وكما حدث في السابق في أثناء العمليات الانتخابية، فإن تصاعد العنف في أواخر نوفمبر الماضي كان متعمدًا من المقاومة لإفشال العملية السياسية العراقية، وبخاصة في الفترة التي سبقت انتخابات 15 ديسمبر الجاري، كما كان التصعيد في عمليات العنف الطائفية كانت ردًا على اكتشاف سجن تابع لوزارة الداخلية العراقية في 13 نوفمبر الماضي، والذي اكتشف فيه 173 سجينًا عراقيًا من السنة تم تعذيبهم وتجويعهم وانتهاكهم في مبنى وزارة الداخلية ببغداد، وقد اكتشفت القوات الأمريكية هذا السجن الذي تديره الحكومة الشيعية وقواتها الأمنية، مما أدى إلى إشعال موجة من العنف الطائفي وعمليات قتل ثأري في أواخر نوفمبر الماضي.
* أما الهجمات ضد القوات الأجنبية في العراق فقد ظلت في ازدياد، فقد استمرت المقاومة العراقية في عمليات خطف الأجانب في خريف 2005، وذلك بعدما يقرب من عام من توقف عمليات الاختطاف. وفي أثناء شهري أكتوبر ونوفمبر اختطفت المقاومة على الأقل 7 أجانب [2 مغاربة، 2 كنديين، بريطاني، أمريكي، ألماني]. وقد تصاعدت تكتيكات الاختطاف في أواخر عام 2004.
* كما تكاثفت أيضًا الهجمات ضد الدول الحليفة لأمريكا، فقد هزت ثلاث انفجارات ا لعاصمة الأردنية عمان، إضافة إلى هجمات على دبلوماسيين من العالمين العربي والإسلامي العاملين بالعراق، مما يؤكد على أن المقاومة عازمة على محاولة انقلاب تلك الدول الحليفة على أمريكا، ومن ثم الانفراد بالقوات الأمريكية وعزلها بالعراق.
وفي الوقت ذاته، فهناك اتجاه خطير متعلق بعمليات الثأر الشيعية، وجهودهم لتخويف السنة. ولا توجد إحصاءات عن حجم تجاوزات الميليشيات الشيعية وهجماتهم وانتهاكاتهم ضد السنة، ولكن ما يبدو هو أن تلك الممارسات قد ازدادت بصورة ملحوظة منذ ربيع 2005. وقد مثل هذا نجاحًا جزئيًا للمقاومة، ولكنه أيضًا ساعد على التذكير بأن العراق التي يسيطر عليها الشيعة الآن واقعة في ورطة كبيرة وأصبحت الحكومة كالجسد المشلول بسبب المقاومة السنية، وبسبب الانقسامات إلى فصائل معادية لبعضها البعض.
ومن إحدى النقاط الأخرى الجديرة بالملاحظة هي أنه توجد دلائل أن العراق قد أصبح جاذبًا لنشاطات الجهاد العالمي، وهذا بالطبع له أثر سياسي وأيدلوجي قوي، كما أنه مصدر هام للغضب في الدول العربية المناهضة للفكر الجهادي. وبالرغم من محدودية عدد المقاتلين الأجانب في العراق، إلا أن العراق واحدة من أكبر معاقل النشاطات الجهادية في العالم، إضافة إلى أفغانستان والجزائر ومصر والشيشان وباكستان والسعودية والسودان واليمن.
تكتيكات وأهداف المقاومة العراقية:
لقد أصبحت المناطق السنية من العراق بمثابة شبكة التوزيع، وبها مجموعات من الحركات التابعة لها مباشرة وغير المباشرة بخلايا جيدة التنظيم. ومن الصعب للغاية مهاجمة وهزيمة هذه الخلايا، لأنها ليست لها وحدة مركزية أو بنية مترابطة أو شبكة ذات ترتيب قيادي هرمي داخل الحركات الأكبر. فالحركات الكبيرة تبدو أنها لديها قيادة وتخطيط وتمويل وكوادر تسليح عادة ما تكون منفصلة عن معظم الخلايا التنفيذية في ميدان المعركة، وبالتبعية، فإن هزيمة خلية واحدة أو وحدة عمليات محلية أو حتى منظمة صغيرة لا يعني هزيمة المقاومة بالرغم من أن ذلك قد يؤدي إلى إضعافها بعض الوقت.
* كما استطاعت المقاومة بنجاح أن تكتشف نوعًا من تكتيكات البدائية التي استطاعت التفوق على التقنية العالية التي تستخدمها قوات التحالف والجيش العراقي، فالمقاومة استطاعت أن تتحرك ببطء في دوائر وأفقيًا وركزت على الأهداف الغير حصينة في كل فترة من الفترات. كما تمكنت المقاومة من جمع المعلومات من وسائل الإعلام ومن أقوال شهود العيان على الأرض ومن خلال اختراقها لصفوف القوات العراقية ومعرفتها مسبقًا بعمليات الجيش العراقي وأماكنها، وكل ذلك وفر لها كميات كبيرة من المعلومات الاستخباراتية وتصورًا كبيرًا عن التكتيكات الأنجع التي تفت في عضد الجيوش النظامية، من خلال الوسائل السياسية والإعلامية والعسكرية.
وتلك المجموعات الجهادية استطاعت أن تتحرك بكفاءة حول الأهداف، وتعتمد على استقراء الأوضاع من أجل الوصول إلى معلومات استخباراتية ومعلومات عن فاعلية هجماتها. كما أدت شبكة الإنترنت والاختراقات من الدول الأخرى معلومات عن أهم التكتيكات التي تكون أكثر نجاحًا في المجالات العسكرية والسياسية والإعلامية، كما استطاعت المقاومة أن تحوم حول أهم الأهداف لأمريكا وحلفائها، معتمدة على التقارير المنتشرة إعلاميًا من أجل جمع المعلومات الاستخباراتية ورصد مدى فاعلية عملياتها على الأرض، وقد لعب الإنترنت دورًا كبيرًا في ذلك، إضافة إلى عمليات الاختراق الأخرى من المجاهدين من الخارج التي أعطت المقاومة خبرات ومعرفة بأي التكتيكات هي الأنجع، إضافة إلى قدرة رجال المقاومة على اختراق الأهداف المدنية والعسكرية وتركيزها على الوسائل السياسية والإعلامية.
* وقد استطاعت المقاومة العراقية أن تعمل في مستويات متباينة، في بعض الحالات أعلى من قدرة قوات التحالف والقوات العراقية، واستطاعت أن تتجنب المواجهة المباشرة في المعارك في بعض الأحيان قدر المستطاع، وفضلت تكتيكات أخرى مثل الكمائن والهجمات بالعبوات الناسفة البدائية التي تضرب أهداف التحالف والقوات العراقية، وبتفوق واضح في المستويات المحلية أو من خلال استخدامها للعبوات الناسفة باستخدام أجهزة التحكم عن بعد. وتمكنت المقاومة من مهاجمة الأهداف المدنية العراقية والأجنبية القابلة للاختراق باستخدام التفجيرات الفدائية وعمليات الاختطاف والاغتيال والتكتيكات الأخرى التي لا تستطيع قوات التحالف والقوات العراقية التنبؤ بها أو اتخاذ دفاعات ضدها.
كما حصلت المقاومة على الأفضلية في المناطق السنية التي تدعمها دعمًا كبيرًا وتوفر لها الاختباء بين السكان، مما يجبر قوات الاحتلال الأمريكية والعراقية الموالية لها على استخدام تكتيكات تؤدي إلى انتهاكات بين المدنيين السنة واعتقالات في صفوفهم، مما يؤدي في معظم الأحيان إلى انحياز السكان إلى صفوف رجال المقاومة في المناطق التي يشن فيها الاحتلال مداهماته في أثناء محاولته لاعتقال رجال المقاومة، في الوقت الذي لا تزال فيه هذه التكتيكات تسمح بالاختفاء والهروب. وهذه التكتيكات حرمت قوات التحالف والعراقية من كثير من قدرتهم في استغلال أسلحتهم الأكثر تقدمًا، ووسائلهم التقنية وخبراتهم في الحروب التقليدية، واستخدام استراتيجية معاكسة تركز على نقاط ضعف قوات التحالف والعراقية. وفي خضم ذلك تحاول قوات التحالف والعراقية مواكبة هذا التغير في الاستراتيجية، ولكنها لا تزال مجبرة على القتال مع المقاومة بشروط رجال المقاومة.
* أما هجمات المقاومة التي تعلو عن مستوى التفوق التقليدي لقوات التحالف والعراقية فهو عن طريق استغلال الخليط المتنوع من البعثيين السابقين الموالين لصدام، واستغلال مخاوف الطائفة السنية التي تخشى من فقدانها السلطة والمصادر، ومع القوميين العراقيين ضد القوات الأجنبية الغازية والمشاعر المناهضة للموالين للاحتلال من العراقيين. وهجمات المقاومة تعتمد على إنهاك قوات التحالف من خلال كسرها وتدمير قاعدتها السياسية المحلية في بلادها التي تدعمها. كما أنهم مصممون على إحداث شلل في الحكومة العراقية ومنع السنة من الانضمام إلى الحكومة في ظل الاحتلال أو الانضمام إلى الجيش العراقي، أو دعم الحكومة العراقية الحالية، ومن أجل استفزاز الشيعة والأكراد من أجل تقسيم البلاد إلى فئات عرقية ومذهبية، وفي بعض الحالات التحريض على شن حرب أهلية من شأنها أن تمنع العراق من البروز كدولة موالية للغرب، ومقسمة بطريقة تسمح بخلق صراع قومي وفي النهاية إقليمي بين الجانب السلفي الأصولي السني وبين الشيعة والأصوات العلمانية الأخرى. وهذه المعركة السياسية هي الأهم لنجاح أو فشل المقاومة من أي محدد آخر في المعادلة العسكرية.
أما الجانب الشيعي والكردي في المقاومة فهو غير مباشر، ولكنه يمثل مشكلة خطيرة، فالعناصر الشيعية للشرطة المحلية ووزارة الداخلية يهاجمون السنة ويرتكبون انتهاكات خطيرة، والأكراد يستغلون سيطرتهم على المحافظات الثلاثة التي تشكل الجيب الكردي في الشمال في ظل صدام حسين بطرق تعطيهم أفضلية على العرقيات الأخرى في المنطقة، ويمثلون تهديدًا وخطرًا عن طريق التطهير العرقي الخفي في منطقة كركوك. لذا فإن شمولية الحكومة العراقية أصبحت الآن على المحك، مثلما هي الجهود التي تهدف إلى خلق قوات عراقية قومية حقيقية.
نتائج محتملة:
إن المقاومة حتى الآن تفتقد إلى أي دعم خارجي، فيما عدا بعض الأموال القليلة والسلاح والمجاهدين الأجانب، فالمقاومة لا تحظى بتأييد معظم الشيعة والأكراد الذين يمثلون معًا ما بين 70 إلى 80% من السكان [بحسب تقديراته].
فإذا ما أصبحت القوات العراقية فاعلة بأعداد كبيرة، وإذا ما أظهرت الحكومة العراقية أن نجاحها يمثل مرحلة خروج القوات الأجنبية، وإذا ما ظلت الحكومة العراقية بشموليتها في التعامل مع السنة الراغبين في الوقوف إلى جانبها، فإن المقاومة يمكن هزيمتها بمرور الوقت، بالرغم من أن بعض كوادرها يمكنهم حينئذ أن يقاتلون حتى الموت ولعدة عقود.
ولكن بالرغم من ذلك فإن هناك مخاطر قوية من نشوب حرب أهلية، فجهود رجال المقاومة لتفريق العراق حول مذاهب عرقية وطائفية قد أحرزت بعض النجاح، وأدت إلى عمليات انتقامية متبادلة ما بين الشيعة والأكراد أدت إلى تسبب بعض المخاوف والغضب بين السنة. فالفيدرالية الشيعية والكردية، إضافة إلى صعود الفصائل والميليشيات الشيعية الدينية يمكنها أن تقسم البلاد.
والعملية السياسية العراقية غير مستقرة وغير مؤكدة، فجميع الأطراف السياسية الآن تجد أن أقرب تعريف لها هو بمصطلحات عرقية وطائفية ومذهبية، ولا يعرفون أنفسهم باعتبارهم أصحاب اتجاهات سياسية [ليبرالية ـ يسارية ـ قومية ـ اشتراكية .. إلخ]، كما أن هناك انقسامات عرقية وطائفية حادة موجودة بالفعل داخل الحكومة الحالية على كافة المستويات القومية والإقليمية والمحلية. كما أن الدعم الشعبي في الدول التي جاءت منها قوات التحالف في العراق يظهر انحسارًا يومًا بعد يوم لاحتلال العراق.
باختصار، إن احتمالات نجاح المقاومة تظل متساوية تقريبًا؛ على الأقل حتى النقطة التي يظل فيها العراقيون منقسمون أو بلا استقرار لعدة سنوات قادمة. والكثير من ذلك يعتمد على نجاح العملية السياسية العراقية التي ستعقب الانتخابات البرلمانية، وكيفية تعامل العراقيين مع مختلف القضايا التي أثارتها عملية الاستفتاء على الدستور، والحاجة إلى التحرك على نتائجها بمجرد استلام الحكومة الجديدة زمام الأمور. والكثير أيضًا سيعتمد على مدى نجاح القوات العراقية في أن تصبح فعالة في كل من المجالين السياسي والعسكري، وفي استبدال قوات التحالف. وفي النهاية فإن الكثير يعتمد على قدرة الحكومة العراقية الجديدة في القيام بمسئولياتها لما يمكن أن يحدث في العراق، وأن تقود البلاد بفاعلية، وأن تؤسس قوة شرطة وخدمات حكومية فاعلة على الأرض، وفي كل المجالات التي ظلت فيها الحكومة العراقية السابقة ضعيفة وغير فعالة
كما أن هناك احتمال كبير من أن تتحول المقاومة العراقية إلى تحذير كافة الفصائل الشيعية والكردية وأيضًا السنية، كما يمكن أن تنقسم القوات العراقية الجديدة هي الأخرى إلى عرقيات وطوائف، كما هو الحال الآن في الشرطة والقوات الأمنية. كما أن هناك مخاطر من أن يستعين العراق بقوى إقليمية أخرى لدعم فصيل على الآخر، فإيران تدعم الشيعة العراقيين، والعرب يدعمون السنة، والأكراد سوف يتركون بصورة كبيرة منعزلين ويواجهون مشكلات متزايدة مع الأتراك.
وأي انسحاب متهور من قوات التحالف يمكن أن يشجع هذا الاحتمال الأخير.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* أنطوني كوردسمان أستاذ في الدراسات الاستراتيجية، كتب هذه الوثيقة بمساعدة سارة موللر، وقد نشرت على موقع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي بتاريخ 9/12/