(22)
في كتابة العقود بين المتعاقدين، يتولى كتابة العقد محامي يظن أنه ملم بالقوانين، أو مأذون في حالات عقد الزواج، ومن أراد التملص من العقد أو التحايل عليه، قد يستعين بمحامي، أو يتفحص نقاط الجزاء في حالة المخالفة حتى يدفعها أو يتفاوض من أجلها لينهي فترة التعاقد ..
في عقود الزواج، التي يعبئها المأذون ويوثقها لدى دوائر عدلية تثبت حالة العقد وتعتبره نافذا، في الغالب يكون العقد مكونا من صفحة والقليل من التفاصيل، بل يشمل المهر المقدم والمؤجل والأثاث و مكانا لتوقيع الشهود، وليس للعقد أهمية إلا شرطيته الشرعية والقانونية..
ولكن لا توجد في عقود الزواج، شروطا تبين نسبة الملح في الطعام ولا ارتفاع صوت المرأة أو الرجل، ولا من سيحلب البقرة، ولا من سيفتح الباب إذا طرقه طارق .. ومئات الألوف من الحركات اليومية التي لا تستطيع مجلدات أن تحويها ..
في العتيقة كانت المرأة لها دور لم تنص عليه المواثيق المكتوبة، ولم يتطرق إليه خطباء الجمعة، ولم يذكره الناس في مجالسهم، لكنه تم انتشار تفاصيله مع الهواء وامتزج بدخان المواقد و(الطوابين) والتصق على جدران الحارات، وحفظه أبناء البلدة كما تحفظ صغار (السحالي) طرق المناورات من الأعداء الخارجيين، ولا أظنها أنها ( أي السحالي) قد تخرجت من جامعة أو معهد لكي تتعلم مهاراتها في فن البقاء ..
لم تكن هناك حركة نسائية مناضلة لتوصل النساء الى ما وصلت إليه، ولم تكن تتذمر النساء من وضعها، كما لم يكن الرجال يحتاجون لقطع يكتبونها على صدورهم تقول (هنا رجل) ولا النساء تحتاج الى مثل تلك القطع..
عندما كانت حاجات الإنسان معروفة ولكل سلعة وظيفة وضرورة، كان الناس يتعاملون مع تلك السلع في محلاتهم التجارية وفق تلك الضرورة والوظيفة، فالتجار كونهم من الناس، كانوا يحضرون ما يلزم للناس و يتلاءم مع إمكانياتهم، دون أن توزع غرف التجارة و روابط رجال الأعمال قوائم بتلك الحاجات، لكن لما غزت السلع الأسواق و فرضت على المشترين التعامل مع تلك السلع (كمحور محرك لحركة الاقتصاد)، كيَف الناس أوضاعهم وفق تلك السلع، فارتبكت اعتيادية وانسيابية حياتهم، فظهرت التشوهات الاقتصادية والاجتماعية حتى تشوهت معه حالة ثبات وثبات نمو وتطور المجتمع.
لم تكن المرأة تضع في فهارسها طلبات لم يكن لها ضرورة ووظيفة حياتية تتعلق بدور المرأة التي لم تكن عنصرا إضافيا، بل كانت عنصرا أساسيا ليس مكملا لدور الرجل، بل ملتحما في دوره التحام وجهي ورقة النقد، تفقد الورقة النقدية دورها إذا تلف أحد وجهيها أو تشوه .. وكان الإقرار من كل المجتمع بهذه العلاقة الصميمية والعضوية ..
لم يكن يعتدي الرجل على دور المرأة، فعندما يتم سؤاله من قبل أبناءه عن شيء هو من اختصاص والدتهم، سيحيله فورا لها، كما كانت المرأة تحيل ما يناط بالرجل للرجل، تماما كما هي الحالة في دور لاعب الدفاع في كرة القدم، ودور حارس المرمى، فإن أمسك لاعب الدفاع الكرة بيده فإنها مخالفة قد تعرض الفريق لضربة جزاء ..
كانت المرأة معنية بتربية كل ما هو داخل أسوار الدار، ابتداء من صغار الطيور الى الأبقار و الإبل و حتى رجل البيت، فهي تعني برعاية كل هؤلاء وتغذيتهم وجعلهم يظهرون للآخرين بأبهى صورهم، ليعود الفخر والمجد منسوبا لها في النهاية، وكان الرجل كالمقاول الذي يزود (معلم البناء) بمواد البناء، وما يتبقى يعود للأخير ..
وفوق ذلك كانت تذهب للحقول لتزود البيت بمواد الطعام من (خبيزة وعكوب وبعض ما تخرجه البراري) لتقدمه كوجبات لمن في البيت، وكانت تحضر معها أعواد (المكانس) وأعواد الحطب .. وعليها أن تقتصد في موجودات البيت من مؤن، حتى يمضي العام على خير، لا بل وتحتاط تحسبا لقدوم عام من القحط لا غلال فيه .. وكانت ترثي ما يتمزق من الملابس .. وفي أوقات فراغها ونزهتها تقوم بغزل وحياكة الصوف، لتعمل منه رداءا جميلا يلتصق بجسم طفل أو رجل ليترك بصمات روح الأسرة لأطول فترة ممكنة، أو تقوم بتلوين عيدان القش من القمح لتعمل منه أداة منزلية يحفظ بها الخبز أو تحمل بها الحبوب ..
وكانت توفر على الاقتصاد الوطني ما تتحمله الآن الدول من استيراد (حليب أطفال مجفف) .. لترضع أبنائها كل عوامل القوة والتلاحم الوراثي بين الأجيال.
هكذا كانت المرأة، قبل أن يلقى عليها قوائم من طلبات أو غايات، تعرف قسما منها وقسم آخر لا تعرفه .. لتدخل في صراع مع نفسها و مع الرجل، وتدخل الأمة في صراع من أجل البحث عن مسارات لا تمت لواقعنا بصلة ..
__________________
ابن حوران
آخر تعديل بواسطة ابن حوران ، 17-11-2006 الساعة 06:06 AM.
|