عرب ...في الحضيض نحن.....؟
يا بني أمي
ماذا تريدون مني يا بني أمّي ؟
أتريدون أن ابني لكم من المواعيد الفارغة قصوراً مزخرفة بالكلام و هياكل مسقوفة بالأحلام , أم تريدون أن أهدم ما بناه الكاذبون و الجبناء و انقض ما رفعه المراؤون و الخبثاء ؟
ماذا تريدون أن افعل يا بني أمّي ؟
أأهدل كالحمائم لأرضيكم أم أزمجر كالأسد لأرضي نفسي ؟
قد غنيت لكم فلم ترقصوا و نحتُ أمامكم فلم تبكوا , فهل تريدون أن اترنّم وأنوح في وقت واحد ؟
نفوسكم تتلوى جوعاً و خبز المعرفة أوفر من حجارة الودية . و لكنّكم لا تأكلون . و قلوبكم تختلج عطشاً و مناهل الحياة تجري كالسواقي حول منازلكم فلماذا لا تشربون؟
للبحر مدّ و جزرٌ ؟ و للقمر نقص و كمال , و للزمن صيف وشتاء , أمّا الحق فلا يحول و لا يزول و لا يتغيّر , فلماذا تحاولون تشويه وجه الحق ؟
ناديتكم في سكينة الليل لأريكم جمال البدر و هيبة الكواكب فهببتم من مضاجعكم مذعورين و قبضتم على سيوفكم ورماحكم صارخين : اين العدوّ لنصرعه ؟
عند الصباح و قد جاء العدوّ وبخيله و رجله ناديتكم فلم تهبّوا من رقادكم بل ظللتم تغالبون مواكب الأحلام .
قلت لكم تعالوا نصعد إلى قمّة الجبل لأريكم ممالك العالم فأجبتم قائلين : في أعماق هذا الوادي عاش آباؤنا و جدودنا و في ظلاله ماتوا وفي كهوفه قبروا فكيف نتركه و نذهب إلى حيث لم يذهبوا ؟
قلت لكم هلموا نذهب إلى السهول لأريكم مناجم الذهب و كنوز الأرض فأجبتم قائلين : في السهول تربض اللصوص و قطّاع الطرق .
قلت لكم تعالوا نذهب إلى الساحل حيث يعطي البحر خيراته فأجتم قائلين : ضجيج اللجّة يخيف أرواحنا و هول الأعماق يميت أجسادنا .
لقد كنت أحبكم يا بني أمّي و قد أضرّ بي الحبّ و لم ينفعكم . و اليوم صرت أكرهكم و الكره سيل لا يجرف غير القضبان اليابسة و لا يهدم سوى المنازل المتداعية .
كنت أشفق على ضعفكم يا بني أميّ و الشفقة تكثر الضعفاء و تنمي عدد المتوانين و لا تجدي الحياة شيئاً , و اليوم صرت أرى ضعفكم فترتعش نفسي اشمئزازاً و تنقبض ازدراء .
كنت أبكي على ذلّكم و انكساركم و كانت دموعي تجري صافية كالبلور , و لكنّها لم تغسل أدرانكم الكثيفة بل أزالت الغشاء عن عيني , و لا بلّلت صدوركم المتحجّرة بل أذابت الجزع في قلبي , و اليوم صرت أضحك من أوجاعكم و الضحك رعود قاصفة تجيئ قبل العاصفة و لا تأتي بعدها .
ماذا تريدون مني يا بني أمّي ؟
أتريدون ان اريكم أشباح وجوهكم في احواض المياه الهادئة ؟ تعالوا إذن و انظروا ما اقبح ملامحكم .
هلمّوا و تأمّلوا فقد حعل الخوف شعور رؤوسكم كالرماد , و عرك السهر عيونكم فأصبحت كالحفر المظلمة , و لمست الجبانة خدودكم فبانت كالخرق المتجعّدة , و قبّل الموت شفاهكم فأمست صفراء كأوراق الخريف .
ماذا تطلبون مني يا بني أمّي ؟ - بل ماذا تطلبون من الحياة و الحياة لم تعد تحسبكم من أبنائها ؟
أرواحكم تنتفض في مقابض الكهّان و المشعوذين , و اجسادكم ترتجف بين انياب الطغاة و السفّاحين , و بلادكم ترتعش تحت أقدام الأعداء و الفاتحين , فماذا ترجون من وقوفكم أمام وجه الشمس ؟
سيوفكم مغلّفة بالصدأ , و رماحكم مكسورة الحراب , و تروسكم مغمورة بالتراب , فلماذا تقفون في ساحة الحرب و القتال ؟
دينكم رياء و دنياكم ادعاء و آخرتكم هباء , فلماذا تحيون و الموت راحة الأشقياء؟
إنما الحياة عزم يرافق الشبيبة , وجدّ يلاحق الكهولة , و حكمة تتبع الشيخوخة , أمّا أنتم يا بني أمّي فقد وُلدتم شيوخاً عاجزين ثم صغرت رؤوسكم وتقلصت جلودكم فصرتم أطفالاً تتقلبون على الوحال وتترامون بالحجارة .
إنما الإنسانية نهر بلّوري يسير متدفقاً مترنماً حاملاً أسرار الجبال إلى اعماق البحر . أما انتم يا بني امّي فمستنقعات خبيثة تدبّ الحشرات في أعماقها و تتلوى الأفاعي على جنباتها .
إنما النفس شعلة زرقاء متقدة مقدسة تلتهم الهشيم وتنمو بالأنواء و تنير أوجه الآلهة – أمّا نفوسكم يا بني أمّي فرماد تذريه الرياح على الثلوج و تبدده العواصف في الأودية .
أنا اكرهكم يا بني أمّي لأنكم تكرهون المجد و العظمة .
أنا أحتقركم لأنكم تحتقرون نفوسكم.
أنا عدوكم لأنكم أعداء الآلهة و لكنّكم لا تعلمون !!!
جبران خليل جبران مال هنا لكشف اغوار حقيقتنا في هذه الأزمان
علق من فضلك و زدنا رأيا يفيدنا
|