مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الإسلامي > الخيمة الإسلامية
اسم المستخدم
كلمة المرور

 
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #11  
قديم 06-07-2005, 09:31 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي



أمّا العقائد فإن وظيفة العقل فيها هي إدراك صحتها أو خطئها لأنه دليل على العقائد، ولأن المطلوب منه هو الحكم عليها هل هي صحيحة أم فاسدة.

هذه هي طريقة استعمال العقل في الإسلام، يُستعمل في العقائد دليلاً عليها ويُتخذ حَكَماً في صحتها أو فسادها، ويُستعمل في الأحكام الشرعية طريقة لفهم النصوص التي دلت عليها أي لفهم الأدلة التي دلت على أنها أحكام شرعية، لأنه في العقيدة من الأدلة مع الكتاب والسنّة، وأمّا في الأحكام الشرعية فليس من الأدلة بل أدلة الأحكام الشرعية هي النصوص الشرعية ليس غير، أي الكتاب والسنّة وما دل عليه الكتاب والسنّة من أدلة كإجماع الصحابة والقياس مثلاً.

والدليل الشرعي على فكر من العقائد لا بد أن يكون دليلاً قطعياً، بخلاف الأحكام الشرعية فإنه يجوز أن يكون دليلها دليلاً ظنياً. وذلك أنه لمّا كانت الأفكار التي هي عقائد، الأساس الذي يقوم عليه الإسلام عند المسلم، ويقوم عليها الإسلام في الحياة، أوجب الإسلام أن يكون أخذها أخذاً يقينياً جازماً، وأوجب أن يكون برهانها برهاناً يقينياً جازماً. فالعقيدة في الإسلام هي التصديق الجازم المطابق للواقع عن يقين. فالتصديق غير الجازم لا يعتبر من العقيدة الإسلامية، والتصديق الجازم غير المطابق للواقع لا يعتبر من العقيدة الإسلامية، بل لا بد أن يجتمع في الفكر أمران اثنان: أحدهما الجزم في التصديق، والثاني مطابقته للواقع عن يقين، حتى يعتبر هذا الفكر من العقيدة الإسلامية. ولذلك جاء القرآن الكريم في صريح آياته يأمر أمراً جازماً بأن تكون العقائد عن يقين، ونهى نهياً جازماً عن أخذ العقائد من الدليل الظني، قال الله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليُسمّون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم إن يتبعون إلاّ الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً)، وقال تعالى: (إن هي إلاّ أسماء سمّيتُموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتّبعون إلاّ الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى)، وقال عز وجل: (وإن تُطع أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله إن يتّبعون إلاّ الظن وإن هم إلاّ يَخرُصون)، وقال جل شأنه: (وما يتّبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتّبعون إلاّ الظن وإن هم إلاّ يَخرُصون)، فهذه الآيات دليل شرعي يثبِت أن العقائد لا تؤخذ إلاّ عن يقين ولا تؤخذ عن الظن.

أمّا وجه الاستدلال في هذه الآيات فهو أنها حُصرت في العقائد، فكان موضوعها العقائد فحسب، وأيضاً فإن الله ذم بها الذين يبنون عقائدهم على الظن، وقال ما هم إلاّ كاذبون، وذمه هذا نهي جازم عن بناء الاعتقاد على الظن. فقال عن الذين لا يؤمنون بالآخرة إنهم لم يبنوا اعتقادهم على العلم أي على اليقين القطعي، بل بنوه على الظن، وختم الآية بأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً. وقال عن الذين يعتقدون أن الملائكة إناث بأن اعتقادهم هذا لا يُبن على برهان بل اتبعوا فيه الظن وما تهواه نفوسهم، واعتبر الضلال هو الكفر أنه قد حصل من اتباع الظن، وأن هذا ما هو إلاّ كذب. وقال عن الذين يعبدون الأصنام بأنهم في عبادتهم الله واتخاذهم شركاء لله اعتقاداً منهم أنها تنفع إن يتبعون إلاّ الظن وما هم في ذلك إلاّ يكذبون.

فالآيات واضح فيها أنها محصورة في العقائد، وصريح فيها الذم لمن يبني عقيدته على الظن لا على الجزم واليقين بوصفه أنه يكذب وأنه يتبع الهوى وأن ما يتبعه لا يغني عن الحق شيئاً، وهذا كله أمر بوجوب بناء العقيدة على العلم، أي على اليقين الجازم المقطوع به. وهو في نفس الوقت نهي جازم عن بناء العقيدة على الظن، ويدل بشكل صريح واضح على أن الذين يبنون عقائدهم على الظن لا ينفعهم هذا الاعتقاد أمام الله لأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً، بل يجب أن يتحروا ويبحثوا حتى يكون اعتقادهم مبنياً على الجزم والقطع بحيث يكون الدليل دليلاً يقينياً، ولا يجوز أن يكون ظنياً مطلقاً.

فالفكر الذي هو من العقيدة يجب أن يثبُت بالدليل القطيع ولا يقبل أن يثبُت بالدليل الظني ولو كان دليلاً شرعياً. صحيح أن الذي يبني اعتقاده على دليل ظني لا يكفر لأن الله حين ذمه في الآيات لم يقل عنه إن ضل أو كفر، بل قل عنه إنْ هو إلاّ يكذب، وإنْ هو إلاّ يتبع ما تهوى الأنفس، وأن ما اتبعه لا يغني عن الحق شيئاً، وهذا لا يجعله يكفر ولكنه يأثم ويكون قد ارتكب حراماً في بناء اعتقاده على الظن، لأنه خالَف فرضاً فرضه الله عليه، فالله أوجب بناء العقيدة على اليقين فبناها هو على الظن، ولأنه فعل ما نهاه الله عنه نهياً جازماً فيكون قد ارتكب حراماً لأن الله نهى نهياً جازماً عن أن تُبنى العقائد على الظن فبناها هو على الظن. فيكون الإسلام قد حدد الكيفية التي يُتوصل بها إلى أخذ الأساس الذي يقوم عليه الإسلام عند المسلم ويقوم عليه في الحياة تحديداً دقيقاً بشكل واضح.

أمّا ما هي الأدلة اليقينية التي تؤخذ العقيدة منها، فإنه مِن تتبُّع الأدلة الشرعية على الإسلام نجد الأدلة اليقينية محصورة في ثلاثة أدلة هي: العقل، والقرآن الكريم، والحديث المتواتر، وهو الذي ثبت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قاله ثبوتاً قطعياً لا يتطرق إليه ارتياب. وما عدا هذه الأدلة الثلاثة لا تؤخذ منه العقيدة مطلقاً، ويحرم أخذ العقيدة من غيرها، لأنه ظن وليس بيقين.

أمّا الأحكام فإنه لا يُشترط لأخذها أن يكون دليلها دليلاً قطعياً بل يكفي أن يكون ظنياً. فإذا غلب على ظن المسلم أن هذا الحكم هو حكم الله في المسألة جاز أخذه، بل أصبح حكم الله في حقه. فالآية من القرآن إذا كانت تحتمل عدة معان فإن دلالتها على الحكم الشرعي دلالة ظنية، فقد يفهمها شخص على وجه ويفهمها شخص آخر على وجه آخر، وكل منهما حكم شرعي. وكذلك الحديث المتواتر إذا كان يحتمل عدة معاني فإن دلالته على الحكم الشرعي دلالة ظنية. وأيضاً الحديث غير المتواتر هو ظني وليس بقطعي، وهو دليل على الحكم الشرعي ودلالته هذه دلالة ظنية سواء أكانت ألفاظه لا تدل إلاّ على معنى واحد أو كانت تدل على عدة معان، فدلالته ظنية، فيجوز أخذ الحكم الذي يدل عليه. والدليل على أن الدلالة الظنية كافية لأخذ الحكم ما رواه البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: (لا يُصلِّيَنَّ أحد العصر إلاّ في بني قريظة. فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرد منا ذلك. فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنّف أحداً منهم). فهذا صريح بأن الرسول قد أقر أخذ الحكم الشرعي بغلبة الظن. على أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في وقت واحد اثني عشر رسولاً إلى اثني عشر ملكاً يدعوهم إلى الإسلام، وكان كل رسول واحداً في الجهة التي أُرسِل إليها. فلو لم يكن تبليغ الدعوة واجب الاتباع بخبر الواحد لَما اكتفى الرسول بإرسال واحد لتبليغ الإسلام، فكان هذا دليلاً صريحاً من عمل الرسول على أن خبر الواحد حجة في التبليغ، وخبر الواحد ظني. وأيضاً كان الرسول يُرسل الكتب إلى الولاة على يد آحاد من الرسل ولم يخطر لواحد من ولاته ترك إنفاذ أمره لأن الرسول واحد، بل كان يلتزم بما جاء به الرسول من عند النبي عليه السلام من أحكام وأوامر، فكان ذلك دليلاً صريحاً من عمل الرسول على أن خبر الآحاد حجة في وجوب العمل في الأحكام الشرعية وفي أوامر الرسول ونواهيه، وإلاّ لَما اكتفى الرسول بإرسال واحد إلى الوالي، ومعلوم أن خبر الواحد ظني. فهذا كله دليل على أن الأحكام الشرعية يكفي لأخذها غلبة الظن.

فهذه الأحكام الشرعية هي معالَجات مشاكل الحياة، أي هي التشريع الإسلامي. وبعبارة أخرى هي أحكام أفعال الإنسان من حيث هو إنسان، فالبحث في التشريع الإسلامي إنّما هو بحث في الأحكام الشرعية.

آخر تعديل بواسطة rajaab ، 06-07-2005 الساعة 09:41 AM.
  #12  
قديم 06-07-2005, 09:32 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]
والتشريع الإسلامي لا يسير على الطريقة التي سار عليها التشريع الغربي، فهو لا يجعل الحرية موضع بحث مطلقاً، لا في إثباتها ولا في نفيها، وإنّما يجعل موضع البحث الأساسي أفعال الإنسان. فالتشريع إنّما جاء لمعالجة أفعال الإنسان، ولم يأت ليقرر الحرية أو ينفيها. فهو لا ينظر إلى الإنسان من حيث قيامه بأفعاله على أساس الحرية أو عدمها، وإنّما ينظر على أساس أن هذه أفعال تصدر من الإنسان فما هو حكمها؟ ولذلك جاء إلى أفعال فأوجب القيام بها، ورتب عقاباً من الدولة على من لا يقوم بهذا الفرض. وجاء إلى أفعال فحرم القيام بها ورتب عقاباً من الدولة على من يقوم بهذه الأفعال، أي على من يأتي هذا الحرام، وأوعد بعقاب يوم القيامة لكل من يترك فرضاً أو يفعل حراماً. وجاء إلى أفعال فطلب القيام بها ولكنه لم يرتب أي عقاب من الدولة على تركها ولا جعل يوم القيامة عذاباً على تركها، وهو ما يقال له: المندوبات. وجاء إلى أفعال فطلب تركها ولكنه لم يرتب أي عقاب من الدولة على فعلها. وجاء إلى أفعال فخيّر في فِعلها أو تركها، أي أباحها.

فالقضية إذن في نظرة التشريع الإسلامي لأفعال الإنسان هي أنه عمد إلى أفعال من أفعال الإنسان فأوجب فعل بعضها وحرم فعل البعض الآخر، وأنه عمد إلى أفعال من أفعال الإنسان فرغّب في فعل بعضها مجرد ترغيب من غير أن يرتب أي عقاب على عدم الاستجابة لهذا الترغيب، أي على تركها. ونفّر مِن فِعل البعض الآخر مجرد تنفير من غير أن يرتب أي عقاب على عدم الاستجابة لهذا التنفير، أي على فِعلها. وأنه عمد إلى أفعال من أفعال الإنسان فأباح له فعلها وتركها. هذا هو موقف التشريع الإسلامي من الإنسان. وعلى ذلك فالحرية ليست ذات موضوع في بحث التشريع الإسلامي مطلقاً، لا نفياً ولا إثباتاً.

إلاّ أن تقسيم أحكام فعل الإنسان إلى فرض وحرام ومندوب ومكروه ومباح لا يعني أن التشريع الإسلامي حصر أفعالاً فأوجبها بعينها، وحصر أفعالاً أخرى فحرّمها بعينها، وحصر أفعالاً ثالثة معيَّنة فرغّب في فِعلها، وحصر أفعالاً رابعة معيّنة فنفّر مِن فِعلها، ثم أطلق باقي الأفعال فجعلها مباحة.

بل التشريع الإسلامي أوامر ونواهٍ من الله تعالى جاءت بمعانٍ عامة محددة الوصف كالبيع مثلاً غير محدود الكم يعني أي بيع. فهذه الأوامر والنواهي تفيد الطلب أو التخيير. والطلب الذي تفيده إما طلب فعل طلباً جازماً، أو طلب فعل طلباً غير جازم، وإما طلب ترك طلباً جازماً، أو طلب ترك طلباً غير جازم، فكان هذا الطلب أو التخيير هو حكم أفعال الإنسان. فالحكم هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال الإنسان، ونوع هذا الحكم من حيث لزوم القيام بالعمل أو عدم لزومه، أو لزوم ترك الفعل أو عدم لزومه، أو إباحة القيام به أو تركه، إنّما هو مستفاد من هذا الخطاب، أي مستفاد من الطلب أو التخيير، أو بعبارة أخرى مستفاد من الأوامر والنواهي.

وعليه فإن المخاطَب بالحكم هو الإنسان، ولكن محل الخطاب هو أفعال الإنسان. وهذا الحكم الذي خوطب به ليس إعطاءه الحرية يفعل ما يراه، ولا هو تقييد هذه الحرية، بل هو علاج كل مشكلة تقع له في هذه الحياة، أي هو بيان حكم كل فعل يصدر من الإنسان بوصفه إنساناً.

وعلى هذا الأساس جاءت نصوص الأحكام في القرآن الكريم والحديث الشريف، فآيات الأحكام كلها والأحاديث التي تضمنت أحكاماً جاءت بأوامر ونواهٍ من الله تعالى أوحى بها إلى نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم إما لفظاً ومعنى، وهو القرآن، وإما معنى والرسول عبّر عنها بلفظ من عنده، وهو الحديث، فكانت هذه الأوامر والنواهي هي علاج كل مشكلة تقع للإنسان في هذه الحياة الدنيا، أي فيها بيان كل حكم لأي فعل يصدر من الإنسان بوصفه إنساناً سواء أكان حكم إباحة أم حكم تحريم، فالإباحة حكم يحتاج إلى دليل كالتحريم سواء بسواء.

والناظر في هذه الأوامر والنواهي أي في خطاب الشارع، يجد أنه متعلق بفعل الإنسان من حيث هو إنسان، ومتعلق بأفعال موصوفة وصفاً عاماً، أي جاء بمعانٍ عامة تنطبق على كل ما يندرج تحتها. فالطلب والتخيير حين أعطى حلول المشاكل أي أحكام الوقائع، جعل هذا الحكم خطاً عريضاً أي معنى عاماً. فهو قد أعطى حكم فعل ولكنه أعطى حكم جنس الفعل أو نوعه بوصف عام، لا حكم فعل واحد أو أفعال محدودة العدد، ولذلك كان منطبقاً على كل فعل من جنسه أو من نوعه، وعلى كل ما يدل عليه الوصف العام وما يندرج تحت المعنى العام إن كان الوصف غير معلَّل، وعلى كل ما ينطبق عليه الوصف العام أو يندرج تحت المعنى العام، مع كل ما تنطبق عليه علّة الحكم للوصف إن كان الوصف معلَّلاً. فهو يقول هذا حكم البيع أو هذا حكم خيار البيع أو هذا حكم الصرف، فيقول: (وأحل الله البيع)، ويقول: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا)، ويقول: (بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد)، ويقول: (والذهب بالذهب والفضة بالفضة يداً بيد عيناً بعين مِثلاً بمِثل فما زاد فهو ربى)، وكذلك يقول: هذا حكم تقسيم الفيء، وهذه علامة على حكم تداول المال بين الأغنياء وحدهم. وهذا حكم مراعي الماشية، وهذه علامة حكم ما هو من مرافق الجماعة. أو هذا حكم إقطاع الدولة رعاياها مما ليس ملكاً لأحد، وهذه علامة حكم المعادن. فيقول في تقسيم الفيء على المهاجرين دون الأنصار: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم)، ويقول: (المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)، ويقول، أي النص: (عن عمر بن قيس التأربي قال: استقطعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم معدن الملح فأقطعنيه. فقيل: يا رسول الله إنه بمنزلة الماء العَدّ –يعني أنه لا ينقطع- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا، إذن). ولهذا فهو أي النص، ينطبق على أفعال الإنسان المتجددة والمتعددة مهما تنوعت واختلفت.

ومن هنا يأتي الاستنباط من هذه المعاني العامة لكل مشكلة من المشاكل المتجددة والمتعددة للإنسان، ولهذا لا توجد واقعة حدثت إلاّ ولها محل حكم، ولا حادثة تحدث إلاّ ولها أيضاً محل حكم، ولا مشكلة يمكن واقعياً لا فرضياً أن تقع إلاّ ولها كذلك محل حكم. وقد أعطى الشارع النص على هذا الوجه وترك للعقل البشري أن يجالد ويناضل ويبذل أقصى الجهد لاستنباط أحكام المسائل المتجددة والمتعددة من هذه النصوص، وجعل الاجتهاد ليس مباحاً فحسب بل جعله فرض كفاية لا يصح أن يخلو عصر منه، وإذا خلا عصر من مجتهدين فقد أثِم كل المسلمين.
هذا هو واقع التشريع الإسلامي وذاك هو واقع التشريع الغربي وهذا هو الفرق الشاسع بين التشريعين، بين تشريع مبني على أساس ظني باطل ويعطي معالجات فاسدة، وبين تشريع مبني على أساس قطعي حق ويعطي التشريعات الصحيحة بل التشريعات التي تعتبر وحدها هي الصحيحة. ولكن الواقع الذي حدث هو أن التشريع الغربي تحدى التشريع الإسلامي تحدياً صارخاً، وكان من نتيجة هذا التحدي أن هُزم المسلمون، ثم كان من نتيجة هذه الهزيمة أن دُمّروا سياسياً تدميراً تاماً ومُزّقوا شر مُمزَّق. وإن المرء ليأخذه العجب والدهشة حين يدرك بطلان التشريع الغربي وعجزه عن مواجهة مشاكل الإنسان، ثم يدرك صحة التشريع الإسلامي وقدرته على مواجهة كل مشكلة تعرض لإنسان وحلها الحل الصحيح، ويشاهِد هزيمة المسلمين أصحاب المبدأ الحق أمام تحدي المبدأ الباطل.
  #13  
قديم 06-07-2005, 09:33 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

إن المسلمين حين هاجمهم الغربيون بالتشريع الغربي، وتحدوا بالنظام الرأسمالي نظام الإسلام كانوا مشدوهين بالانقلاب الصناعي الهائل الذي حصل في الغرب، فانساقوا في الرد على هذا التحدي على الصعيد الخاطئ الذي وضعوه لهم وهو أن النظام الغربي يعالج المشاكل بعلاج كذا وليس في الإسلام هذا العلاج ولا مثله، فربطوا في أنفسهم العلاج الرأسمالي للمشاكل بعظمة الاختراعات والصناعات، وصاروا يبحثون في الإسلام عن علاج لهذه المشكلة كما عالجها التشريع الغربي، وهنا حصل الخلل في البحث وحصل الخلل في التفكير، فكان من جرائه حصول الخلل في الثقة في أحكام الإسلام التي يخالف علاجها علاج أحكام الغرب وتشريعه.

إن التشريع الإسلامي منبثق عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أو بعبارة أخرى منبثق عن الكتاب والسنّة المقطوع بأنهما وحي من الله، فما فُهم منها من أدلة إجمالية، أو قواعد عامة، أو تعاريف شرعية، أو أحكام كلية أو جزئية هو التشريع الإسلامي. فما يَرد من مشاكل يُعرض عليها ويُستنبط حكمه منها. وعلى ذلك فإن المسائل الجديدة والمسائل التي لا تقع إلاّ في المجتمع الرأسمالي حين يهاجَم بها الإسلام بأنه لا توجد فيه معالجات لها، يجب أن يُفهم واقع المشكلة وليس حكمها المعين. فإذا فُهم الواقع طُبق على هذا الواقع ما في الشريعة من نصوص أو قواعد أو تعاريف أو أحكام وأُعطي الرأي الإسلامي بها. أمّا حكمها المعيَّن سواء أكان صواباً أم خطأ فإنه ليس هو المسؤول عنه. فليس جعْل الشريعة الإسلامية تقول بما يقول به النظام الرأسمالي في شركات المساهمة والتأمين والتجارة الخارجية والبنوك وما شاكل ذلك هو المسؤول عنه بل المسؤولية عنه هو رأي الشريعة الإسلامية في هذه الوقائع، فإن أعطت رأيها هي في كل مشكلة متجددة فإنها تكون شريعة كاملة بغض النظر عن كون هذا الرأي وافق ما يقوله النظام الرأسمالي أم خالفه.

لكن المسلمين لم يبينوا فساد التشريع الغربي حتى يحكموا رأساً على فساد أحكام النظام الرأسمالي بل ربطوا في أنفسهم معالجاته مع عظمة الاختراعات والصناعة في الغرب. وكذلك لم يبينوا أن المسؤول عنه هو حكم الإسلام في واقع المشكلة وليس جعل الإسلام يقول بما يقوله التشريع الغربي في هذه المشكلة. فأخذوا يبحثون في الإسلام عن رأي يوافق ما يقوله النظام الرأسمالي أو لا يخالفه، حتى يبرهنوا على صلاحية الإسلام لمجاراة العصر، فكان هذا هو الهزيمة المنكَرة.

فمثلاً حين يُسأل المسلمون عن شركات المساهمة، لا يُسألون هل الإسلام قادر أن يقول بما يقوله النظام الرأسمالي في شركات المساهمة حتى يعتبر صالحاً لمجاراة العصر، وإنّما يُسأل المسلمون ما هو رأي الإسلام في شركات المساهمة؟ فيكون الجواب أن واقع المشكلة في شركات المساهمة هي شركة مكونة من شركاء يجهلهم الجمهور، والمؤسِّس في شركة المساهمة هو كل من وقع العقد الابتدائي للشركة، ويكون الاكتتاب في الشركة بالتزام الشخص بشراء سهم أو أكثر في مشروع الشركة مقابل قيمتها الاسمية. ويحصل عقد شركة المساهمة بإحدى وسيلتين: إحداهما أن يختص المؤسسون بأسهم الشركة ويوزعونها بينهم دون عرضها على الجمهور، وذلك بتحرير الصك المتضمن الشروط التي ستسير عليها الشركة ثم توقيعه من قِبلهم، فكل من يوقع الصك يعتبر مؤسساً للشركة ومساهماً فيها. فهذا الصك هو العقد وليس عقد شركة المساهمة إيجاباً وقبولاً. والوسيلة الثانية أن يقوم بضعة أشخاص بتأسيس شركة مساهمة ويضعون الصك المتضمن شروط الشركة ثم تُطرح الأسهم على الجمهور للاكتتاب العام فيها، وحين ينتهي أجل الاكتتاب في الشركة يجتمع المساهمون ويكوّنون جمعية تأسيسية، وينتخبون مجلس إدارة لإدارة الشركة، وتبدأ الشركة أعمالها.

وهذه الشركة أي شركة المساهمة هي في النظام الرأسمالي أي التشريع الغربي تصرف من جانب واحد أي من شخص واحد لا من شخصين، ويسمونها الإرادة المنفردة، ولذلك يقولون إن شركة المساهمة ضرب من ضروب التصرف بالإرادة المنفردة، إذ عندهم العقد تطابُق إرادتين ويجعلون معاملات معينة تدخل تحته كالبيع والإجارة، وعندهم الإرادة المنفردة وهي كل شخص التزم أمراً من جانبه كشركة المساهمة، والجمعيات التعاونية، والوصية. فالشريك في شركة المساهمة يلتزم من جانبه شراء كذا أسهم يدفع ثمنها كذا ديناراً، بغض النظر عن قبول أحد من المساهمين الآخرين أو رفضه، وبغض النظر عن رضاه أو سخطه، بل مجرد توقيعه للعقد أو شرائه للأسهم صار شريكاً. ولذلك تباع أسهم شركات المساهمة كما تباع السندات وكما تُتداول أوراق النقد، فمجرد دفع المشتري ثمن الأسهم يصبح شريكاً. وقد عرّف الغربيون شركات المساهمة بأنها "عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهما في مشروع مالي بتقديم حصة من مال لاقتسام ما قد ينشأ من هذا المشروع من ربح أو خسارة".

هذا هو واقع شركة المساهمة، وبعرضها على التشريع الإسلامي يتبين أنها شركة باطلة وحرام الاشتراك فيها، لأن كل معاملة باطلة هي حرام شرعاً. أمّا بطلانها فلأن التشريع الإسلامي قد بين واقع الشركة وأحكامها، فتعريف الشركة في الإسلام هو أنها عقد بين اثنين فأكثر يتفقان فيه على القيام بعمل مالي بقصد الربح، فهي شرعاً ضرب من ضروب التصرف الجاري بين شخصين اثنين، وليست من قبيل التصرف الصادر من شخص واحد. فالشركة من حيث هي، أي جنس الشركة في الإسلام عقد، أياً كان نوعها، والعقد شرعاً يقتضي وجود الإيجاب والقبول فيه معاً في مجلس واحد، فلا بد أن يكون هناك طرفان في العقد أحدهما يتولى الإيجاب بأن يبدأ بعرض العقد كأن يقول: زوجتك أو بعتك أو أجّرتك أو شاركتك أو ما شاكل ذلك، والآخر يتولى القبول كأن يقول: قبلت أو رضيت أو ما شاكل ذلك. فإن خلا العقد من وجود طرفين، أو من الإيجاب والقبول، لم ينعقد وكان باطلاً، لا فرق في ذلك شرعاً بين البيع وبين الشركة. وشركة المساهمة هي حكم من أحكام التشريع الغربي، والتشريع الغربي يعتبرها من قبيل الإرادة المنفردة وليس من قبيل عقد البيع، فهي خالية من وجود طرفين، وإنّما الذي فيه طرف واحد متعدد التزم شيئاً ولم يتفق مع أحد على التزام شيء، والتشريع الإسلامي جعل الشركة من قبيل عقد البيع والإجارة والوكالة ونحوها ولم يجعلها من قبيل تصرف الوقف والوصية والجُعالة ونحوها، ولذلك فهي شرعاً باطلة لم تنعقد مطلقاً. ففي هذه المسألة طبّق واقع المسألة على التعريف الشرعي فأُعطي حكمه من التعريف الشرعي وأُعطي الرأي الإسلامي فيه. وبالطبع التعريف الشرعي مأخوذ من النصوص الشرعية. فإن واقع الشركة التي أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم كان فيها شريكان وكانت تتم بإيجاب وقبول، رُوي أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما (أن ما كان بنقد فأجيزوه وما كان نسيئة فردّوه)، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى أنا ثالث الشريكين ما لم يَخُن أحدهما صاحبه، فإن خان خرجتُ من بينهما)، وقال عليه السلام: (الربح على ما شَرَط العاقدان والوضيعة على قدر المال)، ورُوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أشرك بين عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص. فمن هذه النصوص أُخذ أن الشركة عقد بين اثنين وليست تصرفاً من شخص واحد، وأُخذ تعريف الشركة.
  #14  
قديم 06-07-2005, 09:34 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]هذا رأي الإسلام في شركات المساهمة، سواء وافق النظام الرأسمالي أو خالفه، يجب أن يقال وأن يُعمل به وحده، ويحرم أن يُفترى على الإسلام غيره، ويحرم أن يُعمل بسواه. والآن المطلوب هو رأي الإسلام في شركة المساهمة وليس جعل الإسلام يقول رأي النظام الرأسمالي في شركة المساهمة.

ومثلاً حين يُسأل المسلمون عن التأمين "السكورتاه" لا يُسألون هل الإسلام قادر على أن يقول ما يقوله النظام الرأسمالي في التأمين حتى يصبح صالحاً لمجاراة العصر، وإنّما يُسأل ما هو رأي الإسلام في التأمين؟ فيكون الجواب أن واقع المشكلة في التأمين أنه ضمان من شركة التأمين للشخص أو السيارة أو البضاعة أو الممتلكات أو غير ذلك بأن تعطي المؤمَّن عين ما خسره أو ثمنه أو مبلغاً من المال حين حصول حادث ما يعيّنانه خلال مدة معينة مقابل مبلغ معين. هذا هو واقع التأمين، فهو ضمان، ولذلك يُطبَّق عليه حكم الإسلام في الضمان. والرسول صلى الله عليه وسلم قد بيّن في الحديث حكم الضمان، فقد روى أبو سعيد الخُدري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلمّا وُضعت قال: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم، درهمان. فقال: صلوا على صاحبكم. فقال علي: هما عليّ يا رسول الله وأنا لهما ضامن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على علي فقال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وفكّ رهانك كما فككتَ رهان أخيك). فهذا الحديث واضح فيه أنه ضم ذمة إلى ذمة، أي ضُمت ذمة علي لذمة المدين، وواضح فيه أنه ضمان حق ثابت في الذمة، وواضح فيه أن فيه ضامناً ومضموناً عنه وهو المدين ومضموناً له وهو الدائن، وواضح فيه أنه بدون عِوَض، ولذلك عُرّف الضمان شرعاً بأنه ضم ذمة إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق دون عِوَض، أي هو التزام حق في الذمة من غير معاوضة. فعلى هذا يكون الحكم الشرعي في التأمين أنه حرام لا يجوز. وذلك لأنه ليس فيه ضم ذمة إلى ذمة، لأن شركة التأمين لم تضم ذمتها إلى أحد، ولأنه لا يوجد فيه حق مالي للمؤمن عند أحد قد التزمته شركة التأمين، ولأنه لا يوجد فيه مضمون عنه، ولأنه جرى بمعاوَضة. فهو خالٍ من جميع شروط التأمين التي اشترطها الشارع، ولذلك كان باطلاً. والمعاملات الباطلة حرام فكان التأمين حراماً. هذا رأي الإسلام في التأمين سواء وافق النظام الرأسمالي أم خالفه. فكون الشريعة الإسلامية صالحة لمعالجة مشاكل العصر لا يعني أن تعالجها حسب ما يكون النظام السائد في العصر أو المشهور فيه، وإنّما أن تبين رأيها فيه مهما كان هذا الرأي.

ومثلاً التجارة الخارجية أو العلاقات التجارية مع الدول، لا يُسأل المسلمون هل يقول الإسلام بحرية المبادلة أم بالحماية التجارية أم بسياسة الاقتصاد القومي أم بسياسة الاكتفاء الذاتي؟ لا يُسأل هذا السؤال، وإنّما يُسأل ما هو رأي الإسلام في العلاقات التجارية؟ والجواب على ذلك هو أن الله سبحانه وتعالى حين قال: (وأحلّ الله البيع)، وحين قال: (إلاّ أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم) (إلاّ أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم)، قد أباح البيع والتجارة بلفظ العموم فهو يشمل كل بيع وكل تجارة سواء أكانت داخل سلطان الدولة الإسلامية أم خارجها، وهذا يشمل كل من يحمل تابعية الدولة الإسلامية، مسلماً كان أو غير مسلم. أمّا من لا يحمل تابعة الدولة الإسلامية فهو حربي سواء أكان حربياً فعلاً وهو من تكون حالة الحرب قائمة بيننا وبين دولته كاسرائيل، أم حربياً حكماً بأن لم تكن هنالك حالة حرب بيننا وبينهم كألمانيا. والحربي لا يدخل البلاد إلاّ بإذن خاص له لكل سفرة إن لم تكن بيننا وبين دولته معاهدة، أو حسب نصوص المعاهدة إن كانت بيننا وبين دولته معاهدة. وهذا الحكم في حق الحربي هو نفسه الحكم في حق ماله أي في تجارته التي يملكها. وهذا يعني أن التجارة الخارجية مباحة لرعايا الدولة الإسلامية دون قيد إلاّ السلع التي يكون فيها ضرر محقق فتُمنع هذه السلع فقط ما دام يتحق فيها الضرر قطعاً. وأمّا لغير رعايا الدولة فإن للدولة أن تضع لها القيود التي تراها بمعاهدات أو غير ذلك حسب أحكام الحربيين. فهذا الحكم الشرعي لا يُسأل عنه أي يوافق العصر أم لا، أي لا يُسأل عنه هل يوافق ما يقوله التشريع السائد في العصر، وإنّما يُسأل عنه فقط حسب دليله، ويقال ما يدل عليه الدليل مهما كان هذا الرأي.

ومثلاً المصارف "البنوك" لا يُسأل المسلمون هل الإسلام قادر أن يقول فيها ما يقوله النظام الرأسمالي من تنظيمها وإباحة الربا فيها بفائدة معقولة، وإنّما يُسأل المسلمون ما هو رأي الإسلام في المصارف "البنوك"؟ فيكون الجواب أن واقع المشكلة في البنوك هو أن البنك يقوم عمله بصورة رئيسية على الربا في القروض الطويلة الأجل والقصيرة الأجل، والحساب الجاري والاعتمادات وما شابه ذلك، ويقوم كذلك بتوصيل المال من بلد إلى بلد وبحفظ الأمانات. أمّا توصيل المال وحفظ الأمانات فهو مباح شرعاً سواء أكان بأجرة أم بغيرة أجرة. وأمّا معاملات الربا كلها فإنها حرام قطعاً لأن الله يقول: (وحرّم الربا)، ويقول: (وإن تُبتم فلكم رؤوس أموالكم)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّما الربا في النسيئة)، ويقول: (والذهب بالذهب والفضة بالفضة يداً بيد عيناً بعين مِثلاً بمِثل، فما زاد فهو ربا)، وكلمة الربا في القرآن والحديث جاءت عامة تشمل كل ربا لأنها اسم جنس محلى بالألف واللام فيشمل جميع أنواع الربا سواء أكان ربا الفضل أم ربا النسيئة، وسواء أكان رباً معروفاً في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم أم كان غير ربا معروف وصار جديداً. ولهذا لا يوجد أي احتمال لحِل أي نوع من أنواع الربا لعموم اللفظ. والعام يبقى على عمومه ما لم يَرِد دليل التخصيص، وهنا لم يرد مخصص فيظل على عمومه. على أن قوله تعالى: (فلكم رؤوس أموالكم) وقول الرسول: (فما زاد فهو ربا) صريح في تحريم كل ما يزيد على رأس المال من ربا مهما قل، ومهما كان اسمه ومهما كان نوع معاملاته. فكان الربا كله حرام.

هذا هو رأي الإسلام في الربا سواء وافق النظام الرأسمالي أم خالفه وسواء وافق العصر أم خالفه، وافق المصلحة أم خالفها، وافق المجتمع أم خالفه، كل ذلك لا قيمة له ما دام الدليل الشرعي يدل على حرمته. فليس كون الشريعة الإسلامية صالحة لأنه لا يوجد فيها ما يُحلل الربا لموافقة العصر أو لمراعاة المصلحة أو للمحافظة على الوضع الاقتصادي، بل هي صالحة لأنها قادرة على أن تقول رأيها في المشكلة مهما كان هذا الرأي. والربا من المسائل التي لا توجد إلاّ في المجتمع الرأسمالي، فلا توجد في المجتمع الشيوعي ولا في المجتمع الإسلامي. فحين يُطلب رأي الإسلام فيه أو رأي الشيوعية، يُطلب الرأي في واقع المشكلة وليس الرأي الذي يوافق ما يقوله النظام الرأسمالي.

وهكذا جميع المسائل التي تحدى النظام الرأسمالي فيها نظام الإسلام وهاجم فيها التشريع الإسلامي لأنه لا يستطيع مجاراة العصر ولا توجد فيه حلول لمشاكل لم يكن رد المسلمين فيها ببيان رأي الإسلام كما دلت عليه الأدلة الشرعية التفصيلية، وإنّما كان بمحاولة إيجاد حلول في الإسلام تقول بما يقوله النظام الرأسمالي. وبالطبع لا يمكن أن توجد هذه الحلول للتناقض البيّن بين النظام الرأسمالي وبين الإسلام، لذلك كانوا ينهزمون ويحاولون تأويل الإسلام ليوافق النظام الرأسمالي والتشريع الغربي. وقد شاع هذا وذاع ووُجدت من جرائه مفاهيم مغلوطة هي على درجة كبيرة من الخطر على المسلمين وعلى الإسلام نفسه، فقد وُجد مفهوم "أن الإسلام مرن متطور" ومفهوم "لا بد للإسلام من مسايرة الزمن" ووُجد مفهوم "أن لا بد من إيجاد انسجام بين الإسلام وبين العالم الحديث"، وما شاكل ذلك من مفاهيم، وهي تعني أن الإسلام يمكن تأويله فيقول الرأي الذي يريده أي إنسان منه ولو ناقض أسس الإسلام وأحكامه، فهذا هو معنى مرونته وتطوره، ويعني أن الإسلام يقول الرأي الذي يتفق مع ما هو سائر بين الناس ولو ناقض أسس الإسلام وأحكامه، فهذه مسايرة الزمن. ويعني أننا لا يصح أن نسير بجهة والكفار بجهة لأنهم هم الذين يسودون في العالم الحديث فيجب أن نؤوِّل الإسلام ليوافق ما عليه الكفار حتى نوجِد انسجاماً بينه وبين العالم الحديث.

وهذه المفاهيم المغلوطة يعني الأخذ بها ترك الإسلام واتباع النظام الرأسمالي، لأن الإسلام يناقض النظام الرأسمالي ولا يمكن إيجاد توفيق أو انسجام بينهما. فكل دعوة للتوفيق أو الانسجام بين الإسلام والكفر هي دعوة لأخذ الكفر وترك الإسلام. وفي هذا ما فيه من خطر على المسلمين وعلى الإسلام. صحيح أن الإسلام جاء بخطوط عريضة أي معان عامة وتَرك للعقل البشري أن يستنبط من هذه المعاني العامة الأحكام الشرعية للمشاكل المتجددة كل يوم والمتعددة بتعدد الوقائع، ولكن ذلك لا يعني أن هذا مرونة وتطور فيمكن المرء أن يأخذ أي حكم يريده منها، لأنها لا تعطي إلاّ ما فيها مما دل عليه اللفظ أو المعنى الذي دل عليه معنى اللفظ ولا يعطي ما لا يُفهم دلالة في إحدى الدلالات المعتبَرة. وكذلك لا يعني أن هذه المعاني العامة تساير كل عصر وكل زمن بل يعني أن كل عصر وكل زمن يجد حلول المشاكل التي تحصل فيه في هذه الخطوط العريضة حسب وجهة النظر التي فيها وحسب ما يدل عليه منطوق جُملها أو مفهومها لا حسب العصر والزمن من وجهة نظر أو حسب ما يسود في العصر من معالجات وأحكام.

أمّا مفهوم إيجاد انسجام بين الإسلام وبين العالم الحديث، فإنه يعني ترك الدعوة الإسلامية ويعني فوق ذلك حمل أفكار الكفر للمسلمين ودعوتهم لأخذها. إن العالم الحديث ليس الصناعات والاختراعات ولا العلوم والاكتشافات، فإن هذه ليست محل نزاع بين العالم وليست في حاجة إلى إيجاد انسجام بينها وبين الإسلام، بل العالم الحديث الذي كانوا يدعون لإيجاد انسجام بين الإسلام وبينه هو ما يسود في العالم من مبادئ وأنظمة، وهو يعني بالنسبة لنا معاشر المسلمين طريقة الغرب في الحياة ونظام الغرب في معالجة المشاكل، أي على حد تعبيرهم "ايديولوجية الغرب". هذا هو العالم الحديث الذي كانوا يريدون أن يوجِدوا الانسجام بين الإسلام وبينه. وهذا العالم الحديث هو محل نزاع بيننا معاشر المسلمين وبين الغرب الكفار الرأسماليين. فالعالم الحديث يعني الرأسمالية ومعها الديمقراطية والقانون المدني وما شابه ذلك. وهذا كله في نظر الإسلام كفر لا بد من محاربته وإزالته وإقامة حكم الإسلام، أي جعْل طريقة الإسلام في الحياة هي السائدة، ونظام الإسلام في معالجة المشاكل هو الذي يتحكم في البشر، أي على حد تعبيرهم "ايديولوجية الإسلام" هي التي يجب أن تَحِل محل "ايديولوجية الغرب"، فكيف يمكن أن يفكر مسلم بأن يحاول إيجاد الانسجام بينه وبين هذا الكفر الذي يجب على المسلم محاربته لإزالته وإحلال الإسلام محله؟
  #15  
قديم 06-07-2005, 09:35 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي


هذا هو ما تُوصل إليه هذه المفاهيم، وهذا هو خطرها، ولكنها بكل أسف وكل حسرة سادت المسلمين كما سادتهم محاولة تأويل الإسلام ليوافق النظام الرأسمالي والتشريع الغربي، فكان هذا هو الهزيمة المنكَرة التي هُزمها المسلمون، وهو النصر المؤزر الذي أحرزه الغربيون على العالم الإسلامي كله. ومن هنا تحوّل التاريخ إلى وجهة أخرى غير الوجهة التي كان يتجهها، ومن هنا بدأت السيادة في العالم تتحول من المسلمين إلى الكفار الغربيين أي من الإسلام إلى النظام الرأسمالي أي إلى الكفر. وبهذه الهزائم من المسلمين أمام تحدي النظام الرأسمالي تسرب الخلل إلى الثقة بأحكام الإسلام وأفكاره، وتسلل التساؤل عن صلاحية الشريعة الإسلامية لمعالجة مشاكل العصر الحديث ومماشاة الزمن. فكان هذا أول الوهن في كيان الأمّة الإسلامية. إذ الأمّة هي مجموعة من الناس تجمعها عقيدة عقلية ينبثق عنها نظامها. وهذا يعني أن الأمّة مجموعة من الناس مع مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات تربطها عقيدة واحدة، فإذا تسرب الخلل إلى هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات فقد تسرب إلى كيان الأمّة يعمل فيها تهديماً وتخريباً. وكان هذا أيضاً أول الوهن في كيان الدولة الإسلامية. إذ الدولة مجموعة من الناس ومجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات يربطها السلطان فيتشكل بذلك كيان الدولة، فإذا تسلل الخلل إلى هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات فقد تسلل إلى كيان الدولة يضرب فيها بمعول الهدم والإزالة.

وهذا ما حدث بالفعل، وما ظهرت نتائجه خلال قرن واحد. فإن الكفار بعد أن يئسوا من غزو الدولة الإسلامية وتحطيمها، وصار عندهم رأي عام بأن الجيش الإسلامي لا يُغلب عَمَدوا إلى غزو الأمّة الإسلامية بالأفكار الغربية ليزعزعوا كيانها حتى يتمكنوا من تحطيم الدولة الإسلامية، لأنه إذا زُعزع كيان الأمّة التي تنبثق عنها دولتها فقد تزعزع كيان هذه الدولة وسَهُل تحطيمه بعد ذلك. ومن أجل وصول الكفار إلى هذه الغاية عمدوا إلى الغزو الفكري بالإرساليات التبشيرية والمدارس والمستشفيات والكتب والنشرات والجمعيات السرية. وقد اتخذوا في أول الأمر مالطة مركزاً لهم ثم انتقلوا إلى بيروت سنة 1625 واتخذوها مركزاً لهم، وصاروا كذلك يشتغلون في استانبول واتخذوها مركزاً آخر، ونشطت السفارات الانجليزية والفرنسية والمؤسسات الأمريكية ككلية البروتستنت التي عُرفت فيما بعد بالجامعة الأمريكية، وكان نشاط السفارات الانجليزية والفرنسية في استنبول وبيروت ودمشق والقاهرة بالغاً أشدّه. وقد غزوا جميع الأوساط، إلاّ أنهم كانوا يركزون على الأوساط السياسية والأوساط الفكرية حتى استمالوا كثيراً من شباب الجامعات والمدارس وكثيراً من المثقفين الذين يشغلون مناصب في الدولة وفي الجيش، فكان لهذا أثره في بعث حب الثقافة الغربية والتشريع الغربي في نفوس المسلمين وتشكيكهم في الإسلام وصلاحيته للعصر الحديث. فبدأ حب الاستفادة مما عند الغرب مع اصطناع المحافظة على الإسلام، وبدأ السوس ينخر في جسم الأمّة كما بدأ ينخر في جسم الدولة، وانتقلت الدولة الإسلامية من دور المد إلى دور الجزر، كما انتقلت الأمّة الإسلامية من دور حمل الدعوة الاسلامية إلى دور أن يحمل الكفار إليها دعوتهم إلى الكفر.

ولا شك أن هذا كان بدء الوهن في الأمّة وبدء الوهن في الدولة. وقد لعبت الأوساط الفكرية والأوساط السياسية بتوجيه من الدول الكافرة دوراً مؤثراً في ذلك. ولمّا استفحل أمره وأيقنت الدول الكافرة ولا سيما انجلترا وفرنسا أن الانحلال بدأ في الأمّة الإسلامية وأن الوهن قد تغلغل في الدولة الإسلامية، بدأت تُغِير بالفعل على أطراف الدولة تقتطع منها أجزاء. وقد عم الطمع جميع دول أوروبا وصارت روسيا والمانيا تحاولان الاشتراك في هذه الغنائم. وبالرغم من اختلاف الدول الكافرة على اقتسام الدولة الإسلامية وصراعهم عليها، فإنها كلها كانت متفقة على إزالة نظام الإسلام. ولذلك فكرت كلها في إجبار الخلافة في استانبول على التخلي عن نظام الإسلام في الحكم والمجتمع والسياسة وإكراهها على تطبيق التشريع الغربي في القضاء، والنظام الرأسمالي في الاقتصاد، والنظام الديمقراطي في الحكم، فكان مؤتمر برلين الذي عقد سنة 1850 بين الدول الكافرة في أوروبا، وكان منها رأس الكفر انجلترا الممثلة برئيس وزرائها حينئذ اليهودي الخبيث دزرائيلي، ومنها ألمانيا الممثلة برئيس وزرائها بسمارك، واتفق المؤتمر على إرسال مذكرة إلى خليفة المسلمين يطلب فيها منه أن يترك النظام الديني وأن يأخذ بالنظام المدني، وبُعثت بلهجة تهديدية. وما أن سُلمت هذه المذكرة إلى الباب العالي في استانبول حتى نشط المثقفون والسياسيون في الدعوة إلى إيجاد النظام المدني والسير مع العصر، فأثّر ذلك على الخليفة ووُجد في الأوساط السياسية والأوساط المتعلمة رأي عام لتغيير الأحكام الشرعية وجعْل القوانين الغربية مكانها. وما هي إلاّ فترة قصيرة حتى بدأ هذا التغيير، ففي سنة 1275 هجرية الموافق سنة 1858 ميلادية وُضع قانون الجزاء العثماني، وفي سنة 1276 هجرية الموافق 1858م وُضع قانون الحقوق والتجارة، وفي سنة 1286هـ الموافق 1868م وضعت المجلة قانوناً للمعاملات، إذ لم يجد العلماء ما يبرر إدخال القانون المدني كما وجدوا المبرر لباقي القوانين، فاستُبعد القانون المدني ووضعت المجلة قانوناً من الأحكام الشرعية مع التوفيق بينها وبين القانون المدني ما أمكن هذا التوفيق، فوضعت أحكاماً شرعية لكن لا على أساس قوة دليلها بل على أساس أن توافق القانون المدني الفرنسي، ثم في سنة 1288هـ الموافق 1870م جُعلت المحاكم قسمين: محاكم شرعية ومحاكم نظامية، ووُضع لها نظام، وفي سنة 1295هـ الموافق 1877م وُضعت لائحة تشكيل المحاكم النظامية، وفي سنة 1296هـ الموافق 1878م وُضع قانون أصول المحاكمات الحقوقة والجزائية.
  #16  
قديم 06-07-2005, 09:37 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]
وهكذا استُبدلت القوانين الغربية بالقانون الإسلامي، أي وُضع التشريع الغربي مكان التشريع الإسلامي. إلاّ أنه حين فعلوا ذلك وكانوا يخشون من الرأي العام الإسلامي، وكان الوصف الذي تقوم عليه الدولة في الموقف الدولي وفي العالم الإسلامي هو الإسلام، وأنها دولة إسلامية، لذلك أُخذت هذه القوانين واستُصدرت الفتاوى بأنها قوانين إسلامية أي وضعت عليها اسم قوانين إسلامية. ولكن هذه العملية لم يُحتج إليها في مصر، وكان يحكمها محمد علي وبنوه كعملاء لفرنسا، لذلك أُدخلت القوانين الغربية بشكل صريح دون لف أو دوران. ففي سنة 1301هـ الموافق 1883م وُضع القانون المدني المصري القديم نُقل نقلاً عن القانون الفرنسي باللغة الفرنسية، ثم تُرجم إلى اللغة العربية ترجمة. وهكذا حلّ التشريع الغربي محل التشريع الإسلامي عملياً في الدولة الإسلامية فلم يظل لها إلاّ اسم الدولة الإسلامية. وسيطرت الأفكار الغربية على جمهرة المفكرين وسائر المتعلمين، كما سيطرت على السياسيين وعلى الوسط السياسي كله، وصار لها وجود في باقي الأوساط. ولذلك كان زوال الدولة الإسلامية أمراً مقرراً ولم تبق المسألة إلاّ مسألة وقت ليس غير، لأن الأمّة الإسلامية تخلت عن نظام الإسلام عملياً في القضاء والحكم، وزُعزعت ثقتها بصلاحيته للعصر الحديث، ولأن الذين يتولون تطبيق نظام الإسلام صاروا يرون ضرورة تركه وأخذ النظام الرأسمالي. ولم تبق المسألة عندهم إلاّ مسألة أسلوب الأخذ، ولهذا لم يكن سقوط الدولة الإسلامية وزوال الخلافة أمراً مفاجئاً، فالأمّة وصل فيها الحال إلى حد أن يقوم الشريف حسين وهو يدّعي أنه ابن بنت رسول الله، وهو يتولى إمارة الحجاز فيُعلن الحرب على الخليفة من مكة المكرمة، من جوار بيت الله الحرام، بجانب الكفار الانجليز الذين يُعتبرون أعداء الإسلام، ثم لا يجد في الأمّة من يستفظع هذا الأمر.

لا شك أن ذلك لن يحصل والإسلام هو الذي يتحكم في أفكار الأمّة ومشاعرها، ووصل الحال إلى أن ضابطاً من ضباط الجيش العثماني الجيش الإسلامي هو مصطفى كمال يخرج على الخليفة وينشئ حكومة غير حكومته في أنقرة، ثم يحاربه ثم يخلعه ثم يزيل الخلافة من الوجود، ولا يجد الجرأة في الأمّة أن تقف في وجهه ولا أن تنصر خليفة المسلمين عليه، بل تقف بجانبه ولا يعارضه إلاّ القليل ويُقتل واحد فقط من معارضيه، فسقطت الخلافة ومُحيت من الوجود. هل يمكن أن يحصل ذلك والإسلام هو الذي يتحكم في أفكار الأمّة ومشاعرها؟

وكان من الطبيعي أن يُحدِث إلغاء الخلافة الإسلامية من الوجود، والمحافظة عليها كالمحافظة على العقيدة الإسلامية سواء بسواء، هزة عنيفة، فكان المنتظر طبيعياً أن يهتز العالم الإسلامي كله لإلغائها وأن تحصل رجة عنيفة في كل مكان من أجلها، ولكن الواقع أنه لم يحصل شيء من ذلك، وما جاوز التأثر سوى أفراد في البلاد التركية لم يصلوا إلى درجة جمهور، وأفراد قلائل يُعدّون على الأصابع في البلاد العربية لا قيمة لهم ولا وزن، بل على العكس وقفت البلاد العربية تؤيد الخائن الأكبر الشريف حسين وأولاده الخونة فيصل وعبدالله الذين شهروا السيف ضد خليفة المسلمين، وحاربوا في صفوف الكفار الانجليز الجيش الإسلامي، وكانوا يشتركون مع الكفار في قتال المسلمين وقتلهم. هؤلاء وقفت البلاد العربية تؤيدهم ولم يظهر عليها أي تأثر على الخلافة، وظهر في مصر تأثر على أفراد ظهر في قصائد بعض الشعراء، وفي محاولة عقد مؤتمر للخلافة في السنة التي أُلغيت فيها سنة 1924 وكان شعب الهند أكثر أبناء الأمّة الإسلامية تأثراً على زوال الخلافة الإسلامية. وقد كان شوقي رحمه الله من أكثر الشعراء تأثراً على الخلافة، وبرز تأثره في قصيدته التي قالها في رثاء الخلافة والتي قال فيها:

عادت أغاني العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الأفراح

كفنت في ليل الزفاف بثوبه ودفنت عند تبلج الأصباح

شيعت من هلع بعبرة ضاحك في كل ناحية وسكرة صاح

ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح

الهند والهة ومصر حزينة تبكي عليك بمدمع سحاح

والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح؟

وأتت لك الجمع الجلائل مأتماً فقعدن فيه مقاعد الأنواح

يا للرجال لحرة موؤدة قتلت بغير جريرة وجناح

ثم ينتقل بعد ذلك إلى بيان أن الذين داوت حربهم لأعداء المسلمين جراح الخلافة التي أصيبت بها، هؤلاء قد كان صلحهم مع الحلفاء قتلاً للخلافة وإلغاءً لها وأنهم قد هتكوا بأيديهم أعظم فخر لهم ومزقوه، وأنهم نزعوا خير ما يُتحلى وخلعوا أفخر ما يُلبس، وبين عشية وضحاها بأسرع مما يتصور العقل أطاحوا بمجد الدهر الذي عمروه في قرون فيقول:

إن الذين أست جراحك حربهم قتلتك سلمهمو بغير جراح

هتكوا بأيديهم ملاءة فخرهم موشية بمواهب الفتاح

نزعوا عن الأعناق خير قلادة ونضوا عن الأعطاف خير وشاح

حسب أتى طول الليالي دونه قد طاح بين عشية وصباح

ثم يتحدث عن رابطة الخلافة كيف أنها فُصمت عُراها وقد كانت أكبر علاقة تصل الأخ بأخيه وتجمع الأرواح إلى بعضها، وأنها كانت تنظم المسلمين بنظام واحد وصفّ واحد في جميع الأحوال، وبيّن أن هذا العمل إنّما فعله شرير سيئ الخلق قليل الحياء فيقول:

وعلاقة فُصمت عُرى أسبابها كانت أبر علائق الأرواح

جمعت على البر الحضور وربما جمعت عليه سرائر النزاح

نظمت صفوف المسلمين وخطوهم في كل غدوة جمعة ورواح

بكت الصلاة وتلك فتنة عابث بالشرع عربيد القضاء وقاح

ثم يعلن أن ما قعل هذا الشرير الوقح إن هو إلاّ كفر براح أي كفر واضح يُرتكب جهاراً، وهو يشير هنا إلى الحديث الشريف في شأن طاعة الخلفاء الظالمين (قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، إلاّ أن تروا كفراً بواحاً)، فالشاعر يقول إن ما فعله هذا العربيد من إلغاء الخلافة كفر براح أي ينابَذ عليه بالسيف، فيقول:

أفتى خزعبلة وقال ضلالة وأتى بكفر في البلاح براح

ثم ينحي باللائمة على الأتراك لسكوتهم عنه فيقول: هؤلاء الذين ألغيت الخلافة فيهم ولم يفهموا معنى إلغائها إنّما خُلقوا للحرب، فلا يتكلمون إلاّ بالحرب ولا يسمعون إلاّ بلغة الحرب. ويقصد من ذلك الطعن بفهمهم لمعنى هذا الأمر الفظيع الذي أوجدوه فيهم، فيقول:

إن الذين جرى عليهم فقهه خلقوا لفقه كتيبة وسلاح

إن حدثوا نطقوا بخرس كتائب أو خوطبوا سمعوا بصم رماح

ثم يعتذر عن مهاجمته لمصطفى كمال وقد كان يمدحه بأنه إنّما يسير مع الحق حيث كان، والحق أولى من الرجال حرمة وأحق منهم بالنصر، والرجل مهما عظمت شخصيته فإنه يُهزم إذا ما هوجم بالحق، فيقول:

أستغفر الأخلاق لست بجاحد من كنت أدفع دونه وألاحي

مالي أطوقه الملام وطالما قلدته المأثور من أمداحي

هو ركن مملكة وحائط دولة وقريع شهباء وكبش نطاح

أأقول من أحيا الجماعة ملحد وأقول من رد الحقوق اباحي؟

الحق أولى من وليك حرمة وأحق منك بنصرة وكفاح

فامدح على الحق الرجال ولمهمو أو خل عنك مواقف النصاح

ومن الرجال إذا انبريتَ لهدمهم هرم غليظ مناكب الصفاح

فإذا قذفت الحق في أجلاده ترك الصراع مضعضع الألواح

ثم يطلب أداء النصيحة لمصطفى كمال لعله يرجع عن غيّه، فقد أزال الإسلام عقيدة وشريعة من الدولة ومن شؤون الحياة ووضع مكانه نظام الكفر النظام الرأسمالي والشريعة الغربية وعقيدة الكفر عقيدة فصل الدين عن الدولة، فيقول:

أدوا إلى الغازي النصيحة ينتصح إن الجواد يثوب بعد جماح

إن الغرور سقى الرئيس براحه كيف احتيالك في صريع الراح

نقل الشرائع والعقائد والقرى والناس نقل كتائب في الساح

ثم يهاجم الأتراك لأنهم تركوا مصطفى كمال يفعل ما يشاء، فقد رفعوه إلى مصاف الآلهة في التعظيم وأطلقوا يده فيهم حتى تناول كل ما حرم الله، واغترّ بطاعة الجماهير له، وأن ذلك قد كان لأن الأمّة لم تكن في ذلك الوقت واعية، والأمّة غير الواعية لا تدرك قيمة المجد ولا تستميت بالمحافظة عليه ولا تعطي منه إلاّ السراب اللماع، فيقول:

تركته كالشبح المؤلّه أمة لم تسل بعد عبادة الأشباح

هم أطلقوا يده كقيصر فيهمو حتى تناول كل غير مباح

غرته طاعات الجموع ودولة وجد السواد لها هوى المرتاح

وإذا أخذت المجد من أمية لم تعط غير سرابه اللماح
  #17  
قديم 06-07-2005, 09:38 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

ثم يختم القصيدة في تحذير المسلمين من عاقبة إلغاء الخلافة وينهى عن إعطائها للشريف حسين الذي خان الأمّة الإسلامية وحارب الجيش الإسلامي إلى جانب الانجليز الكفار، ويعطي نبوءة فيما سيحصل من جراء إلغاء الخلافة بأنه سيكثر دعاة الكفر والضلال لتحويل المسلمين عن دينهم وسيشهد المسلمون في كل بقعة من بقاع البلاد الإسلامية فتنة للمسلمين عن إسلامهم وتحويلاً عن الحق إلى الباطل وعن الهدى إلى الضلال وسيكون الدليل لكل شخص المال والإرهاب أي الوعد والوعيد. فيذكر أولاً نصرته للخلافة في كل أيامه ثم يخلص للنبوءة فيقول:

مَن قائلٍ للمسلمين مقالة لم يوحها غير النصيحة واح

عهد الخلافة في أول ذائد عن حوضها بيراعه نضاح

حب لذات الله كان ولم يزل وهوى لذات الحق والإصلاح

إني أنا المصباح لست بضائع حتى أكون فراشة المصباح

غزوات (أدهم) كللت بذوابلي وفتوح أنور فصلت بصفاحي

ولت سيوفهما وبان قناهما وشبا يراعي غير ذات يراح

لا تبذلوا بُرد النبي لعاجز عزل يدافع دونه بالراح

بالأمس أوهى المسلمين جراحة واليوم مد لهم يد الجراح

فلتسمعن بكل أرض داعياً يدعو إلى الكذاب أو لسجاح

ولتشهدن بكل أرض فتنة فيما يباع الدين بيع سماح

يفتى على ذهب المعز وسيفه وهوى النفوس وحقدها الملحاح

أي أن المعز لدين الله الفاطمي حين دخل القاهرة مد الذهب والسيف وقال: هذا حسبي وهذا نسبي، فقالوا له: أنت ابن بنت رسول الله. فيقول الشاعر إنه سيُفتى على ذلك أي على المال والخوف.

فهذه الثقة التي تدل على لوعة في القلب على زوال الخلافة كانت عند أفراد قد يُعدون بالمئات وقد يُعدون بالآلاف ولكنهم أفراد ولم يكن عند الأمّة الإسلامية منها شيء. ولذلك ألغيت الخلافة ودُمرت الدولة الإسلامية تدميراً تاماً وأزيل الإسلام من الوجود السياسي ومن المجتمع في الأرض كلها ولم يحرك ذلك الأمّة الإسلامية أدنى حركة، فكان هذا دليلاً على مبلغ ما وصل إليه الخلل في كيانها. ثم باشر الكفار حكم المسلمين بالنظام الرأسمالي في جميع أنحاء الأرض، ثم وضعوا مكانهم حكاماً من المسلمين ولكن أشد منهم عداء للإسلام وأحرص على محوه. وها قد مضى الآن أربعون عاماً أو يزيد والأمّة الإسلامية تحت سلطان الكفر وتحت نفوذ الكفار حتى أشرفت على خطى الفناء، ولم يبق بينها وبين الفناء إلاّ مسألة زمن، إلاّ أن يتداركها الله برحمته، إذ ما بقي لها من الإسلام كلمة. أليس فصل الدين عن الدولة رأياً عاماً يسود جميع أوساطها لا فرق بين الأوساط السياسية وبين الأوساط الشعبية ولا بين أوساط المتعلمين وأوساط المتدينين ولا بين الشباب والشيوخ، فكلهم صار فصل الدين عن الدولة عندهم رأياً عاماً وعرفاً عاماً.

وعقيدة فصل الدين عن الدولة عقيدة كفر وكل من يعتقدها مرتدّ عن الإسلام، إذ الكفر بقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) كالكفر بقوله تعالى: (أقيموا الصلاة)، والكفر بقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) كالكفر بقوله تعالى: (وآتوا الزكاة). وعقيدة فصل الدين عن الدولة هي كفر بآيات الحكم والسلطان، وآيات العقوبات والمعاملات، وإيمان بآيات العقائد والعبادات ليس غير، والله تعالى يقول: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشد العذاب)، ويقول: (إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً).

والأمّة الإسلامية فوق كونها تفصل الدين عن الدولة عملياً فإن هذا الفصل صار رأياً عاماً عندها، أي صار ما يراه جماعة المسلمين في كل مكان كجماعة وكرأي عام، وإن كان أكثر الأفراد لا يعتقدونه ولكنهم يرونه مع ما يراه الناس. ثم أليست الرابطة بين شعوبها صارت رابطة صداقة أو رابطة جوار أو رابطة مصلحة، وانعدمت فيها رابطة الأخوة الإسلامية، وصار الرأي العام لا ينطق برابطة الأخوة الإسلامية بين إيران والعراق ولا بين سوريا وتركيا ولا بين الأفغان والهند، وإنّما ينطق برابطة الصداقة والجوار والمصلحة المشتركة، ولم يبق ينطق برابطة الأخوة الإسلامية إلاّ الأفراد، مع أن الرابطة الوحيدة التي تربط المسلمين مع بعضهم إنّما هي رابطة الإسلام ليس غير، فإن الله تعالى يقول: (إنما المؤمنون إخوة)، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (المسلمون أخو المسلم). ولم يقف الحال عند رابطة الشعوب بل صارت رابطة الشعب الواحد هي الوطنية أو القومية، ولم يعد الرأي العام يرى رابطة الإسلام تربط بين أفراد أي قطر من الأقطار التي تشكل دولاً في هذا العالم الإسلامي. ثم أليس قد استساغ المسلمون أن يكون التركي في سوريا أجنبياً، والإيراني في لبنان أجنبياً، والهندي في الحجاز أجنبياً، ورضوا أن يسمى المسلم أجنبياً في بلاد الإسلام؟ ثم أليس المسلمون يهزهم النداء للوطن فتثور مشاعرهم ولا تتحرك لهم عاطفة النداء للخلافة الإسلامية أو إعادة حكم الإسلام؟ ثم أليسوا على قناعة بأن مجابهة النصراني بأنه كافر عمل غير لائق وأنه مواطن من المواطنين، والله يقول: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم)؟ ثم إن مفهوم الجهاد حرب دفاعية لا حرب هجومية، ومفهوم الاحتكام إلى نظام الكفر، ومفهوم الحياد بين الدول، ومفهوم السياسة كذب ودجل، ومفهوم الإسلام ديمقراطية، ومفهوم الاشتراكية في الإسلام، وغير ذلك من المفاهيم التي يعتبرها الإسلام مفاهيم كفر، هي المفاهيم السائدة عند المسلمين. ثم أليس مقياس المسلمين صار المنفعة بدل الحكم الشرعي، وصار مقياس الأحكام الشرعية موافقتها للمصلحة لا الدليل الشرعي، وأصبح العقل مقياس الحُسن والقُبح وليس الشرع، بل يخضع الشرع للعقل، وصار مقياس العداء للدول الغربية كونهم مستعمِرين فقط وليس كونهم كفاراً؟ ثم أليس يستبعد جميع المسلمين رجوع الإسلام وإقامة الدولة الإسلامية، بل يعتبره الكثيرون من المستحيلات؟؟؟
  #18  
قديم 06-07-2005, 09:39 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]إذا كان هذا واقع الأمّة الإسلامية، والأمّة هي التي تجمعها عقيدة واحدة انبثق عنها نظامها، والأمّة قد انفصل نظامها عن عقيدتها عملياً وعند الرأي العام، وصار هذا الفصل هو العرف العام المقبول، فكيف تبقى بعد ذلك أمّة مستكمِلة الربط؟ وإذا كانت الأمّة مجموعة من الناس مع مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات تربطها عقيدة واحدة وقد أصبحت لدى الأمّة أكثر المفاهيم مفاهيم غير إسلامية وأكثر المقاييس مقاييس غير إسلامية وصارت أكثر قناعاتها قناعات غير إسلامية، فكيف يمكن أن يبقى كيان الأمّة وقد تغير فيه ما يجعله كياناً إسلامياً؟ لا شك أن ذلك كله يدل بشكل بارز على أن الأمّة صارت مشرفة على خطر الفناء.

إنه من الخطأ أن يقال إن الأمّة على مفترق طرق، فإن ذلك كان قبل نحو قرن تقريباً يوم بدأت تأخذ أفكار الغرب إلى جانب أفكار الإسلام. ومن الضلال أن يقال إن الأمّة الإسلامية في طريق الفناء، فإن ذلك كان يوم دُمرت الخلافة الإسلامية وغاض حكم الله من المجتمع في جميع أنحاء الأرض. أمّا الآن وقد صار فصل أحكام الإسلام عن الدولة رأياً عاماً ويُحمل له كل الثقة والولاء، وصارت أفكار الإسلام في الأذهان بقايا تراث تاريخي يُحمل له الولاء الروحي وحده من البعض ويُحمل له العداء والاحتقار من البعض الآخر، وصارت المشاعر الإسلامية في النفوس غير موجودة في رعاية الشؤون، ولا في شؤون الحياة الدنيا، فإن هذا يعني أن الأمّة الإسلامية وصلت إلى حافة الهاوية، ولم يبق بينها وبين الفناء سوى أن يعمها الفناء.

أيها المسلمون

هذا هو واقع الأمّة الإسلامية: انعدام الثقة بصلاحية الإسلام لأن يكون نظام حياتها في العصر الحديث. ثم فصْل أفكار الإسلام ووجهة نظره في الحياة عن شؤون الحياة الدنيا، وفصْل التشريع الإسلامي عن الدولة، واعتبار هذا الفصل للأفكار والتشريع ضرورة حياتية يقتضيها وجودنا وتقدمنا بين الناس. فأزمة الأمّة هي أزمة ثقة بنظام الإسلام لا أزمة ثقة بالإسلام. فكان من جراء هذه الأمّة أن فقدت الأمّة الحافز الحاد الذي يدفعها للحياة، فكان فيها هذا الجمود وكان فيها هذا الموت وكان فيها هذه الحال التي جعلتها على حافة الهاوية المشرفة على خطر الفناء.

فالقضية في الأمّة الإسلامية هي انعدام الثقة بما ينبثق عن عقيدة الإسلام من أفكار عن الحياة، ونظم لتنظيم العلاقات، انعداماً وصل إلى حد القناعة التامة، فنجم عنه فقدان الحافز الحاد الذي يدفع كل أمّة في الحياة. هذه هي القضية التي يوضع الاصبع عليها، والتي يجب أن تكون محل البحث أو موضع العلاج.

إنه من الخطأ أن يقال إن القضية هي قضية العقيدة الإسلامية، لأن هذا يعني اتهام المسلمين في إيمانهم وهذا غير صحيح وأمر في منتهى الخطر، فالعقيدة الإسلامية موجودة عند كل مسلم ولكنها فقدت ثلاثة أمور هامة: فقد فقدت علاقتها بأفكار الحياة وأنظمة التشريع فغاضت منها الحيوية، لأن العقيدة العقلية إذا انفصلت أفكارها عنها ماتت وكانت جثة هامدة. وفقدت أيضاً تصورها ما بعد الحياة فلم تعد تواجه في سيرها يوم القيامة وحسابه، ولم يعد يهزها عذاب الله ولم تعد تثيرها جهنم ولا يخوفها الجحيم. كما أنها لم تعد تستهدف الجنة ولا تشتاق لنعيمها ولا يجذبها إليها ما فيها من نعيم مقيم ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولم تعد بالتالي تستهدف رضوان الله غاية الغايات عند المسلمين. وفقدت كذلك ارتباط جماعة المسلمين كجماعة بهذه العقيدة باخوة إسلامية، فصاروا شعوباً ودولاً، وصاروا جمعيات وأسراً، بل صاروا أفراداً أفراداً.

هذه الأمور الثلاثة فقدتها العقيدة الإسلامية من نفوس المسلمين فكانت جثة هامدة. أمّا العقيدة نفسها فلا تزال موجودة عند كل مسلم ولا يزال كل مسلم يقول صباح مساء: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، وإن كان قوله هذا لم يحرك شعرة في بدنه، ولا خلجة من قلبه، ولا شيئاً من مشاعره، ولا يدفعه في الحياة قدر أصبع، ولا يمنع عنه من التأخر والانحطاط شيئاً، وبذلك فإن المسلمين لم يفقدوا العقيدة الإسلامية وإنّما فقدوا الثقة بما ينبثق عن هذه العقيدة الإسلامية.

وإنه من التضليل أن يقال إن القضية قضية اقتصادية، لأن هذا يعني أن الفقر هو سبب انحطاط الأمّة والغِنى هو سبب رِفعتها، وهذا باطل لا شك فيه. فالغِنى لا ينهض بالفرد ولا ينهض بالأمّة، لأن النهضة هي الارتفاع الفكري، والنهضة الصحيحة هي الارتفاع الفكري على الأساس الروحي، فإذا وُجدت الأفكار وُجدت النهضة وإذا عدمت الأفكار كان الانحطاط. فإن الأفكار في أية أمّة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمّة في حياتها إن كانت أمّة ناشئة، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمّة عريقة في الفكر. وإذا دُمرت ثروة الأمّة المادية فسرعان ما يمكن تجديدها ما دامت الأمّة محتفظة بثروتها الفكرية. أمّا إذا تداعت الثروة الفكرية وظلت الأمّة محتفظة بثروتها المادية فسرعان ما تتضاءل هذه الثروة وترتد الأمّة إلى حالة الفقر. على أن واقع الأمّة الإسلامية أنها من أغنى الأمم إن لم تكن أغناها إذا جُمعت ثروتها في دولة واحدة كما يفرض ذلك الإسلام على جميع المسلمين. وفوق ذلك فإن الاقتصاد حتى ينمو وينتقل من الزراعة وحدها إلى الزراعة والصناعة بحيث تكون الصناعة هي رأس الحربة، لا بد له من حافز يحفز الأمّة على السعي للاقتصاد، وهذا الحافز الحاد لا ينبثق إلاّ عن فكر. ومن أعظم الفكر العقيدة العقلية التي تنبثق عنها أفكار الحياة. وعليه فالقضية ليست قضية اقتصادية وإنّما هي قضية فكرية، أي قضية الثقة بما ينبثق عن عقيدتهم من أفكار.

ومن السطحية أن يقال إن القضية قضية تعليم وعلوم، لأن هذا يعني أن العلوم هي الحافز وليس الأفكار، مع أن الواقع أن الأفكار هي الحافز والعلوم إنّما تتأثر بالأفكار ارتفاعاً وانخفاضاً ووجوداً وعدماً. والفرق بين الأفكار والعلوم أن الأفكار هي النظرة إلى الأشياء والأفعال للوصول إلى تعيين الاتجاه بالنسبة لها، أمّا العلوم فهي النظرة إلى الأشياء نفسها لمعرفة كنهها. والذي يسيّر الحياة هو الأفكار وليس العلوم. وأن معظم الحقائق العلمية التي اكتشفتها الأمّة يمكن أن تهتدي إليها مرة أخرى إذا فقدتها دون أن تفقد طريقة تفكيرها. أمّا إذا فقدت طريقة تفكيرها أي فقدت فكرها فإنها سرعان ما ترتد إلى الوراء وتفقد ما لديها من مكتشفات ومخترعات.

على أن الأمّة الإسلامية فيها من المتعلمين والمثقفين عدد ضخم يعد بمئات الألوف، ومع ذلك لا تزال متأخرة في الاكتشافات والاختراعات لأنه لا يوجد فكر يسيّر هذه المعارف والعلوم نحو غاية معينة فيدفعها إلى الإمام لخدمة تلك الغاية السامية. وفوق ذلك فإن العلماء والمخترعين يملؤون الأرض وهم أُجراء ويمكن إحضارهم من أية أمّة من الأمم أُجراء، ولكن إحضارهم وإحضار أمثالهم لا يعالج المشكلة إذا لم يوجد فكر، فالمسألة مسألة فكر.

ومن غير الدقة أن يقال إن القضية قضية تشريع وقوانين، لأن هذا يعني أن القوانين هي أساس الحياة وأساس الدولة وهذا غير صحيح. فإن القوانين والأحكام إن هي إلاّ معالَجات للمشاكل اليومية التي تحدث مع البشر منبثقة عن وجهة النظر في الحياة. فالأصل هو وجهة النظر التي انبثقت عنها القوانين وليست القوانين، ألا ترون أن الكفار من رعايا الدولة الإسلامية كانت تطبَّق عليهم نفس الأحكام التي كانت تطبَّق على المسلمين ولم يكن هنالك فرق بينهم وبين المسلمين في تطبيق الأحكام، فالمسلمون والكفار أمام القاضي وأمام الحاكم سواء، ومع ذلك فقد كان المسلمون في الدولة الإسلامية هم أصحاب الرسالة وهم حملة الدعوة، وتتمثل فيهم النهضة. والكفار كانوا تحت ظل الإسلام يُعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. ثم ألا ترون الآن أن المسلمين في أكثر بقاع الأرض يطبَّق عليهم التشريع الغربي والقوانين الغربية ولكن لأنهم لا يزالون يعتنقون العقيدة الإسلامية فلم تنبثق القوانين من عقيدتهم وإن انبثقت عما أصبح رأياً عاماً عندهم، ومع ذلك فهم لم يلحقوا بالغرب بالنهضة، ولم يحصل عندهم ارتفاع فكري، ولا يزالون منحطين متخلفين عن الغرب قروناً وأجيالاً، مع أنه مضى عليهم يطبقون القوانين الغربية قرابة أربعين عاماً، مما يدل على أن القضية ليست قضية تشريع وقوانين وإنّما هي ما تنبثق عنه هذه القوانين من وجهة نظر، أي هي قضية جعل العقيدة تنبثق عنها القوانين الموثوق بصلاحها، أو جعل القوانين منبثقة عن عقيدة. فالقضية إذن قضية الثقة بالقوانين من حيث انبثاقها عن العقيدة، أي قضية وجهة النظر في الحياة، وما يسمونها في العصر الحديث "بالايديولوجية".

وعلى هذا فالقضية هي الأمّة الإسلامية بوصفها أمّة وبوصف هذه الأمّة أمة إسلامية. وقضية الأمّة الإسلامية هذه ليس إيجاد العقيدة الإسلامية عندها، ولا هي تقوية اقتصادها، ولا إيجاد التعليم والثقافة فيها، ولا هي إصلاح تشريعها وإيجاد دستور وقوانين لها، وإنّما القضية هي ربط عقيدتها بدستورها وقوانينها، أي جعل التصديق الجازم المطابق للواقع الموجود عند الأمّة في عقيدتها منصباً على الأفكار والأحكام الشرعية المستنبَطة من الكتاب والسنّة ومما دل الكتاب والسنّة على أنه دليل شرعي. وبعبارة أخرى هي إيجاد الثقة بالأفكار والنظم المنبثقة عن العقيدة الإسلامية. هذه هي القضية بالدقة والتحديد.
  #19  
قديم 06-07-2005, 09:40 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

أمّا كيف تعالَج هذه القضية، فإن علاجها محصور بالرجوع إلى النقطة التي بدأ منها الخطأ لإصلاح هذا الخطأ، وليس هناك شيء غير هذا مطلقاً. فالمسلمون لا يزالون مسلمين رغم كل ما هم عليه، فلا تزال عقيدتهم عقيدة إسلامية، والإسلام لا يزال في أصوله الكتاب والسنّة كما كان في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والأحكام الشرعية المستنبَطة لا تزال كما كانت في العصر الذي استُنبطت فيه، أي في العصر الأموي والعصر العباسي، وكيفية الاستنباط لا تزال كما كانت يوم وُضع علم أصول الفقه. فليس هناك نقص في اعتقاد المسلمين بالإسلام، ولا هناك تغيّر في الإسلام، وإنّما هنالك فقط زعزعة في الثقة بالأفكار والأحكام المنبثقة عن العقيدة الإسلامية ترتب عليها إيجاد خلل في كيان الأمّة، وإيجاد خلل في كيان الدولة، أدى إلى تدمير الدولة، وسار في الأمّة في طريق الفناء حتى جعلها على حافة الهاوية تشرف على خطر الفناء. فالعلاج إنّما يكون بالرجوع إلى النقطة التي بدأ منها الخطأ، أي إلى علاج الزعزعة التي حصلت في الثقة بالأفكار والأحكام المنبثقة عن العقيدة الإسلامية، فإن هذه الزعزعة هي التي دمرت الدولة، وتوشك أن تفني الأمّة. والغاية من العلاج هي إنهاض الأمّة، وإعادة الدولة، لاستئناف الحياة الإسلامية وحمل الدولة الإسلامية إلى العالم.

هذا هو الموضوع، وهذا هو بيت القصيد. يقولون إن الثقة ناجمة عن القناعة بصحة الشيء وصدقه، والقناعة آتية من المشاعر فهي تأتي للإنسان من غير براهين وتذهب دون براهين، فالثقة ليست شيئاً ممكن الحصول بالحجة والمنطق، بل بإيجاد القناعة، وهي تأتي اعتباطاً وتذهب اعتباطاً. وهذا الكلام باطل غير مطابق للواقع. فالثقة صحيح أنها ناجمة عن القناعة بصحة الشيء وصدقه أي بمطابقته للواقع أو للفطرة، ولكنها تحصل بناء على برهان يثبت صحة الشيء وصدقه، وهذا البرهان إما أن يكون عقلياً مرتبطاً بالمشاعر، أي يقوم الدليل العقلي على صحته وصدقه ويشعر الشخص شعوراً صادقاً بصحته وصدقه، وإما أن يشعر الشخص بصحته وصدقه فقط من غير أن يقوم دليل عقلي عليه، ومن تكرار ذلك تصل القناعة وتتولد منها الثقة. فالثقة لا تأتي اعتباطاً ولا تذهب اعتباطاً، وإنّما تأتي من تكرار ثبوت مطابقة الشيء للواقع أو الفطرة عقلياً أو شعورياً، أي من تكرار ثبوت صحة الشيء وصدقه، وتذهب من تكرار ثبوت عدم صحته وصدقه. هذا هو الذي يوجِد القناعة وهذا هو الذي يزعزعها ويُذهبها. يعني أنه حتى توجد الثقة لا بد أن تنتقل صحة الشيء وصدقه من دور إقامة البرهان إلى دور البداهة، وذلك بتكرار ثبوت صحته وصدقه بالبرهان عقلياً وشعورياً. وكما يصعب إيجاد الثقة لا سيما في جو التشكيك يصعب زعزعة الثقة ولا سيما في جو الإيمان. ولذلك كما صعب على الكفار الغربيين زعزعة الثقة بصلاحية أحكام الشريعة الإسلامية لمعالجة مشاكل العصر وقد كان الجو جو إيمان، كذلك ليس من السهل على العاملين للإسلام أن يعيدوا هذه الثقة بصلاحية الإسلام، أي أن يركزوا وجهة النظر الإسلامية في الحياة أو طريقة الإسلام الخاصة في الحياة وما يسمونه الايديولوجية ولا سيما والجو جو تشكيك.

ولمّا كان وضع الثقة في نفوس المسلمين وسائر الناس لا يتأتى إلاّ بإقامة البرهان العقلي والشعوري على صحة الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية وصدقها، كان لا بد أن تكون الخطوة الأولى في إعادة الثقة بالإسلام من أجل إنهاض الأمّة وإقامة الدولة أن تنطق الوقائع الملموسة والحوادث الجارية بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها حتى يوجد البرهان العقلي والشعوري الذي يوجِد القناعة بهذه الصحة وهذا الصدق لتحصل بناء على ذلك الثقة بها.

أمّا كيف تُجعل الوقائع تنطق بذلك، فإنه يكون بحمل الدعوة الإسلامية بالطريق السياسي، أي بالعمل لإقامة الدولة الإسلامية عن طريق الأفكار الإسلامية التي لها واقع يجري التعامل بين الناس به، سواء أكانت أفكاراً تتعلق بشؤون الحياة أو تتعلق بتنظيم العلاقات، أي بالعمل السياسي لإقامة الخلافة الإسلامية عن طريق بث الأفكار الإسلامية والكفاح في سبيلها.

وذلك أن الناس يُحكمون من قِبل سلطة قائمة يتولاها حكام منهم أو من غيرهم، وهؤلاء الحكام إنّما يرعون شؤون رعاياهم بأفكار وقوانين معينة. فهذه الرعاية تكون لوقائع معينة بأفكار معينة، أي تكون لمشاكل معينة بمعالجات معينة. فهذه الوقائع ملموسة محسوسة ومعالجاتها ملموسة مدرَكة ونتائجها من حيث توفير المصلحة والمحافظة عليها مدرَكة. فما على الذين يعملون لإقامة الدولة الإسلامية على أنقاض هذا الحكم إلاّ أن يلفتوا نظر الناس إلى فساد هذه المعالَجات، أي إلى بطلان الأفكار والأحكام التي عولجت بها هذه الوقائع وأن يبينوا أن العلاج الصحيح لها إنّما هو فكر كذا أو حكم كذا، وأن هذا هو فكر الإسلام أو حكم الإسلام، فيُنزّل الفكر الإسلامي أو الحكم الإسلامي على الواقعة الجارية، فيدرَك حينئذ واقع الحكم ويُلمس مدلوله، فيحرك العقل ويثير المشاعر.

أمّا كيف يبيَّن بطلان الأفكار والأحكام التي عالج بها الحكام هذه الوقائع، فإنه لا يصح أن يكون من حيث تحقق المصلحة أو عدم تحققها، بل يجب أن يكون البيان من حيث كونها أفكار كفر أو أحكام كفر، فلا يصح أن يكون بيان بطلانها ببيان أنها لا تحقق المصلحة أو ببيان ما ينجم عنها من ضرر، ولا ببيان أنها لا تحافظ على المصلحة أو بيان أنها تضيع المصلحة، بل يجب أن يكون بيان بطلانها من حيث أنها أحكام غير إسلامية، وأنها أحكام كفر، وأن التحاكم إليها تحاكُم إلى الطاغوت. فبطلانها الذي يجب أن يبيَّن هو كونها أفكار كفر وأحكام كفر، لأن المسألة هي من حيث الكفر والإسلام لا من حيث المصلحة وعدمها. وكذلك حين يبين أن العلاج الصحيح لها هو فكر كذا أو حكم كذا وهو فكر الإسلام وحكم الإسلام لا يصح أن يبيَّن صلاحه وتُشرح صحته من حيث كونه يحقق المصلحة أو يزيل الضرر، بل يجب أن تبيَّن صحته ويُشرح صلاحه من حيث كونه حكماً شرعياً بالإتيان بدليله الشرعي من الكتاب أو السنّة أو من قاعدة مستنبَطة من الكتاب أو السنّة أو من كونه فرعاً أو مسألة من فروع ومسائل حكم شرعي مشهور الدليل.

هذه هي الكيفية التي يتبين فيها بطلان المعالَجات المعينة التي يعالج بها الحكام مشاكل معينة، والكيفية التي يبين فيها صحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها، أي يجب أن تُربط معالجات الواقع الجارية بالعقيدة الإسلامية مباشرة، فتُجعل العقيدة الإسلامية وحدها الأساس الذي تجري عليه النظرة إلى هذه الأفكار والأحكام، فيُنظر إليها نظرة إسلام وكفر ليس غير. على أن الأحكام التي في الدنيا هي إما أحكام إسلام وإما أحكام كفر ولا ثالث لهما، وحتى العالم كله إما دار إسلام وإما دار كفر ولا ثالث لهما، فيجب أن يكون نقد الأفكار والأحكام على هذا الأساس وحده، أي إسلام أو كفر ولا شيء غير ذلك مطلقاً. فيجب أن يقال عن الفكر أو الحكم هذا كفر إن كان كفراً أو هذا حرام إن كان حراماً، وأن يبيَّن الدليل الشرعي على أنه كفر والدليل الشرعي على أنه حرام. ويجب أن يبرز للناس أن آخِذ الفكر أو الحكم غير الإسلامي يخرج عن الإسلام فيكفر ويرتد إن كان الفكر أو الحكم داخلاً تحت أوامر الله المتعلقة بالإيمان كفكر فصل الدين عن الدولة، وكالتبرع لبناء كنيسة، ويرتكب معصية يعذب عليها في جهنم إن كان الفكر أو الحكم من أوامر الله المتعلقة بالأعمال ولم يكن متعلقاً بالإيمان كفكر القومية وكفتح الاعتماد في البنك. أي يجب أن يُجعل أساس الأفكار والأحكام العقيدة الإسلامية وأن يكون مقياسها الإسلام والكفر والحلال والحرام، فيُحكم ببطلانها أو بصحتها على هذا الأساس وبموجب هذا المقياس.

فالنظر حين يُلفت إلى فساد المعالَجات الجارية إنّما يُلفت لبيان فساد المجتمع الحالي، أي فساد العلاقات القائمة بين الناس. وفسادها ليس آتياً من حيث كونها تجلب منفعة أو تدفع ضرراً أو العكس، وإنّما آت من فساد وجهة النظر في الحياة التي تتحكم في هذه العلاقات وتنبثق عنها هذه المعالَجات، ولذلك يجب أن تُربط بأصلها ويبيَّن بطلانها من حيث بطلان أصلها لا من حيث المنفعة والضرر، فكان من المحتم أن تُربط المعالَجات بالعقيدة المنبثقة عنها، وأن تُضرب هذه المعالَجات باعتبارها منبثقة عن عقيدة فاسدة، أي باعتبارها أفكار كفر وأحكام كفر، بغض النظر عن وجود المصلحة أو عدم وجودها. ولهذا كان لزاماً أن يكون ضرب العلاقات القائمة بين الناس باعتبارها علاقات قائمة على أفكار كفر أو أحكام كفر، وأن يركز ضربها على هذا الأساس، لأن الغاية من ضربها إنّما هي تغيير المجتمع الحالي باعتباره مجتمعاً غير إسلامي، وإزالة الأفكار والأحكام الحاضرة باعتبارها أفكار كفر وأحكام كفر لإقامة المجتمع الإسلامي وإيجاد أفكار الإسلام وأحكامه في العلاقات القائمة بين الناس. أي أن الغاية هي جعل وجهة النظر الإسلامية في الحياة هي السائدة، وجعل طريقة الإسلام في الحياة هي طريقة الناس في العيش سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، وهذا لن يتأتى ببيان المنافع والمضار، ولن يتأتى إلاّ بجعل العقيدة الإسلامية وحدها الأساس للحياة وجعل الحلال والحرام المقياس الوحيد للأعمال.

فالقضية هي إعادة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه باعتبارها أفكاراً إسلامية وأحكاماً إسلامية مستنبَطة من الكتاب والسنّة أو ما يرشد إليه الكتاب والسنّة من أدلة، وليست القضية إعادة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه باعتبارها نافعة أو ضارة. والعمل المباشر هو ضرب علاقات قائمة قد أتى بطلانها وفسادها من وجهة النظر التي انبثقت عنها، فكان حتمياً أن يكون هذا الضرب للعلاقات القائمة أي للأفكار والأحكام التي بها يرعى الحكام شؤون الناس ويعالِجون مشاكلهم ضرباً لأفكار كفر وأحكام كفر بوصفها كفراً، بأفكار إسلامية وأحكام إسلامية بوصفها إسلامية ليس غير. وهنا يحصل الصراع العنيف حول هذه الأفكار والأحكام، ويكون صراعاً عقائدياً تصطدم فيه العقول والمشاعر مع بعضها اصطداماً فكرياً ومشاعرياً يقدح الشرر منه فيلمع ضوء الحقائق ويشرق نورها فيتجلى فساد الأفكار والأحكام الجارية بظهور فساد وجهة النظر المنبثقة عنها، ويلمس المسلم ارتباطها بعقائد الكفر وانبثاقها عن نظر الكفر، كما يلمس الكافر والمنافق من الصراع الفكري والنقاش العميق بطلان وجهة نظر الكفر هذه وصحة وجهة نظر الإسلام. وحينئذ يلمس الناس فساد النظام القائم وصلاح حكم الإسلام، وبذلك تنطق الوقائع الملموسة والحوادث الجارية بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها، فإذا تكرر ذلك أي تكرر ثبوت صحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وُجدت القناعة بها وتولدت عن هذه القناعة الثقة بها وحدها دون سائر الأفكار والأحكام الموجودة في العالم. فإذا عمّت هذه القناعة الناس وتركزت الثقة في نفوسهم ووُجد رأي عام منبثق عن وعي عام فإنه ولا شك تكون قد دبّت النهضة في الأمّة وأقامت الدولة مهما وقف في سبيلها من عقبات، لأن الأفكار الدينامية تنسف أكبر قوة سياسية وتدمر كل فكر باطل وكل حكم فاسد.
  #20  
قديم 06-07-2005, 09:43 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]

هذه هي الطريقة التي تجعل الوقائع والحوادث تنطق بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها، وهي الاشتغال بالسياسة على أساس الإسلام، أي ببث أفكار الإسلام وأحكامه على الأساس السياسي، وبعبارة أخرى حمل الدعوة الإسلامية في الطريق السياسي. ومن هنا ندرك السر في الحملة التي قام بها الكفار بواسطة المأجورين من المسلمين لإبعاد المسلمين عن السياسة وتنفيرهم منها وجعلها تتنافض مع سمو الإسلام وروحانيته. وندرك السر في محاربة الدول الكافرة والحكام العملاء للكفار للحركات الإسلامية السياسية، لأنها تدرك أن هذه الحركات السياسية الإسلامية هي وحدها التي تُنهض الأمّة وتقيم الدولة وتضرب الكفر وتُرجع مجد الإسلام. ومن أجل ذلك تحاربها وتنفّر المسلمين من السياسة. وإنه لن تعود ثقة الأمّة بالإسلام، ولن تنهض الأمّة الإسلامية، ولن تقام الخلافة الإسلامية وترجع الدولة الإسلامية إلاّ بالاشتغال بالسياسة على أساس الإسلام.

وعلى هذا فقضية إنقاذ الأمّة الإسلامية من الفناء هي إعادة ثقتها بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها عن طريق جعل الوقائع والحوادث تنطق بهذه الصحة وهذا الصدق لتحصل القناعة التامة بذلك، أي عن طريق حمل الدعوة الاسلامية في طريقها السياسي، أي بالعمل لإيجاد الخلافة الإسلامية عن طريق بث الفكار الإسلامية والكفاح في سبيلها. وهذه الطريقة هي التي أوجد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمّة الإسلامية والدولة الإسلامية. فهي فوق كونها واقعاً ملموساً يحمل المرء على أن يسكله ولا يسلك سواه، هي حكم شرعي يجب التقيد به ويجب أن يُحصر السير بحسبه، ولا يصح أن يُسلك سواه. ومن هنا كانت هذه الطريقة وحدها هي التي يجب أن يسلكها المسلمون. فالعمل الوحيد الذي يجب على المسلمين اليوم أن يقوموا به قبل أن يقوموا بأي عمل آخر هو إقامة الدولة الإسلامية، أي إعادة الخلافة الإسلامية. وطريق ذلك ثورة فكرية سياسية تدمر الأفكار الباطلة وتحطم الحكم الفاسد.

وهنا يقع السؤال: ماذا تنفع أفكار الإسلام في العالم الإسلامي والكفر قد عمّ جميع أرجائه، فالعلاقات بين الأفراد تعالَج بقوانين الكفر، والعلاقات بين الدول القائمة فيه وبين رعاياها تقوم على أساس أحكام الكفر، والمسلمون أنفسهم تتحكم في عقولهم ونفوسهم أفكار الكفر، فماذا تستطيع أفكار الإسلام أن تفعل والكفر مُطبِق من جميع النواحي ولم يبق الإسلام إلاّ في المساجد والمصاحف وعند الأقلية من المسلمين؟

والجواب على ذلك أن أي مجتمع في الدنيا يعيش الناس فيه داخل جدارين سميكين يمنعان الأفكار والمشاعر الغريبة عنه من أن تتسرب إليه، أحدهما الجدار الخارجي وهو جدار العقيدة الأساسية أي الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبلها وما بعدها وعلاقتها بما قبلها وما بعدها. والجدار الثاني هو جدار الأنظمة التي تعالج علاقات الناس وطريقتهم في العيش. فإذا أريد قلب هذا المجتمع من قِبل أهله أنفسهم وتغييره تغييراً جذرياً فلا بد من مهاجمة الجدار الخارجي أولاً وبالذات بالعقيدة الجديدة، وربط الهجوم على الجدار الخارجي بهجوم على الجدار الداخلي. إلاّ أنه لا بد أن يكون هذا الهجوم مبنياً على الأفكار التي يهاجَم بها الجدار الخارجي. فهذا الهجوم يوجِد صراعاً فكرياً بين الأفكار القديمة والأفكار الجديدة ويحصل فيه الكفاح السياسي حتى يتحطم الجدار الخارجي، وبتحطيمه يتحطم الجدار الداخلي ويحصل الانقلاب الفكري والشعوري، فيكون الانقلاب السياسي، أي يتغير المجتمع كله، أي يتغير الحكم والنظام وسائر العلاقات. وهذا ما حاوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجتمع مكة وما فعله في مجتمع المدينة. وهذا يحتاج إلى قوى غير عادية فكرية وجسمية حتى نستطيع نسف مثل هذا المجتمع.

أمّا المجتمع الآن في البلاد الإسلامية فإنه ليس فيه إلاّ جدار واحد هو الجدار الداخلي، وهذا لا يحتاج تغييره إلى إزالة الجدار كله بالهجوم الفكري، بل يكفي فتح ثغرة فيه للدخول داخله لتسلم الحكم فيُنسف حينئذ من الداخل مرة واحدة نسفاً انقلابياً ما دام الجدار الخارجي غير موجود، لأن الصعوبة هي في إزالة الجدار الخارجي، ولا يمكن الدخول في المجتمع إلاّ بنسفه كله قبل الدخول. ولكن ما دام الجدار الخارجي غير موجود فإن العمل أسهل بكثير مما لو كان موجوداً.

ولهذا فالمسألة لا تحتاج إلاّ إلى مهاجمة الأفكار والأحكام التي يقوم بها الجدار الداخلي وبيان الأفكار والأحكام الإسلامية التي هي عقيدة الأمّة لتعود الثقة بها، وحينئذ سهلٌ أن تُفتح الثغرة ويُنسف المجتمع. ولهذا فالعمل ليس بث الأفكار الإسلامية في مجتمع كافر، بل بث الأفكار الإسلامية لمسلمين في مجتمع غير إسلامي، أو بعبارة أخرى ليست المسألة دعوة كفار لاعتناق الإسلام وإنّما هي دعوة مسلمين للعمل للإسلام وبالإسلام عن طريق بث أفكار الإسلام والكفاح في سبيلها، وهي وإن كانت صعبة وشاقة ولكنها وحدها المنتِجة وهي أسهل بكثير من العمل في مجتمع كفار.

إلاّ أنه يجب أن يُعلم أن أعداءنا الكفار لن يتركوننا نعمل لإنهاض الأمّة الإسلامية وإقامة الخلافة الإسلامية، أي لن يمكنونا من إعادة الثقة بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها بل لا بد أن يَحُولوا بيننا وبين القيام بهذا العمل بشتى الطرق ومختلف الأساليب. فإنهم ما زعزعوا ثقة الأمّة الإسلامية بأفكار دينها وأحكامه إلاّ من أجل تدمير دولتها وإفنائها هي إفناءً تاماً. وقد انتصروا في ذلك الانتصار الساحق، فدمروا الدولة الإسلامية وساروا بالأمّة الإسلامية في طريق الفناء حتى أشرفت على هذا الفناء بين عشية وضحاها. فهل يسمحون لها بأن تعود أمّة إسلامية تقوم عليها الخلافة الإسلامية وتظللها راية الإسلام لتستأنف أداء رسالتها بحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم؟ إنهم لن يمكنوها من ذلك وسيحاربونها أشد المحاربة، فلا بد من القيام بالعمل جبراً عنهم بكفاحهم وكفاح عملائهم وإيجاد الرأي العام بل الوعي العام الذي يكتسحهم أمامه. لذلك فإن الصعوبة ليست في بث أفكار الإسلام للمسلمين لإنهاض الأمّة وإقامة الدولة، بل الصعوبة في الصبر على كفاح الكفار والمنافقين في سبيل بث أفكار الإسلام.

إن الدول الكافرة التي شهدت الدولة الإسلامية وحكم الإسلام ولا سيما الانجليز والفرنسيين والروس سوف يحاربوننا لِما رأوا في الأمّة الإسلامية من عقائدية الدعوة إلى الإسلام، ولِما لمسوا في الدولة الإسلامية من قوة ومواصلة الجهاد في سبيل حماية الإسلام ونشر دعوته، ورأوا أن الدولة الإسلامية كانت الدولة الأولى عدة قرون، ولذلك ذاقوا وقع أسنّة المسلمين، وبطش فكر الإسلام. فهم يرتعبون من ذكره وترتعد فرائصهم من مجرد تصور عودته بعودة الخلافة الإسلامية ونهضة الأمّة الإسلامية. والدول الكافرة اليوم ولا سيما الانجليز والفرنسيون والأمريكان والروس يدركون تماماً أن الإسلام إذا عادت أمّته للنهوض ورجعت دولته للوجود فإنها لن تقف أمامه دولة، ولن يصمد في وجهه مبدأ. فالرأسمالية العفنة ستدمَّر بأفكار الإسلام وأحكامه، والشيوعية الملحدة الآفنة ستحطَّم بالارتفاع الفكري المبني على الأساس الروحي في أفكار الإسلام وأحكامه، وهذا يعني رجوع الدولة الإسلامية إلى مركز الدولة الأولى في العالم مرة أخرى، وذلك ما لا يرضى به أحد من الكفار. ولذلك سيحاربونه أشد المحاربة بأشد بغض وأفظع حقد. لذلك كان لا بد أن نكون واعين على الكفار وأساليبهم ومناوراتهم وأن يدرَك إدراك وعي وتدبّر أن الصعوبة إنّما هي في مواجهة أعدائنا أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين وليست هي في بث أفكار الإسلام.

إن انجلترا وروسيا قد ذاقتا الويلات من العسكرية الالمانية، ولذلك تعملان مع تناقضهما في طريقة الحياة على إبقاء ألمانيا مجزأة ضعيفة ويَحُولان بينها وبين أن تستعيد قوتها، ويحاربان كل عمل فيه تقويتها حتى لا تعود العسكرية الالمانية فتكون خطراً عليهما. وإن أمريكا وانجلترا تريان في دولة الاتحاد السوفياتي خطراً عليهما وعلى مبدئهما، ولذلك تعملان لمحاربتها ومحاربة مبدئها بجميع الوسائل وشتى الطرق، حتى أن أمريكا ترى أنه لا يمكن أن يكون للأمريكيين أمان إلاّ إذا زالت دولة الاتحاد السوفياتي من الخريطة ومُحيت الشيوعية من الحياة.
 


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م