إيران ويد جديده تمتد لتبحث عن نصيبها فى القصعة
طهران ترصد ملياري دولار
لإقامة الدولة الشيعية في لبنان
لندن ـ سعيد القيسى :
هل صدر "الضوء الأخضر" لبناء الدولة الشيعية في لبنان؟
السؤال لم يأت هذه المرة من بيروت علي شكل هاجس يقلق العديد من الطوائف وفي مقدمتها الطائفة المارونية التي تتابع منذ سنوات بقلق شديد تزايد الدور والنفوذ الشيعيين عسكرياً واجتماعياً عبر "حزب الله" وسياسياً ووظائفياً من خلال رئيس المجلس النيابي وزعيم حركة "أمل" نبيه بري.
والسؤال المطروح مجدداً حول »الدولة الشيعية اللبنانية« لا يستند إلي مخاوف بعض الفئات اللبنانية من هيمنة "حزب الله" و"أمل" علي قطاعات واسعة من أجهزة الدولة ومؤسساتها الاقتصادية والسياسية، بل يستخدم المؤشرات الحسية عن تزايد النفوذ الشيعي في لبنان كعناصر ودلائل تسهم في دعم ما يصفه طارحو السؤال بـ "مخطط إيراني" متكامل المفعول لتحويل لبنان إلي دولة شيعية.
هذا المخطط كان محور تقرير مطول أعده جهاز استخباري غربي وضمنه تفاصيل خطة متوسطة المدي جري إعدادها علي أعلي المستويات الإيرانية ونوقشت في المجلس الأعلي للأمن القومي الإيراني وحصلت علي موافقة المرشد علي خامنئي والرئيس محمد خاتمي، وذلك قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية التي جددت لخاتمي.
ويشير التقرير إلي أن مشروع الدولة الشيعية في لبنان يعود أساساً إلي بدايات الثورة الإيرانية عندما كان جزءًا من إستراتيجية "تصدير الثورة" لإقامة أنظمة إسلامية ودويلات شيعية في أكثر من بلد. وعلي هذه الخلفية أقامت إيران "أحزاب الله" التي تُبني عقيدتها وأيديولوجيتها علي إقامة الدولة الإسلامية علي "خط الخميني" وبدأت بتقديم الدعم المالي والعسكري لهذه التنظيمات.
لكن فشل إستراتيجية تصدير الثورة، بالإرهاب والأعمال المسلحة والسياسة الجديدة، التي قررت إيران تسويقها مع وصول خاتمي إلي السلطة، قاد إلي إلغاء هذه الإستراتيجية في عدة دول وإلي تعديل "المشروع الإيراني" في لبنان وإعادة إعداده وفق سيناريو يجعله قابلاً للتنفيذ ويتلاءم مع الظروف الخاصة بلبنان والمعطيات الإقليمية والدولية أي باعتماد وسائل وأساليب جديدة وأكثر فعالية وقبولاً لتحقيق "هدف قديم" حسبما جاء في التقرير ـ الدراسة.
ويؤكد التقرير أن تفعيل مشروع الدولة الشيعية في لبنان انطلق مجدداً إثر الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في "آيار" مايو من العام الماضي. وفي تلك الفترة تم تكليف فريق عمل إيراني يضم خبراءً واختصاصيين في كل المجالات ويمثلون التيارين الراديكالي والإصلاحي بإعداد مشروع متكامل لمجلس الأمن القومي.
ويبدو أن انطلاقة المخطط الإيراني للدولة الشيعية في لبنان في تلك الفترة يفسر لماذا لم تقم طهران بسحب قواتها من لبنان وإغلاق معسكرات الحرس الثوري في هذا البلد. وأكثر من ذلك في الوقت الذي كانت تنطلق حملات لبنانية وأحياناً خارجية للمطالبة بسحب أو إعادة انتشار القوات السورية في لبنان كانت قيادة الحرس الثوري تنفذ قراراً من جهات عليا بتعزيز وحداتها في لبنان وتكثيف الدعم العسكري لمقاومة حزب الله ومدها بأسلحة جديدة لم تكن قد حصلت عليها في عز سنوات المقاومة لتحرير الجنوب. وفي هذا الوقت أيضاً سجلت بعض الأجهزة زيادة في المساعدات المالية لحزب الله واتساع نطاق هذه المساعدات لتشمل تنظيمات وأحزاباً أخري شيعية وإسلامية غير بعيدة عن إيران.
الأجوبة عن هذه الأسئلة، وغيرها من الألغاز التي أثارتها مواقف "حزب الله" والمستجدات علي الساحة الشيعية اللبنانية جاءت في التقرير الأخير وتحديداً فيما يكشف عنه من خطة إيرانية متعددة الفصول والجوانب للتمهيد لإقامة الدولة الشيعية وهي جوانب عسكرية وسياسية واقتصادية ومالية متداخلة ومنوعة، يصل التقرير إلي حد التأكيد علي أن مجلس الأمن القومي الإيراني رصد لها ميزانية ملياري دولار.
وفي قناعة معدي التقرير أن الجوانب العسكرية لا تشكل العامل الأهم في مشروع الدولة الشيعية، وهي تقتصر في المرحلة الأولي علي دعم "حزب الله" بالسلاح والصواريخ لتكتيك حيوي في هذه الإستراتيجية وهو تأكيد دور إيران في دعم المقاومة الإسلامية حتي في مشروع تحرير القدس واقتطاع حصة لإيران من هالة حزب الله المضيئة على صعيد العالمين العربى والإسلامى واستثمار الإنجاز التاريخى الذى حققته بطولات حزب الله فى دحر أكبر قوة عسكرية فى المنطقة. ويشير التقرير إلى أن القيادة الإيرانية باتت حريصة أكثر من أى وقت مضى على اعتبار "حزب الله" ورقة إيرانية وليس فقط ورقة سورية، والترويج لهذه الورقة واستغلال الرصيد الوطنى اللبنانى الذى حققه الحزب لتسويق المشروع الإيرانى فى لبنان، بل وتسريع إنجازه. وعلى هذه الخلفية لجأت إيران فى الأشهر الأخيرة إلى زيادة مساعداتها العسكرية والمالية لحزب الله ورفعت أعداد "الحرس الثورى" ومدت الحزب فى الجنوب بأسلحة أكثر تطورًا وصواريخ : "سام 7" و "سام 9" وصواريخ : "فجر 1" و "فجر2" وبأعداد من صواريخ "ستينغر" الأميركية المضادة للطائرات والتى حصلت عليها إيران من بعض الفصائل الأفغانية. لكن أهم ما في الدعم العسكري الإيراني أنه بات يحصل وفقاً لهذه المصادر بعيداً عن أعين السوريين ويسلك طرقاً غير دمشق ليصل مباشرة إلي موانيء يشرف عليها حزب الله بعيداً عن المخابرات السورية.
حزب الله في مواجهة الحريري
لكن المحور الأساسي لتنفيذ مشروع الدولة الشيعية ليس عسكرياً، بل اقتصادي ـ مالي تضمنه مخطط تدريجي قائم بذاته ويستحوذ علي القسم الأكبر من ميزانية الملياري دولار. وتتحدث المعلومات عن قرار اتخذ علي أعلي المستويات لبناء شبكات مالية ـ اقتصادية ـ تجارية متعددة الجنسيات والطوائف الدينية. وهذه الشبكات كلفت بتحقيق الاختراق الاقتصادي المطلوب ورصدت لها ميزانية تسمح لها بمنافسة قوي اقتصادية أخري. وأشار التقرير إلي أن هذا المخطط الإيراني يكشف بعض خفايا الصراع الدائر بين حزب الله ورئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، ويفسر حملات الحزب ضد حكومة الحريري ومعارضته العنيفة لها.
ويؤكد أن الصراع بين الطرفين ليس سياسياً بمقدار ما هو اقتصادي ويعكس قراراً بأن تضع إيران عبر الشبكات المعدَّة لهذه الغاية يدها علي الاقتصاد اللبناني وتتحول فيه إلي قوة اقتصادية تدعم نفوذها السياسي وتخدم مشروعها.
وعُلم في هذا المجال أن عدة شركات اقتصادية قد أنشئت بهويات مختلفة بعضها تركي وقبرصي ولبناني، إضافة إلي شركات يسيطر عليها رجال أعمال شيعة جنوا ثروات كبيرة في أفريقيا ورجلي أعمال معروفين بقدراتهما المالية واستثماراتهما في »مثلث الموت« الواقع بين البرازيل والأرجنتين والباراغواى، وتحديدًا فى مدينة "سيوداد ديل إيست". وتم توزيع أدوار هذه المؤسسات وضخت فيها الملايين اللازمة للمشاركة فى كل عمليات الخصخصة التى تعد لها الحكومة اللبنانية سواءً التى تتميز بنوع من السيطرة الشيعية، أم لا ، مثل: طيران الشرق الأوسط أو كازينو لبنان أو الضمان الاجتماعى والهاتف والبريد والصحة والإعلام وتحديدًا "تلفزيون لبنان". وتشير المعلومات إلى تحالفات عقدت مع رجال أعمال من طوائف أخرى، وخصوصًا مسيحيين، لإنشاء مؤسسات مشتركة تسهم فى بناء أكبر قاعدة اقتصادية لإيران فى لبنان، وأن مبالغ مالية قد حولت من إيران إلى بعض المصارف اللبنانية استعدادًا لخوض "المعركة الاقتصادية" . ويقول التقرير إن غالبية هذه الإسهامات المالية الإيرانية أوكلت إلى "المؤسسات الدينية -الاجتماعية" التى يعتبر بعضها أغنى من الدولة الإيرانية،
وفى مقدمتها "مؤسسة المستضعفين" التى يشرف عليها محسن رفيق دوست الوزير السابق لـ"الحرس الثورى" وأحد أبرز المسؤولين عن مشروع الدولة الشيعية فى لبنان، الذى يضم أيضًا "شركات" تتولى مهمة شراء عقارات وأراض بأسماء مختلفة. وكان اسم دوت قد ورد فى مشروع سابق أعدته القيادة الإيرانية قبل سنوات، وفى أول حكومة للحريرى، لمنافسة الحريرى اقتصاديًا، وتعزيز نفوذ إيران الاقتصادى من خلال ما عرف بـ "خطة المتوسط" واعتبر أولى بذور مشروع الدولة الشيعية وبداية الاستثمارات الإيرانية فى لبنان كنواة لمشروع ترسيخ النفوذ الإيرانى فى لبنان.
لكن المشروع الجديد يعتبر أكثر طموحاً ووضوحاً في اتجاه إقامة الدولة الشيعية بدون أية تهديدات عسكرية وبعيداً عن إثارة الحساسيات المذهبية أو الطائفية. بل إن أحد أبرز نقاط الإستراتيجية الإيرانية، هي استغلال الرصيد الشعبي لحزب الله، والحرص علي العيش المشترك والتعايش السلمي والوضع الاقتصادي، لتحقيق الاختراق المخطط في أجواء الديمقراطية والحرية والوحدة الوطنية، وتحت رمز المقاومة والدفاع عن الوطن والشعب.
إيران قوة متوسطية
ويعتبر التقرير أن التعديل الذي طرأ علي خطة المتوسط، قبل إطلاق »الضوء الأخضر«، لم يشمل سوي بعض الأمور التنفيذية للتأقلم مع المستجدات والظروف، وحافظ علي الهدف الأساسي لمشروع بناء الدولة الشيعية. وهذه الفكرة تختصر طموح إيران للدخول كطرف أساسي في إستراتيجية متوسطية تفتح لها الطريق بإيجاد موقع قدم رئيسى على المتوسط عبر الدولة الشيعية فى لبنان .. والتحول من قوة خليجية على الخليج إلى قوة إقليمية تجمع بين نفوذ خليجى ونفوذ متوسطى . ويبدو حسب معدى التقرير أن إيران كانت تعى وجود معارضة سورية لهذه الأطماع التوسعية الإيرانية، لذلك حرصت حرصًا شديدًا على تنفيذ البنود الأساسية من مخطط فرض نفوذها فى لبنان بدون علم سورية، وفى الوقت ذاته بدون إصدار أية إشارات من شأنها إزعاج الحليف السورى أو إثارة قلقه على الأقل فى المرحلة التمهيدية فى انتظار ترسيخ إقدامها ونفوذها. ومن هذا المنطلق أشارت المعلومات إلى أن الكشف عن وجود وحدات النخبة من لحرس الثورى، فى جنوب لبنان وكميات ضخمة من صواريخ متطورة، فاجأ الجهات السورية التى اكتشفت أن إيران رسخت مواقعها بسرية تامة فى جنوب لبنان منذ انسحاب القوات الإسرائيلية، مما زاد الشبهات فى بداية مخطط الدولة الشيعية من هذه المنطقة التى يسيطر حزب الله عليها عسكريًا واقتصاديًا وأمنيًا وشيعيًا.
وإضافة إلي الجوانب الاقتصادية لترسيخ النفوذ الإيراني في لبنان لفت التقرير إلي تفعيل المشروع الإيراني في ميادين مختلفة سياسية وطائفية. وذكر في هذا المجال أن طهران سعت في المرحلة الأخيرة إلي توثيق مواقعها داخل الطائفة الشيعية والعمل علي توحيد هذه الطائفة بجميع أطرافها وأحزابها. وسجل التقرير تقارباً لا سابق له مع حركة »أمل« التي كانت تعتبر أقرب إلي سورية، وكشف أن الحركة قامت في »آيار« مايو الماضي، بفتح مكتب لها في طهران.
وفي الإطار ذاته تشير المعلومات إلي أن إصرار إيران علي اقتطاع حصة الأسد في النفوذ علي الطائفة الشيعية هو الذي تسبب في منع حصول انتخابات في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلي بعد مرور عدة أشهر علي وفاة رئيسه الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
ويبدو أن الانعطافة السياسية التي قام بها »حزب الله« في الأيام الأخيرة، بإعلانه علي لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله أنه لا يسعي إلي إسقاط حكومة الحريري، ترتبط في نظر العديد من المراقبين بسيناريوهات تنفيذ المشروع الإيراني، عبر التأكيد علي أن حزب الله مستعد لوقف »تحدي الدولة«، بشرط أن ينال حصته منها، ويسهم في عمليات التخصيص المقبلة.
والعارفون بخفايا الخطة الإيرانية وسيناريوهاتها لإقامة الدولة الشيعية في لبنان لم يتوقفوا كثيراً عند أجواء الانفتاح التي أبداها الأمين العام للحزب بعد مرحلة من »فرض الهيبة والنفوذ« تميزت بها الاحتفالات الضخمة التي أقامها في »يوم القدس«، وفي ذكري عاشوراء.. هؤلاء المراقبون توقفوا أكثر عند حرص السيد حسن نصر الله ـ وفي »خطاب الانفتاح« ـ علي التذكير بمشروع الحزب وأيديولوجيته عندما أعلن أن »الدولة الإسلامية« تبقي جزءًا من عقيدتنا وفكرنا وأيديولوجيتنا. مضيفاً أنها وسيلة وليست هدفاً، ولا تقام بالقوة والانقلاب العسكري.