سادسا: البلدان الممزقة
تنبأ الكاتب (صموئيل هانتنغتون) بأن البلدان التي بها أعداد كبيرة من الشعوب، والناس الموجودون في تلك البلدان يملكون تمايزا هائلا (حضاريا).. أي تختلف مكونات تلك الدول من الناحية الحضارية.. كيوغسلافيا والاتحاد السوفييتي، وهي (برأيه) مرشحة لتقطيع أوصالها. ولدى بعض البلدان الأخرى درجة كبيرة من التناغم الثقافي، لكنها منقسمة حول ما إذا كان مجتمعها ينتمي الى حضارة أو الى أخرى. وتلك هي البلدان الممزقة. وعادة ما يرغب زعماؤها في إتباع إستراتيجية الانضواء في قافلة العربات، وجعل بلدانهم أعضاء في الغرب، لكن تقاليد هذه البلدان وثقافاتها ليست غربية، وتركيا هي أبرز وأوضح بلد ممزق. فقد سار زعماء تركيا في أواخر القرن العشرين على تقاليد أتاتورك وعرفوا تركيا باعتبارها دولة/أمة حديثة وعلمانية وغربية وجعلوا تركيا تتحالف مع الغرب في الحلف الأطلسي وحرب الخليج، وتقدموا بطلب العضوية في الجماعة الأوروبية.
بيد أن هناك في الوقت نفسه عناصر وقوى في المجتمع التركي تؤيد الإحياء الإسلامي، وتؤكد أن تركيا هي في الأساس مجتمع إسلامي شرق أوسطي. وفي حين أن النخبة في تركيا حددت تركيا باعتبارها مجتمعا غربيا، فإن النخبة في الغرب ترفض قبول تركيا بهذه الصفة. إن تركيا لن تصبح عضوا في الجماعة الأوروبية. والسبب الحقيقي، كما قال الرئيس (أوزال) هو: (إننا مسلمون وهم مسيحيون وهم لا يقولون ذلك). وإذا رفضت تركيا (مكة) ورفضت من قبل (بروكسل)، فإلى أين تتطلع؟ ربما تكون (طشقند) هي الوجهة التي ستتجهها. لقد أتاح انهيار الاتحاد السوفييتي الفرصة لتركيا لأن تصبح زعيمة الحضارة التركية المنبعثة التي تضم سبعة بلدان من حدود اليونان الى حدود الصين، وإذ يشجعها الغرب، فإن تركيا تقوم بمجهود مضن لتشكيل هذه الهوية الجديدة لنفسها.
هذه الصيغة مرت بها (المكسيك) فكما تخلت تركيا عن معاداتها لأوروبا الغربية وأخذت نخبها تلهث لقبول أوروبا لها، فإن المكسيك هي الأخرى تخلت عن معاداتها للولايات المتحدة الأمريكية وتوقفت عن كونها من أمريكا اللاتينية، حتى قُبلت في منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، بل ذهب حكام المكسيك أبعد من ذلك إذ انغمسوا في خدمة مصالح سيدهم الشمالي الجديد.
وإذا كانت تركيا ، من الناحية التاريخية هي البلد الممزق، فإن المكسيك الأكثر قربا من الولايات المتحدة هي أكثر بلدان العالم تمزيقا! ..
أما روسيا فهي أهم بلد ممزق على الصعيد العالمي، وقد ظهر في روسيا أصوات نخب تدعو الى الانخراط في المشروع الأوروبي الغربي .. في حين ينظر أهل أوروبا الغربية (تاريخيا و حاليا) الى روسيا بأنها قائدة الحضارة (السلافية ـ الأرثوذوكسية) وهي سمة لازمت روسيا على مر التاريخ .. وما استلهام روسيا للفكر الشيوعي الذي هو بالحقيقة صناعة أوروبية غربية لتعادي به أوروبا الغربية بلباس أيديولوجي، سرعان ما تلاشى هذا اللباس ولو بعد وقت لتعود الخطوط الكلاسيكية بين الحضارات لتتشكل من جديد..
وإن كان الرئيس (يلتسين) قد أبدى شجاعة في البوح عن رغبته في التقرب أكثر من الغرب، إلا أن النخب في روسيا والغرب نفسه قد انقسمت حول هذا التوجه لعدم انسجامه تاريخيا مع ما هو فعلي .. وإن إضافة روسيا لمجموعة الدول السبعة لتصبح ثمانية إلا مجاملة دون وزن فعلي في تغيير الأمور. ولم تمنع رغبات يلتسين النخب الروسية من الوقوف الى جانب صربيا في صراعها مع الغرب، حيث تلتقي تاريخيا مع روسيا بالكتلة (السلافية ـ الأرثوذوكسية) .
ولكي يعيد بلد ممزق تحديد هويته الحضارية، ينبغي عليه أن يفي بثلاث متطلبات :
أولا: ينبغي أن تكون النخبة السياسية ـ الاقتصادية فيه، بصفة عامة، مؤيدة لهذا التحرك ومتحمسة له.
ثانيا: ينبغي أن يكون الرأي العام فيه مستعدا للإذعان لإعادة التحديد هذه.
ثالثا: ينبغي أن تكون الجماعات المسيطرة في الحضارة المتلقية راغبة في تبني التحول.
وكل المتطلبات الثلاث موجودة لحد كبير فيما يتعلق بالمكسيك. والشرطان الأول والثاني، متوفران الى حد بعيد في تركيا. وليس هناك وضوح في توفر أي شرط من الشروط الثلاثة في روسيا.
__________________
ابن حوران
|