موضوع قرأته فأعجبني وليس لزاما ان يعجب البقر
أســاطـير عربيــة !
" نظرة تحليلية نقدية"
بقلم : صلاح الحداد الشريف
29 ديسمبر ، 2003
من السيرة الهلالية إلى السيرة الصدامية . ومن الأمويين إلى القوميين . ومن السلفيين إلى الإسلاميين . ومن معركة البسوس إلى معركة أم الحواسم ، ومن سقوط غرناطة إلى سقوط بغداد . قرون من الزمن ، وأجيال من البشر ؛ عاش فيها العقل العربي على أساطير البطولة وخرافات التحرير وضلالات العظمة . وما زال – على ما يبدو – جواد الأساطير العربية يصهل ويصهل في واقع ينضح بالجهل ، ويطفو بالتخلف ، وينطق بالهزيمة والانحطاط . إنها دراما عربية أصيلة ، تستحق التصفيق حقا ، في شعوب لا تجيد إلا فن التصفيق ! . نعم ، والتصفيق فينا أصيل ، انظر إلى قوله تعالى : ( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ) ، أي صفيرا وتصفيقاً . ولقد تحول هذا الفن العربي الأصيل مع مرور الزمن ، إلى أعجب وأضحك ظاهرة في التاريخ . إنها ظاهرة التصفيق للقهر والفقر والتخلف والعذاب والاستبداد . نشأت هذه الظاهرة على يد الفقهاء والشيوخ ، وترعرعت في أحضان الكتاب والشعراء ، وازدهرت عند الدعاة والدهماء ! .
ومن كثرة وقاحة هذه الظاهرة ، حتى أعْدَتْ – مؤخرا - وزيرَ خارجية بريطانيا (جاك سترو) ، الذي دعا – حسب الوقاحة العربية - العالمَ أجمع إلى التصفيق لزعيم الدمار الشامل ، غداة إعلانه التخلي عن أسلحته المحظورة . وهي لا شك دعوة مبطنة بشديد السخرية والاستهزاء والتهكم ، على ما وصل إليه العقل العربي اليوم . ولله درّ الشاعر ، الذي قال يوما حينما كان للعرب شوارب تفتل :
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم ؟!
وإن تعجب فعجب سرعة الاستجابة من هذا العقل المتردي ، الذي راح يصفق بكلتا يديه ، ويصفّر بكلا شدقيه . لكن إذا عرف السبب بطل العجب – كما يقولون - ، فالعقل العربي حسب سيرته التاريخية المبجلة عقل يحفل بالظاهرة وينبهر بالظواهر ويقف عندها وحسب ، على وزن ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) . عقل لا يغوص في الأعماق ، ولا يتعمق في قراءة المقدمات والأسباب ، ولا يحلل النتائج ويستخلص العبر ؛ وصولا إلى دائرة الفعل . عقل لا عمل له سوى اجترار ذكريات الماضي وأمجاده ؛ للاحتماء بالتاريخ والانغماس فيه والانكفاء عليه ، حتى يأتي المهدي المنتظر ، أو تظهر علامات الساعة الكبرى ، وينزل المسيح ؛ ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وكفرا !! .
لا أدري إذا ما كنتُ محظوظا أو غير محظوظ ، عندما ساقتني قدماي إلى سماع خطبة الجمعة في مدينة دبلن ، بالمركز الإسلامي ، أثناء بَدء الحرب على العراق . ويبدو أنه من حسن حظ الخطيب آنذاك ، أن هبت عواصف رملية في الكويت ؛ مركزِ تجمع قوات الغزو . وليجدها الخطيب فرصته الذهبية في أن يقتنص مثل هذا الموضوع ؛ كي يشنّف به أسماعنا ويخطف به أبصارنا ، ويسحر به عقولنا ، ويحقق فيه نبؤاته النافذة ورؤاه الساحرة الخلابة . فماذا كانت توقعات الخطيب ودروسه يا ترى ؟ . إنها رياح الله العاتية ، التي سيسخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما !! . وهذا هو الدرس ، وهذه هي الخطبة . وكم سيسعد الخطيب ويطرب لو تم ذلك فعلا ، حينها وفي الجمعة القادمة سيصبح نبياً ! . لكنَّ قوانين الكون وسننه أبت إلا أن تكون عكس ذلك تماما .
هذا نموذج واحد مصغر من نماذج تفكيرنا وتحليلنا للحوادث والأمور ، وكأننا لم نقرأ يوما تاريخا ، ولا علوما ولا حتى حساباً . أرأيتم كم نحن أميون جهلة ، أرأيتم كم نحن عاطفيون سطحيون حمقى ، أرأيتم كيف نصبح أبطالا بلا تاريخ ؟ ومع هذا فنحن نصدِّقُ كل ما يُروى لنا ، بل ونصفق ! . أليست هذه عين الدونكيشوتية ، التي صنعت من أخيلة عقولنا العقيمة فرسانا وأبطالا ، لكن بسيوف خشبية . أليست هذه عين السخافة ، التي جعلت من الطاغية صدام حسين - في يوم من الأيام وحتى يومنا هذا - بطلا قوميا إسلاميا ، أليست هي بعينها التي نصبت الدكتاتور القذافي قائدا أمميا ؟! . ألم تصبح شعوبنا مسرحية تراجيدية ، فاقت في تراجيديتها مسرحية هملت ؟! .
والآن – سيداتي سادتي - انظروا إذا كنتم غير مصدقين إلى بعض الأساطير العربية ، ولنبدأ بأكبر أسطورة عرفها العقل العربي في التاريخ ، ألا وهي أسطورة السلطة في الأنظمة العربية .
أسطورة الأنظمة العربية : فمعظم هذه الأنظمة أنظمة غير شرعية ، بما في ذلك الأنظمة الملكية والجمهورية والجماهيرية . إذ جاءت إلى سدة الحكم دون أن يكون للشعوب رأي فيها ، فليس هنالك حاكم عربي واحد منتخبا انتخابا دستوريا صحيحا . والفضيحة الكبرى أن بعض هذه النظم لا تعتمد دستورا ؛ لا بل إن بعض الدول في الخليج كالسعودية وفي المغرب العربي كليبيا ، لم تعرف نظام الانتخابات إلى يومنا هذا ، ولو كانت هذه الانتخابات انتخابات مزورة ، يحصد فيها الحاكم نسبة 99.99% !!. هذا ناهيك عن موضوع التعددية الحزبية وتداول السلطة ، إذ لم يشهد أي بلد عربي على طول التاريخ وعرضه ، أن حصلت هذه الظاهرة بطريقة دستورية سلسة . فالتداول المعروف لدينا هو إما تداول الانقلابات العسكرية ، أو السكتة القلبية ! .
وبالنظر حتى في الأنظمة الملكية شبه الدستورية كالأردن مثلا ، والتي تسمح بنظام التعدد الحزبي والانتخابات الدورية ، على ما فيهما من عور ، لم يتمكن أي حزب من الحصول على أغلبية تمكنه من تشكيل حكومة . ونتيجة لذلك يكفل الملك وحدَه الحق في تكليف رئيس للوزراء ، والذي يحظى غالبا بثقة ساحقة في البرلمان . مع ملاحظة أن مثل هذه الأنظمة شبه الدستورية ، يتمتع فيها الملك بسلطات وصلاحيات واسعة ، تخوله بحل البرلمان متى شاء ، وبتعيين الوزراء وقيادة الجيش تلكم القيادة العليا ، وبتشكيل الحكومات وفق الإرادة السامية ؛ لتبقى خيوط اللعبة كاملة في يد جلالة الملك .
أما في الأنظمة الملكية الشمولية ، فالملك أو الأمير أوالسلطان ، هو الذي يملك كل شيء في البلاد ، ويبقى تسيير أمر البلاد والعباد منوطا برغبته السامية . ولا نريد الخوض في أمر الأنظمة الشمولية الأخرى ، التي يتحكم في مصيرها سلطة الفرد المطلق والزعيم الأوحد ، سواء منها شبه الدستورية كمصر ، التي لا يوجد فيها منافس حقيقي للرئيس على السلطة ولا حتى نائب يخلفه إذا ما أصابته وعكة صحية . أو سوريا الجمهورية التي أضحت ملكية وراثية هزلية ! . وأكثر شراً منها تلكم الأنظمة اللادستورية ، والتي يُفرض فيها النظام وفق رأي الزعيم وهواه ، أما رأي الشعب واختياره وحقه فالتمثيل تدجيل ، ومن تحزب خان ، والخيانة عقوبتها الإعدام شنقا حتى الموت !! . هذا في نظام جماهيري ، فُرِضَ غصبا وقهرا على الشعب ، وقيل له هذا هو طريقك للحرية والديمقراطية . فهل هناك أكبر من هذه الأسطورة العربية ؟! . وهل تريدون المزيد من حكايا الأساطير عند العرب أم نكتفي ؟ .
حسنا ، إليكم أسطورة أخرى منبثقة عن الأسطورة الأولى ، ألا وهي :
أسطورة الجامعة العربية : الجامعة العربية ؛ ذلكم الصرح الشامخ في سماء قاهرة المعز ، وهو يناطح إهرامات الجيزة ؛ رمز الفرعونية بكل أنفة وكبرياء ! . لقد سبق ظهورُ هذه الجامعة العربية العتيدة إلى الوجود ، ظهورَ المجموعة الأوروبية . لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم وبإلحاح ، أين نحن من أوروبا ؟ . الإجابة عن هذا السؤال تحدد بإنصاف دور هذه الجامعة العربية في خيبة العرب وهزيمتهم . جامعة أقل القول فيها إنها نادٍ للدكتاتوريات ، فلا وجود لقانون واحد فعلي ، يُلزم الدول الأعضاء فيها بنظام ديمقراطي شرعي ، أو يشترطه عليها في الانضمام . هذا فضلا عن صمتها وخرصها اللامحدود عن أشد الأنظمة عتوا في التاريخ ، وما العراق عنا ببعيد ! . وإن تعجب فعجب مؤسسة الفكر العربي فيها ، ولا أدري إن كان ثمة علاقة بين هذه الجامعة وشيء اسمه الفكر العربي ، ويالسخرية الأقدار ! .
أسطورة الإعلام العربي : نعم أسطورة الإعلام العربي الرسمي بمختلف أبواقه المثيرة للتقزز والاشمئزاز معا . كلا .. كلا ، لا أريد الخوض في حديث حوله ؛ حتى لا نصاب بالتقيؤ أو بالإسهال . ولنذهب مباشرة إلى الإعلام العربي غير الرسمي . إنهم هكذا يسمونه ، ولنسلط الضوء قليلا على نجمه الصاعد هذه الأيام ؛ نجم الفضائيات العربية . ولسوف نصاب بالدهشة حينما نعلم أن مؤسسي هذه الفضائيات هم من أصحاب الأسطورة الأولى أعلاه ! . وتزداد الدهشة أكثر حينما نعلم أن تأسيسها لم يكن لأجل نشر الديمقراطية والمجتمع المدني في العالم العربي ، بل إن ملابسات تأسيسها كانت تلكم الحرب الخفية ، أي حرب تصفية الحسابات بين الأنظمة العربية ذاتها ، وما خفي كان أعظم ! . وتتصاعد الدهشة أكثر حينما نعلم أن كل هذه البهرجة والهرطقة في الفضائيات العربية وُلدت معكوسة ، أي عكس التطور والنمو الطبيعي للأشياء في هذه الحياة . فمما هو معلوم أن الإعلام الديمقراطي الحر ، يأتي نتيجة عالم ديمقراطي حر ، كما هو حاصل في أوروبا وأمريكا مثلا . لكن لكوننا أمة أمية ، نقرأ كل شيء معكوسا ، فكانت هذه الفضائيات كالحسناء في المنبت السوء ! . ولا عجب ، فالناس تبع لقريش !! .
هل نستمر في الحديث عن الصحف العربية المهاجرة ، التي يمولها أصحاب الأسطورة الأولى ؟ أرأيتم كيف بات كل شيء معقدا في عالمنا العربي ؟! أرأيتم كيف عُقّد العقل العربي ، وكيف أننا حقا أمة أمية ؟ . كلا .. كلا ، لا أريد أن أفسد عليكم سهرتكم ! .
بقيت أساطير أخرى عربية . أجل ، أساطير النخب العربية مثلا ، التي ارتبط مصيرها بمصير أصحاب الأسطورة الأولى ؛ فصارت الوسيط بينها وبين الجماهير الأمية ، في تجسيد ثقافة الغوغاء وشرعية الغاب من ناحية ، وفي تبرير شرعية الهيمنة والاستبداد من ناحية أخرى . ولا أدري هاهنا ثانية ، إن كنتُ محظوظا أو غير محظوظ ، عندما أبلغني صديق هو سكرتير في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ، قائلا : هل تعلم أن المجلس قد قدم بحثا على يد أحد أعضائه ، هو من أحدث البحوث على الإطلاق ، إذ لم يسبق لأحد طرقه من قبل ، وهو بحث في الفرق بين الحاجة والضرورة ؟ . وعقبها قلت في نفسي : وهل هناك حاجة أكثر من حاجة الشعوب إلى الحرية ، وهل هناك ضرورة أشد من ضرورة التخلص من الأنظمة الدكتاتورية ؟ . لكن هذه الحقيقة تبقى مطموسة وغائبة عن أذهاننا . لماذا ، لأن هذه المجالس وغيرها ممولة من قبل أصحاب الأسطورة الأولى ، والتي قامت شرعيتها على يد أصحاب هذه الأسطورة . إذن فليتم البحث في المصالح وتبادل المنافع بين الأسطورتين ، وليكن مثلا في فقه البورصة والأسهم والمستندات وكفى ! . أرأيتم كيف أضحى الوضع العربي معقدا ؟ أرأيتم إلى أي حد وصلنا ؟ ولا أدري حقيقة كم سنبقى على هذه الحال ؟ . كلا ، لماذا يجب علي أن أكون منافقا في طرح مثل هذا السؤال الوقح . الجواب الصحيح ، هو أننا نريد أن نبقى هكذا .
ولا يمكن طبعا أن تفوتنا أسطورة المعارضة العربية والإسلامية ، أو لنقل بصراحة أكثر معارضة الشعارات والمزيدات الزائفة . من شعارات لا تجد لها أساسا في الواقع المعاش ، كالديمقراطية والمجتمع المدني ، إلى شعارات طوباوية ، تستهدف في الأساس دغدغة العواطف والضحك على ذقون الجماهير المغفلة ، كالإسلام هو الحل . وليس السودان عنا ببعيد ! .
وأخيرا ، أعرف أن هناك أساطير أخرى ، لا تقل فظاعة عن الأساطير التي سبقت ، وكذا لا تقل إثارة عن أساطير ألف ليلة وليلة . لكن أخشى أن أكون قد أطلت عليكم ، ولنتركها لوقت آخر . وأقول ماذا لو علم أولئك العاكفون على تمثيل أسطورة بني هلال ، وتحويلها إلى دراما عربية مسلسلة شهيرة . ماذا لو علموا عن أساطيرنا العربية هذه ؛ لا بل ماذا لو قام شاعر الإلياذة الإغريقية (هوميروس) من قبره اليوم ، هل يا ترى سيجد أفضل من هذه الإلياذة ذات الآلهة العربية الأصيلة وليست الإغريقية المزورة ؟! .
إلى اللقاء ..