مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة بوح الخاطر
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 19-06-2002, 01:39 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي ثلاثون سنة على استشهاد غسان كنفاني -بقلم عدنان كنفاني

ثلاثون سنة على استشهاد غسان كنفاني
قال لي أخي لا تعبث بالتاريخ
السفير17/6/2002
بخطى واجفة دخلت ذلك المكان..
زقزق عصفور أبله يستعرض قدارته الضئيلة امام انثى تتصيد فحولته، يحلق مستثارا الى اعلى شجرة صنوبر، ثم ينقض كالقضاء، يقترب من الارض ثم يرتفع ثانية.
وهي تراقبه بسخرية، تحثه على مزيد من العبث..
سقطت ثمرة صنوبر امامي على صفحة الرمال الصفراء، وتناثرت كؤوسها اليابسة قطعا صغيرة.. ادركت لحظة لم تر الحبيبات الصنوبرية.. انها ام عقيم.. إن ولدت، تلد مسخا لا يلبث ان يتفتت ويموت..
السماء صافية، وأشعة الشمس الارجوانية تطبع على الرمال الصفراء لونا احمر، وصريرا يأكل حواف الرخام الابيض، ويقضم احرف الكلمات المتعلقة على قناطر الشواهد..
قبور مسطحة، تخوض عليها قوافل النمل والسحالي والحراذين.. تتعربشها مشاريع نباتات ضعيفة غضة، ما ان ترفع رؤوسها الخجولة حتى يقطفها الموت، فتندثر هي الاخرى..
يندثر الكلام، ويطبق الصمت..
هو تموز يا اخي قادني اليك.. مثلما يفعل كلما زحف فوق سبل الحياة على درب طوله احد عشر فرسخا.. يغلق دورة، ويفتح اخرى..
دورة تمضي، وأخرى تبدأ ليست على قدر من البعد والطول، لكنها على قدر من الامتلاء..
وأنت امامي.. تستنطقني.. يحتل طيفك مربع السور الذي يحتضن الرمال والرخام والعظام..
في اللحظة نفسها، رأيتك.. في غرفة ضيقة، نوافذها مغطاة بأوراق الصحف الصفراء، الانوار خافتة، ووجوه ممتقعة لمجموعة من الشبان من عمر الزهور، ترسم بإعياء نظرات زائغة، شاءت اقدارهم ان يكونوا من العاملين في الصحافة..
منهم من افترش الارض، ومنهم من تقاسم مع رفيق له الجلوس على كرسي، او الاستلقاء على طاولة، يتجلدون بالصبر، ويمثلون القدرة على الاحتمال..
جمعتهم تلك الغرفة الصغيرة، منذ صباح الاثنين 25/4/1955 وحتى مساء الاحد 1/5/1955 في بهو مكاتب جريدة <<الايام>> في شارع الفردوس بدمشق.. ينفذون اعتصاما وإضرابا عن الطعام في سبيل تحقيق مطلب حق يتلخص في جملة قصيرة تقول <<حرية ابداء الرأي، والحوار مع الرأي الآخر..>>.
بعد اربعة ايام من بدء الاعتصام، كادت تتلاشى صلابتهم الجسدية..
كنت ازورهم.. اقضي بينهم ساعة او أكثر، تملأني مشاعر الدهشة وأنا استمع الى احاديثهم، يشحنون في نفوس بعضهم الثبات على الموقف ورفع وتيرة الإصرار..
أخفيت في جيبي قطعة خبز، حشوتها بحبات من الزيتون.. انتحيت بغسان جانبا وقدمتها له.
أدرك انني اشفقت على هزاله، فنظر إلي وابتسم ابتسامة لم ار مثلها على شفتيه من قبل..
قال بصوت ضعيف..
اجلس هنا.. امامنا تماما، وتناول ما احضرت بالكامل ونحن ننظر اليك..
قال وهو يراقب كل لقمة تدخل جوفي..
الألم الكبير الذي يعصرك وأنت تناضل كي لا تلمس وسيلة الإنقاذ وهي في متناول يدك، تقتلع من صميم ارادتك صلابة الرفض تكريسا لقيمة ناضلت من اجلها، هي المعيار الحقيقي لأهلية ان تكون..
وقدرنا يا اخي ان نكون..
افترشت الرمل الاصفر.. جلس الى جانبي.. ابتسم تلك الابتسامة المحفورة في ذاكرتي.. تقفز امامي كلما اخذني موقف عصيب.. تقول كما يقول الآن.. لا تحزن..
الوطن الذي طاش على صفحته حجر ارعن، مزق رسمه المحفور في قلوب امهات ودعن ابناءهن بالزغاريد، وآباء يعصرون الحزن والفجعية ويتقبلون التهاني والمباركات بفقدان احبائهم، عبر مسيرة خمسين سنة ونيف، تنحبس الى حين في هذه اللحظات امام صفحة وطن ارادوا له ان يتقزم ويتقزم وصار على الورق، نقاطا، وفتاتا..
اخترقته والتفت حوله شوارع لها بوابات وأقفال.. وبطاقات ممغنطة، وفيش وأضابير. واتسعت فيه المعتقلات، وحملت جباه المناضلين الابطال تسميات غريبة عن معجم الكلمات.. واستوردت اليه ارقى ما توصلت اليه ادمغة المتحضرين من وسائل تعذيب وقهر وانتزاع اعترافات..
ثم غزوه بالمواخير وأندية القمار..
قالوا: هو الثمن!
جاءتهم حجارة فقراء الوطن وأطفاله تقول: ما ارخص الثمن..
قال: ما ارخص ان يبيع الانسان كرامته مقابل جاه مزيف ودراهم معدودة لا تستطيع في احسن الاحوال ان تبعد عن وسادته شبح العار الذي يعيش هناك، في قاع نفسه الرخيصة..
كان يبتسم وهو يسترسل في حديث الروح..
قلت: لم تترك لي شيئا اتحدث عنه..
قال: نحن نعلم اكثر مما تعلمون.. صحيح اننا تحت التراب لكننا على مقربة من المخاض!
المخاض..؟
سألت بدهشة..
انه المخاض.. نعيش الآن ساعات المخاض.. هل رأيت انتصار الجنوب؟، انها الامثولة التي تشحن ارادة الناس.. تنحي مقولات اليأس وعدم القدرة وفقدان التوازن. وتعلن موسم القصاص والحساب.. الجنوب سيبقى يتدفق دائما الى الجنوب.. أليس هذا هو المخاض؟.
هل رأيت الانتفاضة؟، أليست هي المخاض!
كان صوته الصافي يخوض فوق صفائح القبور، وكان الهتاف يتصاعد من الشقوق..
في ذلك اليوم البعيد، وقف امامنا ذلك الرجل الضخم..
همس غسان..
أرسلوه ليضربني!
كنت صغيرا في الخامسة عشرة من عمري.. ادركت اننا امام مشكلة حقيقية.. هذا الرجل الضخم ينظر في وجوهنا بغضب واستخفاف، مهمته ان يلقن غسان درسا لا ينسى لأنه يكتب في الدوريات مقالات نارية تشير دون لبس الى كبار يمثلون البؤر المتعفنة، حتى يسكت..
كانت لحظات عصيبة.. غسان ذلك الشاب النحيل، الهادئ، المبتسم.. امام امتحان صعب..
تلفتنا حولنا.. كنا امام احد المقاهي المكتظة بالناس المشغولين باللعب والتسلية..
مد الرجل الضخم اصبعه الغليظ ودفع غسان الى الوراء، احسست ان تلك الدفعة لم تكن على قدر من الشدة بحيث تلقيه ارضا متظاهرا بأنه تلقى ضربة شديدة، مما دفع بعض المشاهدين من المقهى للخروج واستجلاء الامر..
بدأ ذلك الضخم في كيل السباب والشتائم. يصف غسان بأقذر الكلمات وأبشع الصفات.. جبان، حقير، ابن... الخ.. قاصدا اثارته ليعطيه المبرر ليضربه..
كان غسان يبتسم.. يبدو كأنه اطمأن الى تواجد عدد من الناس حولنا، وراح يستمع وهو يصطنع الاهتمام الى سيل الشتائم التي يطلقها الرجل بلا حساب، حتى اعياه التعب.. وسكت..
قال غسان بهدوء شديد..
تشرفنا بكل الصفات التي عرفتنا بها عن نفسك.. اما انا فإسمي غسان كنفاني..
وقبل ان يتفاقم الموقف اطلقنا سيقاننا للريح بينما اطبق الناس على الرجل الضخم..
أشعلت لفافة وقدمتها اليه..
قال: في عالمنا لا نعرف شيئا عن التدخين.. نعيش بلا اجساد.. هذا الجسد الذي تملأه الاحشاء والدماء وعاء ثقيل، ما اجمل التحرر منه. نحن لا نأكل ولا نشرب، وليست لدينا رغبات دنيوية.. رغم اننا بينكم، نعيش حتى اللحظات التي لا تعيشونها..
في يوم بعيد ايضا دفعني للكتابة.. قال اكتب ما تشاء..
فكتبت..
قال.. اكتب عن شخصية ما، تناولها بكل الابعاد التي تراها هامة ومفصلية..
أذكر انني كتبت يومها عن <<أبي العلاء المعري>> واذكر انني اطنبت كثيرا في ذكر عبقريته وفضائله، وأعترف انني اضفت <<متصورا ان الاضافة تزيد موضوعي تشويقا>> احداثا لا تمت الى المعري بصلة.. او انها تعطيه ميزة ما.. كنت احب ذلك الشاعر العبقري الاعمى، وكنت اراه نموذجا فريدا لإنسان لا يملك شيئا لكنه يعطي من حوله كل شيء..
فوجئت عندما مزق غسان ما كتبت، يومها احسست برغبة في البكاء، كنت امضيت وقتا وجهدا لا يستهان بهما، احسست بمشاعر خيبة وفشل..
قال: احب المعري ربما اكثر منك، لكن اياك ان تسمح لنفسك بالعبث في التاريخ.. اياك!
سكت قليلا ثم اردف: التاريخ هو الركيزة التي تحمل البنيان، هو الجذر الذي يمد الفروع بأسباب الحياة.. من يشوه التاريخ.. ينتصر الى حين.. لكن البقاء الأزلي لمن ينتصر اخيرا..
منذ ذلك اليوم وأنا اتساءل، كيف يستطيع من كانْ ان يشوه التاريخ، واحداث التاريخ، وتفاصيل التاريخ؟ تلك القدسية الشفيفة التي تحتضن الحدث والكلمة، تلف المكان والشخوص اما بشالات حريرية، او بأكفان عفنة نتنة..
عرفت ان هذا بالتحديد هو الجوهر الذي يتطلع اليه الشرفاء، هذا البقاء الذي يزيدهم ألقا كلما غاص بهم الزمن، يعطون الامثولة، ويكرسون نبل الهدف والتطلع، ويضعون أسس النضال.. يتجاوزون هلالي <<الأنا>> وينطلقون الى العام.. لأنه <<هذا العام>> هو المعيار وهو النقاء وهو البقاء..
لم يسألني مثلما تعّود ان يفعل كل تموز.. ثلاثون سنة جعلته جذرا، وتدا، رمزا..
لكنني قبل ان اغادر المقبرة، هبت ريح غريبة حملت إلي روائح الجميز والخروب والجوافا..
قلت: تركني ومضى.. عاد الى يافا..
وقبل ان أخطو خارج البوابة، قفزت على لساني كلمات، واقتحمت صدري امنيات.. قلت:
عسى ان يكون تموز القادم.. افضل..!
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م