>>>...ــــتابـــ تلاوة القرآن ــــع
وننتقل إلى الأدب وإلى الأداء الذي ينبغي أن يكون في تلاوة القرآن لندرك أننا بهذا نُحصّل بإذن الله - عز وجل - الأجر ويتحقق لنا الأثر.
فأول ذلك: الترتيل
قال عز وجل: {ورتل القرآن ترتيلا}.
وجاء القوم أرتالاً أي بعضهم إثر بعض أي شيئاً فشيئا.
وهذه أم سلمة نعتت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في سنن أبي داود وغيره نعتت قراءته أي وصفتها، فنعتت قراءة مفسرة حرفاً حرفا.
أي أنه كان يتلو القرآن بتؤدة وتأني وترتيل، حتى كأنك تسمع كل حرفٍ وحده وتميزه عن غيره.
وهذا أنس كما في البخاري سُئل رضي الله عنه عن قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال

كان يمد مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم).
فمدها رضي الله عنه وأرضاه ليبيّن كيفية قراءة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
وعندما ننظر أيضاً إلى ما اتفق عليه الشيخان من رواية ابن مسعود أن رجلٌ جاء فقال : قرأت المفصلة في ركعة، فقال ابن مسعود: هذاً كهذ الشعر -أي سرعة وتتابع من غير ترتيل وحُسن تلاوة- هذاً كهذّ الشعر، إن أقواماً يقرءون القرآن لا يُجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فيرسخ فيه نفعٌ.
فهذا هو الذي يُقصد به الترتيل يُقصد به التوقير والإجلال للقرآن وحصول فرصة التدبر والتأمل ومن بعد ذلك حصول فرصة التغير والتأثر بهذا القرآن.
ومن هنا قال ابن عباس كما ذكر النووي في التبيان قال: "لئن أقرأ سورة أُرتّل فيها أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كله". أي من غير ترتيل وحُسن تلاوة.
وهذا ابن مسعود يروي عنه الأجوري في آداب حملة القرآن أنه قال: " لا تنثروه نثر الدقل - وهو رديء التمر- ولا تهذوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة".
إذا أردنا الأثر فلابد من اتباع الطريقة الصحيحة.
وأيضاً مع الترتيل التحسين، وهو تزيين القرآن بالصوت الحسن والحرص على تحسين الصوت وتحسين الأداء مع هذا الترتيل.
قال النووي رحمه الله: "أجمع العلماء من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار أئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن".
وفي هذا أحاديث كثيرة منها حديث أبي هريرة عند الشيخين عن رسول الله عليه الصلاة والسلام

ما أذن الله لشيءٍ ما أذِن لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن يجهر به).
وفي حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- لأبي موسى الأشعري أنه قال

لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود).
وثناءه على حُسن صوته دليل على استحبابه وعلى الترغيب فيه، قال عليه الصلاة والسلام كما في رواية مسلم

لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك- جذب حُسن صوت أبي موسى النبي -صلى الله عليه وسلم- فوقف يُنصت ويستمع - فقال أبو موسى: أما لو علمت أنك تسمعني لحبّرته لك تحبيراً). أي لبالغت في تحسينه وتجويده وتزيينه.
وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البراء عند الإمام أحمد وابن حبان والحاكم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (زيّنوا القرآن بأصواتكم).
مع التحرّز مما ليس مشروعاً من التغني الذي يخرج عن حد التلاوة وآدابها وضوابطها وقواعدها وغير ذلك.
ومع الترتيل والتحسين يأتي التحزين، وهو من الأمور المهمة التي تتحرك بها القلوب وتتهيّج بها النفوس، وفي هذا يأتينا تذكيرٌ بقول الله عز وجل:{ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}.
ورُوي عن أبي صالح أن قوماً من أهل اليمن قدموا على أبي بكر في خلافته فجعلوا يقرئوا القرآن ويبكون فقال أبو بكر: "هكذا كنا".
وهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يُخبرنا عن ذلك، ويبيّن علي رضي الله عنه تغير الناس في ذلك في روايات كثيرة وأحداث عديدة.
وقال الغزالي فيما نقله النووي عنه البكاء مستحب مع القراءة وعندها وطريقته في تحصيل ذلك أن يُحضر في قلبه الحزن لئن يتأمل ما فيه من الوعد والوعيد والتهديد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في ذلك؛ فإن لم يحضره حزن وبكاء فليبكي على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب.
وقال الأجوري -رحمه الله- أحب لمن يقرأ القرآن أن يتحزن ويتباكى ويُخشع قلبه، ويتفكر في الوعد والوعيد ليستجلب بذلك الحزن ألم تسمع إلى ما نعت الله به - عز وجل - من هو بهذه الصفة وأخبرنا بفضلهم بقوله : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله }.
ثم ذمّ قوم استمعوا القرآن فلم تخشع له قلوبهم فقال جل وعلا:{أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون}.
ثم يبيّن الحق -جل وعلا- لنا أن هذه التلاوة بهذه الآداب ينبغي مراعاتها فذكر في سياق مدح بعض أهل الكتاب ممن ءامنوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أو قادهم ارتباطهم الصحيح بكتابهم إلى الإيمان بالنبي وبالإسلام قال:{الذين أتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته}.
وقد قال بعض المفسرين:إن المراد بهذا هم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومرادنا ما معنى حق تلاوته ما معنى أن يُتلى حق تلاوته.
قال ابن كثير في تفسيره عن ابن مسعود، والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يُحل حلاله ويُحرم حرامه ويقرأه كما أُنزل ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأول شيئاً منه على غير تأويله.
وقال ابن عباس رضي الله عنه:{يتلونه حق تلاوته يتبعونه حق اتباعه}.
وجعل التلاوة من الاتباع كما في قوله جل وعلا:{والقمر إذا تلاها}، أي إذا تبعها.
ولابد أن ندرك أننا محتاجون إلى الارتباط بالقرآن تلاوة وترتيلاً، وأن ذلك ولو كان قليلاً ؛ فإن القليل فيه خيرٌ كثير، وأجرٌ كبير ونفعٌ عميم وقد ورد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه عبدالله بن عمر أنه قال

من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين ومن قام بألف آية كُتب المقنطيين) رواه أبي داود في سننه بسندٍ حسن.
والله نسأل أن يردنا إلى دينه رداً جميلا وأن يجعلنا ممن يتلون القرآن حق تلاوته ويحيون به قلوبهم.
الخطبة الثانية
أول واجباتنا في تجاه كتاب ربنا هو أن نقبل عليه ونتلوه ونقرأه، ولعلنا نقف وقفة أخيرة مع التقصير والانحراف في هذا الجانب.
فأما التقصير فمشهود معروف في الانقطاع عن التلاوة وعدم الختم الذي روى النووي فيه ما كان عليه السلف فذكر أن أكثره ختم القرآن في شهرين وذكر في أقله ختمه في يوم وليلة وعدّد من كان بعض من رُوي أنه كان يختم في يوم وليلة بل عدّد وذكر بعض من رُوي أنه قد ختم في قراءته وصلاته.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- ردّ عبد الله بن عمرو إلى ثلاثة أيام وفي رواية إلى خمسة وعلى كل حال التقصير في هذا بيّن.
وأما الانحراف فقد وقع أيضاً في مجتمعات المسلمين فصارت التلاوة للتنغيم والتطريب وصارت القراءة للاستحسان الأصوات أو للمنافسة أو لابتغاء الدنيا أو لغير ذلك من أغراض لا يتحقق بها الصلة، ولا يقع بها التأثير وربما لا يُكتب لأصحابها الأجر فقد ورد في حديث عبد الرحمن بن شبل الذي رواه الإمام أحمد والطبراني بسندٍ صحيح عن المصطفى عليه الصلاة والسلام

اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه).
فهذه المحذورات وهذا الذي صار يتكسب به وأحياناً يُحرف القرآن في تلاوته ليوافق أهواء من يوافق من أهواء البشر تزلفاً وتملقاً ونفاقاً وغير ذلك مما قد نراه.
وفي حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (اقرءوا القرآن من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القِدح يتعجلونه ولا يتأجلونه).
قال أهل العلم في تفسير وشرح ذلك : يتعجلونه أي يتعجلون الأجر والمثوبة له من أهل الدنيا لطلب المال والجاه والتزلف والتقرب ولا يتأجلونه إخلاصاً لله وابتغاء لمرضاته.
وفي حديث عمران الذي رواه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال

سيجيء أقوام يسألون بالقرآن -أي يجعلونه وسيلة للتكسب والسؤال وأما تعليم القرآن فقد جوّز أهل العلم أخذ الأجرة على تعليمه بشرائط وضوابط واضحة معروفة أما السؤال والتسول به فقد جاء في هذا الحديث- سيجيء أقوامٌ يسألون بالقرآن فمن سأل بالقرآن فلا تعطوه).
وهذا فاروق الأمة -رضي الله عنه- عمر يقول: "لقد أتى علينا حينٌ وما نرى أن أحدٌ يتعلم القرآن يريد به إلا الله فلما كان هاهنا أي في عهد عمر". يصف التغير من عهد النبي إلى عهده فيقول فلما كان هاهنا بأخرة خشيت أن رجالاً يتعلمونه يريدون به الناس وما عندهم فأريدوا الله بقرآنكم وأعمالك .
فنسأل الله -عز وجل- أن يُعيذنا من هذا الظلام والزيغ، ونسأله -عز وجل- أن يجعل قلوبنا مقبلة على كتابه تدبراً وتأملاً وتغيراً وتأثرا ونسأله -عز وجل- أن يشغل ألسنتنا بذكره وتلاوة كتابه.
ولكم منا سلام الله تعالى وبركاته