مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 07-02-2006, 10:37 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي ساعة عمل

ساعة عمل ..


لم يكن العمل في الماضي ، له معنى الا أن يكون مصحوبا بتعب عضلي ، ويتبعه عرق وشوق كبير للراحة .. أما اليوم فالعمل هو الراحة عند البعض ، وقد يطلبه الناس إناث أو ذكور ، لجلب الراحة ..

فالسكرتير يعمل ، والمعلم يعمل ، والمخبر يعمل ، والمؤذن يعمل ، والمدير يعمل ، والحارس يعمل ، ومن يلعب كرة قدم يعتبر عاملا ، طالما يأخذ أجورا في بعض الدول ، و أحيانا من لا يعمل شيئا ، فهو يعمل طالما أنه يأخذ راتب ..

وأصبح الراتب يتناسب تناسبا عكسيا مع الجهد العضلي ، فمن يحفر أساسا لبناء عمارة ، لا يتقاضى عليه شيئا يذكر اذا ما قيس بأجر المهندس الذي صمم هذا البناء .. ولا يساوي شيئا من أرباح رجل باع حديد العمارة أو بلاطها ..

مع ذلك ، يعود العاملون الى بيوتهم بكل أصنافهم ، و يطلبوا من كل من يلقاهم أن يحترمهم ـ وان لم يكن ذلك بشكل مباشر ـ فهم تعيبة ، فالمخرج الذي يزعق على العاملين معه ، قد عمل ، ومهندس الصوت الذي هيأ لمطرب مائع أو مطربة ليس لها أي مقومات الا حاجة في نفس شخص ما ، أيضا تعب ، ومن كتب تقريرا آذى به آخرين ، ظنا منه أنه يخدم الوطن خدمة جليلة ، أيضا عمل ولا بد من احترامه ..

كثيرون هم العاملون ، وكثيرة هي المهن ، التي تتولد يوميا ، فكل اختراع يظهر على هامشه عشرات الأصناف من المهن المستحدثة .. وشيئا فشيئا ، تصبح الجامعات تدرس تلك المهارة ، على أساس أنها علم مهم و ضروري ..

نحن أبناء البشر من نخترع كل شيء ، نخترع الحاجة ، ونخترع ما يلبيها ، ونخترع فنونها ، ونكتب تاريخها ، ونعطي براءة اختراع لكل من يبتكر شيئا نافعا أو ضارا ، هاما أو قليل الأهمية .. حتى تصبح تلك الفنون تحاصر الانسان ، وليس هو من يطوعها بل هي من تطوعه ..

قد يكون طريفا أن نقدم تلك الزاوية ، ( ساعة عمل ) لإلقاء الضوء على بعض المهن .. فكان لا بد من تلك المقدمة ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #2  
قديم 08-02-2006, 04:42 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(1)

لم يكن قد جلس بعد ..
رفع سماعة الهاتف : نعم .. نعم .. سأحاول .. أعطيني فرصة ..
في الطرف الآخر : الله يخليك .. غدا آخر يوم بتقديم الطلبات للجامعة ..
هو : الآن سأتكلم معه .. و أرجو أن ألقاه ..
انتهت المكالمة الأولى ..

أدار جهاز التلفزيون .. وكان على محطة الجزيرة ، حول افتتاح محطة عالمية وكان معظم الضيوف من الأجانب ..

دخل مدير الحركة .. لم تصل البضاعة لحد الآن ، والعمال لم يعملوا شيئا منذ الأمس .. لعدم وصول البضاعة ..
هو : طيب .. طيب

على الهاتف : مرحبا أخي .. حضرتك فلان ؟
هو : نعم
هي : نحن من ضريبة الدخل .. لم تكملوا حتى الآن ملء الكشف الضريبي لعام 2004
هو : 2004 أم 2005 ؟
هي : لا .. بل 2004 .. وهذه مخالفة ..
هو : حسنا .. سأطلب من المحامي .. ان يستلم الكشف ويقوم بتعبئته ..
هي : من مصلحتكم .. عدم التأخير ..
انتهت المكالمة

هو : نعم .. أهلا و مرحبا .. لا ؟ بالله عليك ؟
على الطرف الآخر : هل تحب أن تحضر الدفن ؟
هو : سآتي فورا ..

يقوم ببعض الاتصالات التي قد تحل ما طلب منه من مسائل .. ويغادر
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #3  
قديم 10-02-2006, 06:27 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(2)

لم يكن هذا ، الا أول يوم يلتحق به بالعمل ، بعد تخرجه من الجامعة . وعندما يكون الأمر كذلك ، فعليك تخيل ، ذلك الحجم من الاختلاجات التي تعتور كيانه ، فالعمل بحد ذاته هو محطة هامة من محطات حياة الانسان ، فهو كلحظة القبول بالجامعة ، او كلحظة قرار الدخول بليلة الدخلة عند العريس !!

منذ تلقيه ، قرار تعيينه ، وهو يعد لذلك اليوم بالالتحاق بالعمل ، ويرسم صورا قد يستعين بوضع إحداثياتها من خلال ، قصص بعض الأصدقاء ، أو الصحافة أو الأعمال الدرامية التلفزيونية ، لكن كل ذلك لن يسعفه في تكوين شخصيته الوظيفية .. تماما كما هي أخبار العرسان الذين يسبقوا غيرهم .. تبقى قصصهم بلا قيمة ، في حالة التنفيذ ..

لبس أفضل ما لديه من ملابس ، وتعطر ، وأخذت أنفاسه تتناغم مع أحلامه وكيفية طرقه للادخار ، وماذا سيوفر ، وكيف ، وكم يعطي أهله من راتبه .. ومتى سيخطط للزواج ، ثم يعود ، فيستريح من تراكض تلك الأحلام ليعد نفسه للحظات تسلم العمل الأولى ..

بعد أن أبرز أوراقه للديوان ، وبعدما أشارت له الموظفة المسئولة ، الى الغرفة أو القاعة التي سيداوم بها .. طرق الباب طرقات خفيفة مرتبكة ، دخل فحيا بتحية يبدو من ظاهرها الشجاعة ، ولكن تلك الشجاعة كانت شفافة بعض الشيء ، لدرجة أنها كشفت بعض ارتباكه ..

كان في الغرفة موظفتان وموظف .. صمتوا من حديثهم عندما دخل ، ليردوا على تحيته بخفوت ، وكعادة كل موظفي الدوائر الحكومية ، تكون الأقلام مفتوحة ومصوبة نحو أوراق مفتوحة ، لكن العمل يتم بالكلام بين مجموع الموظفين ، أما الأوراق والأقلام ، فهي جزء ظاهري من الوصف العام لحالة العمل أو اللاعمل الحكومي .

وعندما أبرز أوراقه أشار اليه الموظف بيده ليتجه الى موظفة لا يميزها عن غيرها ، الا أن على منضدتها جهاز هاتف .. أطرق قليلا ثم اتجه الى الموظفة ، فتناولت أوراقه منه ، ولم تطلب منه الجلوس ، ولكنها تركته واقفا ، فتخيل أن موجات أشعة نظر الآخرين اخترقت ركبتيه .. هنا طلبت منه الموظفة الجلوس ، فجلس على وجه السرعة ، كأنه يريد أن يتخلص من تثبيت نظرات الموظف والموظفة الآخرين ..

حاول أن يجيب على أسئلة لم تطرح عليه ، ليخرج من حالة الصمت والترقب التي لم يكن قد تدرب عليها ، لكن أحد لم يسأله . تمنى لو كان يدخن ليشتت هذا الموقف .. لكنه لم يكن من المدخنين ..

لم يطل انتظار من في الغرفة كثيرا ، فهم قد مروا بتلك اللحظات ، الا هو .. فطلب الموظف من الموظفة ان تكمل حديثها ، الذي سبق دخول الموظف ، فأدرك صاحبنا أن الفرج قد أتى ، ولم تكن انشدادتهم ، أكثر من التعبير عن شعورهم بالازعاج من طرفه ، كونه قطع حديثهم !

هوت صور الرهبة مرة واحدة ، خصوصا بعد أن بلغته الموظفة التي كانت تقرأ بأوراقه ، بأن كل أموره تمام .. من خلال ابتسامة مصطنعة ، مع عبارة أهلا وسهلا ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #4  
قديم 11-02-2006, 06:50 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(3)

كان قد تنقل في سنين حياته الست والعشرين ، بين عشرات المهن غير الماهرة ، فيوما تجده مساعدا لمعلم بناء طوب ، ويوم يقوم بعمل مساعد لمعلم قصارة (لبخ أو تببيض) وهي تعني بإخفاء معالم الجدران من خلال إضافة طبقة اسمنتية عليها تسبق الصبغ والدهان ,,

ويوم تجده يبسط بعض السلع ليبيعها على أرصفة الشوارع .. ويوم ينقل ماء بواسطة سيارة أعدت لذلك .. ولكن لم يحس بأمان أي مهنة من تلك المهن ، وقد يكون نفوره من تلك المهن عدم ثبات ديمومة دخلها ، أو أن هناك من يأمره باستمرار ، فينتقل الى أخرى عسى أن يلقى ما ينشده ..

ولما كانت تربط والده ، علاقة طيبة مع صاحب مصنع أعلاف ، فقد تم تعيينه كعامل في المصنع ، يتم ربطه بنظام الضمان الاجتماعي ، ويتلقى راتبا يعادل ضعفي ما كان يحصله في أي مهنة من التي امتهنها سابقا ..

حضر الى المصنع في الصباح الباكر ، وكان هناك في المصنع ثلاثة عمال غيره ، أعمارهم تزيد عن الخمسين عاما وتقل عن الستين ، وكانت حالة الفتوة تبدو على ملامح جسمه ، فكان وزنه يزيد عن تسعين كيلوغرام ، وعضلاته مفتولة ، وعيناه الخضراوان ، تشع حيوية ..

ضمر له العمال الأقدم ، نوايا مخلوطة بين توكيد ذاتهم ، واستغلال خصائص بنية جسمه ، عسى ان يستفيدوا منها بعض الوقت .. خصوصا تلك التي تتعلق بقوامه ..

أعطوه مهمة إحضار أكياس الصويا و خلط المواد ، فأخذ يشدها و يحملها بعنفوان واضح ، ويرميها في المكان الذي أشاروا اليه به ، كان يحس إحساسا بالزهو ، والتفوق الجسماني على غيره .. وهم يراهنون على نفاذ صبره ، وفقدان لياقته مبكرا ..

لقد كان أكبرهم عمرا في الثماني و الخمسين من عمره ، قضى معظمها في أعمال الحصاد اليدوي ، و أعمال البناء الكونكريتي ، والثاني بعمر خمس وخمسين عاما ، قضاها في تنزيل السيارات و تحميلها ، والثالث في بداية الخمسينات لم يترك عملا يعتمد على الكتف الا وعمل به ..

لقد كون العمال الثلاثة الذين سبقوه ، مهاراتهم مجبولة بالصبر ، والتحمل ، وتقنين لياقتهم لتكفيهم طوال النهار .. فكانوا أساتذة بكل معنى الكلمة ، محترفين في أداء عملهم ، دون تذمر ، أو شكوى ..

تطلع الى رؤوس أصابعه ، فرآها قد احمرت و تورمت ، والعضلات التي تحيط بها قد أنهكت بوقت مبكر .. ونظر الى زملاءه الكبار ، فخجل من نفسه ، وتدهور لياقته بسرعة ، واكتشف ابتساماتهم المنتشية بإثبات جدارتهم ، وتفوق الصبر والجلد على الفتوة والرعونة ..

لم يمر بتجربة أسوأ من تلك التجربة ، فحمل أغراضه متذرعا بحجج صاغها بكلام وتمتمة لم يفهمها أحد ، حتى هو .. وغادر ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #5  
قديم 14-02-2006, 05:24 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(4)

عندما كان يعد لمشروعه ، نعم مشروعه ، هكذا كان يحب أن يطلق عليه ، لم يكن يرغب في استشارة أحد يتوقع أن يثنيه ويمنعه من تكملة مشروعه ، حتى لم يكن على استعداد أن يسمع أي نصيحة من أي إنسان ..

كان يرغب بالتحدث لمن يشجعه ، ويبتسم له ليأخذ منه تزكية ، على إبداعاته ويغذي بها قرارة نفسه ، فتزداد همته نحو المضي الى البدء في تنفيذ ما أزمع على تنفيذه ، و يزداد إصرارا وحتى عمى لا يريد الا أن يرى غير ما أراد أن يراه ، كمن تحزم بحزام ناسف ، لا يشغله الا الموت في سبيل ما هو عازم عليه.

ان معظم الشباب ، يستقون عناصر إراداتهم ، من خلال مشاهدات سطحية ينسجون حولها منظومات ذهنية رجراجة ، غير حقيقية ، ويساعدهم في ذلك أصحاب المشروعات الذين يتصرفون في كثير من الأحيان ، تصرفات توحي بنجاح مشروعاتهم ، يقصدون بتلك التصرفات ، تغليف أوضاعهم ، بهالة من الغموض والتزييف أحيانا ، لبقاء علاقاتهم مع من يورد لهم من مواد أولية أو سلع ، فان ظهر منهم ما يوحي بفشل مشروعاتهم ، ستتوقف تسهيلات الموردين ، و أحيانا تكون الغاية من إظهار نجاح مشروعاتهم ، هي جذب من يحاول شراء تلك المشروعات للتخلص من تبعيات فشلها !

كان المشروع يتعلق بشراء ماكنة حصاد للقمح ، تلك الآلة التي تحصد نباتات القمح المصفرة بعد نضجها كاملة ، من أجل الحصول على التبن والقش إضافة للقمح ، وهي نمط من المشاريع المنتشرة في بعض مناطق الريف ..

كانت دراسة الجدوى الإقتصادية تجري بالمشافهة ، وليست على أسس محاسبية حديثة و محترفة . فكان صاحبنا عندما يتكلم عن (مشروعه ) ، يبدأ بأنه لو حصدت تلك الآلة باليوم ، عشرة هكتارات فعلى مدى شهرين وهي موسم الحصاد ستكون قد أنجزت ستمائة هكتار ، ولو كان الناس يأخذون ستين دولار عن حصاد كل هكتار ، فيكفي أن نأخذ ثلاثين دولارا ، وعندها سيكون عندنا هامش يقل عن ألفي دولار بقليل ..ولو دفعنا كذا بدل وقود وكذا بدل مصاريف لأصبح هامش الربح يزيد عن ثمن الآلة ..

كان وهو يتكلم عن ( مشروعه ) يبدو متساهلا ، فيبالغ بتخفيض السعر ويبالغ في تخفيض مدة العمل ، ويزيد في المصروفات ، ويبتسم ، ملتفتا شمالا ويمينا ، عل أن يقوم أحد ويعلق على صدره نيشانا ..

تعيش الأسرة كلها ، بالأخوة الخمسة والكنات الخمسة و الأب و الأم الكبيرين كلهم حالات ولادة المشروع ، وكأنهم ينتظرون ولادة مولود بكر من أم تولد بعد طول انتظار سنين ..

في أول يوم عمل ، بعد أن تم بيع جزء من مصوغات النساء وشراء تلك الآلة . والتعاقد ( بالمشافهة ) مع أحد المزارعين ، فالتف حول الآلة كل المشاركين بثمنها ومن تابع عمليات الدعاية والتخطيط ..

قام أحد الأخوة بتشغيل الآلة وقيادتها بالحقل .. بعد أن استفسر من الوكيل عن الكيفية اللازمة للتشغيل ، ولما كانت قيمة التعاقد ، هي فعلا نصف ما كان يتقاضى غيرهم من أصحاب مثل تلك الآلات ، ولما كان المتعاقدين المتهافتين من المزارعين مستغلين السعر المنخفض .. فان الأمور الآن أصبحت على المحك !

لم يأخذ صاحب (المشروع ) في الحسبان ، موضوع ( الشحم ) ، فكون الآلة بدائية بعض الشيء ، فإن استهلاكها للشحم يقارب استهلاكها للوقود .. كما لم يأخذ بالحسبان كلفة خيوط الربط ، حيث كانت تقارب قيمة ما تعاقدوا عليه من سعر للتنفيذ !!
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #6  
قديم 15-02-2006, 02:57 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(5)

لم تكن السنين السبعة التي قضاها بعد تخرجه من الجامعات الرومانية ، من كلية الهندسة قسم الميكانيك ، بالسهلة حتى ينساها ، وإن كان يخشى أنه نسي ما تعلمه في الجامعة ، أو نسي ما يؤهله ليمارس عمله كمهندس ميكانيكي ، فقد تجول في تلك السنين بين أعمال كثيرة ، لكن لم يكن أيا منها له علاقة بما تعلم في الجامعة ..

كان صاحب همة عالية جدا ، ومن بيت كادح ، فلم يستنكف عن العمل في أي مهنة ، ففي موسم البطيخ ينصب مظلة على الطرق الخارجية ، ويشتري البطيخ بالجملة ، وكان يبيعه بالمفرد ، وكان يتوفق بذلك ، فكان صاحب وجها جاذبا ولسانا يرتاح من يشتري منه له ..

و عندما ينتهي موسم البطيخ ، يذهب الى المشاتل ، ويشتري من نباتات الزينة والحدائق ، ويضعها في ساحة البيت ، فيأتي المشترون اليه ، وفي المساء يذهب الى مجمع النقابات ، فيجلس بالنقابة ويتحدث بأمور السياسة والأحداث الجارية .. كانت النقابة هي الوحيدة التي تذكره بأنه مهندس ميكانيكي .

كان يشارك في معظم أشكال العمل العام ، ولم يكن يتذمر من مهنه التي يتنقل من واحدة الى أخرى ، فقد كانت تلك المهن توفر له هامشا من المال ، لا بأس به ، وقد كانت تلك السمة الغالبة لمعظم خريجي الجامعات ، حيث ينتظرون دورهم في الوظائف الحكومية .

وأحيانا يقتني سيارة شحن صغيرة ، ينقل بها ويتقاضى بدل ذلك أجرة طيبة ، كان صنفه من المهندسين ، يأخذون بدل توقيعهم على مخططات المكاتب الهندسية المعروفة بعض المال ، وأحيانا يعملون بتلك المكاتب بشكل مؤقت ، أو ريثما يتم انفكاكهم من تلقاء أنفسهم ، لأن اصحاب المكاتب الهندسية لا يدفعون لهم بانتظام ..

عندما عرض عليه أحد الأصدقاء ، العمل كمهندس ميكانيكي ، في أحد المصانع حيث يقتضي أن يحل مشاكل إنتاج البخار ، ويراقب على بقية آلات المصنع .. وافق متثاقلا ، فسر تثاقله ، بأنه يخشى أن لا يستطيع إظهار كفاءة كافية في هذا العمل .. وتهتز صورته كجليس و مشارك في القضايا العامة .

باشر عمله ، وتم تقديمه للفنيين والعمال ، على أساس أنه رئيسهم الجديد ، فكان لا يحسن عملية صياغة الأسئلة كي يفهم طبيعة العمل .. وكما هو معروف فان العلم دون تطبيق و ممارسة ، يشبه العمل بدون علم فان كان العامل بلا علم كالأعمى ، فان العالم بلا عمل كالطبل ..

ان المستخدمين ، اذا كانت مدة خدمتهم كافية فانهم سرعان ما يكتشفون ثغرات من يضاف اليهم كوافد جديد ، وان كان يتقدم اليهم على أساس مسمى يفوق مسمياتهم المهنية ، فان الحذر والحيلة من قبلهم تكون أكثر حبكا ، لجعله يحس بدونيتهم تجاهه ..

ما هي الا ساعة عمل واحدة ، حتى دخل على صاحب العمل ( صديقه) و أبلغه باعتذاره عن مواصلة العمل !!
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #7  
قديم 16-02-2006, 04:14 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(6)

كان يختفي تحت جناح والده ، تحت رداء سميك وواسع يصنع من جلود الخراف ، حيث يكون الفرو للداخل والجلد المغطى بقماش سميك قاتم للخارج ، وكان هذا النوع من الفراء ، يصنع بشكل فضفاض ، ليبقى يحمي من يحتمي به أن يبقى يغطيه وهو في كل الأوضاع ، سواء كان يجلس أو يمشي ، أو راكبا على فرس ، ولما كان والده ليس بصاحب حجم ضخم ، فقد كانت الفروة كافية لاستيعابه مع والده ..

كان يراقب من خلال إطلالته من تحت الفروة ، وكأنه وليد كنجر ، يطل من جراب أمه ، كان يتابع حركة والده العابثة بملقط لتحريك الجمر في الموقد الذي أنشئ في مكان ما في المضيف ، ووضعت عليه دلال القهوة ، وامتلآ بالرماد الأبيض . وفي المقابل جلس الرجل الذي يستمع لحديث والده في الجهة الأخرى للموقد ، وكان يتناول من والده بين حين وآخر رشفة قهوة في فنجان .

كان الطفل الذي لم يكن عمره يزيد عن عشر سنوات كثيرا ، يستمع لأحاديث ، قد يكون سمع بعضها أكثر من خمسين مرة ، فكان اذا انشغل والده بالسعال أو العطس ، بإمكانه أن يكمل أي قصة بدأها والده . كما كان من يستمع للحديث قد استمع اليه سابقا ، أكثر من مرة ، لكن لم يكن ليتذمر ، فكانت هذه من عادات الفلاحين الذين يحظوا بوقت فراغ كبير في بعض الشهور ، فليس هناك روافد تجدد الأحداث و الأخبار لديهم ، فلم يكن التلفزيون قد انتشر ، وكان هناك قليل من أجهزة الراديو في القرية التي لم تكن قد وصلتها الكهرباء بعد ، ولم يكن من السهولة اقتناء راديو في البيت ، وان تم اقتناؤه فان الأوقات التي يفتح بها قليلة توفيرا لطاقة البطارية الجافة ، وان فتح الجهاز فان من المتعذر فهم ما يقول وعن أي شيء يتحدث ، فمعرفة الناس محدودة بالأماكن ، فهي لا تتعدى دائرة قطرها خمسين كيلومترا ..


لفت انتباه الطفل (الكنجر) أن والده كان يتكلم بفرح ظاهر ، فأمعن ليعرف سر هذا الفرح ، فاكتشف أن والده يبشر ضيفه بموسم خصب ، حيث أن كمية الأمطار كافية لأن يستبشروا بموسم جيد ، وكان الوقت هو منتصف شهر شباط (فبراير) .. و حسب تقويم الفلاحين فهم في بداية ( سعد بلع ) .. حيث كانوا يقسمون الشتاء الى ( مربعانية و خمسينية ) والخمسينية تقسم الى أربعة أقسام سعد ذابح وتبدأ من بداية فبراير (شباط) ثم سعد بلع ثم سعد السعود ثم سعد الخبايا .. وكل قسم من هؤلاء عليه عشرات الأمثلة والقصص والمناسبات التي حفظها الطفل عن ظهر قلب ..

انقلبت فرحة والده بالموسم ، الى هم كبير بالنسبة له ، فهو لم يكن يرغب بسماع مثل تلك الأخبار ، لأنها ستكون عبئا عليه ، فبعد أن تنتهي السنة الدراسية ، فبدلا من أن ينعم بعطلة صيفية عابثة ، سيقضي تلك العطلة في عمل شاق ، وهو ( الدراس ) و استخراج الحبوب من المحاصيل المحصودة والمنقولة للبيادر ..

لم يكن أهل الريف يلتزمون بسن العمل ، فمن يستطيع الحراك عليه أن يعمل الرجل و المرأة ، الشاب والفتاة ، الشيخ والطفل .. فكل واحد سيجد له مهمة تتناسب مع إمكانياته البدنية .. فلذلك كانوا قريبين من التجانس والتساوي ، فلا تستطيع تمييز أحد عن آخر ، لا بسلوكه ولا بكلامه ولا برائحته ..

جاء الموسم ، وباشرت السيارات بنقل الزرع الناضج والمحصود بقشه وسنابله ، وكانت السيارات هي التطور الجديد في عملية النقل وكان يطلق عليها (الرجاد) .. وكانت تتم قبل أن يخلق هذا الطفل بواسطة الجمال (الإبل) ..

امتلأ البيدر بالحصيد ، وتكونت جبال من أكوام الزرع المرجود ، والطفل يتطلع بحسرة ويتساءل : متى سأنهي أنا و أخي طحن كل هذه الجبال واستخراج الحبوب والتبن منها ؟ لقد كان مثقلا بهم وهو ينظر اليها ، كمن يسير في البراري في وقت صيف وينظر بعيدا الى القرية ، متى سأصل الى تلك القرية وأشرب الماء و أرتاح ..

ما هي الا ايام معدودة ، حتى جاء ابن عمه وزوج أخته ، وتناول أداة اسمها (شاعوب ) وهي قطعة من حديد صلب لها أربعة أصابع أطول من الشبر قليلا ، وترتبط بذراع خشبي أطول من متر ونصف .. فهدم أحد أكوام القش ، وقسمه الى عدة أقسام ، كل قسم اسمه (دور ) و أحضر بغلة فتية ، وضع على رقبتها أداة تسمى (الحواة ) يربط بها ذراعان خشبيان وتتصل بقطعة مكونة من أجزاء من خشب السنديان أو الجوز .. ومثبت في أسفلها ، قطع من الحجارة البركانية السوداء ، لتكسر و تسحق القش ..

طلب من الطفل الجلوس على (اللوح) والتمسك جيدا ، و أخذ الرجل طرف الحبل المتصل برأس البغلة لتوجيهها ، ووقف بمنتصف القش و نهر البغلة فكانت تركض وتلف فوق القش والطفل متمسكا باللوح جيدا .. وبعد قليل أعطى طرفي الحبل ( المقود ) للطفل .. ونهره أن يقوم بتلك العملية ..

لقد اكتشفت البغلة أن من يقودها الآن هو غير الذي كان يقودها قبل قليل ، رغم أنه قد وضع على رأسها قطعة من جلد لا تسمح لها الا لرؤية ما أمامها ، لكنها بمهاراتها (البغلية ) اكتشفت من صوت الطفل الذي كان يقودها ، وقوة يديه أنه قاصر .. فتبسمت البغلة و ضمرت له عنادها (البغلي ) ..

لم تكن يداه الناعمتان قادرتين على الصمود طويلا ، لعناد تلك البغلة فتكونت فقاعات على جانبي راحة يده اليمنى ، نتيجة احتكاك الحبل بها ، ومعاندة البغلة ، ويسمع بين حين وآخر صوت زوج أخته من مكان في البيدر ، حيث يقوم بعمل خاص به ..( سوق .. سوق ) أي هيا قم بعملك !!

ما هي الا لحظات ، حتى طلب منه أن يوقف الحركة ، و يأتي لتناول طعام الغداء ، فتنفس الصعداء ، لكن مع تيقنه أنه لا مناص الا أن يتم سحق كل تلك الأكوام من القش !!
__________________
ابن حوران

آخر تعديل بواسطة ابن حوران ، 16-02-2006 الساعة 04:36 AM.
الرد مع إقتباس
  #8  
قديم 17-02-2006, 09:51 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(7)

كان عندما يعود الى بيته ، يحرص أن يعود بملابسه العسكرية ، فكان يحس بنشوة عظمى وهو لابسها ، ويسير بين الناس ، و أحيانا يحضر بعض الدعوات الخاصة أو العامة بتلك الملابس ، بحجة أنه قد عاد للتو ، وخشي أن لا يتمكن من استكمال ملابسه المدنية ..

حتى صوته وكلماته وطريقة نظمها ، كانت تتماهى مع ملابسه والشارات التي تدل على رتبته من نجوم وغيرها التي تبين رتبته .. فكان يريد القول لمن ينظر اليه إنني أأمر على مجموعات تفوق عددكم ، وهم يؤدون لي التحية بانضباط كبير .. وهم أكثر أهمية منكم ، لأن من بينهم عشرات تأمر على أعداد تفوق أعدادكم ، وهم من يجلبون لكم الأمن وهم من يحموا استقراركم فاحترموني ، فأنا أهل للاحترام !

لم يكن يدور في خلده أن تقدمه في الجيش سيتوقف في لحظة ما ، فقد كان يعتقد أنه سيصبح يوما ما قائدا مهما ، وليس مهما أن تكون تلك الأهمية تنبع من إنجازات عسكرية ميدانية ، أم لا .. فالمهم أن تزداد الشارات والنوط التي توضع على ملابسه لتدلل على ذلك ..

ولم يكن يدور بخلده ، على وجه التحديد ، الفقه الذي يبقي العسكريين يتقدمون في رتبهم ، فقد كان يعتقد أن إعلان الولاء لقيادته ، والانضباط العسكري وحسن السلوك هي عناصر كافية لتحقيق ما كان يصبو اليه .. في حين أن القيادة تعتمد أساليب معقدة توارثتها من تاريخ طويل للفقه العسكري ، منذ انتهاء عهد المماليك وحامياتهم ، الى عهد العثمانيين و نقلهم لأبناء المناطق ليخدموا في مناطق بعيدة عن مناطقهم ، حتى لا تسول لهم أنفسهم أن يكونوا مصدرا لهواجس أمنية تثير قلق السلطان والولاة . الى عهد المحتلين الأوروبيين الذين قدموا الأقليات الطائفية و الإثنية لتتولى قيادات الجيش ، ولا تتباهى بوضعها كزعامات تقليدية لها امتدادها الشعبي .

أما قيادته فقد ورثت من كل هذا شيئا ، و أضافت عليه معادلات ، احترفتها لوقف حالات الانقلابات التي شاعت في أواسط القرن العشرين .. فكانت تراضي الزعامات التقليدية والإقليمية بمراكز حكومية مدنية ، وتنتقي أكثرهم حرصا على ديمومة الوضع في المراكز العسكرية ..

عندما تلقى أمر التقاعد ، احتاج كثيرا من الوقت للتكيف مع الواقع الجديد فلم يعد هناك من يزلزل الأرض من تحته وهو يؤدي له التحية ، فأصبح يمر بالناس فلا يقوموا بوجهه احتراما و أحيانا يتكاسلوا في رد السلام ..

كبر أطفاله ، وكبرت مسؤولياتهم ، وشارف رصيده من الهيبة على النضوب ولم يعد راتبه التقاعدي يكفي لتغطية كل مهام أسرته التي لا تختلف عن باقي الأسر في الطلبات ، ولم يكن محظوظا كبعض زملاءه المتقاعدين في أن ينسب لأحد الدوائر المدنية ، ولا أن يحظى بطلب من مؤسسات أهلية لتقديم خدماته ، ولا أن يذهب لأحد الدول العربية التي تطلب أمثاله من ذوي الخبرات المطلوبة ، وكل ذلك كان كما يبدو مربوطا بنفس قواعد التأثير الواجبة لتحقيق مثل ذلك .

وكونه لم يحظ بقدر كاف من المعرفة بطبائع تلك الأمور ، فقد انخرط مدنيا بنقد مظاهر الترهل العربي الرسمي ، بل وانخرط بالحياة المدنية العامة ، فأخذ يحضر الندوات ويبتسم لكلام المحاضر الناقد .. كل ذلك باعد بينه وبين أن يحظى برافد جديد عملي يرفد وضعه المالي غير الكافي ..

علا صوت زوجته شيئا فشيئا ، تطالبه بالخروج مما هو فيه ، ثم أصبح كلامها يؤلمه جدا ، فكان له أخ أمي لكنه ناجح في عمله ، فيدس له بعض المبالغ بالسر لكي يخرج مما هو فيه ، وكان تصرف أخيه الذي يصغره ، تصرفا نبيلا لم يحسسه بأي منة ، لكنه كان يتألم وهو يقبل مساعدة أخيه ..

كان على استعداد للقبول بأي عمل بعد تلك السنوات الستة التي قضاها بعد تقاعده ، مقابل أي مبلغ للخروج مما هو فيه ، أو للخروج من بيته بأي حجة للتخلص من نظرات وكلمات زوجته غير الصابرة ..

قبل بعرض أحد أصدقاءه ، بالعمل لديه بصفة مدير أحد فروع شركته ، وكان لصديقه شريك عسكري متقاعد كان دوره تنفيذي ، وكانت رتبة الشريك الذي يكبر صاحبنا بعشرة سنوات على الأقل ، أدنى من رتبته بستة أجيال من الرتب .

لم يكن يدري ، كيف شكل دور الشريك ، وكيف سيحتك به ، وان كانت كل الأمور توحي بأنه لن يحتك به ولن يكون على تماس معه ..

لكن شاءت الأمور أن يبتدع الشريك ذا الرتبة العسكرية المتدنية ، أن يذهب لساحة عمل صاحبنا ، ويفتح نصف زجاج شباك سيارته ، دون أن ينزل ، ويسأله سؤالا ، لم يكن السؤال بتلك الأهمية ، بل كان السؤال فقط من أجل صراعات التذاوت ( توكيد الذات ) .. ليقل له ( صامتا) : أنظر لقد كنت أنت تأمر على مسئول مسئولي ، و الآن أنا أتلذذ بالأمر عليك ..

ذهب صاحبنا لصديقه ، يعتذر عن مواصلة العمل ، ولكن صديقه وعده أن يحل تلك المسألة بعد أن فهمها ، ففض شراكته بمن أراد أن يهين صديقه !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #9  
قديم 20-02-2006, 03:52 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(8)

كان إذا دخل محل لبيع الأقمشة ، أو الملابس الجاهزة ، سواء مع والده أو والدته ، أو عندما شب و أصبح يشتري لوحده دون مساعدة من يكبره . كان يحس أنه أصبح أسيرا لصاحب المحل ، أي محل من تلك النوعية ، فكان يؤخذ برائحة المحل التي تنبثق من المواد الحافظة للأقمشة ، إضافة لبعض البخات التي كان يبخها أصحاب تلك المحال لتدويخ عملائهم أو زوار تلك المحلات .

كان لابتسامة أصحاب المحلات ، و تحركهم بسرعة ، ضمن حركات كرروها مرارا ، وتكلمهم بجمل قصيرة كأنها برقيات ، ولكن رغم قصرها ، فقد كانت وتكون مؤثرة في نفس المشتري ، خصوصا عندما تتبعها حركة سريعة ، يلتقط البائع فيها ، نموذجين أو ثلاثة من القطع التي في الرفوف ، ويفردها أمام المشتري ، إن كانت قماشا ، أو يمسكها من طرفها و يفركها أمام من يراقبه ، لتترك تأثيرا يأسره ، فيغوص المشتري في أعماق رصيده اللغوي ، فلا يخرج إلا بطلب هامشي ، كأن يقول للبائع هل عندك أفضل منها ؟ أو يجب أن تراعينا فنحن نحب أن نأتي الى محلك ..

وكان البائع ، بعد أن يتفقد تأثير حركاته ، ويتفحص نوعية طلب المشتري ، يحس بنشوة الانتصار و نجاح أسلوبه ، فيركض و يأتي بقطعة من نفس المطروح على طاولة العرض ، ولكنها تختلف في اللون أو النموذج ، ويتركها أمام المشتري و يسمر نظراته تجاهه مبتسما ، ومتبعا تلك النظرات ، بإغداق الوصف والتوقير للمشتري ، بأنه صاحب ذوق و ذكي ، فلذلك أتى له بتلك القطعة ، ويسارع لاستثمار حالة الانتشاء عند المشتري لسماعه مدحه من قبل البائع ، ويهمس بصوت لا يكاد أن يكون مسموعا ، صحيح أن ثمنها أغلى من الأولى .. لكن ثمنها فيها !

فيتشبث المشتري بالقطعة ، ويطالب تخفيض الثمن لتكون معادلة لسعر شقيقتها التي رفعها البائع من أمام المشتري ، استبعادا لاحتمال التعرف عليها بأنها لا تختلف عن التي يتم التفاوض عليها ..

كل تلك الصور ، أثرت بصاحبنا ، كما أثرت حالات الغنى والترف التي يعيشها هؤلاء التجار .. فصمم أن يمتهن مهنتهم ، ويستفيد من كل تلك الملاحظات التي تكونت لديه ، وكأنها دراسة جدوى اقتصادية ..

كان محله الذي أسسه ، يتفوق على المحلات التي كان يتجول فيها طيلة حياته ، فالديكور لامع وراقص ، واسم البوتيك حديث وراقص أيضا ، وهناك تنبثق موسيقى في زاوية ما توحي بروحية الشباب ، وقد رش بعض أصناف العطور المؤثرة في نفوس المشترين ، ولبس بلوزة قاتمة فضفاضة دون قميص تحتها ، وكانت قبتها مفتوحة لتسمح لسلسال ذهبي أن يظهر من خلالها على رقبته الشقراء ، وكان يضع على شعره بعض الدهون التي تبقيه لامعا ومنتصبا للأعلى ، ولم ينسى أن يستعين بفتاة محجبة ، وكأنه قد وضع صنفا للعملاء رسمه في ذهنه كجزء من دراسته للجدوى الاقتصادية ، كما أنه خصص محله لبيع الألبسة الجاهزة للفتيات ..

دخل رجل في الستين بعد إلحاح ابنتيه عليه للمرور على محل صاحبنا ، فتلقتهم الفتاة المحجبة ، تطلب منهم أن تخدمهم ، في توقف الوالد مع البائع الشاب الذي ناقشه في سبب اختيار اسم هذا المحل ، الذي لم يعجب والد الفتاتين إذ أحس أن أمور البلاد آخذة في التدهور ، من خلال اسم هذا المحل وديكوره !

تلعثم الشاب ، فلم يكن بحسبانه أنه سيواجه بهكذا ملاحظات منذ اليوم الأول فابتسم و طلب من الرجل الجلوس لكي يضيفه بفنجان من القهوة ، ولكن صرامة الرجل ، وعدم انتباهه لطلب البائع له بالجلوس ، قد تركت أثرا غير طيبا في نفس البائع ..

دخلت ثلاث فتيات ، توزع نظراتهن في أرجاء المحل ، كأنهن فرقة تمشيط جاءت لتطهير هذا المحل في مهمة من حرب الشوارع .. انطلق الشاب نحوهن تاركا الرجل في تساؤلاته ودهشته ، ليقرر أن يتجه نحو باب المحل كأنه غواص يخرج بين حين وحين من الماء ليتنفس .. في حين كانت ابنتاه لا تزالان في حديث بيع وشراء مع البائعة المحجبة ..

ذهب الشاب الى الفتيات الثلاثة ، بعد أن أوقف جهاز الموسيقى ، وتحدث مع الفتيات كأنه في حالة مراقبة حثيثة من الرجل الواقف عند الباب ، فكان ينتقي الكلمات المهذبة المحتشمة ، وتمنى لو أن رأسه مغطى بطربوش أو يشمغ ، حتى يداري مضايقات نظرات الرجل القليلة ، ولكن معانيها قاتلة ..

صاح الرجل بابنتيه مستفسرا ، عما اذا أكملتا الشراء ، فلم يلقى إجابة ، كانتا في كابينة لقياس الملابس ، في حين دخلت امرأة مع بنتها الى المحل ، وحديث جار بينهما ، دون أن يمنعهما المحل عن مواصلته وان كان قد بدأ منذ ساعة .

أحس الرجل والد البنتين ، بأن استغرابه لم يعد ضروري ، و أحس صاحب المحل الشاب بأن ملاحظات الرجل لا تقدم ولا تؤخر ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #10  
قديم 22-02-2006, 05:26 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(9)

كعادتهم ، لم يكن أهل الريف يطيلوا السهر ، لعدم توفر الكهرباء ، ولطبيعة أعمالهم التي تقتضي نهوضهم باكرا في الصباح ، ولاستنزافهم القصص التي يمكن أن يتداولونها في أمسياتهم الرتيبة ..

كان أبو سليم يمسك بملقط يحرك به الجمر في الموقد الذي يحيط به أخواه وابن عمه وولدين من أولادهم . وكون أحلامهم محدودة ولا تتجاوز أن يكون موسمهم جيدا ، فلم يتمرنوا حتى على أحلام كبرى ، لقد كان أحدهم اذا أراد أن يبالغ في وصف شيء انبهر به ، فانه يكتفي بالتركيز على اسم ذلك الشيء ، كأن يقول (والله قمح جاب فلان ، يصمت ويضيف : قمح ) .. أو والله حياة يعيشها أهل الشام .. حياة ..

كنت تشعر بتعابير حواجبهم الكثة و لحاهم البيضاء ، وصمتهم المدروس بعناية المران و التكرار ، ببلاغة لا يستطيع الأدباء استخدامها حتى لو اجتهدوا .

رغم قصر فترة السهرة ، فإن أبو سليم كان يبتدع بعض الحيل القليلة ، لتمضيتها ، طالما أنه لا جديد هناك لرفد مواضيع السهرة ، فكان يمهد الرماد في الموقد الذي أمامه بواسطة علبة التبغ المعدنية المصقولة التي كان يحتفظ بالتبغ داخلها ، فيسحبها جيئة وذهابا عدة مرات ، حتى يصبح سطح الرماد ناعما وممهدا وجاهزا لخط بعض أحلامه المتطاولة .

ولا تدري ما الذي يجعله يرسم تلك المربعات المتلاصقة ، هل هو استعادة لتكوين صورة رآها في مدينة ، وبنى عليها أفكارا ، تصف حالة أهل المدن المتنعمين ، أم هي حالة التعطش لتوفير حجرات ، حيث كانت ندرتها تشكل شاغلا مستمرا لأهل الأرياف ..

كان الجالسون يراقبونه ، بعدم اهتمام ، لتكرر تلك الحالة بين فترة و أخرى ، ويتقاعسوا عن الاستفسار عما يقوم به ، وان لم يسأله أحد عما يقوم به فإنه يتطوع لتفسير تلك الطلاسم أو الأحلام بكلام لم يكن متوافقا مع صوته أو حركة حاجبيه ..

كان الفارق بين عمره وعمر ابنه سليم يزيد عن خمس وخمسين عاما ، لفقدانه أبناءه بسبب أمراض الحصبة التي كانت تفني معظم المواليد ..

ذهب الى مكتب ابنه المهندس سليم ، ولم يكن سليم موجودا في المكتب ، فدخل وجلس بغرفته الرئيسة ، وكانت السكرتيرة و الرسامون والمهندسون الآخرون قد تعودوا على زياراته المتكررة ..

دخل الغرفة ، طبيب عام وتبعه محامي ، وبعد ذلك دخل ضابط من الشرطة ، سلموا على بعض ، وتعارفوا ، و أبو سليم يشاغلهم بقصص قصيرة ، لم ينتبهوا لها كثيرا ، فكان يمجد لهم من خلال قصصه بمهارات ابنه سليم كمهندس لا ينافسه بتلك المهارات ، أي شخص آخر ، فكانوا يبتسمون من باب المجاملة و يذكرون صفات طيبة لإبنه من باب المجاملة أو ضرورة سياق الحديث ..

كان هؤلاء قد تواعدوا في المكتب للخروج كلجنة انتدبتها محكمة البداية لفض خصومة بين أخوين في إحدى القرى ، وهم ينتظرون المهندس للخروج للوقوف على مكان الخصومة ..

كان أحد أعضاء اللجنة يسأل الطبيب عن مسألة ، بعدما تم التعارف ، وأحس بأن هناك ما قد يساعدهم على قتل وقت الانتظار . فكما هي عادة المنتظرين ، ينساب الكلام منهم دون تخطيط مسبق ، ولكنه كالماء يسيل مع أي انحدار ، فان لم يجد المنتظرون ما يتحدثون به ، عندها قد تشفع لهم لفافة تبغ أشعلها أحد المنتظرين ، لتتحول الى حديث ، أو صوت طريف من نغمة هاتف خلوي ، فتصبح حديثا وهكذا ..

دخل سليم بوجهه المبتسم ، وطريقته السريعة ، في التخلص من واجب الاعتذار عن تأخره ، والتفت نحو والده ، وحياه تحية ، فهم الآخرون من خلالها أنه يبلغهم بضرورة تجاوز ما قد يكونوا سمعوا منه .. وهب الجميع لينطلقوا الى مكان الكشف ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م