مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الإسلامي > الخيمة الإسلامية
اسم المستخدم
كلمة المرور

 
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #11  
قديم 14-05-2005, 02:03 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

عليه كان مصلحة أو مفسدة حسب نص الشرع، وإن لم ينطبق عليه بُحث عن المعنى الذي ينطبق على الواقع حتى يعرف المصلحة التي قررها الشرع بمعرفة حكم الله في ذلك الشيء.
وعلى هذا فالمصلحة مصلحة شرعية لا مصلحة عقلية، وهي تدور حيثما يدور الشرع، فحيثما يكون الشرع تكون المصلحة، لأن الشرع هو الذي يقرر مصالح العباد.

أحكام العبادات توقيفية من عند الله

العبادات منتهى درجات التقديس، وهي فطرية في الإنسان، إذ هي رجْع لغريزة التدين. والعقل إنّما يجتمع فيها مع الشعور ليعبد الإنسان من يستحق العبادة وهو الخالق، حتى لا يضِل الوجدان فيعبد ما لا يستحق العبادة، أو يخطئ فيتقرب إلى المعبود بما يبعده عنه. فدور العقل في العبادة حتمي في الاهتداء لمن يُعبد وتعيين من يُعبد وهو الخالق.
أمّا الكيفية التي يؤدي فيها المخلوق العبادة إلى الخالق، فلا مجال للعقل فيها، ولا يستطيع معرفتها. لأن هذه الكيفية هي أحكام يقوم الإنسان بعبادة الله بحسبها، وبعبارة أخرى هي نظام ينظم علاقة المخلوق بالخالق، أي علاقة العابد بالمعبود. وهذا النظام لا يمكن أن يكون من المخلوق مطلقاً لأن المخلوق لا يدرك حقيقة الخالق حتى ينظم علاقته به، ولا يدرك كنهه حتى يعرف كيف يعبده. فيستحيل على الإنسان أن يضع بعقله نظاماً للعبادات بينه وبين الخالق ينظم علاقته بالخالق أي ينظم تقديسه للخالق. لأن وضع هذا التنظيم يستوجب إدراك حقيقة الخالق وهو محال، فصار محالاً أن يضع الإنسان بعقله أحكام العبادات.
ومن هنا كان لا بد أن يكون نظام العبادات آتياً من الخالق لا من المخلوق، أي آتياً من المعبود لا من العابد، فكان لا بد أن تأتي أحكام العبادات من الله وحده، وليس من الإنسان، ولا دخل للإنسان في أي شيء منها مهما قَلّ، لأنه يستحيل عليه أن يضعه. وهذا النظام لا بد أن يبلّغه الخالق للمخلوق، ليقوم بعبادة الإله بحسبه، ومن هنا كانت الحاجة إلى الرسل ليبلّغوا الناس أحكام العبادات، حتمية الوجود، لاستحالة أن يضع الناس أحكاماً في العبادات، ولأنها لا تأتي إلاّ من الله تعالى.
وقد يقال إنه لا حاجة للإنسان إلى نظام للعبادات بل يمكنه أن يقوم بالعبادات دون نظام، إذ هي منتهى درجات التقديس فيقوم بالعبادة كما يشاء لأنها رجْع لإشباع غريزة التدين ولا تحتاج إلاّ إلى الإشباع فقط، فيُشبعها بأي فعل من أفعال التقديس يؤدي فيه هذا الإشباع، فما هي الحاجة إلى تنظيم التقديس، أي إلى أحكام العبادات؟
والجواب على ذلك أن رجْع أي غريزة من الغرائز لا بد من تنظيم الأفعال التي تؤدي هذا الرجْع، لأن عدم تنظيمها يؤدي إلى الفوضى وهي تجر إلى الإشباع الخاطئ أو الإشباع الشاذ، وكلاهما يتناقض مع الأصل الذي قامت عليه الغريزة. فمثلاً غريزة النوع إذا تطلبت الإشباع الجنسي ولم يكن لها نظام لهذا الإشباع، حاوَلَت الإشباع بأي شيء يؤديه، فيجرها ذلك إما إلى الإشباع الشاذ في جهة ليست محلاً للإشباع، وهذا معناه القضاء على النوع الإنساني الذي وُجدت الغريزة من أجله، أو إلى الإشباع الخاطئ، وهو الإشباع في جهة هي محل إشباع ولكن لمجرد الإشباع المؤقت. وهذا معناه أيضاً الصرف عن نتيجة الإشباع وهو الولادة، وفي هذا تقليل النسل إن لم يكن انعداماً له، وهو صرفٌ للغريزة عما وُجدت له وهو بقاء النوع.
ولذلك كان لا بد من نظام ينظم غريزة النوع.
وكذلك غريزة التدين، لا بد من تنظيم الأفعال التي تؤدي رجْع التقديس، أي لا بد من تنظيم التقديس وهو العبادة، لأن عدم تنظيمه يؤدي إلى أن يحاول الإنسان القيام بأي فعل يؤدي التقديس، فيجُر ذلك إلى الإشباع الشاذ بتقديس جهة ليست محلاً للتقديس، كتقديس النار باعتبارها إلهاً، أو تقديس صنم من تمر يصنعه بيده فيعبده ثم يأكله. وهذا معناه صرف الغريزة إلى تقديس غير الخالق، مع أنها هي الشعور بالعجز والاحتياج إلى الخالق المدبر. فصار التقديس مناقضاً للغريزة الدافعة له. وقد يجُر إلى تقديس جهة هي محل التقديس ولكن لمجرد الإشباع لا لتحري حقيقته، كتقديس صنم على اعتبار أن الإله حلّ به أو على اعتبار أن تقديسه يقربه من الله. وهذا معناه الصرف عن نتيجة الإشباع وهو وصول الشكر إلى مستحق الحمد والثناء، إلى أداء هذا الحمد لغير من هو له وهو الصنم. وفي هذا صرفٌ للغريزة عما وُجدت له وهو تقديس الخالق المدبر.
ولذلك كان لا بد من نظام ينظم غريزة التدين كما ينظم غريزة النوع. والفرق بينهما هو أن غريزة النوع يمكن للإنسان أن يضع نظاماً من عقله للأعمال التي تؤدي رجْعها لأنها من علاقات الإنسان بالإنسان، فيمكنه إدراكه ويمكنه أن ينظم علاقته معه، وإن كان لا يمكن أن يكوّن نظاماً كاملاً. أمّا غريزة التدين فلا يمكنه أن يضع نظاماً للأعمال التي تؤدي رجْعها من عقله، لأنها علاقة للإنسان بخالقه ومدبّره، وهو لا يمكنه إدراكه، فلا يمكن أن ينظم علاقته معه، بل لا بد أن يأتي هذا النظام من الخالق.
ومن هنا كان لا بد أن تأتي أحكام العبادات من الخالق لا من المخلوق.

الفكـر

الفكر والإدراك والعقل بمعنى واحد، فهي أسماء متعددة لمسمى واحد. ويطلَق الفكر ويراد منه التفكير، أي العملية التفكيرية. وقد يطلَق ويراد منه نتيجة التفكير، أي ما توصّل إليه الإنسان من العملية التفكيرية. وليس للفكر بمعنى التفكير عضو خاص به حتى تصح الإشارة إليه، بل هو عملية معقدة تتكون من الواقع المحسوس، وإحساس الإنسان، ودماغه، والمعلومات السابقة لديه. وما لم تجتمع هذه الأشياء الأربعة في عملية معينة لا يمكن أن يحصل فكر ولا إدراك ولا عقل.
ولذلك أخطأ القدامى حين بحثوا العقل، وصاروا يحاولون تعيين مكانه في الرأس أو القلب أو غير ذلك. والظاهر أنهم كانوا يظنون أن العقل عضو معين، أو أن للعقل عضواً معيناً. وأخطأ المحدثون حين جعلوا الدماغ هو محل العقل والادراك والفكر، سواء الذين قالوا إن الفكر هو انعكاس الدماغ على الواقع، أو الذين قالوا إن الفكر هو انعكاس الواقع على الدماغ. لأن الدماغ عضو كسائر الأعضاء لا يحصل منه أي انعكاس، ولا يحصل عليه أي انعكاس. لأن الانعكاس هو تسليط الضوء على الشيء وارتداده عنه، وتسليط الشيء على جسم فيه قابلية الانعكاس وارتداده عنه مع وجود الضوء. وذلك كتسليط مصباح كهربائي على جسم ثم ارتداد الضوء عن هذا الجسم، فيُرى الجسم ويُرى الضوء. أو تسليط الشمس أو القمر أو أي ضوء من أي جهة. وكتسليط جسم على مرآة مع وجود الضوء، يرتد الضوء، وترتد صورة الجسم عن المرآة، فيُرى كما هو. إذ ترتد صورة الجسم كأنها ارتسمت خلف المرآة فرؤيت، وهي في حقيقتها لم ترتسم، وإنّما انعكست كما ينعكس الضوء على أي جسم. فهذا هو الانعكاس.
وفي عملية الفكر لا يحصل أي انعكاس، فلا يحصل فيها ولا أي انعكاس من الواقع على الدماغ. فالانعكاس من حيث هو لم يحصل. وأمّا العين التي يُتوهم أنه يحصل بواسطتها انعكاس، فلا يحصل فيها، ولا منها انعكاس، وإنّما الذي يحصل هو انكسار. فالشيء المرئي لا ترتد صورته للخارج، وإنّما يحصل بتسلطه على العين انكسار، إذ تنكسر صورة الشيء المرئي وتستقر في الداخل فيُرى الشيء، ولا يمكن أن ترتد إلى الخلف، ولا يمكن أن يحصل انعكاس منها ولا بها مطلقاً. وعليه فالدماغ ليس محل الفكر.
والذي يحصل هو أن الواقع المحسوس تنتقل صورة عنه إلى الدماغ بواسطة الحواس، وتكون هذه الصورة بحسب الحاسة التي نقلت الواقع. فإن كانت البصر، نقلت صورة الجسم، وإن كانت السمع نقلت صورة صوته، وإن كانت الشم نقلت صورة رائحته، وهكذا. فيرتسم الواقع كما نُقل إلى الدماغ، أي حسب الصورة التي نُقلت. وبذلك يحصل الإحساس بالواقع فقط، ولا يحصل تفكير، ويحصل تمييز غريزي فقط من حيث كونه يُشبِع أو لا يُشبِع، يؤلم أو لا يؤلم، يفرح أو لا يفرح، يلذ أو لا يلذ، ولا يحصل أكثر من ذلك، فلا يحصل تفكير. فإن كانت هنالك معلومات سابقة، رُبطت بواسطة قوة الربط الموجودة في الدماغ بالواقع المحسوس الذي رُسم في الدماغ، فتحصل بذلك العملية التفكيرية، وينتج إدراكه الشيء ومعرفة ما هو. وإن لم تكن هنالك معلومات سابقة لا يمكن أن يحصل إدراك لحقيقة الشيء، بل يبقى عند حد الإحساس فقط، أو عند حد التمييز الغريزي فقط، من حيث كونه يشبِع أو لا يشبِع ليس غير، ولا يحصل فكر على الإطلاق.
وعلى هذا فإن العملية الفكرية لا تحصل إلاّ بتحقق وجود أربعة أشياء هي: الواقع المحسوس، والحواس أو واحدة منها، والدماغ، والمعلومات السابقة. فإذا نقصت واحدة من هذه الأشياء الأربعة لا يمكن أن يحصل فكر مطلقاً. وما يحصل من محاولات التفكير مع عدم توفر الواقع المحسوس ومع عدم توفر المعلومات السابقة هو تخيلات فارغة لا وجود لها، وليست أفكاراً. والاستسلام لها بالبعد عن الواقع المحسوس، أو عن المعلومات السابقة المتصلة بها، يؤدي إلى الإغراق بالأوهام والضلال، وربما أدى إلى إجهاد الدماغ فيصاب بأمراض الخلل والصرع وما شاكلها. ولذلك لا بد من وجود الواقع المحسوس، ووجود المعلومات السابقة، كما لا بد من وجود الدماغ، ووجود الحواس.
وعليه فالفكر أو الإدراك أو العقل هو نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ مع معلومات سابقة يفسَّر بواسطتها هذا الواقع. ويقال نقْل الواقع لا نقْل صورة الواقع، لأن الذي يُنقل هو الإحساس بالواقع لا صورة كالصورة الفوتوغرافية. فهي صورة للواقع وهي الواقع إحساساً. ولذا كان القول بأنها
  #12  
قديم 14-05-2005, 02:05 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

نقل الواقع، أدق من القول بأنها نقل صورة الواقع، لأن الصورة المنقولة هي إحساس بالواقع لا صورة عنه فقط.
هذا هو تعريف الفكر، أي هذا هو الفكر أو الإدراك أو العقل. وهذه العملية تحصل للمفكر الذي ينتِج الفكر، لا لمن يُنقَل إليه الفكر. أمّا من يُنقل إليه الفكر فلا تحصل له هذه العملية، لأن الفكر نتج وانتهى، فيعطيه منتجه للناس، وينقله الناس بعضهم لبعض، ويعبّرون عنه باصطلاحات اللغة أو غيرها، وإن كان التعبير باللغة هو السائر في أنحاء العالم.
والفكر الذي يُنقل للشخص يُنظر فيه: فإن كان له واقع محسوس، سبق أن أحسه الشخص، أو أحسه حين نُقل إليه، أو كان لم يسبق أن أحسه، أو لم يحسه حين نُقل إليه بل تصوره في ذهنه كما نُقل إليه، وصدّقه، وصار له واقع في ذهنه كأنه أحسه وسلّم به كتسليمه بالواقع المحسوس، فهو في كلتا هاتين الحالتين قد أدركه، فأصبح بوجود هذا الواقع له في ذهنه مفهوماً من مفاهيمه، وكان فكراً حقيقة كما لو نتج هذا الفكر عنه هو. وإن لم يوجَد لهذا الفكر واقع عند الشخص الذي نُقل إليه بل فَهِم الجملة، وفَهِم الفكر، وفَهِم المراد منه، ولكن لم يتكون له واقع في ذهنه لا حساً ولا تصديقاً وتسليماً، فهو معلومات فقط، أي مجرد معارف عن أشياء، فهو فكر باعتبار مدلولاته، ولكنه مجرد معارف عند من لم يوجَد لديه واقع في ذهنه عنه. ولذلك لا تؤثر المعلومات في الأشخاص وإنّما تؤثر المفاهيم لأنها أفكار لها واقع في ذهن من أدركها. ولذلك كان لا بد من معرفة الفكر ما هو، حتى يُعرف كيف يؤثر الفكر.

طريقة التفكير

ينشأ الفكر عند الإنسان من اقتران الواقع عنده بمعلومات عنه، ولا يمكن أن ينشأ من الواقع وحده مطلقاً, ولا من المعلومات وحدها ولا بوجه من الوجوه.
ضع أمام طفل صغير أشياء لم يسبق أن عرف عنها شيئاً، وانظر هل يحصل عنده فكر؟ فإنك تجد أنه يحصل عنده من تكرار إحساسه بالواقع وحده إحساس بوجود الواقع، ويحصل عنده تمييز الأشياء بعضها عن بعض، وتمييز ما يؤلم أو يلذ، أو يَسُر أو يزعج، أو يشبع، أو غير ذلك مما يتصل بالغرائز أو الحاجات العضوية، ولا يحصل عنده شيء أكثر من ذلك مهما اختلف الإحساس وتكرر وتنوع، أي يحصل عنده إحساس ويحصل من جراء هذا الإحساس وتكرره تمييز غريزي فقط. ولكنك إذا وضعتَ أمامه شيئاً ثم قرنته بمعلومات عنه أدرك ما هو الشيء. فإنْ سألته عنه شرحه لك وبيّن لك ما هو، فيصبح حينئذ عنده إدراك الشيء، أي يصبح عنده فكر. أمّا لو أعطيته معلومات فقط عن الشيء وكررت له هذه المعلومات فإنه يعاود سردها لك كما هي، ولا يحصل عنده فكر ما لم يربطها بالواقع.
والدليل الحسي على ذلك هو: ضع أمام طفل ميزاناً وتفاحة وناراً ثم حفّظه معلومات عن كل واحدة منها كأن تقول له: ميزان يزِن، تفاحة تؤكل، نار تحرق، وكررها عليه عدة مرات ثم اسأله أين الميزان فيضع اصبعه على التفاحة أو النار، وقد يضع اصبعه على الميزان، ولكنه إذا رآك لم ترض ذلك غيَّر في الحال، ووضع اصبعه على غيره. فهو قد تلقى معلومات وأعادها، ولكنه لم يحصل عنده فكر. أمّا إذا أريته الميزان وقلت له هذا ميزان يزن، وبينت له عملية الوزن وكررت ذلك، ثم أريته التفاحة أو النار وكررت ذلك فإنه يحصل عنده فكر. فإذا قلت له أين الميزان وضع اصبعه عليه ودلّك عليه. فلو رفضت ذلك وغالطته لا يرد عليك ويصر على الميزان الذي شُرح له لأنه أدركه، فيصبح يعرفه لمجرد رؤيته أو لمجرد ذكر اسمه، لأنه صار له فكر عن هذه الأشياء باقتران الواقع مع المعلومات.
وعليه فالتفكير ينشأ عند الإنسان من إحساسه بالواقع مع تلقيه من غيره معلومات مع الإحساس، فيصبح عنده من ذلك فكر. هذا إن لم تكن عنده معلومات، أمّا إن كانت عنده معلومات فيكون قد سبق أن نشأ عنده فكر، فإذا أراد أن ينشئ فكراً جديداً عن شيء فإنه يحس الواقع ثم يربط إحساسه بالواقع بمعلوماته السابقة فيصدر فكراً. فإن لم تكن عنده أي معلومات تتصل بهذا الشيء افتقر إلى أن يتلقى معلومات عنه فيحصل من تلقيه للمعلومات مع إحساسه بالواقع فكر جديد عنده. وعلى هذه الطريقة ينشأ الفكر.
وهذه النشأة هي طريقة التفكير الطبيعية عند الإنسان وهي طريقة التفكير الأساسية، وهي التي توجِد الفكر.
وعلى ذلك فطريقة التفكير من حيث هي تحتّم اقتران الإحساس بالواقع مع المعلومات السابقة عنه، أو اقتران المعلومات السابقة مع الإحساس بالواقع فحينئذ يحصل الفكر، وفي غير ذلك لا يحصل فكر مطلقاً. فلا بد من إعطاء المعلومات مع الإحساس بالواقع حين نريد أن ننشئ فكراً، ولا بد من إيجاد الإحساس بالواقع مع المعلومات حين إعطائها إذا اردنا أن يدرَك الفكر الذي نعطيه. فلا بد من وجود واقع محسوس، ومن وجود معلومات حتى يوجد فكر. وهذه وحدها هي طريقة التفكير. ولذلك كان إعطاء المعلومات وحدها وربطها مع بعضها دون اقترانها بواقع محسوس لا يشكل فكراً عند الشخص، بل يوجِد عنده معلومات ولا يوجِد أي فكر مهما شرحت له ما لم يدرِك واقعها ويكون هذا الواقع محسوساً.
هذا من حيث إيجاد فكر عند المفكر الذي أوجد الفكر أو أنشأه، وكذلك هو عند من يعطي الفكر لغيره، فإذا أريد إعطاء هذا الفكر للناس فإنه يمكن أن يُنقل إليهم بأي وسيلة من وسائل التعبير كاللغة مثلاً، فإن اقترن عندهم بواقع سبق أن أحسّوا به أو أحسّوا بمثله أو قريب منه فإنه يكون قد انتقل إليهم فكراً، فصار مفهوماً من مفاهيمهم كأنهم هم قد توصلوا إليه، وإن لم يقترن عندهم بواقع محسوس لديهم بأن فهموا معنى الجُمل وشُرحت لهم ولم يتصوروا أي واقع لها، فإنه لا يكون قد انتقل إليهم فكراً، وإنّما نُقل إليهم مجرد معلومات، فيصبحون بهذه المعلومات متعلمين ولا يصبحون مفكرين، لأنه لم يُنقل إليهم فكراً، بل نُقلت جمل تتضمن معلومات.
ومن هنا كان لا بد لمن ينقلون للناس أفكاراً أن يقرّبوا ما فيها من معانٍ لأذهان الناس بمحاولة اقترانها بواقعها المحسوس لديهم، أو بواقع قريب مما يحسونه، حتى يأخذوا منهم أفكاراً. وإن لم يفعلوا ذلك لا يكونون قد نقلوا للناس أفكارهم، وإنّما نقلوا إليهم معلومات علّموهم إياها.
ولهذا كان لا بد من الحرص على طريقة التفكير، وذلك باقتران المعلومات بالواقع عند إنشاء الفكر، أو بتقريب الأفكار من الواقع المحسوس عند من يأخذها حتى تقترن المعلومات بالواقع فتوجِد فكراً.
ومن هنا كان الاهتداء إلى طريقة التفكير والحرص عليها من أهم ما يجب توفره عند الناس.

القَدَرية الغيبية

القدرية الغيبية هي الاستسلام للقدر، وإرجاع كل شيء في الحياة إلى تصرفات المقادير المغيَّبة عن الإنسان، وأنه ليس لعمل الإنسان في الحياة أي أثر، وإنّما هو مسيَّر وليس بمخيَّر، وهو كالريشة في الفضاء تحركها الرياح حيث تشاء!
وقد شاعت هذه الفكرة، واتُخذت عقيدة، منذ أواخر عهد العباسيين، واستمرت حتى الآن. وقد اتُخذ وجوب الاعتقاد بالقضاء والقدر وسيلة أُدخلت بواسطته هذه الفكرة على المسلمين. وكان من جرائها أن وجد المخفقون في كنفها مبرراً لإخفاقهم، ووجد القَعَدة الجَهَلة في الاستناد إليها حجة لكسلهم وتقاعسهم. ورضي كثير من الناس بالظلم ينزل فيهم، وبالفقر ينهش من لحومهم، وبالذل يخيّم عليهم، وبالمعاصي تسيطر على أعمالهم، استسلاماً منهم إلى القدرية الغيبية التي يعتقدونها، زاعمين أن ذلك استسلام إلى قضاء الله وقدره!
ولا تزال هذه الفكرة مسيطرة على الناس، متحكمة في كثير من تصرفاتهم، بينما يجد الباحث المدقق أن القدرية الغيبية لم تُعرف في عهد الصحابة، ولا دارت بخَلَد أحد منهم، ولو كانت موجودة عند المسلمين لَما فتحوا الفتوحات، ولا تحمّلوا المشقات، بل لكانوا تركوا للقدر يفعل ما يشاء، ولكانوا قالوا "ما قُدّر يكون سواء عملت له أو لم تعمل!"
  #13  
قديم 14-05-2005, 02:05 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

ولكن أولئك المسلمين العارفين أدركوا: أن الحصن لا يُفتح إلاّ بالسيف، وأن العدو لا يُقهر إلاّ بالقوة، وأن الرزق يجب أن يُسعى إليه، والمرض يجب أن يُتقى منه، وشارب الخمر المسلم يجب أن يُجلد، والسارق يجب أن تُقطع يده، والحاكم يجب أن يحاسَب، والمناورات السياسية لا بد من القيام بها مع الأعداء. ولا يمكن أن يعتقدوا غير ذلك وقد شاهدوا جيش المسلمين بقيادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُهزم في معركة أُحد لأن الرماة خالفوا أوامر القيادة، وينتصر يوم حنين بعد الهزيمة لأن الجيش الذي فرّ من المعركة من خوف النبال، رجع للقتال عندما ناداه الرسول عليه الصلاة والسلام وهو ثابت مع بضعة نفر في المعركة أمام أعين الجيش الهارب.
إن الله تعالى قد علّمنا ربط الأسباب بالمسبَّبات، وجعل السبب ينتِج المسبَّب: فالنار تحرق ولا يحصل إحراق بدون نار، والسكين تقطع ولا يحصل قطع بغير سكين. وخلق الله الإنسان وجعل فيه القدرة على القيام بالعمل وأعطاه الاختيار المطلق في القيام بأعماله: يأكل متى يشاء ويمشي متى يشاء، ويسافر متى يشاء، ويتعلم فيعلَم، ويقتل فيعاقَب، ويترك الجهاد فيَذِل، ويقعد عن السعي للرزق فيفقر. فلا وجود للقدرية الغيبية في واقع الحياة، ولا في شرع الله.
أمّا القضاء والقدر فليسا من القدرية الغيبية في شيء، لا من قريب ولا من بعيد، لأن القضاء هو الأفعال التي تقع من الإنسان وعليه جبراً عنه. مثل كونه يرى بعينيه لا بأنفه، ويسمع بأذنه لا بفمه، ولا يملك السيطرة على دقات قلبه. وكصاعقة نزلت من السماء أو زلزال هز الأرض فأصاب الإنسان منه ضرر، أو سقوط شخص مِن على سطح 00000000 على إنسان فقتله. فهذه كلها أعمال داخلة في القضاء ولا يحاسَب الإنسان عليها، ولا علاقة لها بأفعال الإنسان الاختيارية.
والقدر هو خواص الأشياء التي بها يحصل إنتاج الشيء، كالإحراق المقدَّر في النار، والقطع المقدَّر في السكين، وغريزة النوع المقدَّرة في الإنسان. وهذه كلها لا تستطيع القيام بالعمل إلاّ بفعل فاعل. فإذا باشر بها الإنسان عملاً باختياره، كان هو فاعل الفعل لا القدر الموجود في الشيء. فلو قام إنسان بإحراق بيت بالنار، كان هو فاعل الإحراق لا النار التي تحرق بالخاصية المقدَّرة بها، فيحاسَب الإنسان على فعله الإحراق، لأنه هو الذي باشر بالقدر عملاً معيناً باختياره. فالقدر لا يفعل شيئاً بدون فعل فاعل، والقضاء لا دخل له في أفعال الإنسان التي يقوم بها باختيار منه. فكلاهما إذن لا دخل له بأفعال العباد الاختيارية، ولا دخل لهما أيضاً في نظام الوجود من حيث السيطرة عليه، وإنّما هما من نظام الوجود الذي يسير وفق النواميس التي خلقها الله تعالى للكون والإنسان والحياة.
وعلى ذلك فالإنسان قادر أن يؤثر في السعي لكسب العيش وفي طريقة العيش، وقادر على تقويم اعوجاج الحاكم الظالم أو خلعه، وقادر على التأثير في كل ما هو داخل في أفعاله الاختيارية. وما القدرية الغيبية إلاّ خرافة من الخرافات ووهم من الأوهام.

مفاهيم الإسلام ضوابط لسلوك الإنسان في الحياة

أفكار الإسلام هي مفاهيم وليست معلومات لمجرد المعرفة. ومعنى كونها مفاهيم أن لها مدلولات واقعة في معترك الحياة، وليست مجرد شرح لأشياء يفرض المنطق المجرد وجودها. بل كل مدلول تدل عليه له واقع يمكن للإنسان أن يضع اصبعه عليه، سواء أكانت مفاهيم عميقة تحتاج إلى عمق واستنارة لإدراكها، أو كانت ظاهرة يمكن فهمها بسهولة. وسواء أكانت محسوسة بالحواس، لها واقع محسوس كالمعالجات والأفكار والآراء العامة، أو كانت مغيَّبة ولكن الذي أخبرنا عنها قد قطع العقل حساً بصدقه، كالملائكة والجنة والنار. فكلها وقائع موجودة لها مدلولات واقعة حساً وذهناً، أو مدلولات واقعة ذهناً على شكل قطعي جازم.
إلاّ أن هذه المدلولات الواقعة ليست أبحاثاً في الفَلَك، ولا معلومات في الطب، ولا أفكاراً في الكيمياء قد جاءتنا للانتفاع بما في الكون، وإنّما هي ضوابط لسلوك الإنسان في هذه الحياة الدنيا ونحو الحياة الأخرى، ولا علاقة لها بغير ذلك مطلقاً. فهي قد جاءت هدى ورحمة وموعظة، وجاءت معالجات لأعمال الإنسان وتعييناً لكيفية سلوكه. وإذا تتبعنا هذه المفاهيم في النصوص التي صدرت عنها هذه المفاهيم، وبعبارة أخرى التي تضمنت الأفكار الدالة على هذه المفاهيم، نجد أنها جميعها من غير استثناء جاءت على هذا الوجه دون سواه، وحُصرت في هذه الناحية وحدها. فنصوص القرآن والسنّة في منطوقها –وهو ما دل عليه لفظ الجملة- ومفهومها –وهو ما دل عليه معنى الجملة- أو دلالتها –وهو ما يقتضيه معنى الجملة- فإنها كلها محصورة في إطار واحد هو العقيدة وما ينبثق عنها من أحكام ويُبنى عليها من أفكار، ولا يوجد شيء غير هذا.
وعلى هذا كان لزاماً على المسلم أن يدرك في نصوص الشريعة وهي الكتاب والسنّة، أنها جاءت للعمل بها، وجاءت خاصة بسلوكه في الحياة. أي يجب على المسلم أن يدرك في الإسلام أمرين اثنين:
أحدهما أنه جاء بمفاهيم لضبط سلوكه في الحياة الدنيا ونحو الحياة الأخرى، فيأخذ كل فكر قانوناً لضبط سلوكه ضمن هذا القانون. فتظهر فيه الناحية العملية لا الناحية التعليمية. ويجب أن يكون واضحاً أنه إذا أُخذت فيه الناحية التعليمية وحدها فَقَد صبغته الأصلية وهي كونه قانوناً لضبط السلوك، وصار معرفة كمعارف الجغرافيا والتاريخ. فيَفقد بذلك حرارة الحياة الموجودة فيه، ويصبح ليس إسلاماً بحتاً، وإنّما معارف إسلامية، يستوي في الإحاطة بها المستشرق الكافر الذي لا يؤمن بها، والذي يتعلمها ليحاربها ويحارب أهلها، مع العالِم المسلم الذي يؤمن بها ولكنه ينقّب عنها كمعلومات، وكلذّة علمية، دون أن يخطر بباله أن يتخذها ضوابط لسلوكه في الحياة.
ومن هنا كانت معرفة الأفكار الإسلامية، والأحكام الشرعية، دون تحقيق اعتبارها ضوابط للسلوك الإنساني في الحياة، هي الآفة التي لم تجعل للإسلام أثراً في سلوك حياة المسلمين اليوم.
أمّا الأمر الثاني الذي يجب على المسلم أن يدركه في الإسلام هو أن القرآن والحديث إنّما جاءا ديناً وشريعة لا معارف وعلوماً، وأنه لا دخل لهما بأي علم من العلوم، لا بالتاريخ ولا بالجغرافيا، ولا بالطبيعيات أو الكيمياء، ولا بالاختراعات أو بالاكتشافات.
أمّا ما ورد في القرآن من آيات عن القمر والنجوم والكواكب وعن
  #14  
قديم 14-05-2005, 02:06 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

البحار والجبال والأنهار والحيوان والطير والنبات كقوله تعالى: والشمس تجري لمستقر لها) (التي تطّلع على الأفئدة) إلى غير ذلك من الآيات، فليس لها أية دلالة على أي علم من العلوم وإنّما هي لفت نظر إلى قدرة الله، وأدلة على عظمة الله وآيات تدل الإنسان على ما يُقنع عقله بضرورة الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
فهي أدلة قدرته وعظمته، ولفت نظر للعقول لتدرِك وتتعظ، وليس لأي بحث في المعرفة أو العلم.
وعلى ذلك فإن أفكار الإسلام التي جاء بها القرآن والحديث لم تأت لمجرد المعرفة ولا للبحث التعليمي، وإنّما جاءت لمعالجة مشاكل الإنسان، فهي ضوابط لسلوكه في الحياة الدنيا ونحو الحياة الأخرى.

العقوبات في الإسلام

شرع الله العقوبات في الإسلام زواجر وجوابر. زواجر لزجر الناس عن ارتكاب الجرائم، وجوابر تجبر عن المسلم عذاب الله تعالى يوم القيامة.
أمّا كون العقوبات في الإسلام زواجر، فهذا ثابت بنص القرآن. قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب). فكون الله تعالى جعل في القصاص الحياة معناه أن إيقاع القصاص هو الذي أبقى الحياة، ولا يكون ذلك في إبقاء حياة من وقع عليه القصاص، ففي القصاص يكون موته لا حياته، بل حياة من شاهد وقوع القصاص. على أن الغالب من حال العاقل أنه إذا علم أنه إذا قتل غيره قُتل هو، فإنه لا يُقدم على القتل. وهكذا جميع الزواجر.
أمّا هذه العقوبات فلا يجوز أن توقَع إلاّ بالمجرم، لأن معنى كونها زواجر أن ينزجر الناس عن الجريمة، أي يمتنعوا عن ارتكابها.
والجريمة هي الفعل القبيح، والقبيح ما قبحه الشرع. ولذلك لا يعتبر الفعل جريمة إلاّ إذا نص الشرع على أنه فعل قبيح فيُعتبر حينئذ جريمة.
وليست الجريمة موجودة في فطرة الإنسان، ولا هي مكتسَبة يكتسبها الإنسان، كما أنها ليست مرضاً يصاب الإنسان به، وإنّما هي مخالفة النظام الذي ينظم أفعال الإنسان.
وذلك أن الإنسان قد خلقه الله تعالى وخلق فيه غرائز وحاجات عضوية، وهذه الغرائز والحاجات العضوية طاقات حيوية في الإنسان تدفعه لأن يسعى لإشباعها، فهو يقوم بالأعمال التي تصدر عنه من أجل هذا الإشباع.
وترْك هذا الإشباع دون نظام يؤدي إلى الفوضى والاضطراب، ويؤدي إلى الإشباع الخاطئ أو الإشباع الشاذ.
وقد نظم الله تعالى إشباع هذه الغرائز والحاجات العضوية حين نظم أعمال الإنسان بالأحكام الشرعية. فبيّن الشرع الإسلامي علاج أعمال الإنسان في الخطوط العريضة التي هي الكتاب والسنّة، وجعل في هذه الخطوط العريضة محل الحكم في كل حادثة تحدث للإنسان. وشرع الحلال والحرام، فجاء بما يُستنبَط منه حكم كل فعل من أفعال الإنسان، وبيّن الأشياء التي حرّمها على الإنسان. ولهذا ورد الشرع بأوامر ونواه وكلف الإنسان العمل بما أمره به، واجتناب ما نهاه عنه. فإذا خالف الإنسان ذلك فقد فعل الفعل القبيح، أي فَعَل جريمة، سواء أكان ذلك عدم القيام بما أمر به أو كان فعل ما نهى عنه، ففي كلتا الحالتين يعتبر أنه فعل الجريمة. فكان لا بد من عقوبة لهذه الجرائم حتى يأتمر الناس بما أمرهم الله به، وينتهوا عما نهاهم عنه، وإلاّ فلا معنى لتلك الأوامر والنواهي إذا لم يكن عقاب على مخالفتها، إذ لا قيمة لأي أمر يُطلب القيام به إذا لم يكن مقابله ما يعاقَب به من لا يقوم بهذا الطلب، سواء أكان طلب فعل أم طلب ترك.
وقد بين الشرع الإسلامي أن على هذه الجرائم عقوبات في الآخرة وعقوبات في الدنيا. أمّا عقوبة الآخرة فالله تعالى هو الذي يعاقب بها المجرم فيعذبه يوم القيامة، قال الله تعالى: (يُعرف المجرمون يومئذ بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام)، وقال تعالى: (والذين كفروا لهم نار جهنم) (هذا وإن للطاغين لشرّ مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد) (إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً).
وقد بين الله تعالى هذه العقوبات صريحة في القرآن، فهي واقعة حتماً لأنها جاءت في آيات قطعية الثبوت قطعية الدلالة، قال تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحبون في الحميم ثم في النار يُسجرون) (ليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلاّ من غِسلين لا يأكله إلاّ الخاطئون) (يًصب فوق رؤوسهم الحميم) (إن المجرمين في ضلال وسُعُر يوم يُسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مَسّ سَقَر) (في سموم وحميم وظل من يحموم) (لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شُرب الهيم) (فنُزُلٌ من حميم وتصلية جحيم) (كلا إنها لظى نزاعة للشوى) (خذوه فغُلّوه ثم الجحيم صلّوه ثم في سلسلة ذَرعُها سبعون ذراعاً فاسلكوه) (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب).
وهكذا تبين آيات كثيرة عذاب الله بياناً قطعياً بأسلوب معجز، وأن الإنسان حين يسمعها لَيَأخذه الهول، ويتولاه الفزع، ويهُون عليه كل عذاب في الدنيا، وكل مشقة مادية، إذا تصور عذاب الآخرة وهوله، فلا يُقدِم على مخالفة أوامر الله ونواهيه إلاّ إذا نسي هذا العذاب وهوله.
هذه عقوبة الآخرة، أمّا عقوبة الدنيا فقد بيّنها الله في القرآن والحديث مجمَلة ومفصَّلة. وجعل الدولة هي التي تقوم بها. فعقوبة الإسلام التي بيّن إيقاعها على المجرم في الدنيا يقوم بها الإمام أو نائبه، أي تقوم بها الدولة الإسلامية بتنفيذ حدود الله، وما دون الحدود من التعزير والكفّارات. وهذه العقوبة في الدنيا على ذنب معين من قِبل الدولة تُسقِط عن المذنب عقوبة الآخرة. فتكون بذلك العقوبات زواجر وجوابر، فتزجر الناس عن فعل الذنوب وارتكاب الجرائم والآثام، وتجبر عقوبة الآخرة فتسقط عن المسلم عقوبة الآخرة.
والدليل على ذلك ما رواه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس: تبايعوني على أن لا تُشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله، فأمْرُه إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه. فبايعناه على ذلك).
وهذا صريح في أن عقوبة الدنيا من الإمام أو نائبه على ذنب معين تُسقِط عقوبة الآخرة، ولذلك كان كثير من المسلمين يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرّون بالجرائم التي فعلوها ليوقع عليهم الحد في الدنيا حتى يسقط عنهم عذاب الله يوم القيامة، فيحتملون آلام الحد والقصاص في الدنيا لأنه أهون من عذاب الآخرة.

التمييز الغريزي

كثيراً ما اختلط على الناس الفكر بالتمييز الغريزي، فعجزوا عن التمييز بينهما، فوقعوا في أخطاء منها ما هو مضحك ومنها ما هو مضلِّل. فمنهم من جعل للطفل حين يولد عقلاً وفكراً، ومنهم من جعل للحيوان فكراً، ومنهم من جرّه عدم التمييز بين الفكر والتمييز الغريزي إلى الضلال في تعريف الفكر، وأن الخطأ في فهم ما هو العقل. ولهذا كان بيان ما هو التمييز الغريزي ضرورياً، كما أن بيان ما هو الفكر أو العقل أو الإدراك ضروري.
والتمييز الغريزي يحصل عند الحيوان من جراء تكرار إحساسه بالواقع. ذلك أن الحيوان لديه دماغ ولديه حواس، كما هي الحال عند الإنسان. إلاّ أن دماغ الحيوان خال من القدرة على الربط، وإنّما فيه مركز للإحساس فقط. فلا توجد لديه معلومات سابقة يربطها بالواقع أو بالإحساس، وإنّما توجد لديه انطباعات عن الواقع، ويستعيد هذه الانطباعات حين الإحساس بالواقع. وهذه الاستعادة ليست ربطاً وإنّما هي تحرُّك لمركز الإحساس من جراء الإحساس بالواقع الأول أو بواقع جديد يتصل بالواقع الأول، فيحصل من هذه الاستعادة للإحساس تمييز غريزي، وهو الذي يعيّن سلوك الحيوان نحو إشباع الغريزة أو الحاجة العضوية. ويكون هذا السلوك فقط للإشباع أو عدم الإشباع ولا يكون لأكثر من ذلك مطلقاً.
وعلى هذا فإن الذي يحصل عند الحيوان هو إحساس بالواقع فقط مهما تعدد هذا الإحساس وتنوَّع. وهذا الإحساس هو الذي يدفعه للإشباع أو عدم الإشباع. فمثلاً إذا قُدّم لحيوان أو طير طعام فإنه يميز كونه يؤكل أو لا يؤكل، ثم يعيِّن سلوكه نحوه فيأكله أو يُعرِض عنه، ولا يزيد على ذلك. وإذا وصل لهذا التمييز من ناحية الإشباع وقف عند حده، فهو لا يستطيع أن يزيد على ذلك ولا يحاول أن يزيد على ذلك. ولو قُدّم لحصان شعير وتراب فهو يحاول أن يختبر أيهما فيه إشباع، فإذا وجد ذلك في الشعير لا في التراب تركّز عنده الإحساس بأن الشعير يشبع حاجته والتراب لا يشبع. فيصبح بعد ذلك يترك التراب لمجرد الإحساس به، ويأخذ الشعير بمجرد الإحساس به إذا كان جائعاً.
فهذا التمييز حصل عند الحيوان من تجربة حصلت بواسطة الإحساس، وتكفي هذه التجربة ولو مرة، وسواء حصلت منه أو من غيره مع إحساسه بما حصل لغيره. وسواء أكان ذلك من تجربة شيء واحد أو من تجارب أشياء متعددة مختلفة، فإنها كلها تحدث تمييزاً غريزياً. إلاّ أن تجربة الشيء الواحد هي التي تظهر عند الحيوان أكثر من غيرها. وقد تحصل عنده تجارب متعددة كالتجربة على الشعير والتراب أو كالتجربة على الحلو والمر والحامض. وقد تحصل عنده تجارب معقدة فيصدر عنه استعادة الإحساس بما يشبه التفكير، ولكنه في الحقيقة استعادة لما سبق أن أحسّه، وليس ربطاً بمعلومات.
مثال ذلك تجربة سرقة الفيران للبيض، فإنه شوهد أن فأرين يذهبان إلى سوق البيض فينبطح أحدهما على ظهره ويدفع الآخر البيضة على بطن الفأر
  #15  
قديم 14-05-2005, 02:15 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

المنبطح، فيقبض ذاك رجليه عليها ويسحبه الفأر الآخر من ذنبه إلى وكرهما حتى يضعا البيضة فيه، ثم يرجعان للإتيان بغيرها على الوجه السابق. فهذه العملية معقدة، ولكنها نتجت عن تجارب في استعادة المحسوسات لا عن ربط المعلومات. وهذه التجارب لا تحصل إلاّ بما يحصل به الإشباع أو يتصل بما يحصل به الإشباع. فلا تحصل مسألة الفيران بغير ما يؤكل، لكن قد تحصل في غير البيض مما يحصل فيه إشباع. فهذا الذي حصل من الفأر والحصان، ويحصل من القرد والجَمَل وغيرها ليس تفكيراً وإنّما هو تمييز غريزي وهو خاص بما يشبع فقط ولا يتعدى التمييز. فلا يمكن أن يصل إلى معرفة ما هو هذا الشيء الذي أشبع، ولا ما هو الشيء الذي لا يحصل به إشباع. ومن هنا كان تمييزاً غريزياً وليس فكراً ولا عقلاً ولا إدراكاً.
ومثل الحيوان الطفل حين يولد، فإنه وإن كان دماغه فيه قابلية الربط فإنه لم توجد لديه معلومات حتى يربطها بالإحساس بالواقع الجديد ليميزه، ولذلك لا يحصل عنده فكر ولا عقل ولا إدراك، وإنّما يحصل عنده تمييز غريزي فقط للشيء من حيث كونه يشبِع أو لا يشبِع، ولا تجعل عنده معرفة عن حقيقة الشيء الذي ميّز الإشباع فيه. فهو لا يعرف ما هو الشيء الذي أشبع، ولا ما هو الشيء الذي لم يشبِع، وإنّما يحصل عنده تمييز في حدود أنه يشبِع أو لا يشبِع فقط. فإذا عرضتَ على طفل تفاحة وحجراً، جرّب أحدهما، فما يجد فيه الإشباع يأكله، ويرمي الآخر. فتحصل عنده من ذلك تجربة يستطيع بها أن يأخذ التفاحة ويرمي الحجر بتمييز غريزي حصل من التجربة فقط، وذلك لأن المعلومات لم توجد لديه بعد. فإذا وُجدت لديه المعلومات استعملها طبيعياً لأن الربط جزء من تكوين دماغه. فإحساسه بالشيء مرتبط بربطه بالمعلومات حتماً، فيكون وجود المفهوم عن الشيء مربوطاً ربطاً حتمياً بالإحساس به. فيبدأ حينئذ عند الطفل الفكر أو العقل أو الإدراك بمجرد وجود المعلومات التي يربط بها.
وعلى هذا فإن التمييز الغريزي هو إحساس بالواقع بواسطة الحواس، يحصل به تمييز الشيء من كونه يشبِع أو لا يشبِع، بخلاف الفكر، فإنه نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ومعلومات تفسِّر هذا الواقع. فالفكر حكم على شيء، والتمييز الغريزي تبيان أن الشيء يشبِع أو لا يشبِع، ليس غير.

الخـوف

الخوف مظهر من مظاهر غريزة البقاء، وهو حتمي الوجود في الإنسان لأنه جزء من تكوينه، ووُجد فيه فطرةً مع وجوده. إلاّ أنه كباقي مظاهر غريزة البقاء كالسيادة والدفاع والرحمة وغيرها، بل كباقي الغرائز وهي التدين والنوع، لا يظهر إلاّ بوجود عامل يثيره، وما لم يوجد هذا العامل المثير لا يظهر الخوف مطلقاً. والعامل الذي يثير الخوف هو الذي يثير أي غريزة من الغرائز، وهو إما شيء مادي محسوس، وإما فكر من الأفكار المتصلة به، أو المتعلقة فيه. إلاّ أنه لا بد أن يكون هذا الشيء المادي أو الفكر مما يدرَك أنه يخيف أو مما يشعر وجدانياً أنه يخيف. وما لم يحصل هذا الإدراك أو هذا الشعور لا يحصل الخوف، لأن الغريزة لا تتحرك طاقتها ولا تثور إلاّ إذا كان الشيء قد ارتبطت فيه مشاعر الخوف بإدراك أو بتمييز غريزي. وعلى هذا لا يحصل إلاّ بوجود ما يثيره، وإن كان فطرياً قد خُلق مع خلق الإنسان.
والخوف مشكلة من المشكلات الخطرة التي تعاني من جرائها الشعوب المنحطة والأمم الضعيفة ما تعاني من الذل والتأخر. والخوف إذا سيطر على شخص أفقده لذة العيش، وأفقده أنبل الصفات، وجعل لديه الارتباك الذهني وعدم القدرة على الحكم على الأشياء، وشلّ عنده الحافظة وقابلية التمييز.
وأخطر أنواع الخوف الخوف من الأوهام والأشباح. وهذا لا يكون إلاّ عند ضعاف العقول، إما لأن نمو العقل عندهم لم يكتمل بعد كالأطفال، أو لعدم وجود المعلومات الكافية للربط بالواقع كالجَهَلة وكل من تنقصه معلومات بحكم حياته في المجتمع كمعظم النساء، وإما لضعف فطري في أدمغتهم مثل البُله والمعتوهين ومن شابههم. وهؤلاء يعالَج الخوف لديهم إما بالتعمق معهم في البحث وتقريب الأشياء لإدراكهم، وإما بإعطائهم أفكاراً متصلة بما يخافون منه على أن يكون لهذه الأفكار واقع محسوس لديهم، فإنهم بهذا العلاج يتخلصون من سيطرة الخوف إما بإزالته أو بتخفيفه تدريجياً إلى أن تُقلع بقايا مفاهيمه الموجودة في الأعماق.
وهناك نوع من الخوف أقل خطراً من خوف الأوهام، وهو الخوف الناتج عن عدم تقدير الأشياء تقديراً صحيحاً. وذلك أن يرى الإنسان شيئاً ربما كان مخيفاً وربما كان غير مخيف. فقد يرى كلباً نائماً فيظنه كلباً مكلوباً (مسعوراً) لأنه سبق أن رأى مثله كلباً مسعوراً، فيخاف من أن يمر بالطريق ويهرب منه، ولو تحقق لرأى أنه كلب أليف لا يخيف، وهو نائم لا يشعر بمروره. وقد يرى أسداً في قفص فيخاف أن يقرب من القفص لئلا يخرج إليه الأسد، وقد يزمجر الأسد فيزداد خوفه ويهرب ظناً منه أنه قد يخرج من القفص، وهكذا. وأكثر ما يحصل عدم التقدير في الأشياء المعنوية من كتابة مقال أو خطبة في مكان أو محادثة حاكم أو مناقشة صاحب جاه، وما شاكل ذلك، فإن عدم تقدير الأشياء تقديراً صحيحاً يسبب له الخوف فيمتنع عن الكتابة أو الخطابة أو المناقشة خوفاً من الأذى.
وهناك نوع من الخوف شائع ناتج عن عدم الموازنة بين ما ينتُج من القيام بالعمل وما ينتج من عدم القيام به، وكلاهما يسبب أذى فيؤدي الخطأ في هذه الموازنة إلى الخوف من بسائط الأمور والوقوع في المخاطر، وذلك كالخوف من الحاكم الظالم أن يوقع الأذى بالفرد يؤدي إلى إيقاع الأذى بالأمّة وبه نفسه كواحد من الأمّة. وكخوف الجندي في ساحة القتال من الموت يؤدي إلى إبادة الجيش كله وهو واحد منه، وكالخوف من السجن في سبيل العقيدة التي يحملها يؤدي إلى ضياع العقيدة منه، وهو أكثر ألماً من السجن أو إضاعة العقيدة من الوجود في الحياة. وهذا الخوف خطر جداً على الأمّة ويؤدي إلى المخاطر بل ربما أدى إلى الدمار والهلاك.
إلاّ أن الخوف نافع ومفيد في بعض الأحيان، ولا بد من وجوده أو من إيجاده، كما هو مضر ومهلك في بعض الأحيان ولا يجوز أن يوجد ويجب أن يعالَج ويُزال. فالخوف من الأخطار الحقيقية أمر مفيد، وهو واجب، والاستهتار بها وعدم الخوف منها أمر مضر ولا يجوز أن يكون، سواء أكانت أخطاراً على الفرد نفسه أو على أمّته. فالخوف في هذه الحالة هو الحارس وهو الحامي، ولذلك كان لا بد من شرح الأخطار المحدقة بالأمّة حتى تحسب لها حساباً وتعمل للدفاع عن نفسها وإزالة هذه الأخطار. والخوف من الله ومن عذاب الله أمر مفيد وواجب وهو الحارس والحامي، ولذلك كان لا بد من إثارة الخوف من الله في النفوس، وشرح مقدار عذاب الله على ارتكاب المعاصي وعلى الكفر حتى يتبع الناس دينه ويقوموا بأوامره ويجتنبوا نواهيه. فهذا الخوف ومثله نافع ومفيد ويجب أن يوجد وأن يُعمل على إيجاده لأنه هو الحارس والحامي، وهو الذي يضمن سير الإنسان في الصراط المستقيم.
وعلى ذلك فإن الخوف جزء من فطرة الإنسان، والمفاهيم هي التي تثيره في الإنسان وهي التي تبعده عن الإنسان، وهو من أخطر الأمور على الإنسان في نواحٍ كما أنه من أكثرها فائدة في نواحٍ أخرى، فحتى يتقي الإنسان أخطاره ويتمتع بمنافعه وجب عليه أن يحكّم به المفاهيم الصادقة وحدها، ألا وهي مفاهيم الإسلام.

الواقع والمفهوم هو الذي يثير الغرائز

تختلف الغريزة عن الحاجة العضوية، وإن كانت كل منهما طاقة حيوية فطرية. إذ الحاجة العضوية تتطلب الإشباع الحتمي وإذا لم تُشبَع يموت الإنسان، بخلاف الغريزة فإنها تتطلب الإشباع فقط وإذا لم تُشبَع يقلق، ولكنه لا يموت بل يبقى حياً. فالإنسان إذا لم يأكل أو يقضي حاجته يموت، ولكنه إذا لم يُشبِع غريزته لا يموت. فإذا لم يجتمع مع النساء اجتماعاً جنسياً أو لم يُصلّ لا يموت لأن الغريزة لا تتطلب الإشباع الحتمي. وأيضاً فإن الحاجة العضوية تتحرك للإشباع داخلياً من ذاتها وتُثار للإشباع خارجياً من خارجها، بخلاف الغريزة فإنها لا تتحرك داخلياً مطلقاً ولا يحصل الشعور بالحاجة للإشباع إلاّ بمؤثر خارجي، فإذا وُجد ما يثيرها من الخارج ثارت ووُجد الشعور الذي يتطلب الإشباع، وإذا لم يوجد شيء من الخارج يثيرها تبقى كامنة ولا يوجد أي شعور بالإشباع. فالجوع يأتي من الداخل طبيعياً ولا يحتاج وجوده إلى أي مؤثر خارجي، فيوجد الشعور الذي يتطلب الإشباع للحاجة العضوية من نفس الإنسان، فيحس بالجوع ولو لم يحصل أي شيء من الخارج. أمّا المؤثر الخارجي فإنه قد يحرك الجوع، فقد يثير الطعام الشهي شعور الجوع، وقد يثير الحديث عن الطعام الشهي شعور الجوع. أمّا الشعور الجنسي فلا يثور من نفسه مطلقاً وإنّما يحتاج تحركه إلى ما يثيره من الخارج، فلا يثور الشعور الذي يتطلب الإشباع للغريزة من نفس الإنسان مطقاً ولا يحس به الإنسان ما لم يحصل عامل خارجي يثيره، فلا توجد الرغبة في الاجتماع الجنسي ولا يوجد أي شعور بذلك إلاّ إذا رأى الإنسان واقعاً محسوساً يثير هذا الشعور، أو تحدّث إنسان أمامه عما يثير هذا الشعور من الوقائع، أو تداعت لديه معاني فوُجدت مفاهيم تثير هذا الشعور. وما لم يوجد الواقع المحسوس أو الفكر لا يمكن أن يثار هذا الشعور.
  #16  
قديم 14-05-2005, 02:16 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

ولهذا لا يسبب وجود الغريزة من حيث هي في الإنسان قلقاً، وإنّما إثارة الشعور الذي يتطلب الإشباع هي التي تسبب القلق حين لا يتأتى الإشباع. فإذا لم يوجد شعور الإشباع بعدم وجود ما يثيره، لا يوجد أي قلق مطلقاً. ولذلك لا يوجد أي قلق للإنسان من جراء عدم إشباعه الغريزة الجنسية، ولا يوجد أي كبت إذا لم يحصل واقع أو فكر يثيرها. ولذلك كان من الحماقة وقصر النظر أن توضع بين الناس الأفكار التي تعطي المفاهيم على الجنس كالمؤلفات الجنسية والروايات الجنسية، وكان من الحمق وقصر النظر أن يُفسح المجال لإيجاد الواقع المحسوس الذي يثير غريزة النوع باختلاط الرجال بالنساء، لأن هذا يعني إيجاد ما يثير شعور الجنس، وإيجاد القلق حتى يُشبَع هذا الشعور، ثم إيجاد الواقع الذي يثيره مرة أخرى فيتحرك للإشباع دائماً، فيكون مشغولاً بالعمل لتحقيق الإشباع، أو قلقاً حين لا يحقق هذا الإشباع. وهذا هو الانحطاط الفكري أو الشقاء الدائم. ولذلك كان اختلاء الرجال بالنساء من أشد الأشياء ضرراً على المجتمع لأنه يصرف الجهد للإشباع، ويشغل الذهن بمفاهيم الإشباع، أو يضع الإنسان في قلق دائم. وكان شيوع المؤلفات الجنسية كذلك من أشد الأشياء ضرراً على المجتمع.
وقد جاء الإسلام في مفاهيم تنظم غريزة الجنس إيجابياً بنظام الزواج وما يتفرع عنه ويتعلق به، وسلبياً بالحيلولة بين الإنسان وبين ما يثير شعور النوع ولا يحقق إشباعها، وبين الإنسان وبين ما يجعله يشغل أكثر وقته بالتفكير أو العمل لإشباع غريزة النوع. فحرّم الخلوة بين الرجل والمرأة، غير المحرم وغير زوجته، فإنها تثير غريزة النوع ولا يتحقق له إشباعها وفق النظام الذي يعتنقه، فيسبب ذلك القلق له أو مخالفة النظام مخالفة فاحشة. وقد جاء دليل هذا التحريم تحريماً واضحاً في الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يَخلُوَنّ رجل بامرأة إلاّ مع ذي محرم)، وقال: (لا يَخلُوَنّ رجل بعد يومي هذا سراً على مغيَّبة إلاّ ومعه رجل أو اثنان). وقد بيّن في حديث آخر الشيطان يغري المرأة والرجل معاً في حال الخلوة إذ يكون ثالثهما، فقال عليه السلام: (لا يَخلُوَنّ رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان). ولهذا يجب على المسلمين أن يُبعِدوا ما يثير غريزة النوع ويحرك مشاعره، إجابة لأمر الإسلام.

الإسلام مفاهيم للحياة وليست مجرد معلومات

ليست مفاهيم الإسلام مفاهيم كهنوتية، ولا معلومات غيبية بحتة. وإنّما هي أفكار لها مدلولات واقعية يدركها العقل مباشرة حين يكون في مقدوره أن يدركها، أو يدرك ما دل عليها قطعاً لا ظناً حين يكون عاجزاً عن إدراكها مباشرة، فيدرِك المحسوس الذي دل عليه جزماً دون أي ارتياب.
فالمفاهيم الإسلامية كلها تقع تحت الحس مباشرة، أو يقع ما يدل عليها تحت الحس مباشرة. أي أن أفكار الإسلام كلها مفاهيم، لأنها إما أن يدركها العقل، أو أنها صادرة من شيء أدركه العقل، أي دل عليه. ولا يوجد في الإسلام أي فكر إلاّ وله مفهوم، أي له واقع في الذهن، مدرَك عقلاً، أو مسلَّم به تصديقاً جازماً وله واقع في الذهن مدرَك ما دل عليه عقلاً.
ولذلك لا توجد في الإسلام مغيَّبات بحتة. والمغيَّبات التي أمر الإسلام بالإيمان بها ليست غيبية بحتة، وإنّما هي مغيَّبة موصولة بالعقل، بإدراك العقل لما دل عليها وهو القرآن والحديث المتواتر. وعلى ذلك كان الإسلام كله واقعاً موجوداً في الحياة الدنيا، لأن لكل فكر فيه واقعاً في ذهن الإنسان، مستنداً إلى الحس، مستنداً إلى العقل. ومن هنا كان العقل هو الأساس الذي يبنى عليه الإسلام عقيدة وأحكاماً. وكانت عقيدته وأحكامه أفكاراً لها واقع، وكانت عقيدته وأحكامه مدرَكة إدراكاً واقعياً، لا فرق في ذلك بين المغيَّبات والمحسوسات، ولا بين الأحكام على الأشياء وهي الأفكار، وأحكام الأشياء وهي معالَجات، أو الإخبار بالإشياء أو عن الأشياء.
فالأفكار والأحكام والمحسوسات والمغيَّبات كلها وقائع لها واقع في الذهن مستند إلى العقل أو الإدراك أو الفكر.
أمّا العقيدة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر، فإنها كلها مصدَّق بها بناء عن واقع موجود لها، ولكل واحدة منها واقع في الذهن.
فالإيمان بالله والقرآن ونبوة محمد قد حصل بناء على إدراك العقل حساً بوجود الله الأزلي الذي لا أول له. وإدراك العقل حساً أن القرآن كلام الله، بإدراكه في كل وقت حساً، إعجاز القرآن للبشر. وإدراك العقل حساً بأن محمداً نبي الله ورسوله بإدراكه حساً أنه هو الذي جاء بالقرآن كلام الله المعجِز للبشر. فهذه الأشياء الثلاثة: وجود الله، وكون القرآن كلام الله، وأن محمداً رسول الله، قد أدرك العقل مباشرة واقعها بواسطة الحس قطعاً، فآمن بها وصار لها واقع في الذهن وواقع محسوس.
وأمّا الإيمان بالملائكة والتوراة والانجيل وغيرها من الكتب السماوية والإيمان بالأنبياء والمرسَلين كموسى وعيسى وهرون ونوح وآدم، فإنه قد وُجد بناء على إخبار القرآن والحديث المتواتر بها، وأمرُه بالتصديق بها. فصار لها واقع في الذهن مستند إلى واقع محسوس، وهو القرآن والحديث المتواتر. فصارت كلها مفاهيم لأنها معاني أفكار، ذلك أن لها واقعاً موجوداً في الذهن.
وأمّا الإيمان بالقضاء والقدر، فإنه قد وُجد بناء على إدراك العقل حساً لفعل العبد بأنه وقع منه أو عليه جبراً عنه، وإدراك العقل حساً أن خواص الأشياء ليست مخلوقة لها، بدليل أن الإحراق لا يحصل إلاّ بدرجة معينة، فلو
  #17  
قديم 14-05-2005, 02:20 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

كان مخلوقاً لها لحصل كما تريد دون الخضوع لنسبة معينة، أي لنظام معين، فكان مخلوقاً لغيرها وهو الله، وليس لها. ولذلك كان القضاء والقدر قد أدرك العقل مباشرة واقعهما بواسطة الحس قطعاً، فآمن بهما وصار لهما واقع في الذهن وواقع محسوس. فكانت مفاهيم لأنها معاني أفكار، ذلك أن لها واقعاً موجوداً في الذهن. وعلى ذلك فالعقيدة الإسلامية كلها مفاهيم قطعية الوجود، قطعية الدلالة، لها واقع في ذهن المسلم يحس به، أو يحس بما يدل عليه. وبهذا يكون لها التأثير الفعال عليه.
وأمّا الأحكام الشرعية فإنها معالَجات لواقع، ويتحتم فيها دراسة الواقع وفهمه، ودراسة حكم الله في هذا الواقع بفهم النصوص الشرعية المتعلقة به، ثم تطبيق هذا الفهم عليه لإدراك ما إذا كان هو حكم الله فيه أم لا. فإن كان منطبقاً عليه في نظر المجتهد كان ذلك الفهم حكم الله في حقه، وإن لم يكن منطبقاً عليه بحث عن فهم غيره، أو نص غيره حتى يجد فهماً لنص منطبقاً على الواقع، وهكذا. وبهذا تكون الأحكام الشرعية مفهوماً لها واقع في الذهن، لأنها علاج محسوس، لواقع محسوس، فُهم من نص محسوس، فهي مفاهيم.
وعلى هذا فإن العقيدة الإسلامية، والأحكام الشرعية ليست معلومات للحفظ، ولا أفكار مجردة للمتعة العقلية، وإنّما هي مفاهيم دافعة للعمل، وجاعلة سلوك الإنسان متقيداً بها، متكيفاً بحسبها. ومن هنا كان الإسلام كله مفاهيم تسيِّر الإنسان، وليست مجرد معلومات.

الشخصيـة

الشخصية في كل إنسان تتألف من عقليته ونفسيته، ولا دخل لشكله ولا جسمه ولا هندامه ولا غير ذلك، فكلها قشور، ومن السطحية أن يظن أحد أنها عامل من عوامل الشخصية أو تؤثر على الشخصية، ذلك أن الإنسان يتميز بعقله، وسلوكه هو الذي يدل على ارتفاعه أو انخفاضه، وبما أن سلوك الإنسان في الحياة إنما هو بحسب مفاهيمه فيكون سلوكه مرتبطاً بمفاهيمه ارتباطاً حتمياً لا ينفصل عنها. والسلوك هو أعمال الإنسان التي يقوم بها لإشباع غرائزه أو حاجاته العضوية، فهو سائر بحسب الميول الموجودة عنده للإشباع سيراً حتمياً، وعلى ذلك تكون مفاهيمه وميوله هي قوام شخصيته، أمّا ما هي هذه المفاهيم ومم تتكون وما هي نتائجها، وما هي هذه الميول وما الذي يُحدثها، وما هو أثرها، فذلك يحتاج إلى بيان.
المفاهيم هي معاني الأفكار لا معاني الألفاظ، فاللفظ كلام دلّ على معانٍ قد تكون موجودة في الواقع وقد لا تكون موجودة، فالشاعر حين يقول:
ومن الرجال إذا أنبريت لهدمهم هرم غليظ مناكب الصفاح
فإذا رميت الحق في أجلاده ترك الصراع مضعضع الألواح
فإن هذا المعنى موجود في الواقع، ومدرَك حساً، وإن كان إدراكه يحتاج إلى عمق واستنارة. ولكن الشاعر حين يقول:
قالوا أينظم فارسين بطعنة يوم النزال ولا يراه جليلا
فأجبتهم لو كان طول قناته ميلاً إذن نَظْم الفوارس ميلا
فهذا المعنى غير موجود مطلقاً. فلم ينظم الممدوح فارسين بطعنة، ولا سأل أحد هذا السؤال، ولا يمكن أن ينظم الفوارس ميلا. فهذه المعاني للجمل تشرح وتفسر ألفاظها.
أمّا معنى الفكر، فهو أنه إذا كان لهذا المعنى الذي تضمنه اللفظ واقع يقع عليه الحس أو يتصوره الذهن كشيء محسوس، كان هذا المعنى مفهوماً عند من يحسه ويتصوره، ولا يكون مفهوماً عند من لا يحسه ولا يتصوره، وإن كان فهم هذا المعنى من الجملة التي قيلت له أو التي قرأها. ومن هنا كان من المحتم على الشخص أن يتلقى الكلام تلقياً فكرياً سواء قرأه أو سمعه. أي أن يفهم معاني الجمل كما تدل عليه من حيث هي، لا كما يريدها لافظها أو يريدها هو أن تكون. وأن يدرك في نفس الوقت واقع هذه المعاني في ذهنه إدراكاً يشخِّص له هذا الواقع، حتى تصبح هذه المعاني مفاهيماً. فالمفاهيم هي المعاني المدرَك لها واقع في الذهن، سواء أكان واقعاً محسوساً في الخارج أم واقعاً مسلَّماً به أنه موجود في الخارج، تسليماً مبنياً على واقع محسوس. وما عدا ذلك من معاني الألفاظ والجمل لا يسمى مفهوماً، وإنما هو مجرد معلومات.
وتتكون هذه المفاهيم من ربط الواقع بالمعلومات، أو من ربط المعلومات بالواقع، ويتبلور هذا التكوين حسب القاعدة أو القواعد التي يجري عليها قياس المعلومات، والواقع حين الربط. أي حسب عقله للواقع والمعلومات حين الربط، أي حسب إدراكه لها. فتوجَد بذلك للشخص عقلية تفهم الألفاظ والجمل، وتدرك المعاني بواقعها المشخَّص، وتصدر حكمها عليه. وعلى ذلك فالعقلية هي الكيفية التي يجري عليها عقلُ الشيء، أي إدراكه. وبعبارة أخرى هي الكيفية التي يُربط فيها الواقع بالمعلومات، أو المعلومات بالواقع بقياسها إلى قاعدة واحدة أو قواعد معينة. ومن هنا يأتي اختلاف العقليات كالعقلية الإسلامية، والعقلية الشيوعية، والعقلية الرأسمالية، والعقلية الفوضوية، والعقلية الرتيبة.
أمّا نتائج هذه المفاهيم فإنها هي التي تعيِّن سلوك الإنسان نحو الواقع المدرَك، وتعيِّن له نوع المَيْل لهذا الواقع من الإقبال عليه أو الإعراض عنه، وقد تجعل له مَيلاً خاصاً وذوقاً معيّناً.
أمّا الميول، فهي الدوافع التي تدفع الإنسان للإشباع مربوطة بالمفاهيم الموجودة لديه عن الأشياء التي يراد منها أن تشبِع. وتُحدِثُها عند الإنسان الطاقة الحيوية التي تدفعه لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية، والربط الجاري بين هذه الطاقة وبين المفاهيم.
وهذه الميول وحدها، أي الدوافع مربوطة بالمفاهيم عن الحياة، هي التي تكوّن نفسية الإنسان. فالنفسية هي الكيفية التي يجري عليها إشباع الغرائز والحاجات العضوية. وبعبارة أخرى هي الكيفية التي تُربط فيها دوافع الإشباع بالمفاهيم. فهي مزيج من الارتباط الحتمي الذي يجري طبيعياً في داخل الإنسان بين دوافعه والمفاهيم الموجودة لديه عن الأشياء مربوطة بمفاهيمه عن الحياة.
ومن هذه العقلية والنفسية تتكون الشخصية. فالعقل أو الإدراك وإن كان مفطوراً مع الإنسان، ووجوده حتمي لدى كل إنسان، ولكن تكوين العقلية يجري بفعل الإنسان. والميول وإن كانت مفطورة عند الإنسان، ووجودها حتمي لدى كل إنسان، ولكن تكوين النفسية يجري بفعل الإنسان.
وبما أن وجود قواعد أو قاعدة يجري عليها قياس المعلومات والواقع حين الربط هو الذي يبلور المعنى فيصبح مفهوماً، وبما أن الامتزاج الذي يحصل بين الدوافع والمفاهيم هو الذي يبلور الدافع فيصبح مَيلاً، كان للقاعدة أو القواعد التي يقيس عليها الإنسان المعلومات والواقع حين الربط الأثر الأكبر في تكوين العقلية وتكوين النفسية، أي الأثر الأكبر في تكوين الشخصية تكويناً معيناً. فإن كانت هذه القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية هي نفس القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين النفسية، وُجدت عند الإنسان شخصية متميزة بلون خاص. وإن كانت القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية غير القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين النفسية كانت عقلية الإنسان غير نفسيته، لأنه يكون حينئذ يقيس ميوله على قاعدة أو قواعد موجودة في الأعماق، فيربط دوافعه بمفاهيم غير المفاهيم التي تكونت بها عقليته، فيصبح شخصية ليس لها مميز، مختلفة متباينة، أفكاره غير ميوله، لأنه يفهم الألفاظ والجمل ويدرك الوقائع على وجه يختلف عن ميله للأشياء.
  #18  
قديم 14-05-2005, 02:21 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

ومن هنا كان علاج الشخصية وتكوينها إنما يكون بإيجاد قاعدة واحدة لعقلية الإنسان ونفسيته معاً. أي أن تُجعل القاعدة التي يقيس عليها المعلومات والواقع حين الربط هي نفس القاعدة التي يجري على أساسها الامتزاج بين الدوافع والمفاهيم. فتتكون بذلك الشخصية على قاعدة واحدة ومقياس واحد، فتكون شخصية متميزة.

الشخصية الإسلامية

عالج الإسلام الإنسان معالجة كاملة لإيجاد شخصية معينة له متميزة عن غيرها. فعالج بالعقيدة أفكاره، إذ جعل له بها قاعدة فكرية يبني عليها أفكاره، ويكوّن على أساسها مفاهيمه، فيميّز الفكر الصائب من الفكر الخاطئ حين يقيس هذا الفكر بالعقيدة الإسلامية، يبنيه عليها باعتبارها قاعدة فكرية. فتتكون عقليته على هذه العقيدة، وتكون له بذلك عقلية متميزة بهذه القاعدة الفكرية، ويوجد لديه مقياس صحيح للأفكار، فيأمَن بذلك زلل الفكر، ويتقي الفاسد من الأفكار، ويظل صادق الفكر سليم الإدراك.
وفي نفس الوقت عالج الإسلام أعمال الإنسان الصادرة عن حاجاته العضوية وغرائزه بالأحكام الشرعية المنبثقة عن هذه العقيدة نفسها معالجة صادقة، تنظم الغرائز ولا تكبتها، وتنسقها ولا تطلقها، وتهيئ له إشباع جميع جوعاته إشباعاً متناسقاً يؤدي إلى الطمأنينة والاستقرار. فالإسلام قد جعل العقيدة الإسلامية عقلية، فصلحت لأن تكون قاعدة فكرية تقاس عليها الأفكار، وجعلها فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة. وبما أن الشخص إنسان يحيا في الكون فقد حَلّت له هذه الفكرة الكلية جميع عقده في الداخل والخارج، فصلحت لأن تكون مفهوماً عاماً، أي مقياساً يُستعمل طبيعياً حين يجري الامتزاج بين الدوافع والمفاهيم، أي مقياساً تتكون على أساسه الميول. وبذلك أوجد عند الإنسان قاعدة قطعية كانت مقياساً قطعياً للمفاهيم والميول معاً، أي للعقلية والنفسية في وقت واحد. وبذلك كوّن الشخصية تكويناً معيناً متميزاً عن غيرها من الشخصيات.
وعلى هذا نجد أن الإسلام يكوّن الشخصية الإسلامية بالعقيدة الإسلامية، فبها تتكون عقليته وبها نفسها تتكون نفسيته. ومن هذا يتبين أن العقلية الإسلامية هي التي تفكر على أساس الإسلام، أي تجعل الإسلام وحده المقياس العام للأفكار عن الحياة، وليست هي العقلية العالِمة أو المفكرة فحسب. بل مجرد جعل الإنسان الإسلام مقياساً لجميع الأفكار عملياً وواقعياً يجعل عنده عقلية إسلامية.
وأمّا النفسية الإسلامية فهي التي تجعل ميولها كلها على أساس الإسلام. أي تجعل الإسلام وحده المقياس العام للإشباعات جميعها وليست هي المتبتلة أو المتشددة فحسب، بل مجرد جعل الإنسان الإسلام مقياساً لجميع الإشباعات عملياً وواقعياً يجعل عنده نفسية إسلامية. فيكون حينئذ بهذه العقلية وهذه النفسية شخصية إسلامية، بغض النظر عن كونه عالماً أو جاهلاً، قائماً بأداء الفروض والمندوبات وبترك المحرمات والمكروهات، أو قائماً بذلك وبما هو أكثر من ذلك من الطاعات المستحبة والبعد عن الشبهات. فكل منها شخصية إسلامية، لأن كل من يفكر على أساس الإسلام ويجعل هواه تبعاً للإسلام يكون شخصية إسلامية.
نعم إن الإسلام أمر بالاستزادة من الثقافة الإسلامية لتنمى هذه العقلية وتصبح قادرة على مقياس كل فكر من الأفكار. وأمر بأكثر من الفروض والمندوبات والمستحبات ونهى عن أكثر من المحرمات والمكروهات والشبهات لتقوى هذه النفسية وتصبح قادرة على ردع كل ميل يخالف الإسلام. ولكن هذا كله لترقية هذه الشخصية وجعلها تسير في طريق المرتقى السامي، ولكنه لا يجعل مَن دونها غير شخصية إسلامية. بل تكون هي شخصية إسلامية ويكون مَن دونها من العوام الذين يعتبرون سلوكهم بالإسلام، والمتعلمين الذين يقتصرون على القيام بالواجبات وعلى ترك المحرمات، شخصية إسلامية، وإن كانت تتفاوت هذه الشخصيات قوة، ولكنها كلها شخصيات إسلامية.
والمهم في الحكم على الإنسان بأنه شخصية إسلامية هو جعله الإسلام أساساً لتفكيره وأساساً لميوله. ومن هنا يأتي تفاوت الشخصيات الإسلامية وتفاوت العقليات الإسلامية وتفاوت النفسيات الإسلامية. ولذلك يخطئ كثيراً أولئك الذين يتصورون الشخصية الإسلامية بأنها مَلاك. وضرر هؤلاء في المجتمع عظيم جداً لأنهم يبحثون عن الملاك بين البشر فلا يجدونه مطلقاً، بل لا يجدونه في أنفسهم فييأسون وينفُضون أيديهم من المسلمين. وهؤلاء الخياليون إنما يبرهنون على أن الإسلام خيالي، وأنه يستحيل التطبيق، وأنه عبارة عن مُثُل عليا جميلة لا يمكن للإنسان أن يطبقها أو يصبر عليها، فيصدّون الناس عن الإسلام ويشلّون الكثيرين عن العمل. مع أن الإسلام جاء ليُطبَّق عملياًً وهو واقعي لا يصبح تطبيقه وفي متناول كل إنسان مهما بلغ تفكيره من الضعف ومهما بلغت غرائزه وحاجاته من القوة، فإنه ممكن له أن يطبق الإسلام على نفسه بسهولة ويُسْر بعد أن يدرك العقيدة ويصبح شخصية إسلامية. لأنه بمجرد جعله عقيدة الإسلام مقياساً لمفاهيمه وميوله وسار على هذا المقياس، كان شخصية إسلامية قطعاً. وما عليه بعد ذلك إلاّ أن يقوّي هذه الشخصية بالثقافة الإسلامية لتنمية عقليته، وبالطاعات لتقوية نفسيته حتى يسير نحو المرتقى السامي ويَثبُت على هذا المرتقى في الدنيا، وينال رضوان الله في الدنيا والآخرة.

الدعاء في الإسلام

الدعاء هو سؤال العبد ربه، والدعاء من أعظم العبادة، أي من أعظم ما يُتعبّد به. وقد أخرج الترمذي من حديث أنس (الدعاء مُخ العبادة). وقد تواردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب في الدعاء والحث عليه، فقد أخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)، وأخرج البخاري حديث (من لم يَسأل الله يغضب عليه)، وحديث ابن مسعود (سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يُسأل) أخرجه الترمذي، وله من حديث ابن عمر (إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء)، وأخرج الترمذي والحاكم من حديث عبادة بن الصامت (ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة الله إلاّ آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها)، ولأحمد في حديث أبي سعيد رفعه (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلاّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يُعجِّل له دعوته وإما أن يدّخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها).
فهذه الأحاديث وغيرها تدل في مجموعها على ثبوت الدعاء، وهو سؤال العبد ربه. وقد وردت في القرآن عدة آيات تدل على الدعاء، قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم)، وقال: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان)، وقال: (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض)، وقال عن دعاء الملائكة: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعتَ كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقِهِم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومَن صَلُح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم).
فالله تعالى قد طلب منا أن ندعوه وبيّن لنا أنه وحده الذي يجيب الدعاء دون غيره. وأوضح لنا شيئاً مما كانت تدعو به الملائكة، فيُندَب للمسلم أن يدعو الله في السراء والضراء، في السر والعَلَن، حتى ينال ثواب الله. والدعاء أفضل من السكوت والرضا, لكثرة الأدلة الدالة عليه، ولِما فيه من إظهار الخضوع والافتقار إلى الله تعالى.
ولكن يجب أن يكون واضحاً أن الدعاء لا يغيّر ما في علم الله، ولا يدفع قضاء، ولا يسلب قدراً، ولا يحدث شيئاً على غير سببه. لأن علم الله متحقق حتماً، وقضاء الله واقع لا محالة. إذ لو دفعه الدعاء لَما كان قضاء. والقدر أوجده الله فلا يسلبه الدعاء. والله خلق الأسباب ومسبَّباتها، وجعل السبب يُنتج المسبَّب حتماً، ولو لم ينتجه لما كان سبباً. ولذلك لا يجوز أن يُعتقد أن الدعاء طريقة لقضاء الحاجة، حتى لو استجاب الله وقُضيت الحاجة بالفعل. لأن الله جعل للكون والإنسان والحياة نظاماً تسير عليه، وربط الأسباب بالمسبَّبات. والدعاء لا يؤثر في خرق أنظمة الله ولا في تخلف الأسباب. وإنّما الغاية من الدعاء تحصيل الثواب بامتثال أمر الله. وهو عبادة من العبادات. فكما أن الصلاة عبادة والصوم عبادة والزكاة عبادة.. الخ، فكذلك الدعاء عبادة. فيدعو المؤمن ويطلب من الله قضاء حاجته، أو كشف غمّته، أو غير ذلك من الأدعية المتعلقة بالدنيا والآخرة التجاءً إلى الله، وخضوعاً وطلباً لثوابه، وامتثالاً لأوامره. فإن قُضيت حاجته كان فضلاً من الله، ويكون قضاؤها وفق أنظمة الله سائراً على قاعدة ربط الأسباب بالمسبَّبات، وإن لم يقضها كُتب له ثوابها.
على هذا الوجه ينبغي أن يكون الدعاء من المسلم، خضوعاً لله، وامتثالاً لأمره، وطلباً لثوابه، سواء قُضيت حاجته أم لم تُقض. ويجوز للمسلم أن يدعو بأي دعاء يريده بالقلب أو اللسان أو بأي تعبير يراه، ولا يتقيد بدعاء معين، فله أن يدعو الأدعية الواردة في القرآن، وله أن يدعو الأدعية الواردة في الحديث، وله أن يدعو بدعاء من عنده، أو بدعاء دعا به غيره، فلا يقيَّد بدعاء معين، وإنّما يُطلب منه أن يدعو الله تعالى. إلاّ أن الأفضل أن يدعو بما ورد في القرآن أو الحديث.
  #19  
قديم 14-05-2005, 02:24 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

معنى التقديس

التقديس هو منتهى الاحترام القلبي، ويحصل من الإنسان للأشخاص والاشياء إما بناء على دافع مشاعري مقرون بمفاهيم غريزية، وإما بدافع فكري مقرون بمشاعر حرّكها نفس الفكر الدافع. فتقديس الأصنام وتقديس الأبطال الخرافيين يحصل بدافع مشاعري مقرون بمفاهيم غريزية عن الآلهة وعن العظمة. وأمّا تقديس الله بعبادته أو بالخضوع والتسليم لأحكامه يحصل بدافع إدراك العقل أن الله وحده مستحق للعبادة أو بإدراك العقل أن هذه الأحكام من الله تعالى فهي واجبة التسليم وواجب الخضوع لها. وفي كلتا الحالتين يكون هذا الدافع مقروناً بمشاعر غريزة التدين وهي الإحساس بالعجز والاحتياج إلى الخالق المدبر.
والتقديس أمر فطري وهو رَجْع لغريزة التدين، وله مظاهر متعددة، أعلاها العبادة بأنواعها ومنها الخضوع والخشوع والتذلل كما أن منها الإكبار والإجلال.
والمشاعر تهتز لهذا التقديس اهتزازاً يقوى ويضعف بحسب المفاهيم المربوطة بالمشاعر لأنها هي التي تعيّن كيفية التقديس ومتى يكون التقديس ومتى لا يكون. ولذلك تحصل المغالطة في صرف التقديس عن أشياء لأشياء أخرى، كما تحصل المغالطة في تقديس الخالق إلى تقديس المخلوقات، وقد تحصل المغالطة في كيفيات التقديس، فيعتبِر أن قيامه بتقبيل القرآن هو تقديسه، ولو فعل أو قال في نفس الوقت ما يناقض هذا التقديس كأن يمس القرآن وهو غير متوضئ، أو يقول إن القرآن أصبح لا يصلح لهذا العصر. فهو قد قدّس القرآن بتقبيله ولو خالف ما نص عليه صراحة وهو قوله: (لا يمسه إلاّ المُطّهَّرون)، أو كفر به صراحة بقوله إنه لا يصلح.
ومن هنا كان بالإمكان سلب التقديس عن أشياء إما لغيرها أو بالإيهام أن العمل الفلاني وحده تقديس لها والعمل الآخر ليس تقديساً ولا شأن له بالتقديس ولا يناقضه. وهذا السلب يحصل بواسطة المغالطات عن طريق تغيير المفاهيم، وهذا سهل ميسور وفي متناول الناس جمعياً أن يفعلوه مع من ينشأ تقديسهم بدافع مشاعرهم، لأنه سهل أن يغير المفاهيم المربوطة بهذه المشاعر، لأنها غالباً ما تكون مفاهيم غريزية أو مفاهيم تسليمية سهلٌ قلعها. أمّا التقديس الناجم عن دافع الفكر المقرون بمشاعر حركها نفس الفكر فإنه يصعب سلب التقديس وإن كان ممكناً لذوي القدرة على التلاعب بالأفكار والجمل، ولكنه يلاقي مقاومة عنيفة قبل أن يحصل فيه التغيير. ولهذا كان لا بد أن يحصل التقديس عن دافع فكري مقرون بمشاعر حتى يكون تقديساً ثابتاً وحتى يؤمن خطؤه وضلاله.
والتقديس من حيث هو عند المسلم كالعقيدة يجب أن تصدر عن عقل هو بطبيعته ناجم عن دافع العقيدة، وهي عقيدة عقلية، ولذلك كان لا بد من التثبت ممن يقدس ومما يقدس، غير أنه إذا ثبت أنه واجب التقديس تحتّم تقديسه ويصبح حينئذ معنى تقديسه عدم قبول المناقشة فيه بعدما ثبتت صحة تقديسه إلاّ في حالة إرادة إقناع الغير بتقديسه. لأن معنى إعادة المناقشة والبحث فيه بعد ثبوت صحة التقديس تنافي التقديس، كما أن إعادة المناقشة والبحث في العقيدة بعد ثبوت العقيدة ينافي كونها عقيدة، بل يجب أن تنتقل العقيدة من فلسفة إلى بديهيات، والتقديس من دافع فكري وبحث عقلي إلى بديهية وخضوع، وإلاّ فلا يمكن أن تتركز عقيدة عند شخص دائم المناقشة فيها، ولا القداسة لشيء تدوم المناقشة في تقديسه.
والمسلمون أدركوا عقلياً أن تقديس الله هو عبادته وهو طاعة أوامره واجتناب نواهيه والخضوع والتسليم لما جاء في كلامه بالقرآن الكريم. وأدركوا عقلياً أن تقديس النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو تعظيمه وتبجيله في جميع الحالات، في كل شيء من شؤون الحياة، وهو الخضوع والتسليم المطلق لما جاء في الصحيح من حديثه باعتباره وحياً من الله. فكان تقديس القرآن والحديث بدافع فكري مقرون بمشاعر حرّكها نفس الفكر. ولذلك لا بد من تقديسهما ولا بد أن يتحول هذا التقديس لهما إلى بديهة من البديهات لا تقبل مناقشة ولا تدخل تحت البحث بين من تم عندهم ثبوت التقديس. فإذا حاول أحد صرف التقديس عن الحديث إلى القرآن وحده كان كفراً، أو حاول تصوير تقديس القرآن بتقبيله والاعتقاد بعدم صلاحيته لهذا العصر كان كفراً أيضاً، بل لا بد أن يكون التقديس تعظيماً وخضوعاً واستسلاماً شاملاً عاماً وأن لا يقبل البحث والمناقشة إلاّ في حالة الإقناع بأصل التقديس.
وعلى هذا فالإنسان من حيث هو مفطور على التقديس ولا يمكن أن يُزال منه التقديس وإن كان يمكن أن يُكبت ويحوَّل. والمسلمون وقد عَيّنت لهم عقيدتهم العقلية من يقدّسون والأشياء التي يجب أن يقدّسوها، فهم كناس من بني البشر مفطورون على التقديس، وكمسلمين عيَّن لهم العقل المقدسات وكيفية تقديسها، لا يستطيعون أن يتركوا التقديس لأنه جزء من تكوين خلقتهم، ولا يجوز لهم أن يتركوا تقديس المقدسات التي فرض الإسلام عليهم تقديسها لأنه من مقتضيات إسلامهم. ولكن أعداء الإسلام جاءوا عن طريق المغالطات يسلبون التقديس عن أشياء أمر الإسلام بتقديسها ويغيّرون معنى تقديس الأشياء التي عجزوا عن سلب التقديس عنها، فكان لزاماً على الواعين أن يجعلوا التقديس عند المسلمين ناجماً عن دافع العقيدة الإسلامية عقلياً وأن يحوّلوا هذا التقديس إلى بديهيات حتى يصبح كل مسلم قادراً لأن يكون على ثغرة من ثُغَر الإسلام فلا يُؤتَيَنّ مِن قِبله.

عصمة الرسول

عصمة الأنبياء والرسل مسألة يحتّمها العقل، لأنه كونه نبياً أو رسولاً يحتّم أنه معصوم في التبليغ عن الله، إذ لو تطرق الخلل إلى إمكانية عدم العصمة في مسألة واحدة لَتطرّق الخلل إلى كل مسألة، وحينئذ تنهار النبوة والرسالة كلها. فثبوت أن الشخص نبي الله أو رسول من عند الله تعني أنه معصوم فيما يبلّغه عن الله. فعصمته في التبليغ حتمية والكفر بها كفر بالرسالة التي جاء بها وبالنبوة التي بُعث بها.
أمّا عصمته عن الأفعال المخالِفة لأوامر الله ونواهيه، فالمقطوع به أنه معصوم عن الكبائر حتماً فلا يفعل كبيرة من الكبائر مطلقاً، لأن فعل الكبيرة يعني ارتكاب المعصية، والطاعة لا تتجزأ والمعصية لا تتجزأ، فإذا تطرقت المعصية إلى الفعل تطرقت إلى التبليغ، وهي تناقِض الرسالة والنبوة، ولذلك كان الأنبياء والرسل معصومين من الكبائر كما هم معصومون بالتبليغ عن الله.
أمّا العصمة عن الصغائر فإنه قد اختلف العلماء فيها، فمنهم من قال إنهم غير معصومين عنها لأنها ليست معصية، ومنهم من قال إنهم معصومون لأنها معصية. والحق أن كل ما كان القيام به حراماً وما كان القيام به واجباً، أي جميع الفروض والمحرمات هم معصومون بالنسبة لها، معصومون عن ترك الواجبات وعن فعل المحرمات سواء أكانت كبائر أم صغائر، أي معصومون عن كل ما يسمى معصية ويصدق عليه أنه معصية، وما عدا ذلك مما هو خلاف الأوْلى فهم غير معصومين عنها، فيجوز عليهم فعل خلاف الأوْلى مطلقاً لأنه في جميع وجوهه لا يدخل تحت مفهوم كلمة معصية. هذا ما يحتمه العقل ويقتضيه كونهم أنبياء ورسل.
وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبي ورسول فهو كباقي الأنبياء والرسل معصوم عن الخطأ فيما يبلغه عن الله تعالى عصمة قطعية دل عليها الدليل العقلي والشرعي. وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلّغ الأحكام إلاّ عن وحي، قال تعالى في سورة الأنبياء: (قل إنّما أنذركم بالوحي) أي قل لهم
  #20  
قديم 14-05-2005, 02:25 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

يا محمد إنما أنذركم بالوحي الذي أُنزل عليّ أي إنذاري لكم محصور بالوحي. . وقال تعالى في سورة النجم: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) وكلمة (وما ينطق) من صيغ العموم فهي عام يشمل القرآن وغيره ولا يوجد ما يخصصها بالقرآن لا من الكتاب ولا من السنّة فتبقى على عمومها أي أن جميع ما ينطقه من التشريع وحي يوحى ولا يصح أن تُخصص بأن ما ينطقه من القرآن فقط، بل يجب أن تبقى عامة شاملة للقرآن والحديث.
وأمّا تخصيصها فيما يبلّغه عن الله من تشريع وغيره من الأحكام والعقائد والأفكار والقصص، وعدم شمولها للأساليب والوسائل لرسم المعركة أو تأبير النخل أو غيره فذلك لأنه رسول، والكلام عن رسول، والبحث فيما أُرسل به لا في غير ذلك، فكان موضوع الكلام هو المخصص، وصيغة العموم تبقى عامة في الموضوع الذي جاءت به فلا يكون حينئذ من قبيل التخصيص لقوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي)، ولقوله تعالى في سورة ص: (إن يوحى إليّ إلاّ أنما أنا نذير مبين)، فإنها تبين أن المراد هو ما أتى به من العقائد والأحكام وكل ما أُمر بتبليغه والإنذار به، ولذلك لا تشمل استعمال الأساليب أو أفعاله الجبلّيّة التي تكون من جِبِلّة الإنسان أي من طبيعة خلقته كالمشي والنطق والأكل.. الخ، وتختص بما يتعلق بأفعال العباد وأفكارهم لا بالوسائل والأساليب وما شابهها. فكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما أُمر بتبليغه من كل ما يتعلق بأفعال العباد والأفكار هو وحي من الله.
ويشمل الوحي أقوال الرسول وأفعاله وسكوته، لأننا مأمورون باتباعه، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وقال: (لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة)، فكلام الرسول وفعله وسكوته دليل شرعي، وهي كلها وحي من الله تعالى. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي ويبلّغ ما يأتيه به عن الله تعالى، ويعالج الأمور بحسب الوحي ولا يخرج عن الوحي مطلقاً. قال تعالى في سورة الأحقاف: (إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ)، وقال في سورة الأعراف: (إنّما أتّبع ما يوحى إليّ من ربي) أي لا اتّبع إلاّ ما يوحى إليه من ربي، فحصر اتّباعه بما يوحى إليه من ربه. وهذا كله صريح وواضح وظاهر في العموم، وأن كل ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم مما هو مأمور بتبليغه هو وحي فحسب.
وكانت حياة الرسول التشريعية في بيان الأحكام للناس سائرة على ذلك، فإنه عليه الصلاة والسلام كان ينتظر الوحي في كثير من الأحكام كالظهار واللعان وغيرهما، وما كان يقول حكماً في مسألة أو يفعل فعلاً تشريعياً أو يسكت سكوتاً تشريعياً إلاّ عن وحي من الله تعالى. وقد كان يختلط على الصحابة في بعض الأحكام الحكم في فعل من أفعال العباد بالرأي في شيء أو وسيلة أو أسلوب فيسألون الرسول: أذلك وحي يا رسول الله أو الرأي والمشورة؟ فإن قال لهم وحي سكتوا لأنهم عرفوا أنه ليس من عنده، وإن قال لهم بل هو الرأي والمشورة تناقشوا معه وربما اتّبع رأيهم، كما في بدر والخندق وأُحد. وكان يقول لهم في غير ما يبلّغه عن الله: (أنتم أدرى بأمور دنياكم) كما ورد في حديث تأبير النخل. ولو كان ينطق في التشريع عن غير وحي لَما كان ينتظر الوحي حتى يقول الحكم، ولَما سأله الصحابة عن الكلام هل هو وحي أم رأي، إذ لأجاب من عنده أو لناقشوه من غير سؤال.
وعلى ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا يصدر في قوله أو فعله أو سكوته إلاّ عن وحي من الله تعالى لا عن رأي من عنده، وأنه عليه الصلاة والسلام معصوم عن الخطأ في كل ما يبلّغه عن الله تعالى.

لا يجوز في حق الرسول أن يكون مجتهداً

لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد قط، ولا يجوز الاجتهاد على الرسول شرعاً وعقلاً. أمّا شرعاً فللآيات الصريحة التي تدل على حصر جميع ما ينطق به وما ينذر به وما يتبعه بالوحي (قل إنما أنذركم بالوحي) (إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ) (وما ينطق عن الهوى). وأمّا عقلاً فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي في كثير من الأحكام مع الحاجة الماسة لبيان حكم الله، فلو جاز له الاجتهاد لَما أخر الحكم بل يجتهد. وبما أنه ثبت أنه كان يؤخر الحكم حتى ينزل الوحي فدل على أنه لا يجوز له الاجتهاد ولم يجتهد. وأيضاً فإنه صلى الله عليه وسلم واجب الاتّباع، فلو اجتهد لجاز عليه الخطأ، ولو أخطأ لوجب علينا اتباعه، فيلزم الأمر باتباع الخطأ وهو باطل. وجواز الخطأ على الرسول ينافي الرسالة والنبوة، فالإقرار بالرسالة والنبوة يحتم عدم جواز الخطأ على الرسول والنبي، ويحتم استحالة الخطأ عليه فيما يبلّغه عن الله. وعليه فلا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم الاجتهاد مطلقاً، وكل ما بلّغه من الأحكام بقوله أو فعله أو سكوته وحي من الله ليس غير.
ولا يقال إن الله لا يقره على الخطأ وأنه يبينه له سريعاً، لأن الخطأ في الاجتهاد حين يحصل من الرسول يصبح فرضاً على المسلمين أن يتّبعوه حتى يحصل البيان، فيكون هذا البيان جدد حكماً آخر غير الأول أُمر المسلمون باتّباعه وبترك الحكم الأول وهو الخطأ، وهذا باطل ولا يجوز في حق الله تعالى ولا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم.
على أنه لم يحصل من الرسول اجتهاد فيما بلّغه عن الله تعالى في أي حكم من أحكام الله مطلقاً، بل الثابت بنص القرآن وبصحيح السنّة أنه صلى الله عليه وسلم كان يبلّغ عن الوحي، ولا يبلّغ عن غير طريق الوحي. وأنه كان حين لا ينزل الوحي في حادثة ينتظره حتى ينزل بها.
وأمّا الآيات التي أوردوها وأوردوا أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد بها مثل قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخِن في الأرض)، ومثل قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنتَ لهم)، ومثل قوله تعالى: (ولا تُصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تَقُم على قبره)، ومثل هذا من الآيات والأحاديث، فإن ذلك لم يكن من قبيل الاجتهاد في حكم وتبليغه للناس ثم الرجوع عنه وتصحيحه في حكم آخر، وإنّما هو من قبيل العتاب على القيام بأعمال. إذ لم يبلّغ الرسول حكماً معيناً ثم جاءت الآية تبين خطأ الحكم الأول الذي بلّغه وأخطأ اجتهاده فيه، وإنّما قام الرسول بعمل تطبيقاً لأحكام الله التي نزل بها الوحي وبلّغها للناس. فالحكم كان مشرعاً وكان مأموراً به وكان الرسول قد بلّغه. وفي هذه الحادثة قام الرسول عليه الصلاة والسلام بالعمل حسب ما أمره الله تعالى، إلاّ أن قيامه به كان على وجه خلاف الأوْلى فعوتب على ذلك عتاباً. فالآيات آيات عتاب على قيام الرسول بما هو خلاف الأوْلى وليست تصحيحاً لاجتهاد ولا تشريعاً لحكم آخر يخالف حكماً كان الرسول قد اجتهد فيه.
ومنطوق الآيات ومفهومها يدل على ذلك، فإن قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخِن في الأرض) يدل على أن الأمر كان مشروعاً بشرط سبق الإثخان في الأرض، ويؤيده آية (حتى إذا أثخنتموهم فشُدّوا الوَثاق)، والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد. ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقاً عظيماً حتى سحقوا عدوهم سحقاً، وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس. ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة. والآية نفسها تدل على أنه بعد الإثخان يجوز الاسر، فصارت هذه الآية دالة دلالة بيّنة على أن ذلك الأمر كان جائزاً بحكم هذه الآية، فلا يكون الرسول قد اجتهد في حكم الأسرى ولا يكون الأسر في بدر ذنباً مخالفاً للحكم الذي نزلت به الآية ولكن يدل على أنه في تطبيق حكم الأسرى على هذه الحادثة كان الأوْلى أن يكون القتل أكثر حتى يكون الإثخان أبرز، فنزلت الآية معاتِبة على التطبيق على وجه خلاف الأوْلى، أي آية عتاب على فعل من أفعال الرسول في حادثة معروف حكمها فعله مخالفاً ما هو الأوْلى بالفعل، فهو عتاب على خلاف الأوْلى. والأنبياء ليسوا معصومبين عن فعل خلاف الأوْلى، فيجوز في حقهم أن يفعلوه، وحين يفعلونه يعاتبهم الله عليه، فهذا عتاب للرسول.
وأمّا قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنتَ لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)، فإنها لا تدل على أي اجتهاد، فإنه يجوز للرسول أن يأذن به، بدليل قوله تعالى في سورة النور: (فإن استأذنوك لبعض شأنهم فأْذَن لمن شئت منهم)، فهي صريحة وتدل على أنه يجوز للرسول أن يأذن لهم، ولكن في تلك الحادثة وهي غزوة تبوك وتجهيز جيش العُسرة كان الأوْلى أن لا يأذن الرسول للمنافقين في التخلف، فلمّا أذن لهم في تلك الحادثة بالذات عاتبه الله على ذلك، أي عاتبه على القيام بخلاف الأوْلى، وليست الآية تصحيحاً لاجتهاد ولا تشريعاً لحكم يخالف حكماً كان الرسول قد اجتهد فيه في نفس الحادثة، وإنّما هو عتاب على ما هو خلاف الأوْلى.
وأمّا قوله تعالى: (ولا تُصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تَقُم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)، فإنها جاءت بعد قوله تعالى: (فإن رَجَعَك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً) الآية، وقد بين في آية (فإن رَجَعَك الله) أن لا يصحبهم الرسول في غزواته وذلك لتخذيلهم وإخافتهم. وبيّن في الآية التي بعدها وهي (ولا تُصلّ على أحد منهم) الآية، شيئاً آخر في إذلالهم. وكان ذلك أثناء الحملة على المنافقين للقضاء عليهم، وليس في الآية ما يدل على أن الرسول اجتهد في حكم وجاءت الآية دالة على خلافه، بل هي تشريع ابتداءً في حق المنافقين وهي منسجمة مع آيات المنافقين المكررة في نفس السورة، فلا يظهر فيها لا صراحة ولا دلالة ولا منطوقاً ولا مفهوماً أنها تصحيح لاجتهاد وتنبيه على خطأ. وهي نزلت في السنة التاسعة للهجرة بعد تبوك حين حج أبو بكر بالناس. وأمّا ما ورد في شأن نزول هذه الآية والآيات السابقة من أخبار عن سبب النزول وعن حوادثها، فإن كثيراً من هذه الأخبار لم يَصِح، وما صح منها من أحاديث عن سبب النزول فهي أخبار آحاد ظنية ولا تعارِض القطعي الذي يحصر تبليغ الرسول للأحكام بالوحي فحسب، وأنه لا يتبع إلاّ الوحي ولا ينطق إلاّ بالوحي (إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ).
وعلى ذلك لا دلالة في الآيات المذكورة على حصول الاجتهاد من الرسول، فليس فيها تشريع لحكم جديد ولا تصحيح لحكم قديم وإنّما فيها عتاب للرسول على أفعال قام بها وكان حكمها معروفاً بالوحي قبل قيامه بها عليه
 


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م