مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الإسلامي > الخيمة الإسلامية
اسم المستخدم
كلمة المرور

 
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 19-09-2002, 02:06 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي المنهج المقاصدي عند القرضاوي في كتاب الحلال والحرام في الإسلام (2)ما هي المقاصد؟

الباب الأول : في المقاصد و المنهج المقاصدي:
الفصل الأول : ما هي"المقاصد"؟
كان الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله –فيما نعلم- أول عالم في العصر الحديث، بل في العصور كلها يتكلم عن علم مستقل اسمه "علم مقاصد الشريعة" و هو في مقدمة كتابه الشهير "مقاصد الشريعة الإسلامية" يشرح نظرته إلى هذا العلم بأنه هو العلم الذي ينبني على قطعيات يستند إليها الفقهاء و لا يختلفون فيها كما يستند أهل العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي و الفلسفي إلى الأدلة الضروريات و المشاهدات و الأصول الموضوعة وعلم أصول الفقه –في رأيه- لا يفي بهذا الغرض لأن مسائل أصول الفقه هي نفسها مختلف فيها بين الفقهاء تبعاً لاختلافهم في مسائل الفروع التي استخلصت منها وثمة سبب آخر لانعدام الإجماع في مسائل أصول الفقه يعود في رأيه إلى كون هذه المسائل لا تبحث في حكمة الشريعة و مقصدها بل تبحث في قواعد التفسير اللغوي للنصوص و في قواعد استخراج الأوصاف المناسبة المنضبطة التي بنيت عليها الأحكام لكي يمكن القياس بعد معرفة هذه الأوصاف التي سموها العلل أما البحث في المقاصد فلا يشغل إلا جزءاً ضئيلاً من كتب الأصول قلّ من ينتبه إليه و لهذا شمر الشيخ ابن عاشور رحمه الله عن ساعد الجد و قرر العمل على تنفيذ مشروعه الذي يشرح فكرته كما يلي " إذا أردنا أن ندون أصولاً قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين و نعيرها بمنظار النظر و النقد فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفكر و النظر ثم نعيد صوغ ذلك العلم و نسميه علم مقاصد الشريعة ونترك علم أصول الفقه على حاله تستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية و نعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه غير منزو تحت سرادق مقصدنا هذا من تدوين مقاصد الشريعة فنجعل منه مبادئ لهذا العلم الجليل علم مقاصد الشريعة" .
و الشيخ ابن عاشور يقسم مقاصد الشريعة إلى قسمين: مقاصد عامة ومقاصد خاصة ويعرف المقاصد العامة للشريعة بقوله: "مقاصد التشريع العامة هي المعاني و الحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة فيدخل في هذا أوصاف الشريعة و غايتها العامة و المعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، و يدخل في هذا أيضاً معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام و لكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها" .
أما المقاصد الخاصة، و هي مقاصد الشرع في أبواب المعاملات فيعرفها بأنها "الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة. كي لا يعود سعيهم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أسس لهم من تحصيل مصالحهم العامة، إبطالاً عن غفلة أو عن استزلال هوى وباطل شهوة . ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس، مثل قصد التوثق في عقدة الرهن، وإقامة نظام المنزل و العائلة في عقدة النكاح، ودفع الضرر المستدام في مشروعية الطلاق" .
والمفكر الإسلامي الثاني الذي تصدى لموضوع المقاصد في العصر الحديث كان الأستاذ علال الفاسي رحمه الله وقد خصص له كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها". وفي هذا الكتاب يعرف مقاصد الشريعة كما يلي: "المراد بمقاصد الشريعة الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها" .وفي نهاية هذا الفصل سنكرس فقرة خاصة لهذين العالمين المعاصرين.
ويبدو أن الذين كتبوا في هذا الموضوع في العصر الحديث لم يخرجوا عن تعريفي الأستاذين ابن عاشور و علال الفاسي وانظر مثلاً ما كتبه الأستاذ أحمد الريسوني في كتابه "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" عن تعريفي د.وهبة الزحيلي ود.عمر الجيدي للمقاصد فهو يقول إنهما تبنيا التعريفين دون أي تنبيه على ذلك .
والأستاذ أحمد الريسوني واحد من الباحثين المعاصرين الذين اهتموا بموضوع المقاصد وبالتحديد بنظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي وهو يتوصل إلى التعريف التالي:"مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها، لمصلحة العباد" .
غير أننا نجد الأستاذ الريسوني بعد قليل،وخلال حديثه عن النظر المقاصدي عند الإمام العز بن عبد السلام يسوق تعريفاً أبسط للمقاصد يأتي في هذا السياق:"الكلام في المصالح والمفاسد هو كلام في مقاصد الشريعة التي تتلخص في جلب المصالح ودرء المفاسد!"وهذا التعريف البسيط للمقاصد نتبناه نحن أيضاً على شرط توسيع معنى "المصلحة"و"المفسدة"بحيث يحتوي تلك المصالح والمفاسد مما أتت به النصوص الشرعية الثابتة والتي قد لا يدركها العقل في وقت أو زمان ما. وهذا التحفظ نراه ضرورياً وعلى أساسه يمكن لنا إزالة التعارض الظاهر بين المنهج المقاصدي والمنهج الذي يقف عند النصوص.
ويرى الأستاذ الريسوني بناء على دراسته لكتابي ابن عاشور والفاسي تقسيم المقاصد إلى ثلاثة أقسام:
1-المقاصد العامة: وهي التي تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية أو في كثير منها.
2-المقاصد الخاصة: وهي المقاصد التي تهدف الشريعة لتحقيقها في باب معين أو في أبواب قليلة متجانسة من أبواب التشريع (مثلاً مقاصد الشريعة في أحكام العائلة).
3-المقاصد الجزئية: وهي ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي من إيجاب أو تحريم أو ندب أو كراهة أو إباحة أو شرط أو سبب.
  #2  
قديم 19-09-2002, 02:08 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

وحين نتكلم عن "المقاصد" في الشريعة الإسلامية فإننا نتكلم في الحقيقة عن "معنى" هذه الشريعة إذ أنه من المزايا الباهرة لدين الإسلام أنه مبني بناء منطقياً سواء في العقيدة أو في الفقه و هذا بحد ذاته ناتج عن طابع الرسالة الإلهية الإسلامية الأكبر: إنها رحمة للعالمين و الطابع العقلي للشريعة الإسلامية عائد إلى كونها خاتمة الشرائع السماوية فهي شريعة الإنسانية التي بلغت سن الرشد و من خواص الراشد أنه يطلب الاقتناع خلافاً لغير الراشد، و هذا الطابع العقلي نفسه هو أحد تجليات الكرم الإلهي الذي رفع الإصر عن هذه الأمة و من أعظم صور الإصر بلا شك فرض شريعة غير معقولة أي لا يستطيع العقل فهم تعاليمها و عللها على الناس و لنا أن نقارن هذه الشريعة السمحاء مع شرائع سابقة حفلت بالأوامر و النواهي غير معلومة العلة أو الحكمة، فبينما نجد الشريعة الإسلامية الناسخة لجميع الشرائع التي سبقتها قد أحلت الطيبات و حرمت الخبائث، طيبات يميل العقل و الفطرة السليمة إليها و خبائث هي على العكس ينفر منها كل ذي عقل و فطرة سليمة حتى عند عرب الجاهلية المنصفين و هذا ما جرى مع مفروق بن عمرو و هو من شيبان بن ثعلبة و كان النبي عليه الصلاة و السلام عرض على هذه القبيلة دعوته في الموسم على عادته في أول عهد الدعوة فسأله مفروق: إلام تدعونا أخا قريش؟ فتلا النبي صلى الله عليه و سلم: "إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى …….." فقال: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق و محاسن الأعمال و لقد أفك قوم كذبوك و ظاهروا عليك.نجد الشريعة اليهودية مثلاً تحرم بعض الطيبات، فإن الله عز و جلّ يخبرنا أنه بظلم من اليهود حرم عليهم طيبات أحلت لهم "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم و بصدهم عن سبيل الله كثيراً*و أخذهم الربا و قد نهوا عنه و أكلهم أموال الناس بالباطل و أعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً". أيضاً نقرأ في قصة البقرة التي أمرهم الله بذبحها كيف قادهم تعنتهم إلى أن فرض الله عليهم سلسلة من المواصفات العسيرة غير ظاهرة المعنى للبقرة التي كلفوا بذبحها.
"المقاصد" هي روح الشريعة التي تتخلل كل نصوصها وبمعرفة المقاصد تصبح النصوص أعضاء في جسم حي حافل بالحياة لأنه حافل بالمعنى يشير فيه كل حكم إلى الآخر و يدل عليه و ما أحسن و أعمق ما قال العلامة المجاهد العز بن عبد السلام "ومن تتبع مقاصد الشارع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها و أن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها نص و لا إجماع ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك ومثل ذلك من عاشر إنساناً من الفضلاء الحكماء العقلاء وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فيها فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة و يكره تلك المفسدة .
وبدون معرفة المقاصد تتحول الأحكام إلى ما يشبه أعضاء ميتة متفرقة لا يجمعها جامع ولا تجدي المجتهد الذي يريد استنتاج حكم في واقعة مستجدة ما نفعاً.
الفصل الثاني:المصالح والمفاسد:
نحن إذاً نعتقد أن الشريعة مقصدها الدائم جلب المصالح ودرء المفاسد وأن الله عز وجل،تكرماً ومنةً منه على الخلق، لا يأمر إلا بالأصلح وهذا ما يستطيع الإنسان بفطرته معرفته غالباً وإن عجز بعض الناس في بعض الأوقات عن فهم المصلحة في بعض جزئيات الشريعة.
والمصلحة التي نتكلم عنها هي المصلحة الشرعية التي جاءت بها كليات الشريعة أو جزئياتها وهي المصلحة الحقيقية التي يجوز أن تعلل بها الأحكام لا المصلحة الزائفة المستندة إلى الهوى العابر أو المصلحة الفئوية أو الطبقية أو ما شابهها مما يسير عليه الضالون أفراداً وجماعات، وقد جاء علماء الأصول بتقسيم ثلاثي للمصالح التي أخذت بها الشريعة الإسلامية فقد قالوا إن الشريعة إنما وضعت للمحافظة على الضروريات و الحاجيات والتحسينيات، أما الضروريات فهي ما تقوم عليه حياة الناس ولا بد منها لاستقامة مصالحهم وبدونها يختل نظام حياتهم وتعم فيهم الفوضى والفساد والضروريات عند جمهور العلماء خمسة: الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
وأما الحاجيات فهي ما يحتاج إليه الناس لليسر والسعة واحتمال مشاق التكليف وأعباء الحياة وإن فقدت لا يختل نظام حياتهم ولا تعم فيهم الفوضى ولكن ينالهم الحرج والضيق.
  #3  
قديم 19-09-2002, 02:09 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

وأما التحسينيات فهي كل ما تقتضيه المروءة والآداب وإن فقدت لا يختل نظام الناس كما لو فقدت الضروريات ولا ينالهم حرج كما لو فقدت الحاجيات ولكن تكون حياتهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة فالتحسينيات بهذا المعنى ترجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات .
في الضروريات الخمسة شرع الجهاد لحماية الدين من العدوان ولمحاربة من يقف عقبة في سبيل الدعوة إليه وفرضت العقوبة على المرتدين والمبتدعين وحجر على المفتي الماجن.ولحفظ النفس شرع لإيجادها أولاً الزواج ولحفظها ثانياً حق كل إنسان في أن ينال ما تقوم به حياته من مأكل وملبس ومسكن وحرم الانتحار والقتل العمد وأبيح الدفاع عن النفس. ولحفظ العقل حرم الإسلام الخمر والمخدرات وقد يضيف المرء إلى هذا تحريم كل ما من شأنه الإضرار بالصحة العقلية مما أتى به عصرنا من أنواع مفسدات العقل. ولحفظ النسل جاءت أحكام الزواج والطلاق والعدة وحد الزنى وحد القذف أيضاً. ولحفظ المال شجع الشرع على كل النشاطات المنتجة من صناعة وزراعة وتجارة ووضع التشريعات الكثيرة التي تنظم إنتاج السلع وتوزيعها وتنظم المبادلات مثل أحكام البيع والإجارة وغيرها. ولحفظ المال أيضاً شرع الحد في السرقة وحرمت المبادلات التي فيها غبن لأحد الطرفين والغرر عموماً وأكل أموال الناس بالباطل وحرم الربا تحريماً مغلظاً إلى آخره. ويضيف بعض العلماء العرض (وهو في اللغة موضع المذمة والحمد في الإنسان، فهو لا يقتصر على مفهومنا الآن لهذه الكلمة) إلى الضروريات وتصبح بهذا ستة.
وفي الحاجيات شرع الإسلام كل ما يرفع الحرج وييسر المعاملات: شرع الرخصة عند المشقة وشرع بعض العقود التي تيسر على الناس وإن خالفت القواعد العامة للعقود وكما أبيحت المحظورات في الشريعة الإسلامية للضرورة أبيحت أيضاً للحاجة.
وللحفاظ على التحسينيات شرعت الطهارة للبدن وندب إلى أخذ الزينة عند كل مسجد وشرعت قواعد معاملة الناس بالحسنى والعفو عند المقدرة وإنظار المعسر وإفشاء السلام وتحريم المقاطعة بين المسلمين وشرعت مكارم الأخلاق وأقر ما كان منها في الجاهلية.
ولاعتبار المصلحة في الشرع ضوابط تكلم عنها الفقهاء (ومن أشهرهم حجة الإسلام أبو حامد الغزالي) ومن هذه الضوابط أن يكون للمصلحة ما يشهد لها من كليات الشريعة وأن لا تقترن بمفسدة أعظم منها وأن تكون مصلحة حقيقية لا وهمية كلية لا تخص فرداً أو فئة بالتعارض مع مصلحة الجماعة ومن شروط اعتبارها أن لا تناقض نصاً قطعياً ثابتاً خلافاً لرأي شاذ قال به نجم الدين الطوفي قديماً ووجد حديثاً من يرحب به من المبهورين بالثقافة الغربية وهذا الرأي يقول بتقديم المصلحة على النص عند التعارض.
ومن الذين تصدوا للرد على هذا الرأي في عصرنا د.محمد سعيد رمضان البوطي وخلاصة رده :أولاً: إن الطوفي يناقض نفسه حين يقول إن الشريعة لم تأت إلا لرعاية مصالح العباد ثم يقدم هذه المصالح على نصوص الشريعة .ثانياً: إن المصلحة ما هي إلا فرع مستخلص من نصوص الشريعة وبالتالي فهي ليست دليلاً مستقلاً قسيماً للنص عند تقسيم الأدلة. ثالثاً: إن الطوفي يناقض نفسه فيقول إن المصلحة مجمع عليها فهي أقوى حتى من دليل الإجماع إذ اختلف في هذا الدليل!. رابعاً: إن الطوفي يخلط بين اختلاف المجتهدين في تأويل النصوص واختلاف النصوص نفسها إذ أن النصوص لا تتعارض وإنما قد تتعارض تأويلاتها .
والشريعة تقوم على ميزان دقيق بين جلب المصالح و درءالمفاسد وثمة قواعد فقهية كثيرة توجه المجتهد في هذا المجال مثل: "الضرر يدفع قدر الإمكان"، "الضرر لا يزال بمثله"، "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"، "يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام" وغيرها وفي الواقع إن القواعد الفقهية التي تخص الميزان المصلحي الدقيق الذي نتكلم عنه تستغرق أغلب هذه القواعد حتى تلك التي لا تبدو علاقتها مباشرة مع موضوع المصلحة فإذا أخذنا مثلاً القاعدة الكبرى التالية "اليقين لا يزول بالشك" نستطيع بقليل من التأمل أن نرى القدر الهائل من المصالح المنوط بالأخذ بهذه القاعدة ومقدار المشاق والمفاسد التي سنتحملها إن لم نأخذ بها.
  #4  
قديم 20-09-2002, 01:23 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

الفصل الثالث: نبذة عن تاريخ النظر المقاصدي منذ العصر النبويَ:
أولاً-عصر النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة:
لا نستطيع في هذا البحث إيفاء موضوع التأريخ للنظر المقاصدي عند سلفنا الصالح منذ عصر النبي عليه الصلاة والسلام وعصر الصحابة رضي الله عنهم حقه الكامل بسبب محدودية حجم هذا البحث، ولأن موضوعه الأصلي مقتصر على المنهج المقاصدي عند الأستاذ القرضاوي على أن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه.
فنقول: إن المنهج المقاصدي كان معروفاً ومأخوذاً به منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم بل لعلنا نستطيع رؤية بدايات الاختلاف بين المنهج الآخذ بحرفية النص والمنهج الآخذ بمقصد النص وروح الشريعة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام والحادثة المشهورة في غزوة بني قريظة تظهر ذلك بوضوح: "عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم. وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم".
وفي هذه الحادثة اختلف الصحابة بين آخذ بحرفية النص وهو الفريق الذي لم يقبل أن يصلي العصر مع أن وقتها قد حلّ معتقداً أن النص النبوي منع الصلاة إلاّ عند الوصول إلى بني قريظة وبين آخذ بما رآه مقصداً للنص وهو التعجيل إلى بني قريظة لمعاقبتهم على نقضهم للعهد. ووفقاً لاجتهادهم لم يكن منع صلاة العصر إذا حلّ وقتها على من لم يَصلْ بعد إلى بني قريظة هو مقصود النص.
والنبي عليه الصلاة والسلام حين أقر كلا الفريقين على موقفه فقد وضع أساساً عظيماً لمبدأ التسامح بين ذوي الاجتهادات المختلفة وهو في الوقت نفسه، والله أعلم، أراد أن يبقي كلا وجهتي النظر لأنهما متكاملتان تصحح إحداهما الأخرى إذ من جهة يصحح "المقاصديون" الحرفيين فينبهونهم إلى مقصد النص ومغزاه ومن جهة أخرى يحافظ "الحرفيون" على حرف النص فيحولون بهذا دون ما قد يعتري المقاصديين من وهم في تلمسهم لمقصد النص، إذ أن النص، وهذا ما لا يجب استبعاده، قد يكون مقصده الحقيقي موجوداً في حرفه ولكن هذا المقصد قد يبدو لسبب ما غير مقصود وهو في الحقيقة كذلك.
والنظرة التي تدعو إلى أخذ كل من كلام الشارع وكلام الناس بالمقاصد أي بالمعاني الحقيقية للكلام لا بألفاظه الظاهرة نظرة إسلامية عريقة إذ أن مقاصد المكلَّف أيضاً تحدد حكم ما قام به من فعل قال النبي عليه الصلاة والسلام "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".وثمة علاقة وطيدة بين النظر في الحكم إلى مقصد المكلف وإلى مقصد الشارع فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن طلاق الثلاث مرة واحدة وقد أخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام عن رجل قد طلق امرأته ثلاث طلقات جميعاً فقام غضبان ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟" حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟.فظاهر فعل الرجل الذي غضب منه رسول الله هو السير بمقتضى النص المحدد للطلاق ذي البينونة الكبرى وأما حقيقة مقصده فهو التلاعب بمقصد الشارع والالتفاف عليه وهذا الغضب الذي كان من المعصوم عليه السلام نعده دليلاً آخر على تحريم الحيل في الشريعة الإسلامية وإن أباحها قدماء ومحدثون .
ومن أعظم فقهاء الصحابة عمر رضي الله عنه واشتهر عنه فهم مقاصد النصوص والسير وفق هذه المقاصد ومن أمثلة ذلك المشهورة إيقافه لصرف سهم المؤلفة قلوبهم لأنه رأى أن مقصد هذا السهم هو تألف قلوب من يخشى منهم على الإسلام وهو في طور الضعف ولم يكن هذا الوضع قائماً في عهده.وإيقافه حد السرقة في عام الرمادة وكان عام قحط وشدة يمكن عده أيضاً مثالاً على النظرة المقاصدية للحدود فحد السرقة مقصده ردع الجشعين الذين يسرقون وهم يقدرون على العيش بدون سرقة فهو لا يتناول أولئك الذين عضهم الجوع فسرقوا اضطراراً أو كانت شبهة اضطرارهم قوية بحيث تدرأ عنهم الحد.
  #5  
قديم 20-09-2002, 01:24 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

ثانياً-عصر الأئمة والأصوليين الكبار:
واستمر الأخذ بالنظر المقاصدي بعد ذلك ومن أمثلة ذلك أخذ أبي حنيفة وتلامذته بمبدأ"الاستحسان" ولاسيما ما سمي"استحسان الضرورة"وهو"ما خولف فيه حكم القياس نظراً إلى ضرورة موجبة أو مصلحة مقتضية،سداً للحاجة أو دفعاً للحرج"
ومعلوم أن دفع الحرج من مقاصد الشريعة القطعية فهو إذن يقدم على القياس الظاهر الذي هو دليل ظني.
وأخذ الإمام مالك بالنظر المصلحي واشتهر أخذ المالكية بالمصلحة المرسلة حتى عد هذا من مميزات هذا المذهب (14)والأستاذ أحمد الريسوني يعد النظرية المقاصدية للشاطبي ذات علاقة وطيدة مع تاريخ المذهب المالكي الطويل في النظر المصلحي .
ومن الأمثلة التي تضرب على مراعاة المذهب المالكي للمصلحة التي هي هنا التيسير ورفع المشقة الموقف من بيع المعاطاة وهو البيع الذي يكتفي فيه البائع بإعطاء السلعة والشاري بإعطاء الثمن، فبينما أبطلت الشافعية والظاهرية هذا البيع وصححته الحنفية والحنابلة بشرط تحديد الثمن وعلمه وعدم تصريح أحد العاقدين بما ينافي العقد صحح المالكية هذا البيع مطلقاً ما دام هناك ما يدل على رضى المتعاقدين بهذا العقد.
وبعد عصر الأئمة ظهرت النظرية المقاصدية على أيدي أئمة كبار من أمثال الجويني (توفي عام 478ه) والغزالي(توفي عام 505ه) وابن القيم (توفي عام 751ه) فالجويني كان رائداً في التنبيه إلى أهمية معرفة المقاصد فهو يقول في كتابه البرهان "ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي، فليس على بصيرة في وضع الشريعة" .وهو أول من قسم الكليات التي تراعيها الشريعة إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات ثم جاء من بعده الغزالي الذي قعّد هذا التقسيم بصورة واضحة وتكلم عن الضروريات الخمس قائلاً إنها لا تخلو منها شريعة وذلك في كتابه "المستصفى من علم الأصول".
واهتم من بعد هؤلاء الإمام ابن تيمية (توفي عام 728) ببيان مقاصد الشريعة وهو يقول مثلاً "إن الشريعة جاءت لتحسين المحاسن وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها. وإنها ترجح خير الخيرين وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما" .ويقول في كتاب "القواعد النورانية الفقهية": "الشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده الملك، والعتق قد يكون مقصوداً للعقد فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيراً، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: كتاب الله أحق وشرط الله أوثق" .
وجاء بعد ابن تيمية تلميذه النجيب ابن قيم الجوزية الذي دافع عن الرؤية المقاصدية للشريعة دفاعاً رائعاً ولا سيما في كتابه العظيم "إعلام الموقعين عن رب العالمين" فهو مثلاً يقول في ميدان شرحه للمبدأ الفقهي القائل إن العبرة في العقود للمقاصد والنيات: "ومن تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم، وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم في الخمر عاصرها ومعتصرها، ومن المعلوم أن العاصر إنما عصر عنباً ولكن لمّا كانت نيته إنما هي تحصيل الخمر لم ينفعه ظاهر عصره ولم يعصمه من اللعنة لباطن قصده ومراده فعلم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها. ومن لم يراع المقصود في العقود وجرى مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر، وأن يجوز له عصر العنب لكل أحد وإن ظهر له أن قصده الخمر" .
ونلاحظ هنا أن ابن القيم ينتقد نقداً عنيفاً وجهة النظر السطحية التي تحكم على الأفعال بظاهرها لا بمقاصدها مما يضيع مقاصد الشريعة حين يحتال المكلف لجعل الحرام حلالاً بالالتزام بالظاهر وتناسي القصد الباطن ويزداد التوجه المقاصدي لابن القيم رحمه الله وضوحاً في هجومه على من أباح ما يدعونه "الحيل الفقهية" وهو يناقش المحلين لهذه الحيل مناقشة مصلحية قيمة قائلاً إن هذه الحيل تبطل مقاصد الشريعة وتناقض حكمتها فمثل المحتال مثل من سمى السم دواء ووصفه للناس .
  #6  
قديم 23-09-2002, 03:12 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

ثالثاً-وقفة مع الاعتراض الظاهري:
من الخصوم الألداء لفكرة ربط الأحكام الشرعية بعلل وحكم معقولة المذهب الظاهري الذي سنذكر في هذه النبذة الموجزة آراء لمنظره الأكبر أبو محمد بن حزم رحمه الله لاعتقادنا أن عنده من المفيد ما يقوله .
يزعم ابن حزم أنه ما من أحد من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم علل شيئاً من أحكام الشريعة "وإنما ابتدع هذا القول متأخروا القائلين بالقياس" .
ويلجأ ابن حزم في إنكاره للتعليل إلى حجة أراها شخصياً في غاية القوة المنطقية ولم أر أحداً رد عليه فيها ولم يذكرها الأستاذ الريسوني في مناقشته القيمة للمذهب الظاهري في كتابه الذي ذكرناه سابقاً لسبب لم أعرفه وقد يكون عد هذا الاعتراض من المباحث الكلامية الفلسفية التي قال إنه لا يريد السقوط فيها.
يقول ابن حزم "أخبرونا عن هذه العلل التي تذكرون: أهي من فعل الله وحكمه؟ أم من فعل غيره وحكم غيره؟ أم لا من فعله تعالى ولا من فعل غيره؟" وبعد أن رأى أنهم لا يستطيعون الخروج عن واحدة من هذه الثلاث قال إنهم سيقولون إنها من فعل الله عز وجل وحكمه عندها سيسألهم: أفعلها الله تعالى لعلة؟ أم فعلها لغير علة؟ "فإن قالوا: فعلها لغير علة تركوا أصلهم (أي التعليل.م) أو قيل لهم: ما الذي أوجب أن تكون الثانية بلا علة والأولى بعلة وهذا تحكم غير دليل. وإن قالوا بل فعلها الله تعالى لعلل أخر سئلوا في هذه العلل إلى ما لا نهاية وأثبتوا وجود ما لا أول له غير الله وهذا كفر!"
وهذه المحاججة تبدو في ظاهرها بالفعل كلامية فلسفية ولكنها في الحقيقة تضع حداً لمن يريد أن يحكم العقل البشري في كل صغيرة وكبيرة من الشريعة والعقيدة وتثبّت الفكرة الصائبة القائلة إن من المطلوب منا الإيمان بأفعال لله وعقائد لا نعلم حكمتها. وعيب النظرية الظاهرية هو إنكارها التعليل في ذلك القسم من أحكام الشريعة الذي يستطيع العقل تعليله بل يجب عليه. وابن حزم يضرب أمثلة يراها مقنعة في إنكار التعليل مثل قولهم إن المشقة علة في حكم قصر الصلاة للمسافر فهو يقول: فلم لم تقصر إذاً للمريض والمشقة موجودة! وجوابنا هو أن المشقة تجلب التيسير أيضاً في هذه الحالة فالشارع طلب من المريض أن يصلي كما يستطيع ولم يلزمه بصلاة الصحيح. لا يصح إذاً إنكار التعليل في كل حالة لأن هنالك قسماً من أحكام الشريعة أساسياً يخص الظروف الموضوعية المادية لحياة الإنسان وهذه الظروف لها سنن (هي أيضاً من وضع الخالق عز وجلّ) والأحكام تنسجم بالضرورة في هذا القسم مع هذه السنن وهذا الانسجام هو الذي ندعوه بالحكمة أو العلة فالله عز وجل جعل من خواص مادة الكحول التأثير في الدماغ البشري تأثيراً هو الإسكار ولما كان هذا التأثير يتناقض مع مراد الله من بقاء الإنسان في حالة توازن عقلي كان الحكم بتحريم الخمر منسجماً مع هذا المقصد وناتجاً عن تلك السنة الطبيعية التي جعلها الله لتلك المادة.
وقد جعل الله من طبائع النساء الغيرة بين الضرائر وهذه السنة الطبيعية اقترنت بمقصد شرعي هو التراحم بين الأختين فأدى هذا إلى الحكم بحرمة الجمع بينهما في الزواج.
وبالعودة إلى موضوع هذه الفقرة نقول إن التعليل يقف هنا ولا نسأل عما هو بعد ذلك (مثلاً لماذا خلق الله الإنسان محتاجاً للزواج!) فأبو محمد رحمه الله إذاً تعجل بإيقاف التعليل والتعليل حقاً يجب أن يقف عند نقطة هي ما بعد علة الحكم الأول وعندها يصبح فهم ابن حزم للآية الكريمة "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" صحيحاً إذ أن البحث في الحكمة مطلوب شرعياً لحد هذه النقطة.


رابعاً- وقفة مع مناقشة ابن الجوزي للصوفيةتوفي عام 597ه)
تستوقفنا مناقشة ابن الجوزي رحمه الله الحادة للصوفية في كتابه الشهير "تلبيس إبليس" لأنها بالفعل تعبير رائع عن رؤية هذا الفقيه الكبير للمقاصد العامة للشريعة الإسلامية من خلال نقد الرؤية السائدة بين متصوفة زمانه التي شطبت قسماً كبيراً من هذه المقاصد مما أدى إلى خلل خطير في المجتمع الإسلامي آنذاك. وهذه أمثلة من السلوك والمفاهيم الصوفية التي انتقدها على أرضية من الفهم السليم للمقاصد الشرعية:
1-احتقار العلم والعلماء:
قال بعض الصوفية "المقصود العمل" مهملاً بهذا مقصد الشريعة الكبير في الحث على طلب العلم وفي إزالة الجهل "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" ولهذا التيار من الصوفية تبريرات لترك العلم الشرعي كقولهم إنه "علم الظاهر" أما هم فمشغولون بعلم الباطن! وقالوا إنهم أخذوا علمهم عن الحي الذي لا يموت بينما العلماء يأخذون علمهم ميتاً عن ميت! ولجأ كثير منهم إلى إتلاف ما كان عندهم من كتب، وفي الرد على هذا التيار الغالب في الصوفية (وليس هو رأي جميعهم) يقول ابن الجوزي: "العلم نور وإبليس يحسّن للإنسان إطفاء النور ليتمكن منه في الظلمة ولا ظلمة كظلمة الجهل، ولما خاف إبليس أن يعاود هؤلاء مطالعة الكتب فربما استدلوا بذلك على مكايده حسّن لهم دفن الكتب وإتلافها وهذا فعل قبيح محظور وجهل بالمقصود بالكتب وبيان هذا أن أصل العلوم القرآن والسنة فلما علم الشرع أن حفظهما يصعب أمر بكتابة المصحف وكتابة الحديث" وأوضح ابن الجوزي في هذا السياق أن العلم سبيل لمعرفة أحكام الله "من أكبر المعاندة لله عز وجل الصد عن سبيل الله وأوضح سبيل الله العلم لأنه دليل على الله وبيان لأحكام الله وشرعه وإيضاح لما يحبه ويكرهه فالمنع منه معاداة لله وشرعه" .
2- ترك العمل وتفضيل البطالة:
ما أكثر الآيات و الأحاديث التي تحض على العمل وتفضله على الكسل والتبطّل! قال عز وجل "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" و قال عليه الصلاة والسلام "لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها الله وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" وقال "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود صلى الله عليه وسلم كان يأكل من عمل يده".
نعى ابن الجوزي على متصوفة عصره استباحتهم للتسول ومفهومهم الخاطئ للتوكل ينقل عن أحدهم أنه سئل عن التوكل فأعطى آخر درهم كان عنده ثم قال: "استحييت من الله أن أجيبك وعندي شيء" وكان بعضهم يهب كل أمواله ثم ينصرف إلى التسول وابن الجوزي يوضح مفهوم الإسلام من التوكل الذي يتنافى مع ترك العمل والأخذ بالأسباب وهكذا فهمه الصحابة، يقول ابن الجوزي: "لو فهم هؤلاء معنى التوكل وأنه ثقة القلب بالله عز وجل لا إخراج صور المال ما قال هؤلاء هذا الكلام ولكن قلّ فهمهم وقد كان سادات الصحابة والتابعين يتجرون ويجمعون الأموال وما قال مثل هذا أحد منهم.وقد روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال حين أمر بترك الكسب لأجل شغله بالخلافة، فمن أين أطعم عيالي؟. وهذا القول منكر عند الصوفية يخرجون قائله من التوكل .
3-مفهومهم الخاطئ لموقف الشريعة من المال:
تركيز الصوفية على مبدأ الزهد جعلهم يعتقدون أن المال شر لا خير فيه وأن الشريعة الإسلامية مقصدها الأساس في موضوع المال محاربته والحث على عدم اقتنائه وتضييع الموجود منه بأي طريقة كانت حتى ولو كانت رميه في النهر!
وفي مناقشة ابن الجوزي الطويلة مع الصوفية لا ينفك يعيد أن الشريعة حثت على طلب المال من وجوهه المشروعة وتنميته بصورة مشروعة أيضاً وهو يرد على قول المحاسبي "إن الله عز وجل نهى عباده عن جمع المال وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن جمع المال" فيقول: "وقوله: ترك المال الحلال أفضل من جمعه ليس كذلك بل متى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء" ويضرب لذلك أمثلة من حياة الأنبياء والصالحين فقد كان لإبراهيم عليه السلام زرع ومال وكذلك لشعيب وكان سعيد بن المسيب يقول لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه ويصون به عرضه.
  #7  
قديم 23-09-2002, 03:15 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

-الإعراض عن الزواج وعن الزينة ومباهج الحياة المشروعة:
من المعروف في الشريعة أن الزواج من السنن المستحبة المندوب إليها لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".وقال وقد أخبر عن صحابة أراد أحدهم أن يقوم الليل فلا ينام وآخر أن يصوم فلا يفطر والثالث أن يعتزل النساء فلا يتزوج: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
ولا شك أن الإسلام جاء بالحنيفية السمحاء التي لا رهبانية فيها فامتناع الصوفية عن الزواج مناقضة لهذا المقصد العظيم من مقاصد الشريعة ويقول الصنعاني رحمه الله في"سبل السلام" معلقاً على هذا الحديث: "وهو دليل على أن المشروع هو الاقتصاد في العبادات دون الانهماك والإضرار بالنفس وهجر المألوفات كلها وإن هذه الملة المحمدية مبنية شرعتها على الاقتصاد والتسهيل والتيسير وعدم التعسير" .
أما الصوفية في زمان ابن الجوزي فقال أحدهم: "إذا طلب الرجل الحديث أو سافر في طلب المعاش أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا" فقال ابن الجوزي في الرد عليه: "وهذا كله مخالف للشرع وكيف لا يطلب الحديث والملائكة تضع أجنحتها لطلب العلم. وكيف لا يطلب المعاش وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأن أموت من سعي على رجلي أطلب كفاف وجهي أحب إليّ من أن أموت غازياً في سبيل الله. وكيف لا يتزوج وصاحب الشرع يقول: "تناكحوا تناسلوا" فما أرى هذه الأوضاع إلا على خلاف الشرع" .
وكما حرم هؤلاء الصوفية على أنفسهم الزواج حرموا طيبات أحلّها الله لهم واختاروا لأنفسهم المظهر المزري والله عز وجل يأمر المؤمنين أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، والصوفية ألزموا أنفسهم بما لا يلزم من لبس المرقّع بلا ضرورة، قال أبو الفرج: "وإنما أكره لبس الفوط المرقعات لأربعة أوجه أحدها أنه ليس من لبس السلف وإنما كان السلف يرقعون ضرورة. والثاني أنه يتضمن ادعاء الفقر وقد أمر الإنسان أن يظهر نعمة الله عليه. والثالث أنه إظهار للزهد وقد أمرنا بستره. والرابع أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة ومن تشبه بقوم فهو منهم!" .
وأخذ أبو الفرج عليهم أنهم بهذا خالفوا السنة وتمسكوا بأمر شكلي وخالفوا مقصد الشرع في التواضع وعدم المراءاة وإخفاء الزهد وعدم إظهاره.
وبعد هذا الاستعراض لنقاط جوهرية في نقد ابن الجوزي للصوفية نقول إن هذا النقد يمثل لنا فهماً للمقاصد العامة للشريعة الإسلامية وما تريده من نظام للسلوك الاجتماعي والفردي بالتناقض مع فهم خاطئ لم يزل لحد الآن موجوداً عند المسلمين يتميز بأطروحة رئيسية تقول إن الدين يريد من الفرد أن يعرض عن العمل وعن الإقبال على مباهج الحياة وينصرف إلى العزلة والتفكير في الآخرة فقط دون تفكير في تدبير أمر الدنيا وأبو الفرج يدافع عن الفهم الإسلامي الصحيح المنسجم مع قوله تعالى "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا".
ونقول باختصار: إن هذه المناقشة تدخل في صميم الرؤية المقاصدية العامة التي كان عليها أئمة الفقه عبر العصور والخلاف الشهير بين الفقهاء والمتصوفة كان خلافاً بين من يرى في الإسلام ديناً جامعاً لمصالح الدنيا والآخرة (وهم الفقهاء غالباً) ومن يرى في الإسلام ديناً يهمل الدنيا لصالح الآخرة وعبر عن هذا التيار المتصوفة وهذا التيار استطاع مع الأسف أن يجتذب عقلاً كبيراً من أعظم عقول المسلمين بل من أعظم عقول البشرية جمعاء هو أبو حامد الغزالي رحمه الله وكتاب ابن الجوزي حافل بالرد على أبي حامد وانتقاد تراجعه في مرحلته الصوفية عن المتعارف عليه والبديهي في الفقه الإسلامي الذي كان هو بالذات من أعلامه العظام. ولا بد لي في ختام هذه الفقرة أن أنصف التيار الصوفي فأقول إنه رغم تطرفه فقد كان يشكل جانباً مفيداً من جوانب الفكر الإسلامي الذي هو الجانب التأملي ولعل في تطرفه في هجر الدنيا رد فعل مبالغاً فيه لتطرف معاكس شهده تاريخنا عند بعض الشرائح المترفة في السلطة وغيرها.
خامساً-الشاطبي ونظريته المقاصدية توفي عام 790ه)
مع الشاطبي نحن حيال نقطة تحول نوعية في النظر الأصولي المقاصدي إذ أننا لأول مرة نجد عالماً أصولياً وضع على عاتقه مهمة التقعيد لمقاصد الشريعة فهو في كتابه الموافقات في القسم الذي عنونه "بكتاب المقاصد" يقدم "نظرية للمقاصد" على حد تعبير الأستاذ أحمد الريسوني .
وهو في هذه النظرية يدافع عن مبدأ تعليل الشريعة دفاعاً مقنعاً مستنداً إلى القرآن الكريم مخطّئاً رأي الفقهاء المنكرين لتعليل الأحكام أمثال الرازي.
والشاطبي رحمه الله يبدأ كتاب المقاصد بجملة قاطعة جازمة: "وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً" .
والشاطبي يتجاوز المماحكات التي سادت الفكر الإسلامي بين تيار المعتزلة وتيار الأشاعرة حول مبدأ التحسين والتقبيح العقليين ليعود إلى الفهم السلفي القرآني السليم الذي علمنا أن الله عز وجل علل لنا أحكامه فأرشدنا بهذا إلى جواز البحث عن هذه العلل يقول أبو إسحاق: "والمعتمد إنما هو أنّا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله يقول في بعثة الرسل وهو الأصل (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقال في أصل الخلقة (وهو الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى، كقوله بعد آية الوضوء (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) وقال في الصيام (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وفي الصلاة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وقال في القبلة ( فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة) وفي الجهاد (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) وفي القصاص (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) وفي التقرير على التوحيد (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) والمقصود التنبيه، وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة" .ونلاحظ في هذه الاستشهادات شمولها لأبواب العبادات والمعاملات معاً وهذا ما يبرر قول أبي إسحاق رحمه الله "إن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة" وهو في هذه النقطة على طرفي نقيض مع ابن حزم الذي رفض التعليل رفضاً باتاً بل عده تطاولاً على الخالق عز وجل والعياذ بالله ومن الطريف في هذا السياق رؤية التقاء طرفين هما في الأصل غير ملتقيين في رفض التعليل هما الرازي وابن حزم ذلك أن الأول هو من أبرز الأصوليين القائلين بالقياس على حين أن الثاني كتب ما كتب ضد التعليل والمعللين انسجاماً مع ظاهريته التي تتميز أول ما تتميز برفض القياس رفضاً باتاً. وفي رأينا أن المنسجم مع نفسه وبنيانه النظري في هذا الخلاف كان ابن حزم ولا أعرف كيف استطاع الأشاعرة أمثال الرازي أن يوفقوا بين قولهم بالقياس في الفقه والقياس يتضمن في بديهياته مبدأ "العلة" التي هي ببساطة الوصف الظاهر المنضبط المناسب الذي يكون علامة على حكمة الحكم ومظنة لوجود هذه الحكمة!
والشاطبي في "كتاب المقاصد" من سفره النفيس "الموافقات" له نظرة تاريخية رائعة لعلاقة الشريعة الإسلامية بالقوم الذين اصطفاهم الله لحمل هذه الشريعة وإيصالها للعالم فهو يكرس فصلاً خاصاً لكون الشريعة عربية ولكونها أمية أيضاً فالشريعة جاءت إلى قوم كانوا رغم انحرافهم على بقية باقية من ملة إبراهيم عليه السلام وقد أقرت الشريعة الصالح من علومهم وأخلاقهم ومحت الطالح منها يقول: "واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق واتصاف بمحاسن شيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه ، وأبطلت ما هو باطل وبينت منافع ما ينفع من ذلك ومضار ما يضر منه" ومن العلوم النافعة التي أقرتها الشريعة ما كان عند العرب من علوم النجوم والأنواء والطب والتاريخ وأخبار الأمم الماضية وفنون البلاغة والفصاحة ومعرفة أساليب الكلام وضرب الأمثال ومن العلوم الضارة التي أبطلتها الشريعة علم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة. وأقرت الشريعة مكارم أخلاق كانت عند العرب ونهت عن مساوئ ومن قوانينهم أقرت أشياء عددها الفقهاء مثل القراض وتقدير الدية وضربها على العاقلة وتوريث الذكر مثل الأنثيين وغير ذلك .
وأبو إسحاق يقسم المقاصد إلى قسمين: قصد الشارع وقصد المكلف ويقسم قصد الشارع إلى أربعة أنواع: 1-قصد الشارع في وضع الشريعة، 2-قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام، 3- قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها، 4-قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.
  #8  
قديم 23-09-2002, 03:17 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

أما قصد الشارع في وضع الشريعة فهو حفظ المقاصد التي هي الضروريات والحاجيات والتحسينيات بحفظ ما يحقق وجودها ويرعاه وإبعاد ما يفسدها أو يعطلها. وأما قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام فيشرحه بأن هذه الشريعة عربية أمية وأما قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها فهو أن الشريعة لا تكلف بما لا يطاق وتتجنب المشقة والإحراج ولكنها تقر مشقة مخالفة الهوى وأما قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة فيعني به أن الشارع شمل كل الناس بالتكليف دون فرق بين غني وفقير أو حاكم ومحكوم وشمل كل السلوكيات والحوادث فلكل منها حكم في الشريعة وهو يقسم المقاصد في هذا القسم إلى مقاصد أصلية ومقاصد تبعية وأما الأصلية فهي الضروريات الخمس وأما التبعية فهي المقاصد الخادمة للمقاصد الأصلية.
وأما القسم الثاني من المقاصد وهو مقاصد المكلف فيعني به مبدأ "الأعمال بالنيات" وهو يقول إن قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع وأبو إسحاق يقف وقفة صارمة ضد "الحيل الفقهية".
كيف نعرف مقاصد الشريعة؟ يعدد الشاطبي أربع جهات يعرف منها مقصود الشارع : 1-الأمر والنهي في النصوص، 2-معرفة علل الأمر والنهي، 3- معرفة المقاصد التابعة، 4-مجرد سكوت الشارع مع توفر داعي البيان والشاطبي في الحقيقة يتبع جهة خامسة في معرفة المقاصد هي الاستقراء من النصوص الشرعية.
ونحن نؤثر الاكتفاء بهذه الخلاصة نظراً للحدود التي يفرضها حجم هذا البحث عن نظرية الشاطبي المقاصدية ويلاحظ القارئ من جهة أنها استفادت من كتابات السابقين وأضافت عليها وأنها أثرت في كل من كتب في موضوع المقاصد من اللاحقين.
سادساً: المقاصد عند عالمين من العصر الحديث:
في رأينا يعد الأستاذان محمد الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي أكبر عالمين اهتما بمقاصد الشريعة الإسلامية في العصر الحديث وقد أفرد كل منهما كتاباً خاصاً بهذا الموضوع هما "مقاصد الشريعة الإسلامية" للشيخ ابن عاشور و"مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها" للشيخ الفاسي. ويبدو أن الرجلين- على اتفاقهما في الأساسيات- لا يخلو مؤلفاهما من اختلاف في الأسلوب وفي النقاط التي ركز عليها كل منهما ووفقاً لما أفترض فقد يجوز أن نعيد هذا الاختلاف إلى اختلاف طبيعة المؤسسات التعليمية التي مر بها كل منهما فابن عاشور على ما يبدو ظل فقيهاً مالكياً لم يخرج عن الأطر الفقهية التاريخية على حين تأثر الفاسي بالتعليم الغربي في مجال القانون الذي تلقاه وهذا التأثر لم يجعله طبعاً مستغرباً من المستغربين الكثر في جيله ولكنه لفت انتباهه إلى مقارنات مع القانون الغربي فلسفة وتاريخاً ونصوصاً لا يجدها القارئ في كتاب ابن عاشور الذي بين يدينا(وهذا لا يجعل كتابه أقل شأناً فلكل من العالمين ميزاته).
يرى ابن عاشور أن مقاصد الشريعة الإسلامية منبنية على وصف هذه الشريعة الأعظم الذي هو الفطرة النفسية والعقلية فقوله تعالى "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم* ثم رددناه أسفل سافلين* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون" ليس المقصود منه أن الله عز وجل قوّم صورة البشر لأن هذه الصورة لم تتغير إلى أسفل واستثناء الذين آمنوا من هذا التغيير يدلنا على أن المقصود تقويم العقل الذي هو مصدر العقائد الحقة والأعمال الصالحة وليس تقويم الصور .
أما أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها فهو السماحة ويعني بها السهولة المحمودة المتوسطة بين التضييق والتسهيل وهذا هو معنى الوسطية ويرى أن السماحة عائدة إلى كون الشريعة دين الفطرة والفطرة تنفر من الشدة والإعنات.
والمقصد العام من التشريع عند ابن عاشور هو "حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه :صلاح عقله وصلاح عمله وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه" ويستدل على ذلك بآيات صريحة كلية تدل على أن مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد منها ما يحكيه كتاب الله عن شعيب "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" وقول موسى لهارون "اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين" وقوله تعالى "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" .
وهذا المقصد العام يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد وهو يقسم المصالح باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة إلى ضرورية وحاجية وتحسينية وقد مرت معنا سابقاً وباعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها إلى كلية وجزئية، والكلية ما عاد عوداً متماثلاً على عموم الأمة أو جماعة عظيمة منها، فأما ما عاد على جميع الأمة فمثل حماية البيضة وحفظ الجماعة من التفرق وحفظ الدين من الزوال وحماية الحرمين وحفظ القرآن من انقضاء الحفاظ وتلف المصاحف وحفظ السنة من الموضوعات وأما ما عاد على جماعة عظيمة من الأمة فمثل العهود بين أمراء المسلمين وملوك الأمم المخالفة وأما المصلحة الجزئية فهي مصلحة الفرد أو الأفراد القليلة وهي موضوع أحكام المعاملات.
وقسم المصلحة باعتبار تحقق الحاجة إلى جلبها أو دفع الفساد عن أن يحيق بها إلى قطعية دلت عليها نصوص لا تحتمل التأويل أو دل العقل على ان في تحصيلها صلاحاً عظيماً أو في ضدها ضرراً عظيماً وأما الظنية فما كان دليلها ظنياً وأما الوهمية فهي التي يتخيل فيها الصلاح وفيها عند التأمل الضر.
ويقسم الشيخ ابن عاشور المعاملات إلى مقاصد ووسائل والوسائل هي الأحكام التي شرعت غير مقصودة لذاتها بل لتحصيل غيرها على الوجه الأكمل فالإشهاد في عقد النكاح وشهرته غير مقصودين لذاتهما وإنما شرعا لأنهما وسيلة لإبعاد صورة النكاح عن شوائب السفاح والمخادنة .
والمجاهد علال الفاسي الذي كان له باع طويل في الحركة السياسية المغربية كان لا بد له من أن يكون أكثر اهتماماً بجوانب مقاصد الشريعة في ميادين السياسة الشرعية ويظهر هذا الاهتمام في مناقشاته التي لا يتسع لها هذا البحث عن منهاج الحكم ومصدر السيادة في الإسلام وعن حقوق الإنسان والحرية السياسية والحرية الوطنية غير أنني أحببت في هذا الحيز المحدود أن ألفت الانتباه إلى فكرتين مهمتين في الكتاب:
أولاً: مقياس المصلحة في الإسلام الأخلاق الفطرية:
يركز الفاسي على الفكرة القائلة إن الإسلام خلافاً للمذاهب الغربية العصرية- مثلاً الاشتراكية والرأسمالية- التي تعرف المصلحة بالنفع كما تراه الأهواء والأفكار والعقائد الوضعية المتغيرة يقيس المصلحة بالخلق المستمد من الفطرة والقائم على أساس العمل لمرضاة مثل أعلى هو غاية الإنسان من الحياة ومن العمل. والأخلاق الفطرية التي تعارفت عليها الإنسانية منذ نشأت هي عند الإسلام "العرف" المأمور به كما أن عكسها هو "المنكر" المنهي عنه. يقول الفاسي: "وهذه الأخلاق الفطرية يعتبرها الإسلام معروفة لدى الجميع ..فالتشريع الإسلامي خاضع للعرف ولكن العرف في الإسلام ليس هو ما يتعارف عليه مجتمع ما ولكنه ما تعارفت عليه الإنسانية منذ نشأتها" .
وهذه الفكرة مهمة للدعاة إلى الإسلام في عصرنا إذ أنها ترشدهم عند قيامهم بالدعوة في مجتمع ما إلى البحث عما تبقى في هذا المجتمع من هذا العرف الفطري لاستخدامه في الهداية إلى دين الفطرة الإسلامي، وهو يقدم لهم أيضاً النقد الإسلامي الأهم للحضارة المعاصرة التي ابتعدت عن الفطرة فسببت للبشرية الكوارث والآلام.
ثانياً: فكرة أصولية: "أمر الإرشاد":
يرى الفاسي أن الشريعة تسلك طرقاً كثيرة لتحقيق مقاصدها: مرة بالمنع والإيجاب الصريحين ومرة بالتدرج في التشريع حتى اكتماله في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومرة بتنفيذ الحكم في بعض صوره والتسامح في الصور الأخرى مع إعطاء الأمر عن طريق الإرشاد باستكماله إذا تمت أسباب استكماله الشرعية وهذا ما يدعوه "أمر إرشاد" ويمثل على ذلك الأمر بتحريم الخمر في الآية "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة" فدل هذا على أن قصد الشارع هو الابتعاد عن كل ما يحدث العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهذا أمر إرشاد ويضرب على أمر الإرشاد مثلاً بإباحة الإسلام المؤقتة للرق وكثرة الأحكام التي تدل على رغبة الإسلام في السير في طريق إلغائه.
قلت: وهذا في رأيي صحيح. أما ما يستحق مزيداً من النظر فهو استنتاج الشيخ علال من الآية "فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة" أن الشارع أرشد إلى الاكتفاء بواحدة عند الخوف من عدم العدل وهو برأيه أمر للأمة جمعاء أن يستكملوا ما قصد إليه الشارع من إبطال التعدد مطلقا ً.
وفي رأيي فإن الشارع بالفعل أبدى ما يكفي من الإشارات للمتأمل لكي يقتنع أن تعدد الزوجات بلا سبب موجب أمر غير مستحب ولكن لنا أن نشك في صحة رأي الشيخ علال أن الشرع يريد الوصول إلى الإلغاء التام لهذا التعدد (ففي حالات نادرة يكون هذا التعدد ضرورياً) هذا مع العلم أننا لا نرى صحيحاً موقف كثير من فقهاء هذا العصر الذين توحي تصريحاتهم أن تعدد الزواج هو من مستحبات الشريعة الإسلامية ومقاصدها الثابتة!.
وبجميع الأحوال نحن ضد من يرغب في منع هذا التعدد على أساس من عقدة النقص تجاه التشريع الغربي،ولنا عودة لاحقة أكثر تفصيلاً عن رأي الفاسي هذا.
  #9  
قديم 23-09-2002, 03:18 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

سابعاً:المفاهيم المقاصدية النظرية في كتاب الدكتور يوسف القرضاوي"مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية":
في حدود علمنا لم يخصص الدكتور يوسف القرضاوي كتاباً نظرياً خاصاً بالمقاصد ولكنه من أكثر الفقهاء المعاصرين تركيزاً على أهمية الفهم المقاصدي للفقيه بل للمسلمين جميعاً وسنرى إن شاء الله أمثلة كافية في الفقرات التالية من هذا البحث على استخدام الأستاذ القرضاوي للمنهج المقاصدي في فهم الأحكام وفي استنباطها والملاحظات المقاصدية منبثة في كتبه وفي أحاديثه التلفزيونية وقد أخبرنا في برنامج"الشريعة والحياة"أن له ملاحظات على كتابي الشاطبي وابن عاشور لم ينشرها بعد فعسى أن يفعل هذا قريباً.
وفي هذه الفقرة سنلقي بعض الضوء على بعض الملاحظات النظرية للقرضاوي في موضوع المقاصد في كتابه النظري الممتع"مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية".
وسنقتصر هنا،وبسبب تقيدنا بحجم محدد للبحث، على الباب المخصص لهذا الموضوع في الكتاب علماً أن الملاحظات وثيقة الصلة بموضوعنا موجودة في أماكن أخرى من الكتاب أيضاً،بل هي منبثة في كل كتب الأستاذ القرضاوي وأحاديثه في وسائل الإعلام وإنه لمما يؤسفنا أن يضطرنا حجم البحث لإغفال رؤى الأستاذ القرضاوي المقاصدية الفذة في ميادين ذات أهمية واقعية قصوى مثل ميادين السياسة الشرعية، وفقه الدعوة ،والنظر المقاصدي الذي يصحح به الأستاذ القرضاوي للمسلمين ،ولاسيما للشباب منهم، مفاهيمهم الضيقة عن الشريعة والمجتمع والسياسة.
يقول الأستاذ القرضاوي في باب "المقاصد العامة للشريعة": "ومن استقرأ أحكام هذه الشريعة المحمدية وتأمل ما عللت به في القرآن والسنة، تبين له أنها قصدت إلى إقامة مصلحة الخلق في كل ما شرعته، حتى العبادات نفسها روعيت فيها مصلحة المكلفين إذ الله تعالى غني عن عبادة خلقه لا تنفعه طاعتهم وشكرهم، ولا تضيره معصيتهم وكفرهم، وإنما يعود ذلك إليهم أنفسهم: "ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم" .
ويذكر الدكتور القرضاوي ما اتفق عليه الأصوليون من تقسيم المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية ثم يضيف إلى ذلك ملاحظة هامة عن المصلحة التي يقصد الشرع إلى إقامتها وحفظها فهي ليست المصلحة الدنيوية فحسب ولا المادية فقط ولا الفردية وحدها ولا مصلحة الجماعة ولا المصلحة الإقليمية العنصرية ولا المصلحة الآنية للجيل الحاضر وحده "إنما المصلحة التي قامت عليها الشريعة في كلياتها وجزئياتها، ورعتها في عامة أحكامها، هي المصلحة التي تسع الدنيا والآخرة وتشمل المادة والروح، وتوازن بين الفرد والمجتمع وبين الطبقة والأمة، وبين المصلحة القومية الخاصة والمصلحة الإنسانية العامة، وبين مصلحة الجيل الحاضر و مصلحة الأجيال المستقبلة" .
وهو يقول إن رعاية هذه المصلحة الشاملة التي توفق بين كل المصالح الجزئية المكونة لها يعجز عنها البشر لا يقدر على تعينها وحمايتها إلا الله عز وجل. ويذكر المؤلف بعد ذلك أن رعاية المصالح تستلزم درء المفاسد وفي الحالة التي تتعارض فيها المصالح فيما بينها أو تتعارض المصالح والمفاسد يسلك الشرع سبيل التوفيق فإن لم يمكن ذلك قدمت المصالح الضرورية على الأقل منها ضرورة وإن تعارضت المفاسد ارتكب أخفها تفادياً للأشد وإذا تعارض ضرر الفرد والمجتمع قدم اعتبار المجتمع .
ثم يلاحظ أنه قد يفهم من كلام الأصوليين أن انتباههم موجه إلى الإنسان الفرد ولم ينتبهوا بقدر كافي إلى المجتمع والأمة فيقول: "لا بد أن نؤكد أن شريعة الإسلام تهتم بالمجتمع كما تهتم بالفرد وهي تقيم توازناً بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية في غير طغيان ولا إخسار" .
ويضيف إلى هذا إضافة مقاصدية هامة لا نجدها في كتب الأصوليين القدامى فيقول إن الشريعة الإسلامية تقيم اعتباراً للقيم الاجتماعية العليا وتعتبرها من مقاصدها الأساسية كما دلت على ذلك النصوص المتواترة. ومن هذه القيم العدل والإخاء والتكافل والحرية والكرامة.
وأخيراً يتكلم عن ضرورة معرفة المقاصد لدارس الشريعة فينبه إلى أن الحكمة أو المقصد الشرعي قد يكون واضحاً جلياً وقد يدق ويخفى إلا على أهل البصيرة الراسخين في العلم الذين ينظرون إلى الأحكام نظرة شاملة مستوعبة، والجهل بمقصد الحكم قد يدفع بعض الناس إلى إنكاره. .
 


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م