طبقات العرب
بدءا، علينا أن نحذر الأخذ بكل تفاصيل ما أورده المؤرخون العرب عن طبقات العرب، والذين يكادون أن يتفقوا على فكرة العرب العاربة (الموغلة في القدم) والعرب المستعربة (جرهم وما نتج عنها من قبائل العدنانيين)، ليس لشيء، إلا لتصورنا للظرف التي وضعت به تلك النظريات، ولتطويع تلك النظريات ومقاربتها مع القرآن الكريم، ثم أخيرا للدور الذي قام به المؤرخون اليهود والفرس و أهل اليمن وأهل الشام الذين نشطوا نشاطا هائلا في عهد معاوية بن أبي سفيان الذي كان مغرما بقصص التاريخ القديم، فاجتمع بحضرته الكثير من المؤرخين أو الرواة والقصاصين الذين زودوا عاشقين الأساطير والقصص القديمة بالكثير مما ينشدوه.
فتقسيم البشرية الى ثلاثة أقسام هم (سام وحام ويافث ) وهم أبناء نوح عليه السلام الذين نجوا من الطوفان، تقسيم كان يريح من يرغب بإخضاع التطور البشري لهذا النمط من التفسير، ومسألة الطوفان قد ذكرت في النقوش السومرية قبل التوراة وقبل القرآن الكريم، لكننا نعود للقرآن الكريم ليحسم مسألة تحديد النسل البشري بهؤلاء الثلاثة الذين نجوا من الطوفان، فلن نجد أصلا أنه حدد عددهم بثلاثة فقد يكونوا ثلاثة وقد يكونوا ثمانين كما في بعض الروايات .. وإن سلمنا بكونهم ثلاثة فمن أين جاء سكان أمريكا القدماء وسكان أستراليا، وإن قال أحدهم أنهم هاجروا بعد مسألة الطوفان، فلماذا هاجروا وهم قلة تكفيهم المساحات المتوفرة في العالم القديم .. وإن لم تكفيهم فكيف لهم الهجرة بوسائط نقل بحرية متواضعة، وكيف صمدوا بالبحر؟ وإن صمدوا فكيف لهم أن يحددوا كمية المؤن التي سيأخذونها معهم في هجرتهم. وقد يقول قائل أنهم هاجروا قبل انفصال مواطنهم عن العالم القديم!
كل ذلك يصنع ارتباكا في تتبع تلك المسائل التي حصرنا بها المؤرخون الذين استندوا للتوراة الذي كتبه اليهود بطريقتهم ولهم ولمناقشة الظروف الموضوعية المحيطة بهم، باعتبارهم محور الحديث والبحث، فيأخذون من الحضارة السومرية والبابلية بتصورات شعوبها لينسبوه لأنبيائهم أو حتى لله عز وجل. ثم يأتي المؤرخون الإسلاميون فتتسلل المعتقدات اليهودية الى كتاباتهم لتصبح أساسا لتفسير كثير من الظواهر التاريخية ..
وضعنا هذا الاقتراب للتمهيد لما سنتحدث فيه عن موضوع الطبقات عند العرب كما يرويه الطبري و ابن الأثير وغيرهما، موصين لمن يريد الاستزادة بالعودة الى محاكمة ابن خلدون لهؤلاء المؤرخين، والرجوع لكتاب المفصل بتاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي (الفصل الثامن).
دعونا نعود الى طبقات العرب مبتعدين عن الطريقة الكلاسيكية التي يسرد بها المؤرخون العرب بتقسيماتهم المعروفة، بل سنتكلم عن أسماء وردت بالقرآن الكريم والكيفية التي تناول بها المؤرخون العرب تلك الأسماء:
عــــاد :
إن عاد لم تذكر في التوراة، وهي مادة تجعلنا نجتهد في الكيفية التي يضع النسابون العرب تصوراتهم عن طبقات العرب، فيقول الطبري رأيا هاما في هذا الشأن: ( فأما أهل التوراة، فإنهم يزعمون أن لا ذكر لعاد ولا ثمود ولا لهود وصالح في التوراة، وأمرهم عند العرب في الشهرة في الجاهلية، والإسلام كشهرة إبراهيم وقومه") ..
إذن من أين نسج النسابون العرب فكرة الصورة التي وردتنا عن قوم عاد؟
يمكننا التجرؤ بالقول أن التقسيم العربي عن عاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وغيرهم والذين لا ذكر لهم في التوراة أو في كتب التاريخ اليونانية أو الرومانية ولا ذكر له في نقوش أهل الرافدين. إنه من وضع العرب تناقلوه كابرا عن كابر في العهد الجاهلي و تكيف مع النصوص القرآنية..
أما عاد، فإنهم من نسل "عاد بن عوص بن إرم". وأما ثمود فمن نسل "ثمود بن غاثر بن إرم". وأما "طسم"، فمن نسل "طسم بن لاوذ". وأما "جديس"، فمن نسل "جديس بن غاثر بن إرم"، في رواية أو من نسل "جديس بن لاوذ بن سام" على رواية أخرى. وأما "أميم" فإنهم من نسل "أميم بن لاوذ بن سام". وأما "جاسم"، فمن نسل "جاسم"، وهو من العماليق أبناء "عمليق"، فهم اذن من نسل "لاوذ بن سام". وأما "عبيل"، فإنهم من نسل "عبيل بن عوص بن إرم"، وأما "عبد ضخم"، فمن نسل "عبد ضخم" من نسل "لاوذ"، وقد جعلوا من صُلْب "أبناء إرم" في رواية أخرى. وأما "جرهم الأولى"، فمن نسل "عابر"، وهم غير جرهم الثانية، الذين هم من القحطانيين. وأما العمالقة، فإنهم أبناء "عمليق بن لاوذ"، وأما "حضورا"، فإنهم كانوا بالرسّ، وهلكوا.
نرى مما تقدم أن أهل الأخبار قد رجعوا نسب العرب البائَدة إما إلى "إرم"، وإما إلى "لاوذ"، باستثناء "جرهم الأولى" الذين ألحق بعض النسابين نسبهم ب "عابر". وهذه الأسماء هي أسماء توراتية، وردت في التوراة، وأخذها أهل الأخبار من منابع ترجع إلى أهل الكتاب، وربطوا بينها وبين القبائل المذكورة، وكونوا منها الطبقة الأولى من طبقات العرب.
وذهب الأخباريون إلى وجود طبقتين لقوم عاد هما: عاد الأولى، وعاد الثانية، وكانت عاد الأولى، في زعم أهل الأخبار، من أعظم الأمم بطشاً وقوة، وكانت مؤلفة من عدة بطون تزيد على الألف، منهم: رفد، ورمل، وصد،والعبود. والظاهر أن فكرة وجود طبقتين لعاد قد نشأت عند الأخباربين من الآية: (وأنه أهلك عاداً الأولى، وثمودَ فما أبقى)، فتصوروا وجود عاد ثانية، قالوا أنها ظهرت بعد هلاك عاد الأولى.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن "عاداً الأولى"، هو "عاد بن عاديا ابن سام بن نوح"، الذين أهلكهم الله، وأوردوا في ذلك بيت شعر ينسب إلى "زهر". وأما عاد الآخرة، فهم "بنو تميم" وينزلون برمال عالج. وذهب الطبري إلى أن عاداً الأولى، هم نسل بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح، وأن عاداً الآخرة هم رهط قيل بن عتر، ولقيم بن هزّال ابن هزيل بن عُتيَل بن صد بن عاد الأكبر، ومرشد بن سد بن عفير، وعمرو بن لقيم بن هزّال، وعامر بن لقيم، وسرو بن لقيم بن هزّال، وكانوا في أيام "بكر بن معاوية" صاحب "الجرادتين"، وهما قينتان له تغنيان. وقد هلكوا جميعا الا "بني اللوذية"، وهم "بنو لقيم بن هزّال ابن هزيل بن هزيلة ابنة بكر"، وكانوا سكاناً بمكة مع أخوالهم "آل بكر ابن معاوية"، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم فهم عاد الأخيرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد.
وجعل بعض أهل الأخبار عدد قبائل عاد ثلاث عشرة قبيلة، ذكروا منها: "رفد" و "زمل" و "صد" و "العبود".
وجعلها "الهمداني" أحد عشر قبيلة وهي: العبود، والخلود، وهم رهط هود النبي المرسل، وفيهم بنو عاد وشرفهم، وهم بنو خالد. وقيل: بنو مخلد، وبنو معبد، ورفد، وزمر وزمل، وضد وضود، وجاهد، ومناف، وسود، و هوجد.
وقد ذهب العلماء مذاهب في تفسير المراد من "إرم ذات العماد" في الآية: (ألم ترَ كيف فعل ربك بعادِ، إرَمَ ذات العماد) فذهب بعضهم إلى أن "إرم ذات العماد" مدينة في "تيه أبْينَ" بين عدن وحضرموت، وذهب آخرون إلى أنها دمشق أو الإسكندرية. والذي دعاهم إلى هذا الرأي هو كثرة وجود المباني ذوات العماد في هاتين المدينتين وما عرف عنهما من القدم، فوجد الإخباريون فيهما وصفاً ينطبق على وصف إرم ذات العماد. وقد خلقت "باب جيرون" من أبواب دمشق قصة "جيرون بن سعد ابن عاد" الذي قالوا فيه إنه كان ملكا من ملوكهم، وإنه الذي اختط مدينة دمشق، وجمع عمد الرخام والمرمر إليها، وسماها "إرم".
وهناك مناسبة أخرى جعلت بعض العلماء يذهبون إلى أن دمشق هي "إرم" أو "إرم ذات العماد"، فقد كانت دمشق - كما هو معروف - من أهم مراكز الإرمين "الآراميين"، وكانت عاصمة من عواصمهم. وهذا السبب أيضاً قال نفر من الباحثين إن "إرم" تعني "أرام"، وأن عاداً من "الآراميين"، وأن "عاد إرم" انما تعني "عاد أرام"، فالتبس الأمر على المؤرخين وظنوا أن ذات العماد صفة، فزعموا أنها مدينة بناها عاده. غير أنه قول لا يؤيده دليل يثبت أن "إرم" في هذا الموضع تعتي "ارام". ومن الجائز أن تكون "إرم ذات العماد" هي التي أوحت إلى النسابين فكرة جعل "عاد" من نسل "عوص بن ارم"، لتشابه اسم "ارام" و "ارم" عند العرب التي هي "آرام" فأصبحت عاد من الإرميين.
ويرى بعض المستشرقين أن الذي حمل الإخباريين على القول إن "الإسكندرية" هي "ارم ذات العماد"، هو أثر قصص الاسكندر في الأساطير العربية الجنوبية ذلك الأثر الذي نجده في كتب القصاص اليمانيين، في مثل كتاب "التيجان" المنسوب إلى وهب بن منبه، وفي الرواية اليمانية. وقد حاول الاسكندر كما نعرف احتلال اليمن، فغدا "شداد بن عاد" بانياً للإسكندرية، وأصبح "الاسكندر" مكتشفاً لها.
ونسب بعض أهل الأخبار ل "عاد" ولداً، دعوه "شداداً" قالوا: إنه كان قوياً جبارا، سمع بوصف الجنة، فأراد بناء مدينة تفوقها حسناً وجمالاً، فأرسل عماله، وهم: "غانم بن علوان"، و "الضحاك بن علوان"، و "الوليد بن الريان"، إلى الآفاق، ليجمعوا له جميع ما في أرضهم من ذهب وفضة ودرّ وياقوت، فابتنى بها مدينته، مدينة "إرم" باليمن، بين حضرموت وصنعاء، ولكنه لم ينعم بها إذ كفر بالله، ولم يصدق بنبوة "هود"، فهلك. وتولى من بعده ابنه "شديد".
وزعم بعض، النسابين أن نسب "شداد" هو على هذه الصورة: "شدّاد ابن عمليق بن عوفي بن عامر بن إرم"، فأبعدوه بذلك عن "عاد". وقيل في نسبه غير ذلك.
ويفهم من القرآن الكريم أن مساكن "عاد" بالأحقاف، (واذكر أخا عاد، إذ أنذر قومه بالأحقاف). والأحقاف: الرمل بين اليمن وعُمان إلى حضرموت والشجر. وديارهم بالدوّ والدهناء وعالج ويبرين ووبار إلى عمان إلى حضرموت إلى اليمن. وقد اندفع أكثر الإخبارين يلتمسون مواضعهم في الصحارى، لأنها أنسب المواضع التي تلاءم مفهوم الأحقاف، فوضعوا من أجل ذلك قصصاً كثيراً في البحث عن مواطن عاد وتبور عاد، ورووا في ذلك كثيراَ من قصص المغامرات التي تشبه قصص مغامرات لصوص البحر.
وقد ذهب "موريتس" إلى ان موضع "Aramaua" الذي ورد عند "بطلميوس"، وهو "إرم"، أو "إرم ذات العماد". ويقال له الآن "رم"(في الأردن). وقد أيد "موسل" رأي "موريتس" غير أنه لم يذهب إلى ما ذهب أليه من أنه "إرم". وقد أظهرت الحفريات التي قام بها "المعهد الفرنسي" في القدس، صحة هذا الرأي، إذ ورد في الكتابات "النبطية" التي عثر عليها في خرائب معبد اكتشف في "رم" أن اسم الموضع هو "إرم". فيتضح من ذلك أن هذا الموضع حافظ على اسمه القديم،غير أنه صار يعرف أخراً ب "رم" بدلاً من "إرم".
__________________
ابن حوران
آخر تعديل بواسطة ابن حوران ، 13-02-2007 الساعة 07:19 AM.
|