كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
أبتاه
فراقك المني وقطع أحشائي ولم يعد للساني أن ينطق لولا أنني موقن بأنني سألتحق بك عاجلا أو آجلا
لما استطعت أن اسكت لحظة لفراقك وأنا أبكيك
أبتاه أيها اليتيم
لقد نشأت في اليتم فلا أب ولا خال ولا عم وجدته في صغرك ولم تترعرع كما ترعرعنا نحن أبناؤك في حضنك وفي كنف حنانك وتحت غطاء برنو سك الناصع بالبياض الطاهر
أبتاه
لقد أعطيتنا ولم نعطيك وسافرت من اجلنا فلم تغريك الحياة الحلوة التي كان بإمكانك أن تنالها من خلال المكانة التي كنت تتمتع بها آنذاك
فكنت زاهدا ولم نكن ندري نحن عن الزهد شيئا وقتذاك
كنت تعيش كالشمعة أو المصباح الذي يضيء لغيره ويحترق
فكنت نعم الأب ونعم الرفيق
كيف لا وأنت تحمل كنزا بين ثناياك كنت تردده والناس نيام
كنت تختمه في شهر الصبر سبعة مرات
وكنت تختمه في المسجد مع الجماعة مرة في الشهر
وكنت تتلوه ليلا ونهارا
عندما كنت تأتي ونحن صغارا
كان إمام المسجد الطاهر
يتلعثم أمامك رهبة من رهباتك
ليس خوفا إنما لمكانتك عنده
وهذا إحساس كل تلميذ أمام معلمه
لقد غرست شجرة لازالت ثمراتها لم تنقطع إلى الآن ولازال طلبتك يذكرونك في كل عيد وفي كل موسم
أبتاه أبكيك فلقد تحرك قلمي
في غيابك
وليس كما يتبادر إلى الذهن انه
كما قيل
عندما كان حيا اشتاق لحبة وعندما مات علق له عرجونا
إنما هي رهبة كما أسلفت
فكل من عرفك يستطيع أن يشهد بذلك
أبتاه حان الوقت لاستذكر كلامك في كل موقع وفي كل محطة أحط بها
ليس لأنك ملكا ولا رسولا بل لأنك إرادة فاقت إرادتي وتصور فاق تصوراتي
أبتاه يانعم الأب الأنيس تعلمت منك وأخذت شبها واسما وخصالا تعود بالرحمة لك فتاتي لتحلق عليك كالهدية على صاحبها وهو بها فرحا
فرحمك الله يا أبتي
لم اسمع في حياتي أبدا انك مدانا أو أخذت مال احد وكل من توقفني سألني عنك وعن حالك في صحتك وفي مرضك
تركتك فوق فراش الموت كان آخر كلامي معك الوداع
وكانت آخر نظراتك دموع لن أنساها حتى التحق بالرفيق الأعلى
كان يوم أن كنت تحتضر
يوم مظلم بالنسبة إلي كنت أعيش بجسدي في أوربا وأحيى بروحي معك
كانت روحي كأنها تتدحرج وتريد الخروج بدل روحك الطاهرة
أيها المعلم في بلد تخرج فيه على يديك المئات من الطلبة
وحفظ القران على يديك كذلك
لقد قال من لا ينطق عن الهوى
صلى الله عليه وسلم
خيركم من تعلم القران وعلمه))((
أيها الأب الكريم أيها المعلم لم اعرف قدرك الحقيقي إلا بعد أن غبت عني
مع أنني تجاوزت الثلاثين آنذاك لكنني كنت أحسس أمامك أنني طفل لازلت احتاج إلى مداعبتك
كنت نعم الناصح ونعم الأمين
كنت نعم الأب الرزين جبل أشم لا يعرف الاستكانة أمام العدو
تعلمت منك الغربة قبل أن أسافر
وتعلمت منك الاقتصاد قبل أن أكون املك درهما ولا دينارا
وتعلمت منك الصدق والشهامة في المواقف
أبتي أبكيك اليوم بحرقة شديدة
أبكيك بقلمي وأبكيك بوقتي
أبكيك بفلمي لان قلمي اليوم لم يعد قلمي المحاصر الذي كان محبوسا
وأبكيك بوقتي لان وقتي اليوم أصبح يعد بالدقائق واللحظات
أبكيك اليوم أبتي بعدما هاجرت تلك البلدة التي علمتني حجارتها وتربتها النظيفة من التلوث
صلابة الموقف وعلمتني تلك التربة الطاهرة الحنان الصافي
أيها الأب الطاهر طهارة برنو سه الأبيض
أيها الأب المصلي الصائم القائم
يا نعم الأب ونعم المعلم
هاجرت أنت أوربا وهاجرت أنا إليها
كنت في صغري اطرح عليك أسئلة للمعرفة وكنت تعلم أيها الأب
انك لا تستطيع أن تقنعني بإجابتك لأنك تعلم صغر عقلي
فكنت تجيبني عندما تكبر ستعرف يا ولدي
عرفت اليوم أبتي لماذا هاجرت أوربا
وعرفت لماذا كنت تحرص على هجرتها
وعرفت ولازلت أتعلم لكن تعليمك اختصر علي كثيرا من الأمور
أبتي أيها المعلم يا نعم الأب
أبكيك مع علمي أن بكائي حسرة وألم
أبكيك وأنا متأكد أن البكاء والندم لا ينفع
لكن أبكيك ليسمعني من في الوجود ويتعلم من بكائي وحسراتي
كل من لازال يتمتع بالأبوة,
أبتاه
هاأنذا اليوم بأولادي وبإمكانياتي
أعيش وسط العشب ووسط بهيج الدنيا
لا تخصني الماديات التي كنت أتمنى أن أصل إليها
وأعيش وسط الأمن الذي كنت أريده لي ولأهلي وأبناء بلدي
لكن صدقني يا أبي
إني لا اعرف لهذه الأشياء ذوقا ولا لونا
فكل ما كنت تجلبه لي من السوق مرة في الأسبوع بتلك القفة المصنوعة تقليديا
كانت له بركة مع قلته
كيف لا ويدك الشريفة المتوضئة تحمله فوق دابتك التي كنت تمتطيها
والطلبة من حولك يرددون
مرحبا يا سيدي الشيخ
أذانك اسمعه ولو في منامي وابتسامتك تعانقني وكأنها بطارية تزودني بطاقة افتقدتها في غيابك
أراك ولو في الشهر مرة
مثل ما كنت بصحتك وعافيتك وأتحدث معك مثلما كنت تحادثني
لقد جاء اليوم الذي تحررت من بعض القيود التي كانت تحاصرني
أو المظاهر التي كانت تخدعني
واستطعت بحول الله أن أذكرك فحق لك عني هذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
وهو خير الوارثين
كنت مدرسة حقيقية لمن أراد أن يتعلم وهذا ليس غلوا ولا غرورا وإنما هو واقع معاش
فكان بحضورنا أمهات بل جدات بأحفادهن يأتونك ليبتن في حضن بيتك
فيعترفون أنهن مهما أكلن فأكلك له ذوق آخر
ويعترفن بأنهن عند مزاحك لهن لا يحسسن باليتم فأنت أبوهن
فمنهم كن يناديك بخالي وسيدي الطالب
ومنهم لا يهنئ له فرح ولا قرح إلا أحضروك إليه ويقولون لك أنت بركة
كنت محل قاضي
فكثير من الخصومات في وقتك حلت وكثير من العاهات شفيت بإذن الله
فكان الصرعى يؤتون بهم من كل مكان
وكنت تخرج الجن
فيتعافى المصابون بإذن الله
وكان من المغتربين من يختصك بزيارة أو هدية للعرفان بمجهوداتك
التي بذلتها في تعليم القران
كان من المغتربين من يصرفك على بيته إلى أن يعود وكان الأكثرية ممن يوكلونك في زواجا تهم
بسبب ائتمانك من طرفهم
فالمسلم من آمنه الناس
اليوم رحلت كما رحل من قبلك أناس سنتذكرهم مثلما نتذكرك
لأنهم كانوا بجانبك في السراء والضراء
وقد ساهموا هم كما ساهمت أنت
وقد كتب الله أن تدفن معهم كما اخبرني الأهل والأحباب
فكما كنت في الحياة شاء الله أن تدفنوا جوارا
فهذا الطاهر وهذا محمد بن احمد وهذا محمد بالي وهذا البشير بن خبابه وهذا احمد بن بابان
شيوخ كأنهم شمس انطفأت
وحل مكانها ظلام
إنها حقيقة لا ينكرها إلا معاند أو مكابرا
ولمن أراد أن يتأكد فليدخل المسجد
فأين تلك الوجوه وأين الصف الأول
سيقول قائل هذه سنة الحياة
نعم إنها سنة الحياة فأين عدتنا أين للمعلمين نصيب
بل أين للقران الذي كان يملأ البيوت نورا
إنها كلمة حق مرة نشعر بها ونريد أن نستذكر من خلال هذا الغياب
دور معلم القران الذي كان أيام زمان ينظر إليه على خلاف اليوم
إنهم تركوا الدنيا من اجلنا وكان بإمكانهم أن يفعلوا كما فعلنا نحن
لو
فكروا كما نفكر اليوم أنهم ماضي وانتهى
فهل من صحوة ضمير وهل من مراجعة للنفس
وهل من شهادة حق نشهد بها على أنفسنا
أننا مقصرون في جنب الله
وفي جنب معلم القران
أبتاه أكاد أكون متيقنا أن بكائي سمعه حتى الحيوانات فكيف ببني الإنسان
أردت أن أبكيك فلعل من لم يستطع إخراج دمعاته لفقد عزيز أو قريب
ويتنهد حسرة بين ضلوعه أن تعينه كلماتي لخروج تلك الآهات
فتكون بذلك كأنها لبن صافي لأنها تخرج من قلب مؤمن مكدر بالأحزان
ولعل من ذهب عنه البكاء ولم يعد يحس فلعل آهاتي تحرك مشاعره فيستذكر ماضيه ليعانقه من جديد ويعود بذلك إلى سنوات الحنين فيشقق فتخرج منه الأنهار
ويستقيم حاله
يا أبتي تركتني وأنا اليوم في بلاد أعيش مع الماضي الأليم وكلما حاولت أن أتناساه جاء حدث آخر
فأعادني من حيث بدأت
دعني ابكي ودعني اصرخ ليسمعني كل من له أبواه فيتخيل الفراق كم هو مؤلم لعله يستغله
حتى لا يقع له كما وقع لي
أيا أيها الإنسان يا من تملك أبوين يا من تنعم بنعمة الأمومة والأبوة
إن هناك أمانة عندك فحافظ عليها
وابذل في سبيلها ما بذل من أجلك
فسيأتيك اليوم إن كتب لك البقاء بعدهما
فلا تعرف للحياة طعما بعد غيابهما
حتى وان امتلكت جبالا من المال والأولاد
سارع واحتضن أبواك
يا من تمتلك هذا الكنز حاول أن تحتفظ به قبل أن يضيع منك
فتقفل الأبواب بعد ضياع مفتاح ذهبي
ولا تجد بعده بديلا
أيها الأب أعود أبكيك اليوم في ديار الغربة واحتسي دموعي بكتابة هذه الأحرف
واعلم أنني أبكيت من هو مقصر أو مفرط
أبكيك فلعلي أساهم برحمات تنزل فتزف إليك
لان عملك انتهى ولم يبقى لك منه إلا ثلاث
فلعل واحدة منها هاهي تحلق عليك اليوم
فرحمك الله رحمك الله رحمك الله
رحمة واسعة وأسكنك في عليين
مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا