن ، تقليد قديم ، وجد في أيام (حمورابي) و أشارت شرائع حمورابي في الكثير من موادها الى صلاحيات مجلس المدينة ، وفي اليمن القديم ، كانت (المزاود ) وهي مجالس كانت تنتخب من أرباب الحرف ، وممثلي القبائل ، وممثلي دور العبادة ، وممثلي التجار الخ .. وكانوا من بينهم ينتخبون حاكم المدينة ( الدولة ) .. ومن يراجع تاريخ دول ( قتبان ، وكمنهو ) يجد المثال واضحا ..

وفيما بعد ظهرت مجالس المدن ، في أثينا و إسبارطة وروما .. حتى صار مجلس المدينة ، تناط به التشريعات التي تحفظ القيم التي يعتد بها عقلاء المدينة وتنظم التعاملات فيما بين السكان ..

في العصر الحديث ، لا تجيز القوانين اليابانية ، أن يتقدم أحد للترشيح في انتخابات البرلمان ، ما لم يكن قد نجح في انتخابات لا تقل عن خمسة ، في منظمات المجتمع المدني ، من جمعيات ونقابات ، على أن يكون أحد المرات عضوية مجلس المدينة .. كما يعتبر عمدة أي مدينة في الدول المتقدمة ، شخصية اعتبارية وتنفيذية في كثير من الأحيان ، لها أهميتها التي لا يتم تجاوزها بسهولة ، حتى من رأس الدولة ..

في بلادنا العربية ، تعتبر البلديات مجالا ( لتوكيد الذات الجماعية ) عند الناس الذين ينتخبون أعضاء المجالس البلدية ، وتعتبر مخزن للرأي العام ، يرفع برقيات التأييد للحكام ، من وجهة نظر الحكومات العربية ..

لغياب التنظيمات السياسية ، أو لضعف فعاليتها الجماهيرية في بلادنا ، فإن الانتخابات البلدية ، تتم وفق قواعد فهمها الجميع ، وهي خليط بين العشائرية والقدرة المالية و رضا أجهزة الأمن عن المرشحين ، وعدم خطورتهم وفق مساطر التقييم العام لنظرة تلك الأجهزة .. ونادرا ما يتم انتخاب أعضاء مجلس بلدي وفق برنامجه الانتخابي ، أو على ضوء قدرة المرشحين لخدمة المدينة .

كان سالم عسكري متقاعد ، له ابتسامة دائمة ، يضع (ثنية ذهبية ) .. تعطي لابتسامته بعدا يوحي بعدم عدوانيته ، وخطورته ، وتحسس من ينظر إليه بأنه مكانا للثقة و التفاني في الخدمة .. كان رياضيا سابقا ، لا يدخن ، قليل الكلام ، يروي نكتة كل أسبوعين أو ثلاثة ، ويضحك لنكتة غيره ، ويعيدها في كل المناسبات التي يحضر فيها من رواها ، فيحسسه بعلاقة حميمية ..

خاض الانتخابات مع تسعة من المرشحين ، تم انتقائهم بعناية شديدة ، وفق أصول لعبة الصوت التي تضمن لتلك ( الكتلة ) النجاح .. وفعلا ، نجحت الكتلة فيما عدا واحد ، لم يسعفه الحظ لعصبية أقاربه ، و وجود بعض الملاحظات على سلوكه ، ولوجود مرشح قوي في الكتلة المنافسة ، والذي حاز أعلى الأصوات ، حتى تلك التي كانت للتسعة أعضاء الكتلة الناجحة ، وكون الأعراف تعطي للكتلة التي نجح منها عدد أكبر أن تختار الرئيس من بين أعضائها ، تم اختيار (سالم) ليكون رئيسا للبلدية ، وقد كان ذلك متفقا عليه قبل المعركة الانتخابية ..

كان خليط الأعضاء فيه من الغرابة الشيء الذي لا يجعل منهم فريقا متجانسا ، فكان من بينهم شيخ في الثمانين من عمره ، وكان هناك محامي ومهندس و مدير سجن سابق ، و مدير تموين سابق من جماعة دينية ، ورئيس للجنة نقابية عمالية ، وموظف بلدية متقاعد ، ومدرس للغة الإنجليزية متقاعد ، وللأعراف المتبعة ، تم إضافة عضوين من الكتلة التي لم ينجح منها سوى عضو .. فأصبح المجلس البلدي اثنا عشر عضوا ..

أخذ الأعضاء التسعة الذين منهم الرئيس ، عهدا على أنفسهم ألا يعودوا لترشيح أنفسهم مرة أخرى ، وحلفوا على القرآن بذلك .. لكي يكون أداء عملهم لا يتأثر بمؤثرات لعبة الصوت ، ليرتبوا أدائهم وفق رغبتهم بالعودة !

كان التسعة يجتمعون كل ليلة في بيت أحدهم ، من أجل وضع خططا لجعل أدائهم يختلف نوعيا عن أداء من سبقهم ، فوضعوا خطة تنسق مع مديرية التربية ، لحل مشاكل التسرب من المدارس ، ووضعوا خطة تنسق مع البنوك والجامعات وغرفة التجارة لنشر ( التقنية ) في عمل أسبوعا (كرنفاليا) يتم فيه تكريم المبدعين من الحرفيين ، وربط ذلك بندوات ترفع من شأن المشاريع الصغيرة و المتوسطة ، يحاضر بها أساتذة الجامعات .. ووضعوا مجموعة من الخطط لنقل قلب المدينة الى الأطراف ، ووضع الأسواق المتخصصة الخ .

كان ثلاثة من الأعضاء ، يعرفون أهمية جدول أعمال (الجلسة ) .. فيكتب بدعوة الجلسة ، النقاط التي يتوجب بحثها في الاجتماع ، وكان هؤلاء الثلاثة لا يتكلم أحدهم إلا إذا سمح له الرئيس ، وإن غاب فإنهم يطلبوا الإذن من نائبه ، ومع ذلك لم تتوقف الفوضى في الكلام إلا بعد مرور تسعة أشهر .. فقد كان الكلام يأتي من الشيخ حول تأخر سيارة نقل النفايات ، أو يأتي من آخر حول تعطل مصابيح الإضاءة في الشارع الفلاني .. وكان كل ذلك يتم وهم يناقشون نقطة لترخيص بناء لمواطن !

كان سالم فرحا في النمط الجديد الذي كان يقوده ، وتهمس بأذنه جهات معينة أن هذا المجلس من خيرة المجالس البلدية في البلاد ..

لكن ذلك لم يطول كثيرا .. فطرح أحد الأعضاء ، فكرة منع شركة (الكوكاكولا) بدخول المدينة ، لأنها شركة صهيونية ، ولم تكن في حينها قد تمت أي اتفاقية صلح مع الصهاينة .. تكهرب الجو ، عندما طرحت تلك الفكرة ، لظن الكثير بخطورة مثل هذا الطرح .. فابتسم سالم لمن طرح تلك الفكرة قائلا : كيف حالك؟

لم يدم الوقت طويلا ، فقد دفعت شركة كوكاكولا ، ما يعادل عشرة دولارات عن كل متر مربع من ( القارمات ) الخاصة بها .. وحلت بعدها بأسبوعين كل البلديات .. وعاد سالم لترشيح نفسه ، في حين لم يرشح أحد من زملاءه نفسه للانتخابات البلدية ، والتي لم يقضوا فيها أكثر من واحد وعشرين شهرا ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #29  
قديم 04-07-2006, 06:21 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

سعادة النائب أبو فايز

النائب مذكر للنائبة .. والنائبة هي المصيبة .. ولكن ليس بالضرورة أن يكون مذكر مصيبة مصيب ، بل يبقى مصيبة في معظم بلادنا العربية ..

عندما وضع (مونتسكيو ) وثيقته المشهورة قبل أكثر من قرنين ونصف ، بأنه لا يجوز القتل إلا بقانون و لا يجوز استملاك أموال الغير ، إلا بقانون ، ولا يجوز سن قانون إلا بحضور ممثلي الشعب . من هناك انطلقت فكرة الديمقراطية الحديثة .. ومن هناك تم تطوير فكرة الانتخابات الحديثة .. ووضعت لها التشريعات وفق دساتير و قوانين تنظم عملية الانتخابات ..

يكون النائب نائبا عن الشعب إذا كان يمثل إرادة الشعب ، ولن تكون للشعب إرادة إلا أن يكون له ممثليات قائمة تتصل بالنائب بعد الانتهاء من وصوله (توصيله ) الى البرلمان ، لكي تجسد تلك الصلة العضوية به ، فلو كان النائب قد حصل على عشرة آلاف صوت ، فلا يعقل أن يعود في كل مرة يتخذ بها موقفا تجاه ما يطرح في البرلمان الى العشرة آلاف ناخب ، يسألهم عن موقفهم ، فيقوم بإجراء فرز لآرائهم ، حتى يحدد موقفه ..

لذا كانت التجارب الديمقراطية المتقدمة في العالم ، تربط الانتخابات بنظام متكامل ، وهو نظام تكوين مؤسسات المجتمع المدني ، فعندما تكون هناك مسألة وطنية ، يكثر الخلاف حولها ، يعود النائب الى مؤسسته التي انطلق منها ، والعودة هنا لا تكون الى الناخبين بل الى قياداتهم التي وقفت وراء الناخب ، فيكون الرأي هو رأي تلك القيادات ..

ثم لو كان النائب طبيبا ، فإنه سيناقش بكفاءة ما سيطرح في البرلمان حول قضايا الصحة ، لكنه سيكون غير مؤهل لمناقشة ما سيطرح من مشاكل زراعية ، ولا ما سيطرح من مشاكل المرأة وغيرها .. فلذلك يكون المتخصصون من مساعدي النائب و الذين يشكلوا قيادة المؤسسة الاجتماعية التي انطلق منها ، هم من يناقش بإسهاب ما هو مطروح في البرلمان ، ويقاربوه مع رؤى مؤسستهم في تلك المسألة ، ويبلغوا النائب خلاصة موقف تلك المؤسسة .

أبو فايز ، كان معلما متقاعدا ، ليس له بالسياسة ولا بالاقتصاد ، ولم يرأس يوما من الأيام أسرة صف مدرسي .. كان إنسانا مغمورا ، يميل للعزلة ، يميل للبخل ، لدرجة أنه لم يتسامح عن كسر (غماز ) سيارته الأوبل (موديل ال 1974) .. وبقي يصرخ حتى وصلت الشرطة ، وأقنعت من كسر الغماز أن يدفع له ما قيمته (عشر دولارات ) .. كان ذلك قبل أن يعتمد كمرشح عشائري بيومين فقط !

لقد اعتمده مجموعة من الرجال الماكرين ، كمخرج لخلافاتهم في تسمية مرشح متفق عليه من جميع الأطراف .. وكانوا يراهنوا أن يقوم أبو فايز بأي لحظة بالتنازل عن تلك المهمة لأي من الطرفين المتذاكيين ، وقد عملا لذلك ، لكن نجح أبو فايز ، دون أن يخسر فلسا واحدا في حملته الانتخابية ، لا بل طالب بعض المتبرعين في دعمه بتسديد ما عليهم بعد ظهور النتائج ، لعمل وليمة لمحبيه و أنصاره !

لقد بهر أبو فايز ، بأجواء الولائم ، و اتصال رجال ذوي أهمية استثنائية به في التنسيق لحملات انتخاب رئيس لمجلس النواب ، أو لمنح الثقة بالحكومة ، أو لتمرير قانون ما . وكان عندما يعود من نشاطاته المفاجئة ، يسرد من التقى بحضرتهم من هؤلاء ، دون ذكر شيء عن القوانين أو المواقف ، فقد كانت المسألة الأهم أنه قد جلس في حضرة فلان الوزير المعروف أو رئيس الوزراء .


كانت طلباته ثمنا لمواقفه ، لا تزيد عن طلبات ذاك المعدم الذي سأله صاحبه ذات يوم لو أنك تحصل على مليون دينار ، ماذا ستفعل ؟ ، فأجاب : أشتري رطلا من اللحم .

لقد اكتشفت الجهات التي تراقب نشاط النواب خصائص كل نائب ، خلال أسبوعين ، وإن كانت تعلم عن تلك الخصائص منذ اليوم الأول لاعتمادهم كمرشحين ، فتفننت في ربطهم بها من خلال تلبية طلباتهم الساذجة ، بالإفراج عن اثنين من أقارب الناخب قد تشاجرا في حفل عرس ، أو عن مهرب ل(كلوز سجائر ) .. أو تعيين فراش في مدرسة في أحسن الأحوال ..

لقد انقضت سني برلمان أبو فايز ، وقد حصل فيها على أنه كان في الخصومات ، قد حظي بوضع فنجان القهوة أمامه في فض الخصومات ، أو خطبة العرائس . كما حظي بزيارة بعض الدول ، و نال بعض الهدايا التي كتب عليها اسم حاكم الدولة التي زارها أبو فايز ، كما حظي بخط للحافلات تم صرفه له كجزء من أعطيات تمنح في المناسبات !

لكنه لم يحظ باحترام حقيقي من لدن من حوله ، فلم يستطع أحد أن يتذكر مداخلة واحدة لأبي فايز ، داخل مجلس النواب الذي كانت جلساته تبث على الهواء الطلق !

وعندما تنادى الناس لاختيار مرشح للانتخابات التالية ، حضر أبو فايز مع بعض أقاربه ، دون أن ينبس ببنت شفة تدل على رغبته في المنافسة مع المتنافسين ، لكنه ترك تلك المهمة لأحد أقاربه ، الذي ما أن أبدى رأيه في ترشيح أبي فايز .. حتى رد عليه أحد المسنين بالقول : ( إبن الخوثة ما يصير مرياع )
والخوثة هي الهبلة من النعاج و المرياع هو الكبش الذي يقود القطيع .
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #30  
قديم 04-07-2006, 06:25 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

سعادة النائب أبو فايز

النائب مذكر للنائبة .. والنائبة هي المصيبة .. ولكن ليس بالضرورة أن يكون مذكر مصيبة مصيب ، بل يبقى مصيبة في معظم بلادنا العربية ..

عندما وضع (مونتسكيو ) وثيقته المشهورة قبل أكثر من قرنين ونصف ، بأنه لا يجوز القتل إلا بقانون و لا يجوز استملاك أموال الغير ، إلا بقانون ، ولا يجوز سن قانون إلا بحضور ممثلي الشعب . من هناك انطلقت فكرة الديمقراطية الحديثة .. ومن هناك تم تطوير فكرة الانتخابات الحديثة .. ووضعت لها التشريعات وفق دساتير و قوانين تنظم عملية الانتخابات ..

يكون النائب نائبا عن الشعب إذا كان يمثل إرادة الشعب ، ولن تكون للشعب إرادة إلا أن يكون له ممثليات قائمة تتصل بالنائب بعد الانتهاء من وصوله (توصيله ) الى البرلمان ، لكي تجسد تلك الصلة العضوية به ، فلو كان النائب قد حصل على عشرة آلاف صوت ، فلا يعقل أن يعود في كل مرة يتخذ بها موقفا تجاه ما يطرح في البرلمان الى العشرة آلاف ناخب ، يسألهم عن موقفهم ، فيقوم بإجراء فرز لآرائهم ، حتى يحدد موقفه ..

لذا كانت التجارب الديمقراطية المتقدمة في العالم ، تربط الانتخابات بنظام متكامل ، وهو نظام تكوين مؤسسات المجتمع المدني ، فعندما تكون هناك مسألة وطنية ، يكثر الخلاف حولها ، يعود النائب الى مؤسسته التي انطلق منها ، والعودة هنا لا تكون الى الناخبين بل الى قياداتهم التي وقفت وراء الناخب ، فيكون الرأي هو رأي تلك القيادات ..

ثم لو كان النائب طبيبا ، فإنه سيناقش بكفاءة ما سيطرح في البرلمان حول قضايا الصحة ، لكنه سيكون غير مؤهل لمناقشة ما سيطرح من مشاكل زراعية ، ولا ما سيطرح من مشاكل المرأة وغيرها .. فلذلك يكون المتخصصون من مساعدي النائب و الذين يشكلوا قيادة المؤسسة الاجتماعية التي انطلق منها ، هم من يناقش بإسهاب ما هو مطروح في البرلمان ، ويقاربوه مع رؤى مؤسستهم في تلك المسألة ، ويبلغوا النائب خلاصة موقف تلك المؤسسة .

أبو فايز ، كان معلما متقاعدا ، ليس له بالسياسة ولا بالاقتصاد ، ولم يرأس يوما من الأيام أسرة صف مدرسي .. كان إنسانا مغمورا ، يميل للعزلة ، يميل للبخل ، لدرجة أنه لم يتسامح عن كسر (غماز ) سيارته الأوبل (موديل ال 1974) .. وبقي يصرخ حتى وصلت الشرطة ، وأقنعت من كسر الغماز أن يدفع له ما قيمته (عشر دولارات ) .. كان ذلك قبل أن يعتمد كمرشح عشائري بيومين فقط !

لقد اعتمده مجموعة من الرجال الماكرين ، كمخرج لخلافاتهم في تسمية مرشح متفق عليه من جميع الأطراف .. وكانوا يراهنوا أن يقوم أبو فايز بأي لحظة بالتنازل عن تلك المهمة لأي من الطرفين المتذاكيين ، وقد عملا لذلك ، لكن نجح أبو فايز ، دون أن يخسر فلسا واحدا في حملته الانتخابية ، لا بل طالب بعض المتبرعين في دعمه بتسديد ما عليهم بعد ظهور النتائج ، لعمل وليمة لمحبيه و أنصاره !

لقد بهر أبو فايز ، بأجواء الولائم ، و اتصال رجال ذوي أهمية استثنائية به في التنسيق لحملات انتخاب رئيس لمجلس النواب ، أو لمنح الثقة بالحكومة ، أو لتمرير قانون ما . وكان عندما يعود من نشاطاته المفاجئة ، يسرد من التقى بحضرتهم من هؤلاء ، دون ذكر شيء عن القوانين أو المواقف ، فقد كانت المسألة الأهم أنه قد جلس في حضرة فلان الوزير المعروف أو رئيس الوزراء .


كانت طلباته ثمنا لمواقفه ، لا تزيد عن طلبات ذاك المعدم الذي سأله صاحبه ذات يوم لو أنك تحصل على مليون دينار ، ماذا ستفعل ؟ ، فأجاب : أشتري رطلا من اللحم .

لقد اكتشفت الجهات التي تراقب نشاط النواب خصائص كل نائب ، خلال أسبوعين ، وإن كانت تعلم عن تلك الخصائص منذ اليوم الأول لاعتمادهم كمرشحين ، فتفننت في ربطهم بها من خلال تلبية طلباتهم الساذجة ، بالإفراج عن اثنين من أقارب الناخب قد تشاجرا في حفل عرس ، أو عن مهرب ل(كلوز سجائر ) .. أو تعيين فراش في مدرسة في أحسن الأحوال ..

لقد انقضت سني برلمان أبو فايز ، وقد حصل فيها على أنه كان في الخصومات ، قد حظي بوضع فنجان القهوة أمامه في فض الخصومات ، أو خطبة العرائس . كما حظي بزيارة بعض الدول ، و نال بعض الهدايا التي كتب عليها اسم حاكم الدولة التي زارها أبو فايز ، كما أن الصفير الذي كان يرافق لفظ السين قد اختفى ، كما حظي بخط للحافلات تم صرفه له كجزء من أعطيات تمنح في المناسبات !

لكنه لم يحظ باحترام حقيقي من لدن من حوله ، فلم يستطع أحد أن يتذكر مداخلة واحدة لأبي فايز ، داخل مجلس النواب الذي كانت جلساته تبث على الهواء الطلق !

وعندما تنادى الناس لاختيار مرشح للانتخابات التالية ، حضر أبو فايز مع بعض أقاربه ، دون أن ينبس ببنت شفة تدل على رغبته في المنافسة مع المتنافسين ، لكنه ترك تلك المهمة لأحد أقاربه ، الذي ما أن أبدى رأيه في ترشيح أبي فايز .. حتى رد عليه أحد المسنين بالقول : ( إبن الخوثة ما يصير مرياع )
والخوثة هي الهبلة من النعاج و المرياع هو الكبش الذي يقود القطيع .
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م