وهذا يفيدنا في تعظيم مسألة الأمر، وأن الأمر في تعليق العباد به أعظم من تعليقهم بترك المنهي، خلاف ما عليه كثيرون -مثلا- من الدعاة وغيرهم والوعاظ، في أنهم يعظمون جانب المنهي عنه في النفوس الناس، وينهونهم عنه، ويفصلون في ذلك، ولا يفصلون لهم في المأمورات، ولا يحضونهم عليها ، وهذا ليس بجيد؛ بل أمر الناس بما أمر الله -جل وعلا- به وحضهم على ذلك هذا أولى -يعني أرفع درجة- مع وجوب كلٍّ من الأمرين في البيان على الكفاية.
قال : ( فإنما أهلك مَن قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) .
( أهلك مَن كان قبلكم ) أو الذين من قبلكم ( كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) هذا لأن السؤال عن الأشياء لم تحرم لزيادة معرفةٍ، أو لتنطع، أو ما أشبه ذلك، هذا محرم، فما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم نأتي منه ما استطعنا، وفي وقت التشريع، في وقت نزول الوحي نُهِيَ الصحابة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائل؛ لأنه ربما حُرِّمَ عليهم بسبب المسألة.
قد جاء في الحديث : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ) .
جاء -أيضا- في صحيح مسلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما رجل سأل عن شيء لم يُحَرَّم فَحُرِّمَ لأجل مسألته ) .
فكثرة المسألة لا تجوز ، قد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يسألون النبي -عليه الصلاة والسلام- ، وكانت مسألتهم قليلة كلها في الفرائض، وكانوا يفرحون بالرجل يأتي من البادية ليسأل وليستفيدوا.
وهذا من الأدب المهم الذي يُلْتَزَم به؛ فإن كثرة المسائل ليست دالة على دِين، ولا على ورع، ولا على طلب علم؛ وإنما ينبغي على طالب الحق، وصاحب الدِّين والخير أن يُقلَّ المسائل ما استطاع، وقد قال -جل وعلا- : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) سورة المائدة الآية 101.
فالسؤال عن أشياء لم يأتِ فيها تنزيل هذا ليس من فعل أهل الاتباع، بل يُسأل عمَّا جاء به التنزيل؛ لأن الله -جل وعلا- في هذه الآية قال: وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {101}سورة المائدة.
فدلَّ على أن السؤال -إذا كان متعلقا بفهم القرآن، ويتبعه فهم السنة- فإن هذا لا بأس به ، أما أن تكثر المسائل في أمور ليس وراءها طائل، فهذا مما ينبغي تركه واجتنابه.
وقد قال هنا -عليه الصلاة والسلام- : ( فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم ) .
وأنت تلحظ هذا، الذين يكثرون السؤال يكثر عندهم الخلاف، ولو أخذوا بما عليه العمل، وما تعلموه وعملوا به ، وازدادوا علما بفقه الكتاب والسنة لحصلوا خيرا عظيما ، أما كثرة الأسئلة تؤدي إلى كثرة الخلاف.
فلهذا ما يُسْكَت عنه ينبغي أن يظل مسكوتا عنه، وألا يُحَرَّك، إلا فيما كان فيه نص، أو تتعلق به مصلحة عظيمة للمسلمين، فيُسْكَت لا يُحَرَّك عن شيء؛ لأنه ربما لو حُرِّكَ بالسؤال لاختلف الناس ووقعت مصيبة الاختلاف والافتراق، وهذا ظاهر لكم في بعض الأحوال والوقائع، في التاريخ القديم والحديث .
نقف عند هذا، وأسأل الله الكريم لي ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، نعوذ بالله أن نَزِلّ أو نُزَل، أو نضل أو نضل، أو نجهل أو يُجْهل علينا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
إنتهى شرح الحديث التاسع
تحياتي