صدام يخرج منتصرا
نجح الرئيس العراقي صدام حسين ورفاقه في تحويل محاكمته الي محاكمة للاحتلال الامريكي ورموزه، وجاءت وقائع الجلسات الاخيرة، لتثبت ان عهده كان افضل كثيراً من الصورة التي رسمها له معارضوه، والاعلامان العربي والامريكي، اللذان جري توظيفهما في خدمة مشاريع شيطنته لتبرير الحرب وتغيير النظام بالقوة.
فالرجل كان قوياً متحدياً منضبطاً واثقاً من نفسه، متأبطاً قرآنه، يتحدث بلغة سليمة، وحجج معززة بآيات قرآنية حفظها عن ظهر قلب، واستخدمها في السياق المناسب لإحداث اكبر قدر ممكن من التأثير في المشاهدين، والعراقيين منهم علي وجه التحديد.
هناك عدة ملاحظات سريعة يمكن رصدها من خلال متابعة جلسة امس السابعة من المحاكمة نوجزها في النقاط التالية:
اولاً: ظهر واضحاً ان استراتيجية الرئيس العراقي ورفاقه استغلال فترة المحاكمة لتمرير اخبار ومعلومات الي العراقيين ليس فقط حول احوالهم في المعتقلات والتعذيب الذي يتعرضون له، وانما حول ظروف اعتقالهم والكيفية التي تم بها. فالرئيس العراقي كشف انه اعتقل في سرداب، وانه يعرف من دل الامريكان عن مكان ولديه ولا يعرف من خانه وقدم معلومات للامريكان عن مكان وجوده. وكشف شقيقه برزان عن وفاة السيد محمد الزبيدي رئيس الوزراء السابق في السجــن، مثلمــا كشف عن كيفية اعتقاله ومصادرة خمسين الف دولار وساعته من قبل الامريكان، بينما حرص طه ياسين رمضان علي ابراز التعذيب والاغراءات الامريكية في الوقت نفسه للكشف عن مكان اختباء رئيسه لأنه اعتقل قبله.
ثانياً: نجح الرئيس العراقي في تغيير طبيعة المحاكمة، وتحويل دوره من متهم الي ضحية، ووضع الادارة الامريكية في قفص الاتهام كإدارة كاذبة تمارس التعذيب وتعامل المتهمين بطرق غير انسانية.
ثالثاً: من تابع وجوه رئيس فريق الادعاء وزميليه اثناء المحاكمة، يلمس بوضوح حالة الرعب والخوف المرسومة عليها، واضطروا في اكثر من مناسبة للدفاع عن انفسهم في مواجهة المتهمين، ولكن بطريقة مرتبكة.
رابعاً: فضح الرئيس العراقي الديمقراطية الامريكية، مثلما فضح هو والبقية طبيعة المحكمة، عندما اكدوا جميعاً انهم تعرضوا للضرب والتجويع، والمعاملة السيئة، وكشفوا ان معتقلي الدجيل (ضحاياهم) تمتعوا بمعاملة افضل من تلك التي يعاملون بها. فاذا كان هؤلاء اشتكوا من الماء الحار الذي كان يقدم اليهم للشرب فان المتهمين لم يجدوا الماء اصلاً، وتوسلوا الجنود الامريكيين للحصول عليه، وكانوا يتعرضون لتحقيقات ممزوجة بالاهانات والتعذيب والضرب والزحف علي البطون.
خامساً: ظل الرئيس صدام طوال الوقت يخاطب العراقيين العراقيين، بكل طوائفهم واعراقهم، ويميز بين العراقي الوطني الاصلي والعراقي المزور القادم علي ظهور دبابات الاحتلال او المرتبط بقوي خارجية أي ايران دون ان يسميها، أي انه كان يلعب علي وتر القومية العراقية بذكاء شديد.
سادساً: لم يتوقف الرئيس صدام مطلقاً امام استشهاد ولديه، وظل دائماً يكرر اهتمامه بالعراق، أي انه قدم الهم العام علي الهم الخاص، بينما حرص شقيقه برزان علي ابلاغ الرأي العام العراقي باعتقال احد ابنائه، وسجنه في زنزانة مجاورة دون ان يتمكن من رؤيته، وقال ان ابنه المعتقل لم يمارس أي وظيفة وكان عمره ستة عشر عاماً فقط.
سابعاً: اكد الرئيس العراقي انه كان يحمل سلاحه ويواجه الاحتلال وقواته، وانه اختفي بعد ان ابلغه نائبه السيد رمضان بأن مقاومته انتحار وتخل عن المسؤولية، واراد بذلك ان يقدم نفسه كرئيس مقاوم شجاع لا يهرب من المواجهة.
ثامناً: جاءت شهادات الشهود سطحية وغير مقنعة ولا تدين أيا من المتهمين بجرائم ضد الانسانية، فمعظم الشهود كانوا اخوة ومن اسرة واحدة. واحدهم لم يزد عمره عن ثماني سنوات ساعة وقوع محاولة الاغتيال الفاشلة في الدجيل، واثنان منهم كانوا دون سن الرابعة عشرة.
تاسعاً: تكرار قطع الصوت اثناء مرافعات الرئيس العراقي ورفاقه، خاصة عندما كانوا يتحدثون عن طبيعة اعتقالهم والتعذيب الذي يتـعرضون له، وجه ضربة قاصمة للديمقراطية الامريكية التي تدعي الشفافية والحرية والقضاء المستقل العادل.
عاشراً: تحولت المحكمة الي قمة المهازل عندما اعتدي احد رجال الشرطة علي المتهمين وتوعدهم، وتهكم عليهم، واضاف بذلك سبباً اضافياً لعدم شرعية هذه المحكمة. فلم يحدث في تاريخ المحاكمات، في الدول الديمقراطية اوالديكتاتورية ان اعتدي شرطي علي متهم. وبز المدعي العام جميع المحاكمات السابقة عندما هدد الرئيس صدام بأنه اذا لم يعجبه ان يكون معتقلاً لدي قوات التحالف، فانه سيسلمه الي القوات العراقية، أي للاجهاز عليه فوراً.
لا نعرف مدي تأثير هذا الاداء الذكي والمدروس للرئيس العراقي ورفاقه في اوساط العراقيين بمختلف طوائفهم واعراقهم، ولكن ما هو مؤكد ان هذه المحاكمات كانت الأكثر متابعة في تاريخ العراق، وربما المنطقة العربية، بأسرها. ولا بد ان الكثير من العراقيين قد اجروا مقارنات عفوية بين اوضاعهم الحالية المزرية تحت الاحتلال واوضاعهم قبله، وخرجوا بالنتيجة نفسها التي توصل اليها الدكتور اياد علاوي ابرز رجالات العراق الجديد وامريكا، عندما قال ان ظروف العراق الحالية وانتهاكات حقوق الانسان اسوأ بكثير مما كانت عليه قبل الاحتلال.
الرئيس العراقي خرج الفائز الأكبر في الجولات السبع الاولي من محاكمته، واثبت قدرة غير عادية علي الصلابة والشجاعة، وتصرف طوال الوقت كرجل دولة، وقائد متمرس، وزعيم وطني، لا يخاف الاعدام، ولا يخشي سجانيه.
ومثل هذه المواصفات غير المتوفرة في الغالبية الساحقة من الحكام العرب هي التي تفسر لماذا هو حر في معتقله بينما هم سجناء في قصورهم.
عبد الباري عطوان
تاريخ الماده:- 2005-12-23