مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #11  
قديم 09-05-2006, 03:57 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(10)

لاحظ أحد الأطباء الذين كانوا يشرفون على الحالة الصحية في سجن سالسبوري بروديسيا (زمبابوي الآن ) ..أن كلبا كان يركض في الساحات الشاسعة خلف السجن ، ويقوم بشم النبات هذا ويتركه ، ويشم ذاك النبات ويتركه ، والطبيب يراقبه من شرفة سكنه ، حتى توقف الكلب عند نبتة وتناول منها عدة قضمات ، وبعدها بقليل أفرغ ما في بطنه . فهرع الطبيب الى النبتة وأخذ منها قطعة وفحصها ، فإذا بها بعض المواد المقيئة .

لا تستطيع حيوانات البراري إذا ألم بها المرض ، أن تذهب لعيادة طبيب بيطري وتشتكي له من صداع أو ألم في الكبد ، فقد زودها الله بتلك الخاصية ، لتبحث عن علاجها بين نباتات الطبيعة ..

بالعتيقة ، كما في غيرها من القرى القديمة ، لم يكن هناك عيادات طبية ، ولم يكن هناك أطباء في كل المنطقة ، فاللواء كله لم يكن به إلا طبيب واحد من أصل إيراني ، ومن يدري فقد لا يكون طبيبا ، فلم تكن هناك جهات وقوانين تقرر إن كان هذا قد نال شهادة الطب أو أنه أهل لمزاولة تلك المهنة ..

لم يكن أحد يعير اهتماما بالمريض ، فالمرض والموت أكثر أصدقاء أهل القرية غير المرغوب بهم زيارة لتلك القرية . فإن مرض أحدهم وكان موكل إليه مهمة الحراثة ، فإنهم لا يمنحونه فرصة كبيرة للاستراحة ، أو حتى أن يعبر عن مرضه ، ولو بالتأوه .. ويكون هو على علم بتلك المشاعر ووجاهتها ، فإن تأخر عن أداء عمله ، فإن عليه أن يبذل جهدا مضاعفا فيما بعد لإنجازه ، فقد عرف أن هذه هي حصته من الواجبات ..

كانوا يفقدوه إذا ساءت ظروفه كثيرا ، بقليل من اللبن والثوم ، و أحيانا يعطوه بعض البصل مع الطعام كحظوة إضافية ، عله يخف ويقوم الى عمله بوقت أبكر ، أو يحضرون له عجوزا ، تحتفظ ببعض المهارات وبعض أصناف أدوية مثل ( السنامكة ، والمروحة ، والعنزروت وغيرها ) .. كانت وهي قادمة تصلك روائح تلك المواد النفاثة قبل وصولها لتنبئ عن قدومها ، دون أن تراها .

كانت تستخدم تلك المواد ، فتضبط معها من بين كل عشرين حالة ، حالة تمدها ببعض الشهرة لحين أن تضبط حالة أخرى ، كانت لا تتكلم كثيرا ، ليفضحها جهلها في تفسير ما يلم بالمريض من حالة ، حتى لو كان سرطان الدم ، فإنها تتمتم ببعض الكلام غير المفهوم ، محاولة أن تبقي على حضورها في ذاكرة أهل البلدة لفترة طويلة ..

ولم يكن لدى أهل القرية خيارات متعددة ، للقبول بتلك العجوز أو رفضها ، بل بالعكس ، ما أن يقال لهم عن وصفة ، فيهبوا إن ساءت الحالة لتنفيذها ، فإن أشار عليهم أحد بوضع لوح صبار مشوي على رقبة أو ظهر المريض ، فإنهم يقوموا بالسفر لأقرب قرية بها تلك النبتة فيحضروها ..

وإن قال أحدهم أن ( كاسات الهواء ) هي الحل ، سرعان ما يحضروا مثل تلك الكؤوس وهي أكواب زجاجية ذات مصنعية رديئة ، لها فتحة مستديرة ، ثم تنبعج لجهة الأسفل لتكون أكثر اتساعا ، فيحرقون بها ورقة أو خرقة قماش ويضعونها على أماكن في جسم المريض فيتضايق من الحرارة ، فتنتفخ أجزاء جلده نحو داخل ( الكأس) .. ومن حوله يطمئنوه بأن الفرج قريب ..

و أحيانا كان أحدهم يقوم بكي نفسه ، للخلاص من ألم المفاصل ، فيضع على مكان الألم قطعة خاصة من عشب جاف يقال لها ( قدحة) ثم يضع في بطن تلك العشبة ، حبة حمص ، ويولع بها ، وتراه يخرج صوتا كأنه ( زغرودة ) لكن باتجاه معاكس ( للداخل ) وذلك من شدة الألم .. حتى تطق حبة الحمص ، فيعرف عندها بأنه قد أتم عمليته بنجاح .. كان بين أثر الكي والآخر في جسمه لا يزيد مسافته عن ثلاثة أصابع .. وبعد يومين يخرج من جسمه صددا ، فيعتقد أن الألم قد سحب مع هذه الأوساخ ، ولم يدر بخلده وخلد من كان يتعاطى تلك الطريقة ، بأن الأثر الفيزيائي لإحداث الالتهاب هو ما فعل ذلك !

و أحيانا يحضرون عجوزا ، تتمتم ببعض الكلام ، لو راقبه أي عاقل ، لما وجد به أي حكمة ، فكانت تقول ( حوطتك بالله .. والنايمين تحت الشجرة .. لا يأكلون .. ولا يشربون .. عين الولد فيها وتد .. عين المرا بيها (...) ) .. و تتثآئب وتتكلم وتأتي بكلام شبيه بالأول معددة الرجل والبنت الخ .. والغريب أن هناك بعض الحالات كانت تشفى من هذا الفعل ..

لقد اطلعت ذات يوم على بعض كتب الطب الهندي القديمة ، وهم من قسموا طبقات الجلد الى ثلاثة أقسام بعكس ما هو معروف ( البشرة و الأدمة ) .. فقد أضاف أطباء الهند طبقة ثالثة ، هي التي اذا اخترقت هزل الجسم ، وفعل المرض فعله ، وان تحصنت وصمدت صمد الجسم ، لقد قرأت ذلك قبل أكثر من خمس وثلاثين عاما ، ولكنني عندما أرى ما يحدث لإنسان عندما يواجهه صاحبه بملاحظة ، عن لون وجهه أو لون نصفي الدائرتين المحيطتين بعينيه ، فإنه سرعان ما يمرض وتبدأ جولة بحثه في المختبرات وعيادات الأطباء ، عندها أدرك أن الإيحاء له مفعول ضخم على الحالة الصحية ..

فتمتمة العجوز وكلامها الغريب ، ما هو إلا نمط من الإيحاء .. كما أن علاج الثآليل ( جمع ثؤلل ) .. كان بوضع حبة شعير في باذنجانة ورميها في ( مزبلة) فإن نبتت حبة الشعير .. انقطع الثالول وزال .. وقد لمست عدة حالات ، قد زالت عن طريق تلك الوصفة الغريبة .. بمعنى آخر لقد قام الجسم الموحى اليه بتحشيد طاقاته الكامنة و تعاون مع من يقوم بالايحاء للتخلص مما هو فيه .

لقد كان أهل العتيقة الذين تشربوا كل معارفهم الطبية بالمشافهة من جيل لآخر ، والذين كانوا يقدمون على تناول نباتات البراري أو الاحتكاك بها ( على طريقة كلب سجن سالسوري) .. مع تلك الآلام والتعاويذ التي يتلقوها خلال مراحل العلاج من كي و تشطيب للجسم .. تلهيهم عن المرض نفسه .. فكان أقصى ما يطمحون اليه ، هو الابتعاد عن الانقراض .. فقد ثبت عدد سكان العتيقة لمدة سبع وعشرين سنة دون زيادة .. بالرغم من أن أحدا لم يهاجر منها ..

وقد تكون تلك الحكمة ، هي لإحداث التوازن بين كمية الغذاء المتوفر ، وعدد السكان ، فبالرغم من أن مساحة أراضي القرية كانت 18 ألف هكتار ، فكانت بالكاد توفر للمتبقين الغذاء ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #12  
قديم 18-05-2006, 06:23 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 11 )

لم تكن في العتيقة طبقات .. بل كاد أن يكون الناس قد تكاثروا بطريقة التكاثر الخضري عند النباتات ، قد تكونوا من عقل ( بضم العين وفتح القاف ) .. غرست في بيئة متشابهة .. فكانت أشكالهم متقاربة رغم أن صبغة ألوانهم تختلف بعض الشيء من واحد لآخر .. فلو صادفت أحدهم بالصين أو بريطانيا ، لعرفت أنه من العتيقة ..

كانت خطوط ملامح شخوصهم تتكون من خلال قسوة ظروفهم ، فتقرأ ما في وجوههم وتردها لمنشأها دون عناء ..قد يكون للغذاء دور ، فاللحم البلدي يعرف أنه كذلك ، لنمط الغذاء الذي يتناوله الخروف البلدي .. فيسهل تمييزه عند من يأكله عن الخروف الروماني أو النيوزلندي ، ويصر من يأكل الخروف البلدي على أنه أفضل من المستورد ، رغم افتقار مراعينا عن مراعي رومانيا او بلغاريا أو غيرها .. ولكن حتى النكهات على ما يبدو ترتبط بالذاكرة ..

أحيانا يلجأ خبراء الإجرام باعتماد حدقة العين لجثة مقتول للتعرف على قاتله ، وقد تكون حدقة الأحياء من البشر تدلل على منشأهم .. فقد تكون مصادفة أفعى في فراش شخص تترك أثرا على شكل حدقته ، وقد تكون دهشة فلاح علق آمالا على حقله إثر موسم أمطار ممتاز ، ولكنه عندما زاره متفقدا قبل الحصاد رأى أن سنابله فارغة ، فبقي مندهشا وتأثرت حدقته بذلك الاندهاش ، وقد يصادف عدة خرافا قد مزقتها الذئاب ، فأضيفت بصمة جديدة على ملامح وجهه ، فأصبحت وجوه أهل العتيقة كأنها شهادات ميلاد يقرأها من عرفهم في وجوههم رغم اختلاف شكل الأنف أو عرض الجبهة أو لون البشرة .. فيقر أن فلانا من أهل العتيقة ..

هناك الكثير من المسائل التي ينظر إليها من لا يعرفها تماما ، على أنها متشابهة ، كنظرنا لأهل الصين مثلا ، أو نظرهم لنا ، وهنا يصبح تضليل وخداع لمن يريد أن يحدد المنطقة ، فيصعب علينا مثلا معرفة أفراد أهل الكمرون عن ساحل العاج ، ولكن يمكن لأهل أي قرية أو حتى عشيرة أن يتعرفوا على بعض من خلال حاسة خفية ، فقد تجد اتصال الحاجبين فوق العينين هو ما يميز أفراد أسرة عن غيرها ، أو تجد التأتأة في بداية الحديث هي ما يرد فردا لمجموعة ، هناك ملايين العوامل التي تجعل الفرد أن يتخذ قراره بسرعة ، كما يفعل حكم مباراة كرة القدم .. أو كما يفعل أفراد طائفة نحل أو نمل ، رغم أن الإنسان العادي لا يستطيع تمييز ذلك وهو أرقى من الحشرات بالطبع !
كما أن المهارات المتكررة لأي مجموعة ، تساعد في صبغها بصبغة خاصة ، فعندما تتكرر واجبات المواطن اليومية ، وتتكرر عند كل المواطنين فإنها تضيف إليهم سمة معينة ، فسكان الجبال غير سكان السهول ، بطبيعة مشيهم وطبيعة حذرهم وانحناء ظهورهم نتيجة التضاريس ، وسرعة استجابتهم للعامل الخارجي ، كل ذلك يعطيهم لونا خاصا بهم ، فلنتصور أن فريقا مكون من أفراد مختلفين قد ذهب للبحث عن الكمأة في الأرض ، إن من يتفوق في سرعة العثور ، هو من تكررت عنده تلك المهارات .. تماما كما يستطيع الرياضيون أن يميزوا أسلوب لعب البرازيليين لكرة القدم ويميزوه عن الأسلوب الأرجنتيني أو الإنجليزي ، رغم أن اللاعب الحالي ، لا يمت وراثيا ل ( بيليه ) أو (زيكو) بأي صلة ..

كان أهل القرى المجاورة ، وحتى المدن ، يستطيعون تمييز أفراد أهل العتيقة بسهولة ، لقد حصرتهم مهاراتهم وطبائع علاقاتهم مع محيطهم واللغة التي يستخدمونها في التعبير عما يقومون به ، بحيث كونت شخصيتهم الجماعية .

كان مأكلهم متشابها ، فهو يعتمد بالدرجة الأولى على الحبوب و منتجات الألبان و وبعض اللحوم والبيض والدجاج ، فيصنعون من القمح كل أصناف الطعام الرئيسية ، خبز وفطائر و طبيخ سميدة وطبيخ برغل و أذان الشائب و كبة وزقاريط و مقطعة وعصيدة ، وكلها منتجات من القمح ، مع إضافات بسيطة جدا بين واحدة و أخرى .. لم تكن الخضراوات معروفة .

كانوا لا يركزون على وجبة الغداء ، بل على العشاء ، فان تناولوا على الغداء بعض اللبن الرائب مع البيض أو دبس فكان هذا يكفي ، أما في المساء فكانوا يطبخون ( جريش البرغل أو السميد ) .. حيث يضعون قدرا من النحاس وبه ماءا ، وملحا و قمحا مجروشا ، قد يكون سلق في مرحلة سابقة وتم تنشيفه ، فصار يسمى ( برغل ) .. أو أنه لم يتم سلقه فيصبح ( سميدا ) .. ويضعونه على فوهة التنور ، ويتركونه مدة ساعة أو أكثر حتى ينضج و يصبح قوامه متماسكا ، فلا يعود يظهر منه ليونة نتيجة لتشرب الماء .. ويصبونه في قصعة واسعة ، وقد يضيفون عليه بعض (القفرة ) .. وهي إما من سمن الغنم أو البقر أو زيت زيتون ، مع قليل من البصل ويصبح اسم (الأكلة ) مختلفا .. أو يضيفون عليه اللبن المطبوخ وحده فتحمل الأكلة اسما جديدا ، أو يضعون فوقه فيما ندر إلا في الولائم والعزائم و قرى الأعراس اللحم , وعندها يصبح الأكل باسم جديد وهكذا ..

كانت كل الناس تأكل نفس الأكل ، ولم يكن هناك من يبيع اللبن أو يبيع السمن ، وكان الناس يرسلون اللبن واللحم والأكل لجيرانهم ، حتى لو عرفوا أنهم قد عملوا شبيها له ، ولم يعتذر من يرسل إليهم أنهم قد طبخوا نفس الطعام بل يقبلوه من جيرانهم ، ولا يعيدوا لهم الماعون فارغا ، فإنهم يعيدونه في اليوم الثاني مليئا ، بصنف طعام ، قد يكون نفسه ..

الفقراء من الناس ، لم يكن سهلا تمييزهم عن غيرهم ، فقد كان الناس يعطوهم قطعة من أرض ليزرعونها ، أو يعطونهم مجموعة من الأغنام ليستفيدون من لبنها ( منوحة ) .. لكن تبقى باسم أصحابها .. وعندما يستخرج الناس زكاة حبوبهم وهي ( العشر ) يعطون هؤلاء الفقراء منها ، ويتم إعطاء الأولوية للنساء الأرامل من الأقارب ، ومن ثم الجار الفقير ..

كان الفقير يأكل نفس أكل الميسور ، وكان يلبس نفس ملابس الميسور ، وكان يسكن في أمكنة مشابهة للتي يسكن فيها الميسور .. لكن تجد أنه إذا كان للميسور ثوبان ، فان الفقير ثوبا واحدا ، عندما يتسخ يغسله ويتوارى ريثما يجف ، وإن بيوت الفقراء تقل درجة في صبة أرضيتها ، أو شكل الباب إن كان محيطا بإطاره بعض الحجارة المنحوتة عند الموسر ، فإنها تكون من طين عند الفقير ، وهكذا تكاد الطبقية مفقودة في العتيقة ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #13  
قديم 06-06-2006, 05:24 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 12 )

أحيانا يتطير أحدنا إذا نظر أحدهم إلى زوجته ، ويزداد تطيرا إذا ضحك لها ، وممكن أن يشهر أحدنا السلاح في وجه من يلمس يد زوجته ، لكن كل هذا التشدد يختفي و يتكيف في غرفة العمليات في مستشفى ، فقد يلمس الطبيب يدها أو حتى مناطق أكثر حرجا من يديها ، فلم يعد شعور الغيرة هو السائد ، بل شعور القلق على صحة تلك الزوجة ..

هذا يدفعنا الى التطلع لمنظومة الثوابت و المتغيرات ، والمحظور والمباح ، فلو صدف أحدنا أحد أبناءه يفتح التلفزيون على قناة يتم فيها تزاوج الحيوانات البرية ، لاستحى الولد وغاب عن ناظري والده ، ولو كانت المتفرجة البنت أو الزوجة ، لوضعت تلك المسألة في قوالب ظنون كثيرة ..

نحن نتكلم في السنة السادسة من القرن الحادي والعشرين ، وقد لمسنا تطور هائل في مشاعرنا وتسامحنا المجبر على تقبل كل ما جرى حولنا من مثاقفة إعلامية ، لا تستأذن في مشاغلة أجهزة حواسنا .. ومع ذلك لا زلنا نستخدم ، نفس المسطرة القديمة التي تقاس عليها ضوابط السلوك وتتأسس على تدريجها أصول القاعدة الخلقية ..

لكن لو عدنا أربعين أو خمسين سنة للوراء ، وحاكمنا المشاهد التي تعني ما تمت الإشارة إليه ، لوجدنا أنفسنا أمام ظواهر تحتاج الوقوف من أجل الفهم ، وإعادة التعبير عما يترتب على ضوء فهمها ..

كانت الصبايا ، تلحق بقطيع أبقار القرية (العجَال) بفتح العين والجيم المشددة ، وذلك لجمع روث ( شطاط) الأبقار ، من أجل استخدامه للوقيد ، ولم تكن تلك المهمة ترفيهية ، بل كانت مهمة وظيفية تناط بتلك الفتيات .. فكانت الفتاة منهن تؤشر على بقرة لتنال ما تبرزه من روث ، ولا يجوز للأخريات التعدي على اختيارها .. فهذا عرف (بضم العين) ابتدعته تلك الفتيات لتمضية وقتهن دون خناق ..

كانت إحداهن تكون قريبة من أعضاء الحيوان (الأنثى) وكيفية إتمام تلك العملية الأيضية ( الحياتية) .. بل قد يصادفهن بالقرب منهن ، حالات من مغازلة كلاب أو حمير أو أي صنف من الحيوانات التي كانت تشارك الناس سكناها و ساحات قريتها ، بل والأكثر ، كان قد يتم ركوب تلك الحيوانات ، ذكورها على إناثها ، أمام إناث البشر ، وقد يكون على مقربتهن مجموعة من الشباب الذين يحتالون بإيجاد سبب يجعلهم قريبين من البنات ..

لم تكن تلك المناظر تسبب حرجا ، فقد كانت تتم أثناء ربط الحمير أمام المطاحن ، وغالبا ما كانت النساء هن من يرتادن المطاحن ، أو قد يكون في ساحة الدار أو في الشوارع ..

وقد كان يأتي للقرية ، ناس معهم فحول من الخيل أو الحمير الضخمة ، يضعون على رؤوسها ريش نعام ويزينوها ، ليلقحوا إناث الخيل ، أمام مرأى الجميع ، ونادرا ما كان يتوقف أحد عند ذلك ، أو يزجر امرأة أو فتاة عن مراقبة ذلك ، وإن كن هن لا يراقبن ولا يحتجن الى زجر ..

لقد كانت تلك العمليات لو أخضعناها لأعيننا هذه الأيام ، لوجدناها أكثر فحشا مما يراقبه أولادنا في التلفزيون أو الإنترنت .. لكن ذلك لم يكن يتعدى المثال الذي ضربناه في غرفة العمليات بأول كلامنا .. فلم يكن له ذلك الأثر الضار ، بل كان طبيعيا مثله مثل التنفس و الشرب و الأكل ..

كان الشباب ، يراقبوا من صبا قلب أحدهم نحوها من الفتيات ، فيسير على مقربة منها ، فإن كانت ذاهبة الى بئر ماء ، تحجج في طلب الماء للشرب ليسمعها كلمة شكر مشفرة ، علها تفك تشفيرها ، بمساعدة من معها من فتيات الحي ، فلم تكن الفتيات يمشين مفردات ، بل جماعات وتحت رؤى الرادار العام للقرية ..

وإن ظهر جزء من رقبة الفتاة ، كان أقرب رجل من الحي مخولا بأن يزجرها أو حتى يضربها ، وكان سيلقى الشكر من ذويها ، حتى لو لم يكن على صلة قربى بها .. فالكل يحرس قانون الحياة .. ومن يتجاوزه من الذكور يصبح (هامل) ومن تتجاوزه من الفتيات أو النساء يقال لها ( هاملة ) ..

لم يكن هناك من يجازف ، ليصنفه الناس ضمن هذا التصنيف ، فان فعل فلا أحد يزوجه من طرفه بنتا ، ولا يتقرب للزواج من البنات التي يخصنه ، والبنت مجازفتها أكثر خطورة .. فلذلك الكل يحرس القيم ، ضمن رؤية تتضح من قراءة المصير ..

يقال أن فيض الطاقة عند الشباب ، هو ما يدفعهم لتصريف هذا الفيض في جوانب قد لا تتفق مع القاعدة الخلقية السائدة ، وهي مسألة تتعلق بالطبيعة أكثر من تعلقها بالانضباط الخلقي أو حتى الديني .. فلذلك قال الشاعر أبو العتاهية :

إن الشباب و الفراغ والجدة .... مفسدة للمرء أي مفسدة

لقد أدرك أهل العتيقة بماضيهم العميق ، أو بفطرتهم ، أو بضغط الحياة أن الفراغ ، سيوفر بعض الفائض من الطاقة التي لا يضمن أحد في أي اتجاه ستصرف ، فكان أكثر ما يؤرقهم هو أن يروا شابا بلا عمل ، فإن ذلك سيشغل خيالهم في اصطناع أسوأ الصور لهذا الشاب .. ويقوموا بسؤال ذويه كل يوم هل عمل فلان ؟

ومن الطبيعي أن تثير حالات البطالة ، تساؤلات أهل القرية ، أما الجدة وهي اليسر في المال ، وهي العنصر الثالث من عناصر انحراف الشباب ، فلم تكن متوفرة في حينه !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #14  
قديم 09-06-2006, 03:16 PM
Orkida Orkida غير متصل
رنـا
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2005
المشاركات: 4,254
إفتراضي

ماشاءالله
أخي الغالي ابن حوران الموضوع رائع
وآخر مشاركتين أكثر من رائعتين،
حفظك الله أخي وبارك فيك
دمت بخير
الرد مع إقتباس
  #15  
قديم 10-06-2006, 12:49 AM
يتيم الشعر يتيم الشعر غير متصل
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2001
الإقامة: وأينما ذُكر اسم الله في بلدٍ عدَدْتُ أرجاءه من لُبِّ أوطاني
المشاركات: 5,873
إرسال رسالة عبر MSN إلى يتيم الشعر إرسال رسالة عبر بريد الياهو إلى يتيم الشعر
Arrow

أخي الكريم

اسمح لي أن أضع هذه الخاطرة في موضوعك ..

يحكون عن أسطورةٍ
بـذلـك الـزمـان
عن قرية مهجـورةٍ
قديـمـة الآســان
يحـكـون أنـهـا
بقـديـم عهـدهـا
كانت تعيش في بها
يُظِلُّـهـا الأمــان
كانت قديماً طاهـرة
بالخير كانت عامرة
بالحب فاحت عاطرة
مخضـرَّة الأفنـان
وبينمـا طيـورهـا
تبني بأمـنٍ عُشَّهـا
تشدو جميل نشيدها
بأعـذب الألحـان
في ليلـةٍ مشؤومـةٍ
شـديـدة الـظـلامْ
وأهلها فـي غفلـةٍ
فـي هـدأةٍ نـيـامْ
والليل يستر أنجمَـهْ
برزت ظلالٌ مبهمة
في ضجَّةٍ وهمهمـة
بالشرِّ كانت مفعَمـة
فدمَّـروا بيوتـهـا
فــصُــيِّــرتْ
مـحـطَّــمــة
جدرانهـا مهـدَّمـة
أنوارهـا مهشَّـمـة
كم من فتـاةٍ حـرَّةٍ
عـاشـت بـهــا
مــكــرَّمـــة
صارت لعبدٍ جارية
بيعت له كي تخدمه
هذي حكايـة قريـةٍ
عـاشـت سنيـنـاً
ســالــمـــة
تحـيـا بـخـيـرٍ
لـــم تــكــن
أبداً بيـومٍ معدَمـة
وأهم شـيءٍ أنهـا
كـــانــــت
قــديـــمـاً
مـســلــمــة
__________________
معين بن محمد
الرد مع إقتباس
  #16  
قديم 22-06-2006, 05:13 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

الأخت الفاضلة أوركيدا .. أشكر لك المرور الكريم والكلمات الطيبة

الأخ الحبيب يتيم الشعر .. بارك الله بك لما أضفت من كلام رائع
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #17  
قديم 22-06-2006, 05:16 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 13 )

للزواج أهداف منها سننية ( تتبع لسنة الحياة ) ومنها وظيفية تشبع حاجات فسيولوجية من جانب ، وترفد من يعملون لإتمام الزواج بحاجات يعرفونها معرفة جيدة ..

في الجانب السنني ، يلهم الله عز وجل كل الكائنات الحية إلهاما يدفعها للقيام بالتكاثر ، فتجد عند كل الكائنات الحية من مستوى كائن حي مكون من خلية واحدة ، كالأميبا أو أي بكتيريا أو فطر ، الى أكبر حيوان يتحرك حركة ديناميكية ، أو حتى ستاتيكية .

فقد لاحظت كمختص أن شتلة من أشتال الحمضيات (كالمنتينا ) كانت بعمر أقل من سنتين ، قد تغطت بأزهار الإثمار تغطية كاملة ، وطبعا نعرف كمختصين أن تلك الظاهرة ، تنبئ بوجود مرض ، وعندما توقفت فاحصا ما يجعلها تطلق هذا الكم الهائل من الأزهار .. وجدت السبب .. أما لماذا قامت تلك الشتلة بعمرها المبكر بإطلاق هذا الكم الهائل .. فإن الشتلة تعتبر نفسها مسئولة عن تواصل جنسها ، فعندما أحست بالضعف ، استعجلت لإطلاق هذا الكم من الأزهار لتخلف من يخلفها في الحفاظ على جنسها ..

عند البشر ، يسلك الإنسان مثل سلوك شتلة الكالمنتينا ، فإذا لم يرزق بمولود فإنه يبذل قصارى جهده ، في معالجة الأسباب ، ويبقى نشاطه في البحث عن علاج يحل مشكلته قائما حتى يموت .. وهو يعلم أن له أخوانا أو أقارب أو غيره من البشر ، يقوم بمهمة الحفاظ على الجنس البشري !

في العتيقة كغيرها من قرى الريف ، يتغلب الجانب الوظيفي على الجانب السنني ، رغم الاحتفاظ بأهمية الجانب السنني ، فالزواج يعني مشروع رفد الأسرة بأعضاء جدد يقومون بأعمال الزراعة ، فإضافة مولود جديد ، يعني إضافة فلاح جديد ، يبذر ويزرع و يحصد و يقوم بالأعمال الأخرى .. ويعوض من ينتهوا من جراء أوبئة كالكوليرا أو الطاعون أو الحصبة أو غيرها ..

وقد تكون تلك العوامل الغائبة لدى الغرب ، هي ما تدفعهم لعدم الارتباط بالزواج و عدم الإنجاب ، لغياب مثل تلك المحفزات أو الأسباب ، التي يبدو أنها التصقت ك ( أليلات وراثية ) على كروموسومات أبناء شعبنا .. حتى بعد زوال عوامل الفلاحة ..

كان على الوالد عندما ينوي تزويج ولده ، أن يؤمن له (غرفة) يسكن فيها مع عروسه ، ويتدبر موضوع المهر و اللوازم الأخرى .. لكن اللوازم الأخرى لم تكن بنفس أهمية المهر ، الذي كان يتم بالمقايضة ، فيكون ( ربع ربعة دوارة ) وهي مساحة من الأرض تساوي حوالي عشرون هكتار ، و أعرف نساء تقدر قيمة مهر إحداهن ، الآن أكثر من 25 مليون دولار .. على الأسعار الحالية .. وإحداهن بعين واحدة ..


ومن لم يجد مهرا كافيا ، فيستبدل شقيقته بعروس ، وفي بعض الحالات تستبدل الابنة بعروس ! لقد كانت كثير من الزيجات تتم على طريقة سندات القيد فينزل من حساب فلان ، الى حساب فلان .. حتى تتساوى القيمتان ..

لا أذكر أكثر من حالتين ( خطف ) .. حيث سمعت أن فلانا خطف فلانة ، وكانت طريقة الخطف ، تتم عندما تنسد الأبواب في وجوه عشيقين ، ولم يستطع العريس تلبية طلبات والد العروس ، ولكن كل من العريس و العروس متمسك بالآخر ، فيهرب بها الى منطقة بعيدة ، ويدخل في حمى شيخ عشيرة ، فيعقد قرانه على فتاته ، ويتم الزواج ، ولكنني لم أسمع بأنهما عادا الى القرية ..


كنت أقلب صفحات (مفكرات ) والدي رحمه الله ، فعندما يدون حالة خطوبة ، يكتب ذبح دار فلان على فلانة ، وهي إشارة واضحة لعقد القران ، إذ كان الوفد(الجاهة) الذي يذهب لخطبة فتاة ، يأخذوا معهم كبشا أو تيسا ، ولوازمه و يذبحونه ، لعمل طعام بالمناسبة ..

من الطبيعي أن المفاوضات قد سبقت عملية اللحظات (الكرنفالية ) الذبح ، وقد تأخذ المفاوضات مدة تطول أو تقصر ، وقد تكون للنساء ( النسوان) الدور الأكبر في عمليات المفاوضات .. و أما المراسيم ( الكرنفالية ) ، ما هي إلا ملامح لنفاق اجتماعي ( محبب) .. و أظن أن لا تغيير كبير في ذلك قد حصل في الوقت الراهن ..

فعند دخول الجاهة ، يصب فنجان من القهوة ، و يشير أعضاء الجاهة (الوفد) الى رجل مرموق قد اختاروه قبل مجيئهم ، وهو من سيمثل أهل العريس ، وعندما تكون (الجاهة ) ، قد أغفلت اختيار من يتكلم باسمها ، فان من يصب القهوة ، سينتبه الى ذلك التقصير ، فيضع فنجان القهوة في وسط المجلس ، ويقول : ( شومتكم بينتاكم ) .. أي أن على الجاهة أن تقوم بتكريم من تريد من أعضائها .. فيقدم أعضاء الجاهة أحدهم ، فيعتذر ويكرم آخرا بها ، حتى يستقر الاختيار على واحد ..

فيقوم من تم تكريمه ، بقول كلام مكرر ، كان بإمكان أي واحد أن يقوله ، فهو لا يحتاج الى مذاكرة و حفظ ، وليس هو بالكلام المعقد والخطير ، بل كلام يشير الى الرغبة في طلب القرب من أهل العروس ، ويضيف بعض الصفات التي تدلل على نبل و ندرة و أهمية أهل العروس ، وهي صفات لا أظن أنها قد قيلت لهؤلاء فقط ، ولا أظن أن أهل العروس سيرهنون موافقتهم على ضوء صياغة هذا الكلام .. بل هي نمرة في برنامج .. وعندما ينهي المتكلم ، قوله بأن قهوتكم لا تبرد ، يوافق والد العروس على طلب الجاهة وتنطلق الزغاريد ..

في كثير من الأحيان ، بل في كلها ، كان يتم كتابة عقد القران ، في نفس الجلسة ، ويبقي الوفد ( الجاهة ) .. حتى يتناولوا الطعام وهو غالبا ما كان يتم مساء .. أي طعام عشاء ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #18  
قديم 11-07-2006, 02:51 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 14 )

في كثير من الأحيان ، يكون الفرح مؤلما ، كما هو الحزن مؤلم ، فمن يريد أن يفرح بزواج ابنه أو ابنته ، لو أحصينا لحظات الأسى لوجدناها تفوق لحظات السرور بدرجات كثيرة ، فمن التفكير بالمهر و التفكير بتذليل صعوبات أهل العروس ، للتفكير في مكان سكن العريس للتفكير في أثاث العرس ، و مأدبة الغداء ، و كلف الاحتفالات ، كلها مكابدة و آلام ..

يتواصى أهل العرس ، بالصمود فكلها عدة أيام وينتهي هذا العرس ، وكأنهم في نكبة أو حرب ، ويتواصى من سيقف معهم في أفراحهم ، بضرورة الذهاب للعرس ، حتى لو فيها تكليف و ثقل ، فأهل العرس متثاقلون و زوارهم متثاقلون ومع ذلك يصر الناس على إقامة الأعراس بأشكال لم تختلف كثيرا عن الماضي . لكن لو حاولنا تفسير ذلك ، فتزويج الابن هو من مسؤولية الأسرة ، فيقدم الناس على القيام بمسئولياتهم بخفة ، وتقاليد العرس هي من الواجبات ، فيتثاقل الناس من القيام بواجباتهم ..

ما أن تقترب أيام الزفاف ، فإن الاستعدادات بالعتيقة لتلك المناسبة تتزايد ، بطريقة محمومة ، فهناك من يشد (فرشات ) الصوف ، و الألحفة و الوسائد وهناك من يهتم بتنقية (البرغل ) .. وهناك من يحتاط على لوازم (الطبخ) من حطب و ذبائح و بصل و بهارات وغيرها ، و هناك من يذهب الى الأسواق لتكملة شراء أثاث العروس و ملابسها ، و هناك من يدهن (أوظة ) أو (غرفة) العريس .. ورشات مختلفة ، تؤدي كل ورشة عملها ، وتتكون تلك الورش من أهل البيت و الأقارب و الجيران ..

كانت ( التعاليل ) وهي سهرات الاحتفال بالزفاف تستمر عشرة أيام ، ثم تقلصت الى أسبوع ثم أصبحت أربعة أيام .. قبل وصول الكهرباء للعتيقة ..

كان الفتيان يقومون بتنقية الحصى و الحجارة من ساحة الاحتفال الليلية ، ويمهدونها بشكل جيد فيردمون الحفر الصغيرة ، ويزيلون النتوءات من الأرض ، حتى لا يلتوي كاحل بعض الراقصين في ( الدبكات ) .. ثم قبيل وصول المحتفلين ، ترش الأرضيات بقليل من الماء لمنع إثارة الغبرة ، وتنصب (سيبة) يعلق عليها (لوكس نفطي قوي) .. وتوقد في زاوية بعض النار لتسخين الطبلة التي تحدد إيقاع الرقص ، كلما تراخى إيقاعها ..

ثم تفتتح حلقة أو اثنتان من كبار السن ، في دور يقال له ( جوفية) .. ولا أظنها تحريفا ل (الجوبية ) العراقية .. بل لأن الكلام الذي يقال بها ، أصله من الجوف ـ الحجاز . فيقول أحدهم كلاما يردده الصف المقابل عشرة أو عشرين مرة دون ملل ، ويتحركون ببطء شديد .. و كأنهم في امتحان للمذاكرة في إعادة هذا اللون ، أو قد يكون هذا النمط من افتتاح الاحتفال هو إعلان لبدء السهرة ، حيث كانت أصواتهم تخترق كل أرجاء القرية ، يساعدهم في ذلك عدم وجود ضجيج .. فيتجمع الناس و المحتفلون ويتزايدون ..

ثم تنبري مجموعة من الشباب ، فيقومون بالدبكة ، وهي ذات إيقاع أسرع و أكثر حركة ، من اللون الأول ، وكانوا يلبسون ثيابا بيضاء مصبوغة بلون (نيلي) ، ويضعون في جيوبهم بعض القطع النقدية ، لتعطي رنات تضفي طابعا كانوا يفرحون به ، وإن لم يجدوا نقودا ، كانوا يلجئون لحيلة ، يكسرون قطعا من زجاج و يضعونها في جيوب ثيابهم ، فما أن يتقافزوا حتى ترتطم ببعض ، وتصدر صوتها المرغوب .

وهناك من على مقربة منهم ، تنبري امرأة ، غالبا ما تكون أم العريس أو خالته أو عمته ، فتقول كلاما بصوت عالي ، منظم تعلن عن فرحتها ، ذاكرة صبر الأم للحظوة برؤية ابنها و هو عريس ( تهاهي) .. وما أن تنتهي من نظمها البدائي لقولها .. فتنطلق الزغاريد من النسوة التي كانت بالأصل متهيئات لمثل هذا الدور .. وأحيانا تنطلق بعض العيارات النارية ، استكمالا لتصاعد إيقاع المشهد الاحتفالي ..

وبعد أن تخيم النشوة بالاحتفال ، و تغطي أجواء الاحتفال الحميمة على الساحة ، وبعد أن يتعب الشباب ، تنزل الفتيات في دور خاص بهن ، وهو دور لا يخلو من شد وانتباه لذويهن ، بأن يبقى في إطار الاحتشام ، وغالبا ما ينتقي الشباب أو حتى النساء زوجات المستقبل من مرونة حركة تلك الفتيات ..

يستمر هذا النوع من السهرات الى آخر ليلة ، والتي تسمى (ليلة الحنة) أو ليلة (القرى ) .. حيث ينفرد قسم من ذوي العريس في التحضير لطعام الغداء في اليوم التالي ، والذي يتكون من اللحم و البرغل و ( الكبة ) وكانت تسمى (كبة حيلة) .. حيث لا يكون بداخلها إلا (قمحا مجروشا مع البصل وقليل من الزيت) وعلى ما يبدو ( هنا جانب الاحتيال) .. فكانوا يصنعون منها كميات هائلة ، يزيد القمح المستخدم بها عن نصف طن .. حيث لا بد من إعطاء كل من يحضر (عونة) .. أن يأخذ من هذه الكبة لبيته ..

يباشر الناس بإرسال (عوناتهم ) وهي تتفاوت بين 20 كغم من القمح الى الخروف .. كمعاونة لأصحاب العرس .. فيضعون لهم قسم من الكبة حوالي (30 كبة) لكل من يحضر ( عونة) .. ويكون ذلك قبل صلاة الجمعة .. وبعد الصلاة ، يكون العريس ، قد اختار أحد البيوت للجيران أو الأقارب ، فبعد أن يقوم الشباب بإدخاله للحمام ، وتوظيبه ، وتقديم نصائحهم اللازمة ، يزفونه الى البيت المخصص من الجيران أو الأقارب .. ويؤخذ لمن زفه غداء الى ذلك البيت ، في حين يتناول الزوار طعام الغداء في بيت أبيه ..

في المساء و بعد أن تحضر العروس على فرس ، مغطاة بعباءة والدها ، يكون العريس لا زال في البيت الذي تناول فيه طعام الغداء ، فيحضر إلى من معه طعام العشاء ، ويقوم كل من تعشى بتنقيط العريس ، قدرا من المال ، وكل ذلك يسجل في دفتر ، و يعلن أمام الجميع ، حيث أن من يدور على ( المنقطين ) يصيح بأعلى صوته ( خلف الله عليك يا فلان ابن فلان أنت و أقاربك جميع .. محبة للنبي الشفيع ) ويقول الرقم الذي دفعه هذا ( الفلان ) .. وهكذا .. حتى يزف في النهاية العريس الى عروسه ..

وتبقى الأسر القريبة و الجيران يخصون العروسين بطعام خاص ، يسمى بأول يوم ( الصبحة ) .. وفي ثالث يوم ، يأتي أهل العروس و أعمامها و أخوالها لتنقيطها ، وطبعا هذا كان يدفعه أهل العريس مسبقا ، تحت مسمى ( عباءة العم ) و ( عباءة الخال ) ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #19  
قديم 28-07-2006, 05:22 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(15)

لو جلس أربعة مقامرين ، كل واحد يملك مائة دينار ، فإن كل حالات اللعب لن تجعل مجموع ما معهم أكثر من أربعمائة دينار ، فقد يكسبها الأول أو الثاني أو أي واحد ، لكنها لن تزيد . تلك الحالة نجدها في أي نوع من الصداقات فإن كان كل الأصدقاء ، يتصفوا بقلة إمكانياتهم الثقافية ، فلن تتطور مهارات وممتلكات أي واحد منهم من المعلومات الثقافية ..

في العتيقة ، لم يكن للنقد قيمة ، بل كان للعرق ( الجهد ) قيمة ، ولا زلت أذكر أن الليرة الذهبية ( العصملية ) كانت تقل بقيمتها عن الدينار المحلي ، لا تستغربوا ، فاقتناء الذهب ، دائما يأتي على هامش فائض المدخرات ، فكانت كل البلاد تعاني من ذلك .. فلا قيمة للذهب ، أو له قيمة ولكن لا أحد يدرجه مع أولوياته ..

كان أكثر من خمس و تسعين بالمائة من أهل العتيقة يعملون بالفلاحة ، وكان همهم كما ذكرنا يقتصر على تلبية الحاجات الأساسية من سكن وقوت ولبس و الحفاظ على أنفسهم من الانقراض . لم يكن الادخار يشغل بالهم ، وكذلك النقد أو ما يدل عليه . فكانوا يتبادلون بالمبادلة بقرة بنصف طن ( قنطارين ) من الحنطة ، عروس بقطعة أرض ، قليل من الحلو الذي يحن إليه الأطفال بدل بيضة دجاج ، وهكذا ..

لم يكن في البلدة الكثير من الحرف و المهن ، كان بها مجموعة من الدكاكين ، ومحل لصناعة (الفروات ) ، ومحل للبيطار لتبديل حذوات الخيل ، أو علاجها ، ومحل لصناعة ( الجلالات ) أي ما يوضع على ظهر البهائم ، ومحل لصناعة (الهريط ) وهو عمل كانت تطبخ به عظام (الجمال ) ليستخرج منها محلول غروي يشبه ( الجلي ) .. يفطر عليه بعض الناس .. ومحل لتصليح (البوابير) كان صاحبه يسمى ب (السمكري ) لتصليح مشاعل الطبخ و الفوانيس و غيرها ، ومحل لخياطة ملابس الرجال ، ولم يكن يحتاج لفنون كثيرة ، فهي ملابس أشبه بالأسطوانات ، مع بعض الإضافات البسيطة ..

أما الدكاكين فكانت في البداية لتجار قدموا من ( الشام ) أو ( القدس ) ، ثم تركوا القرية لعدم ملائمتها لطموحاتهم . ثم أصبحت ملكيتها لأبناء العتيقة ، كان فصالها و شكل ديكورها الداخلي موحدا ، فكان لها مصطبة خارج بابها ، بارتفاع نصف متر ، يجلس عليها الرجال في أوقات فراغهم وما أكثرها ، يتحادثون ويشهدون على عمليات المبايعة القليلة . ويلعبون (المنقلة ) وهي قطعة خشب جوز سميكة محفور بها عدة حفر ، توضع الحصى في كل حفرة وفق نظام يعرفوه ، أو يلعبون ( القطار ) أو ( الياس وديس ) وهي لعبة يرسمونها على سطح بثلاث مربعات داخل بعضها البعض ، ثم يوصلون خطوطا تخترق أواسط الأضلاع ، فيضعون تسع قطع من الحصى لكل لاعب تختلف ألوانها من لاعب لآخر ، ويحركون الحصى بالتناوب حتى يكسب أحدهما .

أما داخل الدكان ، فكنت تصادف مصطبة أخرى عند الباب ، يتمدد عليها البائع لندرة المشترين ، ويفصل المصطبة عن جسم الدكان ( مد ) خشبي يوضع فوقه الميزان ، ومن خارج هذا المد تجد (شوالات ) غير ممتلئة بها من أصناف الحبوب ، وهي عادة تزيد في محتوياتها ، ولا تقل ، لأن ما بداخلها كان نتيجة دفع الزبائن أثمانا لما اشتروه .. وعندما تمتلئ تلك العبوات يأخذها صاحب الدكان الى مخزن أو يبيعها لتجار الحبوب ..

أما البضائع التي كانت تكون باستمرار في الدكاكين ، فكانت السكر والشاي والصابون و بعض أدوات المطابخ كالمنخل و السكين و ملاقط الغسيل وليف الحمَام ، وحجار النيلة وأبر الخياطة ، والملح والفلفل و القهوة والهال و أنواع من الحلويات التي انقرضت ك ( القوم والقنبز والكعكبان و الراحة والفيصلية ) ، وكانت توضع في ( مرتبانات لها أغطية تصف على الرفوف ..وأحيانا تجد بعض الفواكه كالعنب والتين الخ ..

إن أجواء كهذه كانت تجمع الذباب ، فكنت تلاحظ شريطا لاصقا يتدلى من أعلى الدكان لارتفاع أعلى من الرأس بقليل ، وقد التصق به الذباب حتى أصبح لونه أسودا أو لونا (ذبابيا ) ..

هناك نوع غريب من علاقات البيع والشراء كنت لا أفهمه كثيرا ، حيث كان يتجول في البلدة ، أناس غرباء ، يركب أحدهم حصانا أو حمارا ، ويبيعون الزيت و الأقمشة أو يصيحون ( مبيض .. مبيض ) وكان من يصيح يهتم بمعالجة أواني الطبخ النحاسية التي مر عليها وقت دون تبييض . كما كان أحدهم يصيح ( رشادي .. غوازي ) .. وكان يبيع الصيغة ( أي الحلي الذهبية والفضية ) .

الأمر الذي كنت أستغربه ، هو أن من يبيع الصيغة ، كيف كان يأتمن على ماله وحليه في الطريق من قطاع الطرق ، فاكتشفت في وقت متأخر ، أنه كان يودع حصانه عند أحد أهالي العتيقة ويأتي بالباص ، مقابل شيء يتفق عليه .

كما كان هناك قسم من الغجر يأتون في مواسم الحصاد ، ويبيعون أدوات يحتاجها الفلاحون في أعمالهم كالغرابيل و الكرابيل و المقاطف و المذاري والشواعيب ، وغيرها من تلك السلع ..

وقد رأيتهم كيف يصنعون الغرابيل (جمع غربال ) والكرابيل ( جمع كربال ) وغيرها .. فبعد أن يعالجوا الخشب بالماء والحرارة ويجعلون منه دائرة . يكونوا قد قاموا باستغلال أي جلد حيوان يلقوه ، سواء كان ميتا أو مذبوحا ، فيدبغوه ، ويجففوه تحت الشمس مثبتينه بأعواد ترتفع قليلا عن الأرض ، ثم يقددون الجلد ليعملوا منه خيطانا جلدية يدخلوها في ثقوب (الطارة ) الخشبية ويشدونها فتصبح جاهزة .. وكانوا يفهموا بالقياسات ، فتلك للقمح وتلك للشعير وتلك للحمص الخ ..

لم يكن أحد يفكر بتطوير عمله ، فالتقنيات محدودة ، والعادات المهنية قد تكون ممتدة الى آلاف السنين السابقة ، فقد يكون الشكل الذي رأيناه في منتصف القرن العشرين يشابه لحد كبير ما كان سائدا في العصر العباسي ، وقد يكون صدر الدولة العباسي يتفوق على ما شاهدناه في منتصف القرن العشرين في العتيقة .. حيث لم تكن علاقات الإنتاج التي كانت بوادرها قد تكونت في عصر المعتصم وما تلاه ، فقد كان هناك شيخ لكل مهنة يحتكم الممتهنون عنده في حالات الخلاف .. وتطورت حركة القرامطة لتفرز شكلا له طابع سياسي في بعض الأحيان .. أما في العتيقة ، فكان الاجتهاد هو الحكم في الخلافات ، فيبدو أن الناس لم يكونوا مطلعين على تجارب من قبلهم أو من يجاورهم من التجمعات السكانية الأكثر تقدما ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #20  
قديم 10-08-2006, 05:35 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 16)

كان أبو ساري بسترته الواسعة و بنطلونه الفضفاض ، وعقاله الذي يثبت حطة بيضاء تتدلى الى منتصفه ، يبدو بهيئة تخفي عيوب قصره وسمنته ، وقد كان يساعده على التخفي من ملاحقة عيون الناس لتفحص عيوب جسمه ، حقيبة جلدية سوداء من تصميم العشرينات من القرن العشرين ..

كانت حقيبته ، تنبئ ناس العتيقة بوصول الشؤم وتكدير النفوس ، إنه (التحصلدار ) ، واسمه أخذ من وظيفة حكومية للجباية ، ربما ورثت اسمها الحكومات التي جاءت بعد الأتراك ، لكنها أبقت على الوظيفة واسمها كما هي .. لقد كان يضع بحقيبته التي تشبه في طياتها طيات (الأوكورديون ) سجلات خاصة بأصحاب الأراضي في القرى التي سيمر عليها أبو ساري . وكان بها ختم خاص وعلبة معدنية بسماكة تزيد عن السنتمتر بقليل ، غطاؤها مثبت بها بمفصلين دقيقين ، وضع بداخلها قطعة من قماش قطني أو اسفنجي غمر بسائل بنفسجي .. وبعض دفاتر وصولات القبض ، الذي لا تزيد مساحة أحدها عن مساحة علبة التبغ ..

لم يكن أبو ساري يحمل سلاحا ، ولا يرافقه حراس ، ومع ذلك كان له هيبة استمدها من ذاكرة عمرها أكثر من ألف عام ، فيكفي أنه يحمل ختم دائرة من دوائر الدولة ، ويكفي أنه يلبس بنطلون حتى يثير حفيظة الناس فتكرهه ، كما كانت تكره الدولة ، ولما كانت الكراهية عندنا لا تأتي إلا بعد اضطهاد من نكره لنا ، ومن يضطهدنا بالتأكيد هو أقوى منا ، وعلينا أن نكرهه أي نهابه أي نخافه أي ننصاع لما يملي علينا ، فكان أبو ساري مكروه مهيوب مطاع ..

لقد تذكرت سبب اختيار أبي ساري للملابس الفضفاضة ، فالشحات يأخذ معه كيس فارغ لأنه يتأمل أن يملأه من ما يعطيه الناس ، وأبو ساري (التحصلدار) يأتي بحقيبة مطوية ، متأملا ملأها من النقود التي تفرضها الدولة على الفلاحين من ملاك الأراضي وكانت تسمى ( مال وأعشار ) .. وملابسه يختارها فضفاضة تحسبا لزيادة في وزنه أو حجمه ، من فعل الديوك التي يأكلها في القرى التي يداهمها .

لم أكن أعلم من أي دائرة ينطلق أبو ساري ، ومن أي مدينة ، هل ينطلق من مركز المحافظة ، أم من العاصمة ، أم أنه لا ينطلق من مكان معين ، بل يبقى طوافا ، لا يهدأ فكان يقيم بالعتيقة حوالي أسبوعين أو ثلاثة . لا أدري كيف كان يحدد المدة ، هل حتى ينجز عمليات الجباية من الفلاحين ، أم حتى ينجز القضاء على كل ديوك القرية ، لينتقل الى قرية أخرى وهكذا ..

كان الحاج ابراهيم هو أول من يحط عنده أبو ساري ، وينام في ضيافته ، كل المدة ، وكان الحاج ابراهيم يعرف أحوال أبناء العتيقة بشكل كامل ، وهو الوحيد الذي كان لا يقدم الديوك لأبي ساري ، بل كان يذبح خروفا أو جديا و يدعو بعض وجهاء العائلات الذين تعاونوا مع ( موفد ) لفرز أراضي العتيقة .. كان حديث الحاج ابراهيم مع المدعوين ، يساعد أبا ساري في تحديد شكل المطالبة والإصرار عليها .. كان يحضر الوليمة الأولى كل من مدير الناحية و رئيس الدرك ..

كان ( البرج ) .. وهو مبنى يبعد مسافة نصف ساعة على الخيل من العتيقة ، كان أشبه بحصن ، تم بناؤه في العهد العثماني بسور يرتفع أكثر من عشرة أمتار ، تحيط بمبنى يتسع لقوات الدرك وخيولهم و منامهم و مؤنهم .. وكان من يأتيه طلب لمراجعة البرج ، تحل عليه العقوبة قبل وصوله للبرج ، فكان يمضي الليل يتقلب ، ما هو السبب ولماذا دعوني ، وماذا عملت ، حتى تذهب به الظنون الى أن استدعي لذنب ارتكبه أجداده المتوفون قبل نصف قرن .

الحاج ابراهيم ، ومعه الحاج حسين والحاج أبو حامد والحاج برجس والحاج عطية والحاج سعد ، كانوا يمثلون أكثر من ثلثي سكان العتيقة ، فهم وجهاء القرية وهم مجموعة تحالفت في وجه البقية من سكان العتيقة ، بزعامة الشيخ كساب ، وكلا الطرفين يتسابقا من أجل إثبات صدقهم لدى الدولة ، وكانت الدولة تفرح لمثل ذلك التنافس الشريف !

كان لأبي حامد أحد عشر ولد من الذكور ومن زوجتين ، ثلاثة من الأولاد وقعت أيديهم على مناشير سياسية (حزبية ) .. فكانوا يتكلموا بحضور والدهم عما يقرءون ، فكان أبو حامد يعجب بما يسمع من أولاده ، ولكنه لا يستطيع ترديد ما سمع منهم ، فكان بحضور الولائم التي يحضرها رجال الدولة ، يبتسم ابتسامة خبير ، بأنه قد مر عليه مثل هذا الكلام ويعرف تحليله ، لكنه لا يتكلم بل يبقى مبتسما ، فيثير شكوك الحاضرين من رجال دولة و مجتمع ، حتى أصبح بنظر الجميع أخطر رجل في العتيقة !

عندما تشكلت حكومة وطنية ، جاء مجد أبناء أبي حامد ، فهم على صلة بوزير الأشغال ووزير التربية .. وكونهم لا بد لهم من المباهاة بوضعهم أمام الناس ، فانهالت عليهم الطلبات من كل الناس لتوظيف ابن أو استصدار رخصة استيراد بغال أو الخ ..

فيأتي أحدهم بالمساء ليسأل أبا حامد عن قضيته ، فيجيب أبو حامد : البارحة كانت الدنيا مشحطة ( تختلط غيوم الندى بصفاء السماء ) .. فقلت لنفسي هل أنام ( بره) أم أنام في الداخل ( جوه ) .. فقررت أن أنام بالعتبة ، وفي الفجر قمت لأصلي الفجر ، ثم ناديت على زوجتي ( عوفة ) ويصرخ وهو يسرد بقصته لمن سأله ، فتأتي زوجته (عوفة ) : ها أبو حامد هل ناديتني ، يزجرها قائلا : روحي أنا أتحدث فقط ، فتذهب زوجته ، ويكمل سرد ما يقرب لجواب سائله ، فطلبت منها (فطورا ) .. فأحضرت لي بعض البيض المقلي واللبن الرائب ، ثم يتوقف .. ليبدي شكواه من طعم اللبن ، إن فيه طعم غريب ..

بهذه الأثناء يدخل بعض الذين اعتادوا على السهر في مضافة (أبي حامد) ، وبعد أن يناولوه رشفة من القهوة ، يظن أن الحديث عن اللبن ، فيتدخل ، ويقول ان طعم اللبن تعتمد على نوعية المرعى الذي ترعاه الأغنام ، ويزداد عدد الحضور ، ويذهب الحديث في اتجاه تذكر بعض الرعاة ، وكيف أن أحدهم من عائلة كريمة ووالده كان شاعرا ، فيتذكر أحدهم بعض أبيات القصيد الذي قاله ، ويدخل قادم جديد فيظن أن (سهرة ) اليوم عن الشعر ، فيدلي بدلوه ..

وصاحبنا ، صاحب الحاجة الذي أتى ليستفسر من أبي حامد عن حاجته في الوزارة ، يتقطع من داخله ، ويتساءل بصمت وقهر ، متى يكف هؤلاء عن الثرثرة ليجيبني أبو حامد على سؤالي !
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م