المشاريع الصغيرة الإنتاجية وتحول مسارها الاقتصادي :
الأصل في وحدة المجتمعات هو الفرد، ومن ثم الأسرة، وتتطور التجمعات الاجتماعية بمحاور مختلفة قد تتجمع حول محور سياسي أو فكري أو اقتصادي .. وما يعنينا هنا هو التجمعات الاقتصادية ونموها في منطقتنا، وأحيانا يكون نمو المشاريع الاقتصادية مربوطا بشكل وثيق مع إدارة الدولة، وأحيانا أخرى تنظم الدولة نمو تلك المشاريع عن بعد، من خلال منحها الترخيص اللازم، والذي يعتمد أحيانا على حزمة قوانين تراعي المواصفات القياسية التي تعتمدها الدولة في تحديد شكل ومكونات السلعة وتوافقها مع الشروط الصحية أو الفقهية في بعض الأحيان (المحرمات من الأغذية والمشروبات) ..
تعتمد قرارات الصغار من الاقتصاديين على الذاكرة بالدرجة الأولى وعلى الملاحظات الظاهرية في الأسواق، وعلى حجم الكلام الذي يتم تناقله بالمشافهة غالبا. ولكن يندر عودة الراغبين الى جهات حكومية أو حتى (مدنية) في الاسترشاد بما تمنحهم تلك الجهات من نصائح عملية وإجرائية تجنبهم الوقوع في أخطاء قد تنهي مشاريعهم في وقت مبكر من حياة تلك المشاريع، أو بعد أن يتم نجاح المشروع ظاهريا، فإن زوارا من وزارة الصحة والصناعة والتجارة وضريبة الدخل ووزارة العمل وإدارات البلديات سيكونون قريبين بشكل ملازم ومزعج في كثير من الأحيان.. وستكون تلك الزيارات سببا في تقليص حجم المشروع الاقتصادي، أو حرفه عن مساره مما يبدد ما تراكم من خبرات ضرورية في إدامة عمر المشروع ..
إن هذه الصورة تكاد تكون متشابهة في معظم الأقطار العربية، والأسباب في مثولها شاخصة في كل البلدان هي:
1ـ غياب هيئات حكومية فاعلة وجاهزة ومؤمنة بتطوير المشاريع الصغيرة في المجتمع، وإن كانت مسمياتها الوظيفية موجودة في أكثر من بلد عربي، وتبرير الدول في هذه المسألة يأتي من :
أ ـ عدم متابعة تلك الهيئات الحكومية من مجالس البرلمان أو من ممثليات شعبية تهتم بها .. فتبقى صيغها والمهام المنوطة بها متجمدة عند الشكل الذي تم استحداثها به.
ب ـ عدم مراجعة المواطنين لتلك الدوائر، لعدم ثقتهم بها، وعدم تظلم وتشكي المواطنين لهيئات شعبية تتابع مثل تلك الهيئات الحكومية .. جعل المنظمات المدنية المختصة بمثل تلك الشؤون لا تتوازى مع الهيئات الحكومية العاجزة أصلا.. في حين نجد أن هذا النمط منتشرا في كثير من دول العالم، وقد تعرفت عليه في (جنوب إفريقيا) و(تركيا) .. إذ أصبح مجالا خصبا للاستثمار ـ بحد ذاته ـ فأنت حتى تحصل على جواب دقيق عليك أن تدفع ما قيمته (20) رند في جنوب إفريقيا .. حتى لو كان السؤال طلبا لعنوان شركة .. وكذلك هي الحال في تركيا .. وتكون الأسئلة موثقة، والإجابة عليها موثقة ..
هذا النمط المتقدم، يقابله تطوع مجاني في بلادنا أو إدعاء مبالغ فيه بالمعرفة ممن ينوي القيام بمشروع، فيكفيه أن يتوكل على الله، دونما معرفة الخطوات الإجرائية الضرورية التي تجنبه الوقوع ب (مطبات) اقتصادية، قد تنهي حياته الاقتصادية بوقت مبكر ..
تحول تدريجي بالابتعاد عن فكرة الإنتاج بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة:
إزاء هذا الوضع المضطرب، وغير المراقب من هيئات حكومية، أو مدنية، بصفتها أطر مرجعية، يتم العودة إليها. ولتداخل القوانين الحكومية، والتي يتم سنها بالتجريب، دونما مشاركة فعالة واعية ممن يمثلون القطاعات الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة، وجعل تلك القوانين بأيدي أعضاء برلمانات يفتقرون القدرة على استنباط القوانين التي توائم بين حالة صاحب المشروع و سياسة الدولة .. فإن الكثير من أصحاب تلك المشاريع يسلكون سلوكا وقائيا يتمثل في الابتعاد عن الإنتاج تدريجيا، واللجوء للبيع والشراء، فيتعرفون على مصادر تنتج ما كانوا ينتجونه وتبيعها بسعر أقل كلفة مما كانوا يبيعون بها، فيتحولون الى تجار يستعملون عملية (حسابية) واحدة وهي (الطرح) إذ يطرحون ثمن الشراء من ثمن البيع، ليبقى لهم في النهاية هامش ربح معلوم.. وهي طريقة أكثر أمانا لهم .. ولا تحملهم تبعيات الإنتاج وملاحقة أجهزة الدولة لهم، أو صدود المشترين المحليين من الإقبال على منتجاتهم .. بل بالعكس فإنهم بالحالة الجديدة سيعرضون أنواعا وأصنافا مختلفة من السلع المستوردة، ولا يتحمسون لأي منها، بل همهم الوحيد هو البيع ومسك الثمن مع هامش الربح ..
إن حالة مثل هذه، وهي منتشرة انتشارا هائلا في بلادنا العربية، سيكون لها أضرارا جسيمة على صعيد الوضع الاقتصادي الوطني في الدولة القطرية، وسيبعد احتمالية التقارب العربي، من حيث تبادل التجارة البينية بين الدول العربية، طالما أنه ليس هناك ما يشدنا للاستيراد والتعاون مع البلد العربي الفلاني، ونحن نعلم مصدر بضائعه فنلجأ الى بلد المنشأ الأصلي مباشرة. بالإضافة الى خسائر أخرى غير منظورة يمكن تلخيصها بما يلي :
1ـ هدر أموال التعليم المدرسي والجامعي على خريجين، تحولوا الى باعة، في حين أن هذا النمط من العمل لا يحتاج الى كل تلك الدراسة!
2ـ عدم بناء خبرات إنتاجية تراكمية، ليتشكل منها الاقتصاد الوطني للبلاد.
3ـ تسفيه فكرة العلم والتقنية، بأجواء تسود فيها عملية الربحية.. فلماذا تدرس الهندسة، ولماذا يُدرس الطب، ولماذا تُدرس الفيزياء والكيمياء، طالما أننا نستطيع استقدام أي بضاعة في العالم، حتى الطبيب والمهندس والعسكري؟
4ـ اختلال التوازن الاجتماعي، ففي حين ينجح القليل من الشباب في أعمالهم التجارية التي نوهنا عنها، فإن فرصا فاشلة تتكرر يوميا في كل بقاع وطننا العربي، من خلال إغلاق محال تجارية، وبالذات تلك المتعلقة ببيع أجهزة التلفونات الخلوية (الموبايل) ومثيلاتها .. ويتبع تلك الصرعة محلات البوتيكات لبيع الملابس وغيرها ..
لا ننسى في النهاية، ذلك الأثر الذي أحدثه تراكض الكثير من الدول العربية للانضمام لمنظمة (الجات) لكي تربط نفسها، أمام منتجين عالميين يحاولون إبعاد فكرة الإنتاج عن كثير من دول العالم الثالث، لتبقى لهم أسواقا وفية مفتوحة.
__________________
ابن حوران
|