من مقتل الحريري إلى التدويل
تحليل
هل يعيد التاريخ اللبناني نفسه؟
الدكتور عماد فوزي شُعيبي
رئيس مركز المعطيات والدراسات الاستراتيجية بدمشق
كثيرا ما تكون الاغتيالات السياسية بادئة لفواجع أو حروب تنال الدول. هذا ما حدث في إحدى الحروب العالمية حيث كان لاغتيال شخصية سياسية مرموقة في النمسا أن أندلعت حرب أهلية. وكذلك كانت سلسلة الاغتيالات التي لا تنتهي دورتها في لبنان مادة لاستعار الحرب الأهلية هناك لسنين طويلة إلى أن تعب المتحاربون وصدر قرار دولي وإقليمي متعاون بوقف النزيف فكانت اتفاقية الطائف، وتوقفت دورة العنف إلى أن لاحت بوادر التدخلات الدولية الحادة والتي لا تبحث عن مقاسمة إرادات دولية وإقليمية مما هدد منذ اللحظة الأولى للدفع باتجاه القرار 1559 الذي كان لحظة (كسر عظم بخلاف طبيعة منظومة الأمم المتحدة الافتراضية) وما تلاه من تقرير للأمين العام لأمم المتحدة تجاوز منطوق القرار بحد ذاته، بإعادة لبنان إلى سابق وضعه كساحة عمليات دولية- إقليمية مما يجعل السلم الأهلي والاستقرار الأمني في مهب الرياح.
أيأً كان الذي قام باغتيال الحريري يجب أن يُعاقب كي لا تكون سابقة في العلاقات الدولية، ولكن المؤكد أن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري سيدفع الأوضاع في لبنان إلى ذروتها وستكون أطراف إقليمية ودولية في صلب التورط في مأزق سيتنامى بصورة لا سابق لها. وباختصار سواء أكان العمل مدبراً لهذا الغرض (وفقاً للنظرية التآمرية) أم أنه يستثمر بشكل عاجل فإن المسعى لتدويل المسألة اللبنانية عبر استثمار هذا الحدث سينعكس بصورة لا سابق لها في الوضع الداخلي اللبناني وسيتردد صداه في كل من سورية وإسرائيل وعموم المنطقة.
ووفقاً لرؤية تحاول أن ترى الأمور بهدوء وتبحث عن الأسباب والسياق كي تفهم : فإنها ترى بأنه عندما يدعو الرئيس الفرنسي جاك شيراك لتحقيق دولي وتتحدث واشنطن عن العمل مع مجلس الأمن لمعاقبة الفاعلين فور حدوث العملية وهو ما لا تسيغه قواعد ومنطق التحقيق في أي جريمة؛ فإن هذا يعني أن هنالك اتجاهاً ربما قد يكون مبيتاً وراء هذه العملية؛ إذ أنها المرة الأولى التي يتم فيها الحديث عن تدويل تحقيق لجريمة ،فيما تعلن واشنطن عن الاستعداد لمعاقبة دولية استباقية لفاعلين لا يزالون مجهولين في سياق التحقيق يبدو أن الأمريكيين يريدون ان يوجوا التهمة باتجاه جهة بعينها.
أو أن هذا يعني أن هنالك محاولة لاستخدام ما حدث من أجل لصق التهمة بجهة بعينها، أي يعني الأمر أن هنالك اتجاهاً لذهاب مبكراً نحو تأزيم الموقف في لبنان، قبل تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص تنفيذ القرار 1559 خصوصاً إذا ما ربط هذا الأمر مع الضغوط الفرنسية لإجراء ما قبل الانتخابات اللبنانية بما يدفع نحو وضع يجعل تنفيذ القرار في سياق أزمة، وهوالتدويل الذي جهر به الفرنسيون ودفع إليه الأمريكيون وركب موجته المعارضة اللبنانية بما جعل سمة اللعبة هي"الدفع إلى التدويل".
الواضح وفقاً لرؤية باردة وعقلانية هادئة أن اغتيال الحريري الذي تم بعملية متقنة جاء في توقيت يهدف إلى افتعال أزمة داخلية وإقليمية ودولية لوضع القرار1559 على نار ساخنة فالمعروف أن موكب الحريري تتقدمه عملياً سيارة تقوم بعزل أي إشارات الكترونية وبالتشويش بنطاق واسع بمظلة الكترونية، لمنع استخدام السيارات المفخخة.
هذا يعني، وفقاً لرؤية باردة وهادئة، بأن من قام بهذه العملية يتملك قدرات كبيرة في مجال الحرب الالكترونية لحذف تأثير سياراته وهذا ليس من إمكانيات أي من الدول الإقليمية ما خلا إسرائيل أو دولة عظمى، أو أن يكون فعل عملية انتحارية.
وهنا يرى تحليل بأنه : إذا كان الاحتمال الأول فهذا يعني أن وراءه جهة دولية أو إقليمية لاستخدام العملية لمأزق إقليمي يستهدف سورية وإذا كان الاحتمال الثاني وثبت أن وراءه مجموعة إرهابية فهذا يعني أن لبنان لا يزال ساحة عمليات إرهابية وأن الاستقرار لا يزال موضع تساؤل خاصة مع محاولة إضعاف القوة الوحيدة القادرة على إبقاء الاستقرار فيه، خاصة أن هذا العمل لا يمكن له أن يكون عصبوياً لأنه يحتاج إلى تحضير نوعي ومراقبة واستطلاع ودعم لوجستي وحذف تشويش وتأمين إنسحاب وهو ما يتجاوز حدود إمكانات عصابة أو جماعة مغمورة والأهم أنه يتجاوز الإمكانات المتوافرة لسورية في لبنان من حيث الأداء الإلكتروني الذي تخصصت فيه إسرائيل ، حيث من المرجح أن اختيار نقطة (السان جورج) للتفجير يرتبط إلى حدّ كبير بتحقيق معادلة خط النظر في المعالجة الإلكترونية للتشويش المرافق لموكب الحريري.
المشكلة التي تتجاوز حدثاً بمأساة رحيل شخص بوزن الحريري تشير إلى أن ما سيحدث قد يدوّل الوضع في لبنان دفعاً نحو إخراج القوات السورية وتفكيك حزب الله وهو المقصد من القرار المذكور والتدويل بآن.
القرار 1559 هو المرتسم الأول لما حدث مؤخراً في لبنان وما سيحدث؛ فهو قد قسم اللبنانيين ودفع الاحتقان السياسي الى الذروة التي تشابه إلى حد كبير الاحتقان الذي أدى الى انفجار الوضع في لبنان عام 1975.
عادة ما درج اللبنانيون بعد الطائف إلى التهدئة العقلانية وامتصاص الأزمات إلا أن التصعيد الذي تجاوز حدود اتفاقية الطائف وصولاً إلى طلب الانتداب والحماية الدولية خلافاً للأعراف والثقافة السياسية السائدة في المنطقة، إنما يهيء لوضع يبدو أنه سيكون إشكالياً.