إسرائيل من الإنشاء إلى الاستعلاء...
من المعروف أن دولة إسرائيل هي الدولة الوحدة التي قامت بفضل قرار دولي كان الاتحاد السوفييتي (المنحل) أول من وقّع عليه، وتلاه الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما تبنت الحكومة البريطانية أحلام الحركة الصهيونية بوطن قومي يهودي في فلسطين على أشلاء سكانها العرب، ولم تألو بريطانيا جهداً في التمهيد والتمكين للصهاينة في القدوم والاستقرار في فلسطين، وقد شرعنت هذا الوجود بعدد من القوانين التي أمسكت بالمقاومة العربية (العسكرية والمدنية) بيد من حديد، بينما كانت عصابات الإرهاب الصهيونية تعامل كولد مدلل في فمه ملعقة من ذهب.
وانتهت الحرب العالمية الثانية بإرهاق بريطانيا العظمى وانكماش نفوذها، وتتابع استقلال مستعمراتها بعدما كانت لا تغيب عنها الشمس، وبعدما كان للعرش في كل جهة من جهات الأرض ممثلاً ومندوباً.
فقدت بريطانيا قوتها وحضورها السابق، ولكن (إسرائيل) لم تفقد الكفيل، فقد انتقلت مسؤولية رعاية (الدولة اليهودية) وحمايتها وتنمية طاقاتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية (المستعمرة السابقة لبريطانيا العظمى)، وهي القوة العالمية الصاعدة بإمكانياتها الاقتصادية الهائلة وبحركتها العلمية التي أهلتها لاحقاً لتحقق من خلال نفوذها الاقتصادي ما لم تستطع تحقيقه بنفوذها العسكري.
وغيّر الغرب إستراتيجيته في موضوع الاستعمار وابتكر أساليب جديدة للحفاظ على مصالحه ونفوذه بحيث يجني الثمرة متجنباً الصدام المباشر مع الدول والشعوب المستهدفة، وبالرغم من إعلان الأمم المتحدة إنهاء الاستعمار التقليدي، إلا أن الإسرائيليين بقوا خارج سلطة القانون الدولي، فهم وحدهم يمارسون الأمور على نسق القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.
وإسرائيل التي قامت من رحم الأمم المتحدة، بقيت وحدها البنت العاقة التي لا تتوانى في كل مناسبة على توجيه ضربات قاسية إلى الأم التي حملتها ورعتها، فهي لا تتورع عن انتهاك كل ما يمكن أن يعزز مكانة الأمم المتحدة ومؤسساتها، ومن يقرأ – ولو قراءة سطحية – ما جرى منذ العام 1886 - وهي سنة إقامة أول مستعمرة إسرائيلية زراعية في فلسطين بأموال الرأسمالي اليهودي البريطاني (روتشيلد) -وحتى اليوم، سيهوله حجم الانتهاكات المتعمدة التي قامت بها المؤسسة الصهيونية ومن ثم الدولة الإسرائيلية ضد كل ما هو حضاري وإنساني في فلسطين وما حولها ابتداء من تدمير الآثار التي تحميها قوانين دولية واضحة، ذلك لأن الآثار التاريخية هوية واضحة تصفع الحلم الإسرائيلي القائل بأن فلسطين هي أرض إسرائيل التاريخية، فقد طاول المخطط الإسرائيلي – بطريقة منهجية ومبرمجة – إزالة المساجد والمدارس والأسواق والمقابر التاريخية، لأنها شواهد حق على زيف الادعاءات اليهودية التاريخية بهذه الأرض الإسلامية المقدسة.
وعمدت إلى تغيير الأسماء وعبرنتها في مسلك يؤدي إلى طمس الهوية الصحيحة للمنطقة كلها لا لفلسطين وحدها. وتواطأت مؤسسات النشر مع الدولة العبرية في تبني الأسماء العبرية والتأريخ العبري لفلسطين، بل وللشرق العربي كله، ونظرة سريعة أخرى على ما يسمى بالموسوعات التاريخية والجغرافية الغربية السائدة، تكفي لتأكيد حجم التزوير القائم باسم العلم وباسم التأريخ وفي كثير من الأحيان باسم (التوراة) التي تعتبر مرجعية الادعاءات الإسرائيلية المعاصرة.
ولعل الشيء بالشيء يذكر، فمن مظاهر تأكيد الوجود الإسرائيلي في ذهن الرأي العام ما رأيته في زيارتي الأخيرة لمكتبة الكونغرس بواشنطن، فقد لفت نظري في غرفة (الشرق الأوسط) وهي القسم الذي يضم كل ما له علاقة بنا نحن العرب، أطلس العالم مفتوحاً على صفحة (إسرائيل) وقد وضع على طاولة خاصة مستقلة تفرض نفسها على كل من يدخل القاعة أو يلقي عليها نظرة خاطفة، وبمثل هذا الانطباع قامت (يوريكا EURIKA) وهي أكبر مؤسسة تعليمية للأطفال مقامة في (هاليفاكس Halifax) ببريطانيا بوضع العلم الإسرائيلي وحده على منطقة الشرق الأوسط الممتدة من الخليج العربي وحتى المحيط الأطلسي مع بعض رموز التقدم الحضاري والعلمي كالساتلايت والكومبيوتر، بينما خصصت منطقة الجزيرة العربية ببعض الخيام والجمال، في إشارة واضحة للمفارقات بين الدولة اليهودية والعالم العربي.
ولا تتوقف الانتهاكات الإسرائيلية عند حدود تشويه التاريخ أو عبرنة الأسماء فقد أزالت أكثر من 400 مدينة وقرية كانت عامرة قبل 1948 وأقامت بدلاً منها مجمعات استعمارية يهودية سرعان ما تحولت إلى مدن سياحية وصناعية وجامعية متخمة بأعداد اليهود القادمين من جهات العالم الثمانية. وهجّرت بشكل متعمد أربعة ملايين ليتحولوا إلى ساكني خيام بعدما فقدوا الأرض والوطن.
إن قضيتنا في فلسطين أبعد بكثير من موضوع تداول السلطة بين حزبي العمل والليكود، بين اليسار واليمين، بين العلمانيين والمتشددين، وهي أعمق من أن نحلل ونراهن على الفرق بين التيارات السياسية وأيها أقل ضرراً، أو أيها أكثر إيذاء، ذلك لأننا نواجه هنا أطروحة تناقض كل ما يمكن أن نكون عليه في العقيدة والثقافة والسياسة والمصالح.
ويخفف من حدة غياب استراتيجية عربية واحدة تواجه العدو الإسرائيلي ومخططاته، ما نراه من تصاعد تيارات مقاومة الاستعلاء الصهيوني – على المستويين الشعبي والحكومي - وهو أمر يبشر بالخير مهما بدا متواضعاً//
|