مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الإسلامي > الخيمة الإسلامية
اسم المستخدم
كلمة المرور

 
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 06-07-2005, 09:13 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي نداء حار إلى المسلمين

[size=5]نداء حار إلى المسلمين







أيها المسلمون

لا يرتاب أحد أنكم وصلتم إلى الحضيض في الهبوط الروحي، والتخلف المادي، والتأخر الفكري، والانحطاط السياسي. ولا يشك أحد أن العلاقات الإسلامية في مجتمعكم قد دُمرت تدميراً تاماً، وحلت محلها العلاقات الرأسمالية، أي علاقات أنظمة الكفر. ولا يمتري إنسان أن روابط الأخوّة الإسلامية بين الشعوب المسلمة قد تقطعت، وحلت محلها روابط القومية، أي روابط العصبية القبلية، وأن هذه الأخوّة الإسلامية سائرة في طريق تقطيع روابطها في القطر الواحد فضلاً عن الشعب الواحد، لتحل محلها روابط الأرض المسماة بالوطنية. ولم يبق بين أيديكم من أفكار الإسلام إلاّ أحكام العبادات، ومن المشاعر الإسلامية سوى المشاعر الكهنوتية. وهذا كله صار واضحاً لكم وضوح الشمس، تدركونه أنتم كما يدركه فيكم غيركم من أبناء الأمم الأخرى. ولكن الذي لا تدركونه أنتم ويدركه عدوكم هو ما أنتم مشرفون عليه من خطر انقراض هذه الأمّة الإسلامية العريقة، انقراضاً تمحي فيه سيماها المميزة، وتدمَّر نتيجة له فضائلها الخاصة، وتنعدم من جرائه نفسيتها الخيّرة، وتنحرف بسببه عقليتها النيرة، وتذوب منه شخصيتها الإسلامية، لا سيما وأن المسلمين الذين يرتفع ولاؤهم للإسلام على كل ولاء قد قلّت نسبتهم في الأمّة، وأن المؤمنين الذين يجعلون الله ورسوله والجهاد في سبيله في رأس سلّم القِيَم قد صاروا أندر من الكبريت الأحمر، وأن الشعور بمرارة هزيمة المسلمين أمام الكفار قد مات ولم يعد يحس به إلاّ القليل ممن لا يؤثّرون في سير الحياة.

لقد ظل الصراع بين الأمّة الإسلامية كأمّة وبين الكفار كشعوب وأمم ثلاثة عشر قرناً متوالية، وظل الكفاح بين الإسلام كدين وكطريقة معينة في الحياة وبين الكفر هذه طوال الثلاثة عشر قرناً الماضية، حتى إذا كان القرن الثالث عشر الهجري -التاسع عشر الميلادي- تحدى النظام الرأسمالي -وهو نظام كفر- نظام الإسلام في أفكاره ومشاعره. وما هي إلاّ جولة قصيرة حتى هُزم المسلمون أمامه هزيمة فكرية، أعقبتها الهزيمة السياسية المدمرة. ولكن الإسلام لم يُهزم ولن يُهزم لأنه وحده الحق. ولكن أنى له أن يبقى في حلبة الكفاح وقد هُزم أهله، ولم يدرِكوا موقعه في الكفاح؟

أما هذا التحدي للإسلام في أفكاره فقد كان الهجوم على الأفكار الإسلامية يوسعونها نقداً وتزييفاً، وكان في تحديه له أن يوجِد حلولاً للمشاكل المتجددة والمتعددة فيبيّن حكمها وكيفية معالجتها. فكان موقف المسلمين من هذين الأمرين في منتهى الضعف، فحاولوا المقاومة محاولات فاشلة عوجاء، ثم انهزموا لا يلوون على شيء.

لقد هاجم النظام الراسمالي تعدد الزوجات فقال هذه همجية، يتزوج الرجل النساء واحدة واثنتين وثلاثاً وأربعاً، فما هذا إلاّ إهانة لكرامة المرأة. وهاجم الطلاق، فقال إنه غدرٌ بالمرأة وتقويض للبيت، كيف يباح للرجل أن يطلق المرأة متى شاء وقد رُبط بينهما برباط أبدي؟ وهاجم الخلافة فقال إنها دكتاتورية، وكيف يسلَّم الحكم وجميع صلاحياته لرجل واحد عُرضة للخطأ وعُرضة للاستبداد؟ وزعموا أن له قداسة دينية ترفعه عن النقد والمحاسبة. وهاجم الجهاد فقال إنه عدوان على الشعوب، وسفك لدماء الناس، وهو وحشية ما بعدها وحشية. وهاجم القضاء والقدر، فقال إن هذا استسلام لحوادث الزمان، وتثبيط عن النهوض بأعباء الحياة.

وهكذا أخذ يبحث عن الأحكام الشرعية، وعن الأفكار الإسلامية، ويتتبعها، ثم يوسعها نقداً وتجريحاً، ويبين أنها أفكار فاسدة تناقض الحق، وتعالج المشاكل معالجة سيئة. وأخذ إلى جانب ذلك يعرض حلولاً لمشاكل، ويتساءل ما هو رأي الإسلام فيها؟ وهل هو قادر على أن يوجِد حلولها لها؟ فيسأل عن السكورتاه أي التأمين ما حكمها؟ ويسأل عن العلاقات التجارية بين الدول ما هو الحكم الشرعي فيها: هل يقول بحرية المبادلة أم يقول بالحماية التجارية؟ ويسأل عن النظام النيابي والانتخابات الحرة: ما هو موقف الإسلام منها؟ ويسأل عن النزعات في التشريع: هل يقول الإسلام بالنزعة المادية أم بالنزعة النفسية؟ وهل يعتبر روح النص أم يعتبر النص وحده؟ ويسأل عن الحريات العامة كالحرية الشخصية وحرية الرأي والحرية الدينية، هل جاء الإسلام بشيء منها؟ ويسأل عن الناحية الروحية هل هي التفكير والفكر، أم هي الأخلاق والفاضل، أم هي ما يقوله القدماء: الروح المقابلة للجسم وأن الإنسان مركب من جسم روح؟

وهكذا يتتبع المشاكل التي حدثت وتحدث للإنسان، والمشاكل التي تحصل في مجتمع كالمجتمع الرأسمالي ولا توجد في مجتمع كالمجتمع الإسلامي، فيسأل عن حلول لها سؤال استنكار بأن الإسلام قاصر عنها فهو لم يتضمن حلولاً لها، وليس فيه قابلية أن توجَد فيه هذه الحلول.

ثم لم يكتف بذلك، بل هاجم المشاعر الإسلامية، فهاجم التمسك بأحكام الإسلام، وقال هذه عصبية مذهبية وتعصّب ممقوت يجب أن يُترفع عنه. وهاجم بُغض المسلمين للكفر والكفار وحبهم للإسلام والمسلمين، وقال هذه عصبية دينية، فالإنسان أخ الإنسان أحبّ أم كره، فلا فرق بين مسلم ويهودي وقال: لكل دينه ولكل رأيه وكلها آراء، فعلام هذا التفريق بين الأديان وبين البشر في الحب والبُغض. وأحيا بجانب ذلك المشاعر القومية فأثار في التُرك مشاعر السيادة وحرّضهم على العرب، وأثار في العرب مشاعر السيادة وحرّضهم على التُرك، وهاجم الحميّة الإسلامية التي تغضب لحرمات الله، وقال عنها إنها تعصب ديني، وصار يبعث الرضى بترك الإسلام وترك التقيد بأحكامه. ودعا ذلك بالتسامح، وهاجم السخط من نقد القرآن ومن ذم النبي عليه السلام، ومن قدح الصحابة عليهم رضوان الله وقال إن ذلك بحث علمي، فالقرآن يحكي قصة إبراهيم ولا يوجد في التاريخ شخص اسمه إبراهيم هذه قصته، ومحمد يقول إن القرآن من عند الله مع أن هذا القرآن جاء به محمد من عنده بعبقريته وادّعى أنه من عند الله ليقبله الناس. ويقولون أكثر من ذلك ثم يطلبون من المسلم أن لا يغضب من هذا الافتراء وأن يرضى بهذا التجديف باسم البحث العلمي!

وهكذا أخذوا يتتبعون المشاعر التي تعيّنها أفكار الإسلام من سرور وغضب، ومن سخط ورضى، ومن حب وبُغض، فيغيّرون دوافعها حتى تفقد كونها مشاعر إسلامية.

فكان هذا الهجوم على الإسلام بالهجوم على أفكاره وأحكامه، والهجوم على مشاعره، تحدياً صارخاً له. وكان الأمر الطبيعي بل الأمر الحتمي أن يقبل المسلمون هذا التحدي ويخوضوا معهم المعارك الفكرية، بل كان الواجب عليهم أن يبدأوا هم بتحدي الكفر والكفار، لأنهم حملة دعوة وأصحاب رسالة. ولكن الواقع أن المسلمين تخاذلوا أمام هذا التحدي بشكل يبعث السخرية، ويسربَل بالخزي والعار. فانتحلوا العذر للإسلام في قوله بتعدد الزوجات، وصاروا يدافعون عنه بأنه لا يقول بتعدد الزوجات إلاّ في حال العدل. وتهرّبوا من إباحة الطلاق في الإسلام، وقالوا إنه لا يقول بذلك إلاّ ضمن شروط. وقبلوا تهمة الخلافة الإسلامية وسكتوا عنها، وحاولوا في أواخر العثمانيين تحويل نظامها، وبعد إلغائها صاروا يتهربون من ذِكرها، أو لا يجدون الجرأة على الجهر بها. وتراجعوا أمامهم في الجهاد فاعتبروه تهمة يُتهم بها الإسلام، وردوا عليها بأنه –أي الجهاد- حرب دفاعية لا حرباً هجومية، وتنصّلوا من أن يكون الجهاد بدءْ الكفار بالقتال لأنهم كفار. ودافعوا عن القضاء والقدر بأن الإسلام أمرنا أن لا نبحثه وأوّلوه بما يُثبت فيه الخمود والاستسلام.

وهكذا سلّموا للكفار بما قالوه وقَبِلوا أن يكون الإسلام متهماً، وصاروا يدافعون عنه بما يُعتبر هزيمة منكرة أمام تحدي الكفار الصارخ. ولذلك لم يلبثوا إلاّ فترة حتى كانت جميع الأحكام التي هوجمت قد تُركت، وأَخذت أحكام الرأسماليين وأفكارهم تحل محلها.

أمّا المسائل الجديدة والمشاكل التي لا تقع إلاّ في المجتمع الرأسمالي، فقد أوّلوا الإسلام وحرّفوه بالنسبة لها، فقالوا إنه يقول بالمصالح المرسَلة فأينما تكون المصلحة فثَمّ شرع الله، وقالوا الحكمة ضالة المؤمن التقطها أنّى وجدها. وبناء على ذلك حاولوا التوفيق بين المعالجة التي أتى بها النظام الرأسمالي وبين الإسلام، فأخذوها على اعتبار أنها إسلام، وما هي من الإسلام في شيء. فقالوا إن السكورتاه أي التأمين لا يمنعه الإسلام، فبعضهم قال لأنها عقد من العقود، وآخرون قالوا إنه لم يَرِد نهي عنها فهي مباحة والأصل في الأشياء الإباحة، ومنهم من قال إنها ضمانة جائزة قد أجازها الإسلام. وقالوا عن التجارة الخارجية إنها حسب المصلحة، فتسيّرها الدولة حسب المصلحة عملاً بالمصالح المرسَلة. وأجازوا أخذ النظام النيابي على أنه شورى، والشورى قد أجازها الإسلام. واتّبعوا ما يقوله النظام المدني الفرنسي في النزعة النفسية في التشريع فقالوا العبرة بروح النص والمسألة معلقة بالنيّة، وادّعوا على الإسلام بأنه يقول العبرة بالعقود في المقاصد والمعاني لا في الألفاظ والمباني، واستدلوا على ذلك بقول الرسول عليه السلام: (إنّما الأعمال بالنيّات). وزعموا أن الإسلام جاء بالحريات العامة وأمر بها، وأن الإسلام دين الحرية. وساروا على ما سار عليه النصارى بأن الناحية الروحية هي الروح المقابلة للجسم، وأن الإنسان مركب من مادة وروح فلا يغلب الروح على الجسم ولا الجسم على الروح.

وهكذا أُسقط في أيديهم أمام تحدي الكفار فلم يدرسوا المشاكل ليستنبِطوا لها حلولاً أو ليبحثوا عن أحكامها في الكتاب والسنّة، وإنّما أخذوا حلول الغرب لهذه المشاكل كما هي واعتبروا أن هذه حلول إسلامية على أساس أن الإسلام لا يمنعها، أو على أساس ما جاء به بعض الأئمة من المصالح المرسلة لا ما جاء به القرآن والحديث. ولهذا دخلت هذه الأحكام الرأسمالية على اعتبار أنها من الإسلام، ثم ما لبثت أن صارت قوانين في المجتمع ومعاملات للمسلمين دون نظر إلى أنها إسلامية أو غير إسلامية. فثبتت الأحكام الرأسمالية وتنوسي الإسلام. ولهذا سهل قبول تغيير المشاعر ما دام قد سهل تغيير الأفكار، ففشا النفور من التمسك بأحكام الإسلام تمسكاً شديداً باعتباره تعصباً دينياً ممقوتاً، وصار ينفر من التفريق بين المسلمين والكفار وبين الإسلام وسائر أديان الكفر، وأصبحت كلمة القومية تهز المشاعر، ودُفنت الحمية الإسلامية. وصار يُعتبر السخط من مهاجمة القرآن تأخراً وانحطاطاً لأن هذا الهجوم عندهم نقد علمي نزيه.

وبذلك انمحت المشاعر الإسلامية، ولم يبق منها إلاّ المشاعر الكهنوتية، مشاعر العبادة. فكان هذا كله هو الهزيمة المنكَرة التي هُزِمَها المسلمون أمام تحدي النظام الرأسمالي للإسلام.

وكاد يكون هذا هزيمة للإسلام لو كانت الأفكار الإسلامية التي هوجمت ليست حقاً وصدقاً بأن كانت باطلاً كما وصفها المهاجمون، وكانت الأفكار الرأسمالية المهاجِمة ليست باطلاً وكذباً بأن كانت حقيقة مطابِقة للواقع، ولو كانت المشاعر الإسلامية التي هوجمت مشاعر غير جديرة بالإنسان بأن كانت مشاعر تتنافى مع القِيَم الرفيعة ومع فطرة الإنسان. ولو كان الأمر كذلك لَما اقتصرت الهزيمة على المسلمين في أفكارهم التي يحملونها، وعلاقاتهم التي يتعاملون بحسبها، ووضعهم السياسي فحسب، بل لأدت هذه الهزيمة إلى محو الإسلام من الوجود الفكري والوجود النفسي كما مُحي من الوجود السياسي.

ولكن الواقع كان غير ذلك، ولهذا كانت الهزيمة في تحدي النظام الرأسمالي للإسلام هزيمة للمسلمين وليست هزيمة للإسلام، ولذلك فإن عوامل إعادة الكرّة على النظام الرأسمالي وعلى الكفر كله لا تزال موجودة كما هي يوم هَزمت الكفر والكفار ألا وهي فكر الإسلام ومشاعره، وهذا ما يبعث الأمل ويذكِّر بأيام النصر، ويحفّز على النهضة، ويحرّك الفطرة الإنسانية، ويجعل العودة إلى حمل الدعوة الإسلامية للعالم إرادة جبارة لا مجرد رغبة وشوق.
  #2  
قديم 06-07-2005, 09:14 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

أمّا كون أفكار الإسلام هي وحدها الأفكار الحقّة الصادقة والأفكار الرأسمالية المهاجِمة هي الأفكار الباطلة الكاذبة، فذلك ثابت من واقع الأفكار نفسها. فالافكار الرأسمالية التي تَعتبر تعدد الزوجات خطأ وتعتبر الصواب تقييد الرجل بزوجة واحدة هي معالجات لواقع الإنسان لا لفروض منطقية. فأي مجتمع في الدنيا لا تتعدد النساء فيه للرجل الواحد؟ إنه لا يوجد في العالم مجتمع إلاّ وفيه بعض الرجال لهم أكثر من امرأة، إلاّ أن بعضهم يسمّيهن مَحظِيّات، وبعضهم يسميهن خليلات، وبعضهم يسميهن زوجات؟ فهل الأحكام التي تجعل هذا التعدد للنساء مباحاً له أن يفعله وله أن يتركه، فيجعل الثانية والثالثة والرابعة زوجة شرعية لا محظية ولا خليلة، هل هذه الأحكام توافق الفطرة وتعالِج المشكلة أم الأحكام التي تمنع هذا التعدد وتسكت عنه إذا لم يتم بحسبها، أي إذا كان غير مشروع؟ أو هل جعْل العِشرة بين الزوجين عِشرة صُحبة اختيارية: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أن يمسكها إن كانت العِِشرة مسعِدة للزوجين ويطلّقها إن كانت سبباً لشقائهما، يتفق مع سعادة الزوجين وطمأنينتهما، أم جعلها عِشرة مفروضة فرضاً لا تُفسخ عُراها ولو جَلبت أشد أنواع الشقاء؟

أمّا الحكم فإن واقعه في الدنيا أنه من حيث السلطان هو للأمّة تعطيه لمن تشاء، ومن حيث المباشرة للسلطان فإنه لا يمكن أن تكون إلاّ لواحد ولن تكون لاثنين فأكثر على الحقيقة مطلقاً. إلاّ أن الواحد إنّما يقيَّد بمنهج معين يعتقد صحته لا يحل له أن يتعداه. والمهيمن على هذا الحاكم الواحد إلى جانب دوافع اعتقاده بالنظام الذي يقيَّد به أي إلى جانب تقواه أو ما يسمونه بضميره، محاسبة الأمّة التي يحكمها بالقول إن أساء التطبيق، وبالسيف إن خان النظام، على أن لا تعصيه فيما يأمر به من فرض أو مندوب أو مباح، ولا تطيعه في معصية من المعاصي المحرَّمة. فهذا هو واقع الخلافة، فأيهما المنطبق على الواقع الصادق في التطبيق: نظام الإسلام أم النظام الديمقراطي الذي يقول إن الأمّة هي التي تباشر الحكم، وهذا من المستحيلات؟ ولذلك كان كاذباً ولم يكن فيه المباشر إلاّ رئيس الحكومة يعاونه الوزراء.
[/size]
  #3  
قديم 06-07-2005, 09:16 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]
وأمّا الجهاد فإنه من الكذب على الإسلام أن يقال إنه حرب دفاعية، وهو فوق كونه يخالف واقع ما كان عليه الجهاد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى آخر الدولة الإسلامية من أن المسلمين كانوا هم يبدأون الكفار بالقتال ويتخذونه طريقة لنشر الإسلام، فإنه كذب على القرآن في صريح آياته، قال الله تعالى في كتابه العزيز: (قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخِر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يَدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتِلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غِلظة)، وقال: (يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال). فالجهاد هو قتال الكفار قتالاً مادياً من أجل إقامة حكم الإسلام، وسببه كون الذين نقاتلهم كفاراً رفضوا الإسلام بعد عرضه عليهم عرضاً يلفت النظر. أي أن توجَد الحالة التي يُعرض فيها الإسلام عرضاً يلفت النظر ثم يحصل الجهاد. وهذا هو ما يمليه أي مبدأ تعتقده أية أمّة، فإنها تهيئ القوة المادية وتكون لديها الروح العسكرية القوية إلى جانب القوة المادية، وبناء على هذه القوة تبدأ المعارك السياسية والمناورات الدبلوماسية، فتوجَد الحالة التي تُبلَّغ بواسطتها الدعوة وترتفع شخصية الدولة السياسية، فإذا حصل الاحتكاك المادي كان القتال الذي لا مفر منه. وما الحرب الباردة في العالم اليوم إلاّ الحالة التي يحاول كل من المعسكرين إيجادها لنشر مبدئه، وما القوات العسكرية الجاهزة إلاّ استعداداً للقتال الذي لا بد أن يأتي. وكذلك كانت الحال قبل الحرب العالمية الثانية بين النازية وما يسمى بالعالم الحر، وقبله كان بين الإسلام والرأسمالية، وهكذا. فواقع الحياة أنها أفكار تتباين فتتجسد في دول وتُستعمل القوة المادية لنشرها والدفاع عنها بأساليب سياسية وثقافية واقتصادية وعسكرية. وهذا هو واقع الجهاد، قتال بالقوة المادية من أجل الفكر بعد استنفاد الأساليب السياسية والثقافية. إلاّ أن العسكرية الإسلامية أو روح الجهاد ليست كالعسكرية الالمانية قوة عسكرية لجعل الشعب فوق جميع الشعوب، بل هي القوة العسكرية التي تزيل الحواجز المادية من أمام الدعوة الإسلامية لجعل الشعوب تعتنق الإسلام وتكون مع سائر المسلمين أمّة واحدة لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى.

أمّا القضاء والقدر، فإنه بمفهوم هاتين الكلمتين معاً إنّما هو الأعمال التي تقع في الدائرة التي تسيطر على الإنسان أي تقع جبراً عنه والخواص التي في الأشياء. وبمفهوم كلمة القدر وحدها هو علم الله. وهذا لا دخل له في أفعال الإنسان الاختيارية التي يحاسَب عليها من الله كما يحاسَب عليها في الدنيا من الدولة أو الأبوين أو المربّي، فأي استسلام في هذا؟ وأين كان الاستسلام حين فتح المسلمون بهذا المفهوم الدنيا ودوّخوا الأمم؟ ثم إن النظرة للفعل قبل وقوعه نظرة تفحص ودراسة وتقدير لمغبة الإقدام عليه ولنتائجه مما يترتب عليه اللوم والمحاسبة، والنظرة إلى الفعل بعد وقوعه باختياره أو جبراً عنه بأنه قد وقع وانتهى فلا بد من التسليم بأنه وقع، لا بما وقع، حتى يعالج ما وقع. أي أن الأمر الذي وقع قدراً حسب علم الله يجب أن يسلَّم بأنه وقع وانتهى فلا يوقَف عند حد التأثر والانزعاج، ولكن لا يسلّم بوقوعه وبتركه من غير علاج، بل لا بد من عدم التسليم بالوضع الذي صار بعد الوقوع، وذلك لأجل معالجته بعد وقوعه.

هاتان النظرتان لا بد منهما معاً حتى تظل الحياة سائرة بحيوية وبقوة وبصورة عملية واقعية حسب القِيَم الرفيعة. فكون الأعمال الاختيارية يحاسَب عليها، وكون الأعمال غير الاختيارية لا يلام عليها لأنه ليس في مقدوره دفعها، وكون كل فعل وقع فإنه لم يقع إلاّ وكان وقوعه وفق علم الله، كل ذلك يضمن وجود هاتين النظرتين، أو بعبارة أخرى يجعل الإنسان يسير في أفعاله ليس على الخيال والفروض النظرية، وليس حسب ما تمليه الشهوات، وليس مربوطاً بسلاسل الأسى والحزن على ما فات، وإنّما ينطلق بقوة بشكل واقعي عملي حسب القِيَم الرفيعة التي تتطلبها حياة الإنسان. ولهذا فإن القول بالقدر وحده، وبالقضاء والقدر معاً، يثير الإنسان وينشطه ويحُول بينه وبين اليأس والأسى، كما يحُول بينه وبين الكسل والخمول. والمسألة كلها ليست في شأن العمل الاختياري قبل القيام به، وإنّما هي في العمل بعد القيام به، وفي العمل الذي يقع جبراً عن الإنسان، لأنهما قد وقعا وانتهى الأمر فيجب أن لا يأخذ الأسى من النفس مأخذاً عظيماً يمضها به الألم ويحوّلها عن مقصدها الأسمى في الحياة ومن خوض معارك الحياة. فأين هذا مما عند الرأسماليين من الألم الممض والأسى المفجع الذي يصيب المخفِقين والذي يجعل كلمة الحظ تلعب دوراً كبيراً في الحياة؟

ومن هنا كان الإيمان بالقدر والإيمان بالقضاء والقدر نعمة من النعم الكبرى للنفس وحافزاً من أعظم الحوافز على خوض معترك الحياة بشجاعة ونبل، لأنه يعني أن الإنسان في الدائرة التي يسيطر عليها مسؤول عن جميع أعماله الاختيارية فيجب أن يضطلع بها ويتحمل مسؤوليتها، فإذا وقع الخطأ أو الضلال فإنه يتحمل ما يترتب عليه، ولكن عليه أن يدرك أن ما وقع إن كان خطأ أو صواباً إنّما وقع على علم من الله وإحاطة به، فهو قد كان لا بد أن يقع، فلا يجوز له أن يقف عنده مشغولاً به، بل ينتقل إلى غيره، أي يظل يسير سيراً متواصلاً يدأب في هذه الحياة.

وأمّا الدائرة التي تسيطر عليه وتقع فيها الأعمال جبراً عنه فإنه غير مسؤول عنها فلا يتحمل ما يترتب عليها، وفوق ذلك فإنها وقعت على علم من الله وإحاطة منه بها، فهو قد كان ولا بد أن يقع، فلا يجوز له أن يقف عنده منشغلاً به، بل ينتقل إلى غيره. وهذا كله من أروع ما يتحلى به إنسان في هذه الحياة.

هذه هي حقيقة بعض الأفكار الإسلامية التي هاجمها الكفار الرأسماليون، وهذه هي حقيقة الأفكار الرأسمالية التي هوجمت بها الأفكار الإسلامية، ومنها يتبين أن الأفكار التي هوجمت هي الحق، والأفكار التي هاجمت هي الباطل. وضعْف حَمَلة الفكر الحق في إدراكه لا يعني أنه ليس بحق لأن صاحبه لم يستطع شرحه، أو قَبِل أن يكون متهَماً. كما أن قوة بيان حَمَلة الفكر الباطل لا يعني أنه ليس بباطل لأن صاحبه استطاع أن يصوره بصورة الحق، بل الفكر الحق هو ما طابق الواقع الذي يدل عليه، أو الفطرة التي فُطر عليها الإنسان. أي الحق ما طابق الحقيقة، والباطل ما لم يكن كذلك. فالعبرة بحقيقة الفكر وواقعه لا بحامله ولا بالقدرة على بيانه أو عدم القدرة على ذلك.

فمثلاً الشيوعيون يقولون إن العقل هو انعكاس المادة على الدماغ، وهذا يعني أن إدراك الأمور هو انطباع الواقع على الدماغ فيحصل من ذلك الإدراك. فهذا الفكر إن كان حقاً فإنه ينطبق على الواقع، وإن كان باطلاً يتبين عدم انطباقه، فإذا هوجم من أي إنسان ونُقِد، فإنه لا يُنظر في كونه حقاً أو باطلاً إلى فصاحة المهاجِم وبلاغته في البيان، ولا إلى عيّه وضعفه في البيان، بل يُنظر إلى حقيقة الفكر الذي يهاجِم به. وقد هاجمه حزب التحرير فقال إن هذا التعريف للفكر خطأ من وجهين: الأول أنه لا يحصل انعكاس بين المادة والدماغ مطلقاً لأن الانعكاس في الضوء مثلاً هو أن يرتد الضوء عن المادة فينعكس عليها كانعكاس نور المصباح على الحائط، وهكذا. والمادة لا يحصل منها شيء من ذلك، فلا يوجد انعكاس لا من المادة على الدماغ ولا من الدماغ على المادة، وإنّما الذي يوجَد هو إحساس بالمادة بإحدى الحواس. فالمسألة مسألة حس لا مسألة انعكاس، وهذا ظاهر في اللمس والشم والذوق والسمع، أمّا الإبصار بالعين الذي هو موضع الشبهة فإن الذي يحصل فيه هو انكسار وليس انعكاساً، فإن الضوء ينكسر في العين وتستقر صورة المادة على الشبكة ولا ترتد إلى الخارج، وهو عملية حس لا عملية انعكاس. فهذا يدل على أن ما يقوله الشيوعيون في تعريف العقل خطأ. ولذلك يُهزم فكر الشيوعيين هذا أمام هذا الهجوم الحق.

أمّا الوجه الثاني فإن مجرد الإحساس بالمادة لا يُحدث إدراكاً وإنّما يُحدث حساً فقط مهما تعدد نوع الإحساس، ولأجل أن يحصل الفكر

لا بد من معلومات سابقة تفسر هذا الواقع، أي هذه المادة، ودون وجود معلومات سابقة لا يمكن أن يحصل إدراك وإنّما يحدث حس ليس غير. أمّا كون الشخص يحصل له من الحس أن يعيّن موقفه تجاه الواقع الذي أحسّه فإن هذا لا يدل على أنه أدركه، لأنه لا يستطيع أن يعيّن موقفه تجاهه إلاّ فيما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية، أو فيما يتعلق بتغير شكل الواقع. أمّا ما عداها من حيث معرفة حقيقته فلا يمكن أن يعيّن موقفه مطلقاً. فالإنسان يستطيع من تجربته للشيء في تعدد إحساسه به أو تنوع الإحساس أن يعرف أنه يؤكل أو لا يؤكل، يؤلم أو يَسُر، ويعرف تغير شكله. وهذا كله يحصل للحيوان كما يحصل للإنسان، وكله لا يسمى إدراكاً –أي فكراً- بل هو حس ليس غير، ولذلك إذا لم يكن هذا الشيء متعلقاً بالغرائز، كحجر مثلاً، فإنه مهما تعدد الإحساس لا يدرك كنهه، وإنّما يدرك تغير أشكاله، فإذا أُعطي معلومات مع الإحساس فإنه يحصل حينئذ الإدراك أي الفكر. وأبسط دليل على ذلك المخترَعات، فإنها تحصل من تجارب مضافاً إليها معلومات سابقة. فإذا لم تكن هناك معلومات لا يمكن أن يحصل الاختراع. ولا يعني وجود المعلومات، المعلومات عن الواقع، بل معلومات أي معلومات يستطيع بواسطتها أن يفسر الواقع. وعليه فإن تعريف الشيوعيين من هذه الجهة أيضاً خطأ. وبذلك يُهزم هذا الفكر، ويتبين أنه باطل لمخالفته للواقع.

ولهذا جاء حزب التحرير بعد أن بين بطلان الفكر الشيوعي عرّف العقل بأنه نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ومعلومات سابقة تفسِّر هذا الواقع. أي لا بد من دماغ وحس وواقع ومعلومات سابقة حتى يحصل الإدراك أي الفكر، أي حتى يوجَد عقل. وبهذا يكون الفكر قد هوجم وهُزم لأن حقيقته ظهرت أنها غير مطابقة للواقع، وتبين أن الفكر الذي هوجم به حق لأنه مطابق للواقع، فيكون فكر حزب التحرير في هذه المسألة قد هزم الفكر الشيوعي.

ومثلاً النظام الرأسمالي يعرّف المجتمع بأنه مكوّن من أفراد، أي أن فرداً وفرداً وفرداً.. الخ، يكوّنون مجتمعاً، فالمجتمع عندهم هو مجموعة أفراد مع بعضهم. فهذا الفكر إن كان حقاً فإنه ينطبق على الواقع، وإن كان باطلاً يتبين عدم انطباقه على الواقع، فإذا نُقد وهوجم فإنّما يُنقَد على هذا الأساس. وقد هاجمه حزب التحرير فقال إن هذا التعريف خطأ لأن فرداً وفرداً وفرداً يكوّنون جماعة فقط ولا يكوّنون مجتمعاً. فإذا نشأت بينهم علاقات دائمية صاروا مجتمعاً، وإذا لم توجد بينهم علاقات دائمية لا يشكلون مجتمعاً، بدليل أن ركاب أكبر باخرة ولو كان عددهم بالآلاف لا يشكلون مجتمعاً، إذ ما هم إلاّ رفاق طريق يذهب كل منهم إلى الميناء التي يقصدها. ولكن سكان قرية من مئتي نسمة مثلاً يشكلون مجتمعاً لأن بينهم علاقات دائمية. وعليه فتعريف الرأسماليين خطأ محض، لأن مجموعة الأفراد إذا لم تنشأ بينهم علاقات دائمية لا يمكن أن يكونوا مجتمعاً ولا بوجه من الوجوه. وبهذا يُهزم الفكر الرأسمالي في تعريف المجتمع ويتبين أنه باطل لمخالفته للواقع.
  #4  
قديم 06-07-2005, 09:16 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

ولأجل أن يدرَك تعريف المجتمع إدراكاً حقيقياً لا بد من التعمق في دراسته، فالعلاقات إنّما تنشأ بين الأفراد بناء على مصالحهم. فالمصالح التي للأفراد هي التي أنشأت العلاقات. وهذه المصالح لا بد أن تتحد أفكار الأفراد عليها بأنها مصلحة أو ليست مصلحة حتى تنشأ العلاقة، ولا بد أن يتحد رضاهم وغضبهم وسرورهم وحزنهم بالنسبة لها، أي لا بد أن تتحد مشاعرهم حتى توجد العلاقة، ولا بد أن يتحد النظام الذي يعالِجون به هذه المصلحة حتى توجد العلاقة، فإذا اختلفت الأفكار على المصلحة: أحدهم يعتبرها مصلحة والآخر لا يعتبرها مصلحة، أو اختلفت المشاعر: هذا يفرح بها وذاك يسخط لها، أو اختلفت الأنظمة: هذا يريد أن يعالجها بنظام معين وذاك يريد أن يعالجها بنظام آخر، إذا اختلف أي واحد من الأفكار والمشاعر والأنظمة بين الأفراد على المصلحة فإنه لا توجد بينهم علاقة أي لا يوجد مجتمع. ولذلك جاء حزب التحرير بعد أن بيّن بطلان الفكر الرأسمالي في تعريف المجتمع عرّف المجتمع بأنه مجموع من الناس والأفكار والمشاعر والأنظمة، أي اتحاد الأفكار والمشاعر والأنظمة في أفراد الناس عن المصلحة يكوّن علاقات فيكون المجتمع.

وبهذا يكون الفكر الرأسمالي قد هوجم وهُزم لأن حقيقته ظهرت أنها غير مطابِقة للواقع، وتبين أن الفكر الذي هوجم به حق لأنه مطابِق للواقع، فيكون فكر حزب التحرير في هذه المسألة قد هَزم الفكر الرأسمالي.

وهكذا، فلو كان الفكر الذي هاجم الإسلام به الرأسماليون وتحدّوه صحيحاً لكان الذي هُزم هو الإسلام وليس المسلمين، ولكن لمّا كان الفكر الذي هاجموا به الإسلام غير مطابق للواقع في حقيقته، وكان الفكر الإسلامي الذي هوجم هو المطابق للواقع في حقيقته، لذلك كان الفكر الإسلامي الحق قد تحداه فكر باطل، ولكن حَمَلَته لم يكونوا واعين عليه، مع ضعف في الإيمان به، ولذلك هُزموا تلك الهزيمة المنكَرة.

هذا بالنسبة لأفكار الإسلام وأحكامه التي هوجمت بأفكار وأحكام رأسمالية، أمّا بالنسبة لمهاجمة الشريعة الإسلامية بالمسائل الجديدة وبالمسائل التي لا توجد إلاّ في المجتمع الرأسمالي للوصول إلى أنها –أي الشريعة الإسلامية- غير قادرة على معالجة المشاكل المتجددة، فإن الصعيد الذي وضعه الغربيون ليجري البحث على أساسه هو إعطاء رأي النظام الرأسمالي في المشكلة، ومهاجمة الإسلام بأنه لا يوجد فيه مثل هذا الرأي، وبأنه لا يقول بمثل هذا القول، ووصلوا من ذلك إلى أن الإسلام تشريع جامد لا يستطيع أن يساير الزمن، ولا أن يعطي الحلول التي تتطلبها مشاكل كل عصر، فهو حين يقصر عن إيجاد إباحة للربا وقد صار العصر يتطلبه، وحين لا يقدر أن يبين حكم التأمين مع أن التجارة والصناعة التي وُجدت في هذا العصر تقتضيه، وحين لا تجد فيه بياناً للعلاقات التجارية بين الدول حسب ما يتطلبها العصر، فإنه لا يصلح أن يكون تشريع أمّة أو نظام دولة في هذا العصر الحديث وفي العصور المتجددة التي تتجدد فيها المشاكل والحوادث بما يتطلبها العصر.

هذا هو صعيد البحث الذي وضعه الغربيون وأجروا البحث مع المسلمين على أساسه، وتحدّوا نظام الإسلام عليه. فجرى المسلمون معهم على هذا الصعيد، ولذلك حصل لديهم الاضطراب لعدم جواز إجراء البحث على هذا الصعيد، بل لعدم إمكانية إجرائه عليه مع بقائه بحثاً منسجماً مع أصوله وفروعه. فإن صعيد البحث متى اختلف فقد اضطرب البحث، فصعيد البحث هنا هو هل الشريعة الإسلامية تصلح لأن تكون ميداناً للتفكير فيمكن استنباط جميع أنواع العلاقات بين الإنسان من أدلتها؟ وهل يفسح فيها مجال واسع للتعميم فيمكن بمنطوق أدلتها ومفهومها أن تشمل الحوادث المتجددة والمتعددة لتنجر أحكامها عليها؟ وهل هي تربة خصبة لإنبات القواعد الكلية والأفكار العامة؟ وهل فيها قابلية لأن تعالج مشاكل الشعوب المختلفة البيئات والجنسيات؟ فإذا كانت كذلك كانت شريعة صالحة، وإلاّ فلا.

وللاستدلال على هذا تُعرض المسائل الجديدة عليها ويُطلب رأيها فيها وتُبحث فيها نصوصاً من حيث إمكانية الاستنباط للأحكام والقواعد، وإمكانية اندراج المسائل المتعددة تحتها. وهذا هو صعيد البحث. أمّا طلب إعطاء الرأي الذي يقوله النظام الرأسمالي، أو يسود في العصر، أو تقول به الأكثرية، فهذا ليس صعيداً للبحث ولا يجوز أن يكون، لأن الموضوع هو صلاحية الشريعة للعصر ولكل عصر وليس إخضاعها لأن تكون قابلة لتعطي رأياً معيناً. وعلى هذا يُبحث في أصل التشريع الغربي والأساس الذي يقوم عليه، ثم يُبحث في كونه صالحاً لأن يعالج مشاكل كل عصر ويبقى على ما هو عليه كما ورد في أساسه، أم غير صالح إلاّ بالتأويل والتفسير والبعد عن الأساس. ويُبحث في التشريع الإسلامي والأساس الذي يقوم عليه، ثم يُبحث في كونه صالحاً لأن يعالج مشاكل كل عصر ويبقى كما هو عليه كما ورد في أساسه من غير أي بعد عن الأساس.
وبهذا يتبين واقع التشريع الحق من واقع التشريع الباطل. فالتشريع الحق هو الذي يكون أساسه حقاً مطابقاً للواقع وللفطرة، ويكون هذا الأساس يقينياً مقطوعاً به لا ظنياً فيه قابلية الخطأ والصواب. وأمّا صلاحيته لكل عصر ولكل شعب ولكل جيل فإنها تظهر بقدرته على إعطاء رأي في أي مشكلة تعرض للإنسان في أي زمن وفي أية بلاد، أي بكونه خطوطاً عريضة يُستنبط منها كل حل دون أن يَبعُد عن الأساس الذي قام عليه، بل دون أن يبتعد عن الخطوط العريضة نفسها المنبثق عنها هذا الحل. فإذا توفر في التشريع ذلك كان صالحاً لكل عصر، وإذا لم يكن قادراً على إعطاء الرأي إلاّ بالتفسير والتأويل والبعد عن الأساس وعن الخطوط العريضة فإنه يكون تشريعاً خاصاً بشعب معين وبوقت معين، ولا يصلح للإنسان، ولا يصلح حتى لهذا الشعب إلاّ لفترة معينة، ثم تنتهي صلاحيته فيُغيَّر ويؤتى بغيره. فكان ينبغي أن تُعرض المسائل المتجددة على الإسلام من حيث واقع المشكلة لا من حيث رأي النظام الرأسمالي فيها، فيُنظر حينئذ إذا كان يمكن أن يُستنبط حل لها من خطوطه العريضة ويبقى على الأساس الذي قام عليه الإسلام وعلى أساس الخطوط العريضة نفسها أم لا.

والناظر في التشريعين الغربي والاسلامي يجد أن التشريع الغربي باطل الأساس، فاسد المعالَجات، عاجز عن إعطاء الحلول للمشاكل الجديدة إلاّ بعد ترك الأساس والبعد عنه وإعطاء حل لا يمُت إليه بصلة بل يناقضه. والناظر في التشريع الإسلامي يجد أنه صحيح الأساس، وأن أساسه قطعي وليس بظني، وأن معالجاته حقة مطابقة للواقع ولفطرة الإنسان وأنه فيه القدرة على استنباط أي رأي لأية مشكلة دون أي بُعد عن الأساس الذي يقوم عليه، أو عن الخطوط العريضة التي تُستنبط منه.

أمّا بالنسبة للتشريع الغربي فإنه يقوم على أساس فهم الحق فهماً خاطئاً، ويبني على هذا الفهم جميع نظرياته التشريعية. فقد عرّف الحق لدى الغربيين "بأنه مصلحة ذات قيمة مالية يقررها القانون". فهذا الفهم للحق خطأ، ولذلك كانت جميع التشريعات التي بنيت عليه فاسدة. أمّا وجه الخطأ فيه فإن واقع الحق ليس مصلحة ذات قيمة مالية، بل هو مصلحة مطلقة، فقد تكون ذات قيمة مالية، وقد لا تكون ذات قيمة مالية. فتخصيص الحق بالمصلحة ذات القيمة المالية يؤدي إلى شيئين: أحدهما، أنه لا يشمل المصلحة التي ليست ذات قمية مالية كالزواج والطلاق ونحوهما مما تتضمنه الحقوق الزوجية، وكحقوق الأسرة جميعها. ولا يشمل كذلك المصالح ذات القيمة المعنوية مثل المحافظة على الشرف والكرامة مما هو حق الإنسان لأنه لا قيمة مالية لها ولا يمكن تقديرها بقيمة مالية تقديراً حقيقياً على الإطلاق. وثانيهما، أن تقدير الأشياء بالقيمة المالية يحتاج إلى وحدة تكون أساساً للتقدير. والحق هو ذاته أساس ولا يمكن إيجاد وحدة لتقدير قيمته. ولذلك كان تعريف الحق على هذا الوجه فاسداً.

وأيضاً فإن الغربيين قد قُسم الحق لديهم إلى قسمين رئيسيين: حق يتعلق بعلاقة الشخص ويسمى الحق الشخصي، وحق يتعلق بعلاقة الشخص والمال ويسمى الحق العيني. والحق الشخصي في نظرهم هو رابطة بين شخصين دائن ومدين. وقد عرّفوه "بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخوّل الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو القيام بعمل أو بالامتناع عن عمل"، والحق الشخصي هو الالتزام، وعلى أساسه عولجت المعاملات التي يسمونها المعاملات الشخصية مثل الحوالة والبيع والمقايضة والشركة والهبة والصلح والإجارة والعارية والوكالة والوديعة والرهان والكفالة. أمّا الحق العيني فهو ليس علاقة في نظرهم وإنّما هو سلطة أعطاها القانون لشخص معين على شيء معين، وقد عرّفوه "بأنه سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين". والحق العيني متعلق بالمال لا بالشخص. وعلى أساس الحق العيني عولجت المعاملات التي يسمونها المعاملات العينية مثل حق الملكية وأسباب كسب الملكية والرهن العقاري والتأمين على الحياة وحقوق الامتياز.

فهذا التقسيم للحق لا وجه له، ولا يوجد فرق بين ما أطلقوا عليه اسم الحق الشخصي وما أطلقوا عليه اسم الحق العيني، ولا يوجد فرق في المعاملات التي فرّعوها عليهما. فلا يوجد فرق بين الإجارة ورهن العقار، فكيف جُعلت الإجارة من الحق الشخصي وجُعل رهن العقار من الحق العيني، مع أن كلاً منهما علاقة بين شخصين موضوعها المال؟

على أن التعريف فرضي مبني على فروض منطقية وليس هو وصف واقع ولا حكماً على واقع، فحين عرّفوا الحق العيني بأنه سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين، فإن هذا التعريف يعني حسب مدلوله أن العلاقة ناشئة بين الشخص والشيء وليست بين شخص وشخص، ولكن الواقع أن العلاقة ليست ناشئة بين الشخص والشيء بل هي علاقة ناشئة بين الشخص والشخص وموضوعها الشيء. والمعاملات التي أدخلوها تحت مدلول الحق العيني من مثل أسباب التملك ورهن المنقول ورهن العقار والتأمين على الحياة كلها تدل صراحة على ذلك ولا تدل على غيره، أي هي علاقة بين الشخص والشخص وموضوعها الشيء، وليست هي علاقة بين الشخص والشيء.
[/size]
  #5  
قديم 06-07-2005, 09:21 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]وكذلك حين عرّفوا الحق الشخصي بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخوَّل الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل، فإن هذا التعريف يعني حسب مدلوله أن الحق هو رابطة بين شخصين سواء وُجد شيء أم لم يوجد، لكن الواقع أن العلاقة لا توجد بين شخصين وجوداً يتكون منه الحق إلاّ إذا وُجد شيء تتعلق به العلاقة. فالشيء هو موضوع العلاقة، بل هو أساس العلاقة. ثم إن هذه العلاقة التي سموها رابطة لا تخوِّل أحد الشخصين مطالبة الآخر حتى يقال تخوِّل الدائن مطالبة المدين، بل تخوِّل كل واحد من الشخصين مطالبة الآخر. والمعاملات التي أدخلوها تحت مدلول الحق الشخصي من مثل البيع والإجارة والصلح، كلها تدل بصراحة على أن الشيء هو أساس العلاقة ولولاه لَما وُجدت العلاقة ولَما وُجد الحق، وتدل كذلك على أن كلاً من الشخصين تخوّله العلاقة مطالبة الآخر، إلاّ أن نوع المطالبة يختلف، فالبائع يطالب بالثمن والمشتري يطالب بالسلعة، وهكذا.

على أن تقسيم الحق إلى شخصي وعيني لا معنى له في الواقع ونفس الأمر، لأن القضية تتعلق بعلاقة الشخص سواء أكانت مع شخص آخر ومعه شيء كالبيع، أو كانت مع شي ومعه شخص كالهبة، أو مع شيء فقط كالوقف الخيري. ولذلك لا يوجد فرق بين القسم الأول المتعلق بما سموه بالحق الشخصي، ولا بين القسم الثاني المتعلق بما سموه بالحق العيني، إذ لا فرق بين الرهن وحقوق الامتياز وما شاكلها مما ذُكر في الحق العيني وبين الحوالة والبيع والشركة والإجارة والوكالة وما شاكلها مما ذُكر في الحق الشخصي، لأن الموضوع علاقة من الإنسان تتعلق إما بالشخص وموضوعها المال، وإما بالمال مضافاً إلى الشخص، وإما بالمال فقط، وهذه الثلاث كلها شيء واحد هو تنظيم علاقة الإنسان. ولهذا كان تقسيم الحق من حيث هو وتقسيمه هذا التقسيم بالذات فاسداً.

وأيضاً فإن التشريع الغربي يبرز فيه ما يسمى بالقانون المدني أي التشريع المتعلق بجميع المعاملات سواء التي تنظم علاقة الفرد بأسرته أو التي تنظم علاقة الفرد بغيره من الأفراد من حيث المال. والهجوم على التشريع الإسلامي إنّما كان بالقانون المدني. فهذا القانون المدني قد خلص الغرب إليه من تقسيم الحق إلى شخصي وعيني. فقد جعلوا الحق الشخصي هو الالتزام، وعلى هذا الأساس وُضعت نظرية الالتزام، وكانت هي الأصل الفقهي لجميع القوانين الغربية سواء التقنينات اللاتينية أو الجرمانية.

فإنها كلها تقوم على نظرية الالتزام. وقد عُرّف الالتزام عدة تعاريف وكلها تدور حول جعل محل الالتزام إعطاء شيء أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل. فقد عُرّف الالتزام "بأنه اتفاق يلتزم بمقضاه شخص أو أكثر نحو شخص آخر أو أكثر بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل"، وعُرفّ "بأنه حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل". وإذا قُرنت هذه التعاريف بتعريفهم للحق الشخصي "بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخوَّل الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل"، يبرز أن نظرية الالتزام هي عينها الحق الشخصي. فكانت الخطوة الثالثة من أسس التشريع، إذ عرّفوا الحق، ثم قسّموا الحق إلى قسمين عيني وشخصي، ثم أقاموا على الحق الشخصي نظرية الالتزام وجعلوها أساس القوانين المدنية كلها في الغرب.

وتعتبر هذه النظرية أهم النظريات في التقنينات الغربية جميعها. والناظر في الفقه الغربي وفي التقنينات الغربية جميعها يُستدل من العناية الكلية بها على ما لها من شأن وخطر، فهي من القانون المدني عندهم، بل من القانون عامة بمثابة العمود الفقري من الجسم. فإذا ظهر فسادها وعدم صلاحيتها تبين بوضوح فساد جميع التقنينات الغربية، وظهر فساد جميع القوانين المتفرعة عنها. وبذلك تبرز الغرابة والدهشة من مهاجمة الغرب بمعالجات هذه القوانين الفاسدة أحكام الإسلام، وتحديه بهذا التشريع الباطل تشريع الإسلام الحق، ثم يُهزم أمامه المسلمون.

ولنرجع إلى نظرية الالتزام أو الحق الشخصي، فنقول إن الالتزام عندهم أو الحق الشخصي يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين، وهذه الرابطة التي يقوم عليها الالتزام هي في نظرهم سلطة تُعطى للدائن على جسم المدين لا على ماله، وهذا هو الذي يميز عندهم بين الحق العيني والحق الشخصي، فالأول سلطة تعطى للشخص على شيء، والثاني سلطة تُعطى للشخص على شخص آخر. وبناء على ذلك كانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة يدخل فيها الإعدام وحق الاسترقاق وحق التصرف. وبناء على قيام هذه النظرية على حرية الفرد فإنها كذلك تقضي بترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم بما أراد مهما أصابه من غُبن في ذلك، فهو حر في الالتزام، فإذا التزم كان عليه جبراً الوفاء بما التزم به. وقد جعلوا للالتزام مصادر وحاولوا أكثر من مرة ترتيب مصادر الالتزام.

والناظر في نظرية الالتزام أو الحق الشخصي يمكنه أن يتبين فسادها رأساً من بطلان تعريف الحق وحده لأنها انبثقت عنه، ويتبين له فسادها من تقسيم الحق إلى عيني وشخصي لأنها نتيجة لهذا التقسيم وجزء منه. ولكن لأجل أن يضع المرء اصبعه على المعاملات الفاسدة التي نشأت عن هذه النظرية حتى يحس ويلمس فساد التشريع الغربي، نعرض لبعض ما في هذه النظرية من خطأ وفساد.

فتعريف النظرية بأنها "اتفاق يلزم بمقتضاه.. الخ"، يعني جعل الالتزام اتفاقاً، وعلى ذلك فإنه لا يشمل المعاملات التي لا يوجد فيها اتفاق كالهبة مثلاً مع أنها عندهم من الحق الشخصي، وتخرج عنه المعاملات التي تصدر عندهم من شخص واحد ولا تتوقف على غيره كالمعاملات التي يسمونها بالإرادة المنفردة، مثل شركات المساهمة والجمعيات التعاونية وكالوصية والوعد بجائزة، مع أنهم جعلوها داخلة تحت نظرية الالتزام وتشكل مصدراً من مصادره. فضلاً عن أن هناك معاملات أخرى تحصل عند البشر ولا يشملها هذا التعريف مثل الوقف الخيري، وإعطاء الزكاة والصدقات وما شاكل ذلك. وهذا يدل على فساد التعريف. وبما أنه وصفٌ لواقع، فيكون الواقع الذي وصفه فاسداً أو يكون التعريف نفسه فاسداً، فلا بد من التدقيق في هذا الواقع لإعادة تعريفه. وأيضاً تعريف النظرية بأنها "حالة قانونية بمقتضاها.. الخ"، يعني جعل الالتزام حالة قانونية مع أن حقيقته هو علاقة يقرها القانون وليس حالة قانونية فحسب. فمثلاً أمْر الدولة الناس أن لا يقطعوا أحراشاً معينة أو الاحراش بشكل عام هو حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن يمتنع عن عمل. وعلى هذا تكون هذه الحالة حسب التعريف من القانون المدني مع أنها ليست منه، أي تكون من الالتزام مع أنه لا صلة لها بالالتزام. وبهذا يتبين فساد هذا التعريف أيضاً.

أمّا قولهم إن الإلزام يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين، فهو خطأ، سواء قيل عنها رابطة شخصية أو رابطة مادية، لأنها ليست رابطة وإنّما هي علاقة للإنسان وُجدت من جراء محاولته إشباع حاجاته العضوية وغرائزه، ومن جراء عيشه مع غيره من بني الإنسان. ولذلك قد تكون علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة، وقد تكون علاقة من شخص واحد مثل إنشاء الطلاق والوصية والوقف. فليس المقصود هو وجود شخصين، ولا وجود شخص وشيء، وإنّما المقصود هو معالجة مشكلة للإنسان علاجاً ينظم غرائزه وحاجاته العضوية وينظم علاقاته.

على أن الحقيقة التي يدل عليها واقع حياة الإنسان بوصفه إنساناً هي أن الالتزام من حيث هو غير موجود، وأن القضية هي علاقة بين إنسان وإنسان موضوعها المصلحة التي يقررها القانون، وهذه العلاقة ينظمها القانون. وأن الوقائع أو المسائل أو المشاكل التي تحدث من الإنسان هي المصدر لهذه العلاقة، والقانون هو الذي يقرر اعتبار هذه العلاقة، ولا يوجد شيء غير ذلك. ولا يوجد في الموضوع التزام لا بالمعنى الشخصي ولا بالمعنى المادي، لأن المسألة ليست رابطة بين دائن ومدين، ولا توجد هذه الرابطة مطلقاً ولا هي رابطة بين شخص ومال، أو سلطة لشخص على مال. وإنّما الموضوع يتلخص في أن هناك علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة، وقد تكون مالاً وقد تكون غير مال، وقد تكون العلاقة عند الإنشاء وقد تكون عند التنفيذ. وهذه العلاقة توجدها المصلحة أي جلب منفعة أو دفع مضرة، وينظمها القانون. فالبيع علاقة بين شخصين عند الإنشاء موضوعها المال، والوعد بإعطاء جائزة لمن عثر على ضائع علاقة بين شخصين عند التنفيذ موضوعها المال، والزواج علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة وهي هنا ليست المال. ويتلخص كذلك أنه توجد إلى جانب العلاقة بين شخصين علاقة ناشئة عن المال فقط مثل الوقف الخيري، وإعطاء الزكاة والصدقات، وإقامة المعابد، وإنشاء السبيل العام من مراعٍ ومياه للشرب والسقي وما شابه ذلك.

وعلى ذلك فإن الالتزام بالمفهوم الذي ذكره التشريع الغربي وبُني عليه جميع القوانين الغربية غير موجود لا بالمذهب الشخصي ولا بالمذهب المادي. والالتزام من حيث هو بالمعنى الذي أرادوه وهو الحقوق الشخصية أيضاً غير موجود، وعلى ذلك ليست المعاملات سلطة من شخص على مال، ولا هي رابطة بين شخصين، وإنّما هي علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة التي يقرها القانون. وينطبق ذلك على المعاملات التي تحصل بين شخصين عند الإنشاء كالإجارة، أو بين شخصين عند التنفيذ كالوعد بجائزة لمن يقوم بعمل أي الجُعل، كما ينطبق على المعاملات التي تصدر من شخص واحد كالوصية والطلاق والوقف وما شابه ذلك. وعليه فنظرية الالتزام نظرية مغلوطة. وعلى ذلك تكون جميع الاجتهادات الفقهية التي بنيت على أساسها أو انبثقت عنها مغلوطة مهما تفرعت وتنوعت لأنها جميعها فروع لأساس فاسد.

ومما يجعل المرء يلمس ويحس مادياً فساد نظرية الالتزام هذه هو استعراض موقفها حين عرضت لها المشاكل المتجددة والمتعددة في المجتمع مع سير الزمن، فإنها لم تَثبُت لهذه المشاكل ولم يستطع أصحابها الصمود عليها، مما اضطرهم إلى التأويل والتفسير والبُعد عنها حتى استطاعوا إيجاد حلول للمشاكل المتجددة. فهذه النظرية كانت منذ عهد الرومان، وجميع التقنينات الغربية نقلتها عن الرومان واستعملتها في أول الأمر دون تغيير يُذكر. لكن لمّا بدأت مشاكل الحياة تتجدد ظهر فساد هذه النظرية للذين نقلوها، وبرز لهم عدم صلاحيتها، فاعتبروا هذا الفساد قصوراً عن الإحاطة بالمشكلات وليس لكونها باطلة. وأخذوا يغيّرونها زاعمين أنها تتطور. أي أخذوا يبتعدون عنها ويغيرون أصولها بحجة التطوير أي الانتقال من حال إلى حال، وبحجة المرونة أي قابلية التفسير.

والحقيقة أن هناك عوامل متعددة أبرزت فساد النظرية وأثرت عليها حتى تغيرت كثيراً وتبدلت على مختلف العصور، فالنظريات الاشتراكية التي ظهرت في أوروبا قبل ظهور المبدأ الشيوعي أظهرت عدم صلاحية نظرية الالتزام فاضطر الفقهاء لأن يغيروا نظرتهم للالتزام. فعقد العمل قد أُدخلت عليه قواعد وأحكام تهدف إلى حماية العمال وإلى إعطائهم من الحقوق ما لم يكن من قبل، كحرية الاجتماع وحق تكوين النقابات وحق الإضراب. ونص نظرية الالتزام الرومانية لا يبيح إحداث مثل هذه القواعد ولا يبيح مثل هذه الحقوق. ونظرية العقد ذاتها التي تقول إنها تَوافُق إرادتين على إنشاء التزام، كانت قوة الالتزام فيها تبنى على إرادة الشخص فصارت تبنى على التضامن في الجماعة أكثر مما تقوم على إرادة الفرد.
  #6  
قديم 06-07-2005, 09:22 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]وهذه نظرية الغُبن لم تكن موجودة بل لم تكن نظرية الالتزام تجيزها. فقد كانت النظريات الفردية تقضي بوجوب ترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم بما أراد مهما أصابه من غُبن في ذلك. ولمّا تبين فساد هذه النظريات الفردية وفساد نظرية الالتزام أُدخلت نظرية الغُبن على بعض العقود ثم أخذت تتسع حتى أصبحت في القوانين الحديثة نظرية عامة تنطبق على جميع العقود.

وهكذا كان لنشوء أفكار عن الحياة تخالف الأفكار القديمة، وظهور فساد الأفكار القديمة، أثر على نظرية الالتزام فأبرز فسادها.

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كان استعمال مختلف الآلات الميكانيكية وتقدم الصناعة ووجود حروب عالمية قد أوجد مسائل عملية تُبرز فساد نظرية الالتزام. إذ أن استعمال الآلات اقترن بمخاطرة جمة يستهدف لها الناس، ولم تكن نظرية الالتزام تجعل المسؤولية إلاّ على الشخص، فظهر عدم صلاحيتها وُوضع المسؤولية على الخطأ المفروض. فبعد أن كان الشخص لا يدفع تعويضاً عن الضرر الذي يحدث لشخص آخر إلاّ إذا قام هو بالعمل الضار متعمداً الأضرار بالغير، صار يدفع تعويضاً كذلك عن الضرر إذا صدر هذا الضرر عن الأشياء التي يملكها الشخص، أي صار يُلزِم من فُرض أنه ارتكب الخطأ بتعويض الضرر، وصار إلحاق أي أذى في العامل يُلزِم صاحب العمل بالتعويض. وهذا لا تقضي به نظرية الالتزام.

وصار عقد التأمين في القوانين الغربية لا يقتصر على الشخص بل يشمل الغير، فوُجدت نظرية الاشتراط لمصلحة الغير، كما إذا أمّن شخص على حياته لمصلحة أولاده سواء أكان له أولاد وقت التأمين أم لم يكن له أولاد حين التأمين. وهذا يخالف نظرية الالتزام لأنها رابطة بين شخصين، والأولاد الذين لم يوجَدوا بعد لا يدخلون في هذه الرابطة، مع أن العقد في القوانين الغربية أصبح يُدخلهم.

وعلاوة على ذلك فإن نظرية الوفاء بعملة نقص سعرها، وفي التسعير الجبري للسلع، والتقدير الجبري للأجر، وفي عقود التزام المرافق العامة، ما يناقض نظرية الالتزام، ومع ذلك أُدخل في القوانين الحديثة. وهي تدل على فساد نظرية الالتزام وعدم صلاحها.

وزيادة على ذلك فإن النظرية التي تقضي بأن الغش يفسِد العقد، والقاعدة القائلة بأنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف الآداب والنظام العام، والالتزام بوجوب الامتناع عن الإضرار بالغير دون حق، كما إذا رعت دابة زرع آخر بسبب إهمال صاحبها، والإثراء بلا سبب الذي يمنع الشخص من أن ينتفع على حساب غيره كمن يقيم بناء على أرض الغير أو يدفع ديْناً غير موجود، أي العمل الفضولي، كل ذلك يخالف نظرية الالتزام، ويدل على فسادها، لأنها تقييد وليست حرية، وهي تناقض الحق الشخصي وتهدمه على اعتبار أنه حق مطلق غير مقيد.

على أن الالتزام من حيث هو عندهم يقوم على رابطة قانونية بين الدائن والمدين توجِب على الشخص أن ينقل حقاً. وهذا يعني عدم اشتراط الرضا بالحوالة، أي توجد الحوالة دون رضا المحال عليه بحوالة الحق، وعدم اشتراط رضا الدائن بحوالة الدين، لأن الحالة القانونية تلزم الشخص بنقل الحق عيناً أو ديناً. وهذا لا يضمن تحقيق العدل، ولذلك ظهر فساده، فمجرد تبليغ المحال عليه لا يكفي، بل لا بد من قبوله، لأن العقد في الحوالة كما في غيرها يجب أن يكون برضا أطراف العقد.

هذا إجمال لبعض المشاكل المتجددة التي عرضت لنظرية الالتزام، ومنه يتبين أنها لا تصلح ميداناً للتفكير، لأن كثيراً من أنواع العلاقات بين بني الإنسان لا يمكن استنباطها منها، مثل كون الغش يفسد العقد، وهي لا تصلح لأن تكون مجالاً للتعميم، لأن المسؤولية على الخطأ المفروض كالأذى الناتج عن الآلة وحوالة الدين، والاشتراط لمصلحة الغير مثل التأمين على الأولاد الذين لم يولدوا، والإرادة المنفردة مثل الوقف الخيري بل مثل شركة المساهمة في النظام الرأسمالي، وما شابه ذلك من العقود والمعاملات لا يمكن أن تشملها لا بمنطوق ولا بمفهوم. ولذلك فهي قاصرة، وهي كذلك لا تصلح لإثبات كثير من القواعد العامة مثل قاعدة عدم جواز الاتفاق على ما يخالف الآداب والنظام العام، ومثل نظرية الغُبن في العقود. وليس فيها قابلية لتوحيد مختلف الشعوب والبيئات في تشريع واحد، بدليل ظهور قصورها حين ظهرت النظريات الاشتراكية وحين تقدمت الصناعة. وهي من أساسها خاطئة لأنها تقوم على حرية الملكية والحرية الشخصية، وهذه الحرية للشخص وفي الملك هي التي تسبب الفساد بين الناس، وهي التي تمكّن من الاستغلال والاستعمار، لأن إعطاء الحرية في التملك وإعطاء الحرية الشخصية يحميه القانون حين بُني على نظرية الالتزام، وفي ذلك الفساد والشقاء.

هذا هو واقع التشريع الغربي الذي تحدى التشريع الإسلامي، أو بعبارة أخرى هذا هو واقع النظام الرأسمالي الذي تحدى نظام الإسلام. أمّا التشريع الإسلامي الذي أوسعه الغربيون هجوماً ونقداً فهو ليست نظريات ظنية تنبثق عنها الأحكام والمعالجات كما هي الحال في التشريع الغربي، وإنّما هو منبثق عن عقيدة عقلية قطعية لا يتطرق إليها ارتياب. فليس أصله نظرية في الحق، ولا هو منبثق عن نظرية الحق الشخصي أو الحق العيني، وإنّما أصله عقيدة جازمة توصّل إليها العقل وقطع يقينياً بها. فما انبثق عن هذه العقيدة فهو تشريع إسلامي، وما لم ينبثق عنها فليس بتشريع إسلامي. فأيهما التشريع الحق: التشريع المنبثق عن عقيدة عقلية لا يتطرق إليها ارتياب أم التشريع المنبثق عن نظريات ظنية، ولا سيما إذا كانت نظريات ظهر فسادها من حوادث الزمن وبرهن تعريفهم لها على عدم مطابقتها للحقيقة والواقع؟
  #7  
قديم 06-07-2005, 09:23 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]
التشريع الإسلامي منبثق عن العقيدة الإسلامية أي عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبعبارة أخرى منبثق عن الكتاب والسنّة المقطوع عقلاً بأنهما وحي من الله، فما فُهم منهما من أدلة وقواعد وأحكام هو التشريع الإسلامي. وعليه فإنه حين يُبحث التشريع الإسلامي أو يُبحث الإسلام من حيث هو إنّما يُبحث على أنه وحي من الله وليس من وضع البشر. وهذا هو أساس القضية في بحث الإسلام، وأساس النظرة إلى الإسلام. ولذلك يجب أن يقوم البرهان العقلي اليقيني أولاً على أن الإسلام وحي من الله، ثم يؤخذ التشريع مما جاء به الوحي أي من هذا الذي قام البرهان العقلي اليقيني على أن الله أوحى به نظاماً لبني الإنسان.

أمّا كون الإسلام وحياً من الله، فإن الإسلام هو ما جاء به القرآن وحديث الرسول. فأمّا القرآن فقد ثبت بالدليل القطعي أنه كلام الله، وذلك أن القرآن كتاب عربي جاء به محمد وقال إنه من عند الله. فهو إما أن يكون من العرب ونَقَلَه محمد عنهم، وإما أن يكون من محمد هو الذي قاله وادّعى أنه من عند الله، وإما أن يكون من الله حقاً وصدقاً. ولا يمكن أن يكون من غير واحد من هؤلاء الثلاثة لأنه عربي اللغة والأسلوب
أما أنه من عند العرب فباطل لأنه تحداهم جميعاً أن يأتوا بمثله (قل فأتوا بسورة من مثله) (قل فأتوا بسورة مثله) (قل فأتوا بعشر سور مثله)، وقد حاولوا أن يأتوا بمثله وعجزوا عن ذلك، فهو إذن ليس من كلامهم لعجزهم عن الإتيان بمثله مع تحديه لهم ومحاولتهم الإتيان بمثله. وأمّا أنه من محمد فباطل لأن محمداً عربي من العرب، ومهما حاول العبقري فهو من البشر وواحد من مجتمعه وأمّته، وما دام العرب لم يأتوا بمثله فيصدق على محمد العربي أنها لا يأتي بمثله، فهو ليس منه. علاوة أن لمحمد أحاديث صحيحة وأخرى رُويت عن طريق التواتر الذي يستحيل معه إلاّ الصدق، وإذا قورن أي حديث بأي آية، لا يوجد بينهما تشابه في الأسلوب، وكان يتلوا الآية المنزلة ويقول الحديث في وقت واحد وبينهما اختلاف في الأسلوب. وكلام الرجل مهما حاول أن ينوعه فإنه يتشابه في الأسلوب لأنه جزء منه، وبما أنه لا يوجد أي تشابه بين الحديث والآية في الأسلوب، فلا يكون القرآن كلام محمد مطلقاً للاختلاف الواضح الصريح بينه وبين كلام محمد. وإذا كان الرجل لا يستطيع أن يخرج عن عصره فلا يملك أن يقول كلاماً غير كلام أهل عصره مهما حاول أن يقلد، فلا يمكن أن يخرج عن ذاته، أي لا يمكن أن يقول كلاماً غير كلام ذاته في المعاني والأسلوب من باب أوْلى. والنقاد للكلام قد أخرجوا الشعر المنسوب للعصر الجاهلي وقيل بعده بأنه ليس بجاهلي، وميّزوا الكلام بأنه قيل في عصر كذا، أي في العصر العباسي أو الأموي أو الأندلسي، مما يقطع بأن المرء لا يخرج عن كلام عصره ولا يخرج عن كلام نفسه، ولمغايرة القرآن أسلوباً لحديث محمد، فإن القرآن ليس كلام محمد. وبما أنه ثبت أن القرآن ليس كلام العرب، ولا كلام محمد، فيكون كلام الله قطعاً، ويكون معجزة لمن أتى به.

وأمّا كون حديث الرسول وحياً من الله فإنه يدل عليه كونه رسول الله، فالحديث كالقرآن هو رسالته التي أوحى الله له بها، وبما أنه ثبت أن محمداً رسول الله لأنه هو الذي أتى بالقرآن وهو كلام الله وشريعته، ولا يأتي بشريعة الله إلاّ الأنبياء، فهو قطعاً رسول ونبي. لذلك فإن حديثه وحي من الله لأنه حديث رسولٍ أرسله الله. على أن القرآن الذي ثبت قطعاً أنه كلام الله ينطق بصراحة على أن حديث الرسول وحي من الله، قال تعالى: (إن أتّبِعُ إلاّ ما يوحى إليّ) وقال: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) وقال: (قل إنما أنذركم بالوحي).

وبهذا يكون قد قام البرهان العقلي اليقيني أن الكتاب والسنّة وحي من الله، وبما أنهما هما وحدهما الشريعة الإسلامية فإنه يكون قد ثبت بالدليل العقلي اليقيني على أن الشريعة الإسلامية وحي من الله. فلا بد أن يكون كل فكر ورد في الكتاب والسنّة وحياً من الله، وبالتالي لا بد أن يكون كل ما يُستنبط من الكتاب والسنّة هو من الوحي. وبذلك يتبين أن الشريعة الإسلامية ليست نظريات ظنية تطبق على الوقائع المتجددة، وإنّما هي معانٍ عامة جاء بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحياً من عند الله، وهذه المعاني العامة تطبق على الوقائع المتجددة ويُستنبط من تطبيقها هذا أحكامُ هذه الوقائع، وهذه الأحكام نفسها المستنبَطة تعتبر من الوحي، ولذلك عرّف العلماء الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، أي هو عينه ما خاطب به الله الرسول ليبلغه للناس، لأنه أُخذ من لفظ الخطاب أو من معناه.

هذا هو الأساس الذي يجب أن يُبنى البحث في الشريعة الإسلامية عليه، وهي أنها وحي من الله. وهذه هي النظرة التي يجب أن يُحصر الاتجاه بها، وهي نظرة إلى شريعة جاءت من الله. فإذا ثبت أنها جاءت من الله فيُبحث فيها على هذا الاعتبار، أي اعتبار أنه يُبحث في شريعة الله، وحين يُستنبط الحكم يُستنبط على أنه مأخوذ من شريعة الله، وحين يُنظر لنوع معالجاته للمشكلة يُنظر إليه على أنه علاج من الله فيُتخذ مقياسه من حيث الأصل الذي انثبق عنه لا من حيث موافقته لذوق المعالج له أو عدم موافقته، ولا من حيث اتفاقه مع ما يسود في العصر أو اختلافه معه، لأن القصد من العلاج أن يكون علاجاً حقاً، والحق هو ما جاء من عند الله.

فالقضية في الشريعة الإسلامية حتى يتبين صحتها وكونها شريعة صالحة للناس في كل عصر وفي كل جيل يجب أن يُبحث هل هي من عند الله أوحى بها شريعة للناس، فإذا ثبت هذا كانت قطعاً هي شريعة الحق، لأن من صفات الإله التي تقتضيها الألوهية الاتصاف بصفات الكمال المطلق والتنزه عن صفات النقص، فإذا ثبت أن هذه شريعته كانت صحيحة وصالحة على الوجه الذي جاءت عليه. وإذا ثبت أنها جاءت للناس جميعاً في كل عصر وفي كل جيل (إنا أرسلناك كافة للناس) (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)، كان من المحتم أن تكون ميداناً للتفكير تُستنبط منها جميع علاقات الإنسان وكان فيها المجال الواسع للتعميم فتشمل جميع الحوادث المتجددة والمتعددة، وتكون بالتأكيد تربة خصبة لإثبات القواعد الكلية والأفكار العامة. وما دامت للإنسان من حيث هو إنسان فإنها ولا شك تعالج مشاكل جميع الشعوب مهما اختلفت جنسياتها وبيئاتها. وهذا كله يحتمه كونها شريعة من عند الله أوحى بها لنبيّه ليبلغها للناس ليعملوا بها.

هذه هي القضية في الشريعة الإسلامية وهي كونها خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، أي كونها علاجاً للمشاكل أوحى به الله. فإذا حرم الربا فإنه لا يُسأل هل هذا التحريم موافق للعصر أو غير موافق، أو يتفق مع المدنية الحديثة أم لا، وإنّما يُسأل هل هذا التحريم استُنبط مما جاء به الوحي من الله؟ فإذا كان كذلك كان حكماً صحيحاً وإلاّ فلا. ولا يقال إن هذا التحريم يعطل المعاملات التجارية، ويقطع العلاقات الاقتصادية مع الخارج، ويجعل البلاد في عزلة. لا يقال ذلك لأن الأساس الذي بُنيت وجهة النظر في الحياة عليه هو جعل الشرع مقياس الأعمال، فيجب أن يُحكَّم الشرع وحده، أي أن المقياس هو الحلال والحرام فقط. ولذلك لا يعتبر غيره مقياساً ويُرمى به عرض الحائط.

وكذلك إذا أوجب الله على الزوج نفقة زوجته بالمعروف لمثلها على مثله ولو كانت غنية، لا يُسأل هل هذا الإيجاب متفق مع العصر الحديث أم لا، ولا يقال إن الزوجين يتعاونان على الحياة فيجب أن يتعاونا بنفقة البيت، أو أن النفقة للفقير وهذه غنية، لا يُسأل مثل هذا ولا يقال مثل ذلك، وإنّما يُسأل فقط هل هذا الفرض قد استُنبط مما جاء به الوحي من عند الله؟ فإذا كان كذلك كان حكماً صحيحاً وإلاّ فلا.

وكذلك إذا أباح الله للإنسان أن ينفق من ماله على غير المحرّمات ما شاء كيف شاء، فاشترى لزوجته بنصف مليون دينار حلياً وجواهر وبمليون دينار جهز ملاعب متنوعة خصصها لأولاده يلعبون بها واشترى لكل ولد من أولاده العشرة سبع سيارات يستعمل كل يوم واحدة، لا يقال إذا أباح الله ذلك للإنسان بأن هذا يخالف المصلحة الاقتصادية أو لا يتفق مع مصلحة الشخص، أو لا يرضاه العقل. لا يقال ذلك مطلقاً بل يُسأل فقط هل هذه الإباحة قد استُنبطت مما جاء به الوحي من عند الله؟ فإن كانت كذلك كان حكمها حكماً صحيحاً، وهكذا. فمَلاك الأمر هو قياس صحة الحكم وعدم صحته من كونه مأخوذاً مما جاء به الوحي من عند الله، فإن أُخذ مما جاء به الوحي كان صحيحاً وإلاّ فلا، ولا قيمة لأي اعتبار آخر مطلقاً.
  #8  
قديم 06-07-2005, 09:24 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

هذا من حيث أساس الإسلام، أمّا من حيث واقع الإسلام نفسه، فإن الإسلام أفكار، والفكر هو الحكم على واقع، فالإسلام هو أحكام على وقائع، ولذلك لا بد أن تجرى العملية العقلية في كل ما جاء به، فلا بد أن يكون ما جاء به يدرك العقل وجوده إدراكاً حسياً أو يدرك العقل أصله الذي جاء به، ولذلك لا بد أن يفهم العقل النص الذي حوى ما جاء به، سواء كان لفظه ومعناه من الله، أو كان معناه من الله ولفظه من الرسول، وليس فيه شيء غير ذلك مطلقاً. فليس فيه شيء لا يدرك العقل وجوده أو وجود أصله، وليس فيه نص لا يفهمه العقل. فالإسلام باعتباره أفكاراً أساسه العقل والأداة التي تفهمه هي العقل. ومن هنا كان العقل وحده هو الأساس الذي يقوم عليه الإسلام، والأساس الذي نفهم به نصوص الإسلام، فالإيمان به متوقف على العقل، وفهْم ما جاء به متوقف على العقل. وهو كأي فكر من الأفكار الموجودة في أي بحث لا بد أن يُدرَك وجود واقعها بالعقل، أو يدرَك وجود واقع أصلها الذي نبحث عنه بالعقل، ولا بد في نفس الوقت أن يكون نصها الذي حوى أفكارها مما يفهمه العقل ويدرك معانيه. فليس في نصوص الإسلام طلاسم الله أعلم بها، لا في القرآن ولا في الحديث (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)، فحين يقال إن الإسلام خاضع للعقل فهذا القول صحيح، وكذلك حين يقال إن الإسلام مقياسه العقل فهذا القول أيضاً صحيح لأن العقل هو أساس الإسلام، والأداة التي يتوفف فهمه والعمل به على وجودها في هذا الفهم والعمل.

إلاّ أن العقل له واقع، فلا بد أن يُستعمل العقل حسب واقعه حتى ينطبق على العملية بأنها عملية عقلية. ومن واقع العقل أنه لا بد من وجود واقع محسوس حتى يحصل للعقل وجود، فإذا لم يكن هناك واقع محسوس فلا تحصل العملية العقلية، أي لا يوجد عقل. فلا يوجد إدراك إلاّ إذا كان هناك واقع محسوس، ولا يحصل فكر إلاّ إذا كان هناك واقع محسوس. فإذا لم يكن هنالك واقع محسوس فإن المسألة تكون تخيلاً وتخريفاً ولا تكون عقلاً أو فكراً أو إدراكاً. وعلى ذلك لا يُطلب من العقل أن يدرِك واقعاً غير محسوس لأنه يستحيل أن يدركه، أي يستحيل أن تحصل العملية العقلية، فعليه حينئذ أن يسلّم بوجوده لا بحقيقته إن ثبت وجوده ثبوتاً قطعياً، أو أن يرفضه رفضاً باتاً إن لم يثبت وجوده ثبوتاً قطعياً. وعلى ذلك لا يُطلب من العقل أن يدرك ذات الله لأنها واقع غير محسوس فيستحيل إدراكها، وإنّما أُدرك من واقع المخلوقات أن لها خالقاً يقيناً، فأُدرك بذلك وجود الله إدراكاً حسياً، لأن هذا الموجود له واقع دل عليه وجود المخلوقات. فكون الأشياء المدرَكة المحسوسة موجودة أمر قطعي، لأنها مشاهَدة بالحس. وكون الأشياء المدرَكة المحسوسة محتاجة إلى غيرها، أي لها وصف الاحتياج، أمر قطعي أيضاً، لأنها بالمشاهَدة لا تستطيع التصرف ولا الانتقال من حال إلى حال إلاّ بغيرها، فالنار تحرق إذا كانت المادة الأخرى فيها قابلية الاحتراق، وإذا لم تكن فيها قابلية الاحتراق لا تحرقها، وبعض الأحماض تذيب بعض العناصر ولا تذيب غيرها، وبعض العناصر تتحد مع عناصر أخرى وتتفاعل معها ولا تتفاعل مع غيرها، وذرّتان من الهيدروجين مع ذرة من الأوكسجين تنتج ماء، ولكن ذرتين من الهيدروجين مع ذرتين من الأوكسجين تنتج الماء الثقيل وهو مادة غير صالحة لحفظ استمرار الحياة. فهذه الأشياء لم تستطع أن تتصرف في كل شيء، ولا أن تنتقل من حالة إلى أية حالة أخرى إلاّ ضمن وضع قاصر على حالات معينة، ولا تستطيع سواها إلاّ بإحداث تغيير فيها أو في سواها، أو بعامل آخر، فهي إذن محتاجة حتى لو فُرض أنها محتاجة إلى هذه العوامل وهذه الحالات. فالنار لم تستطع أن تحرق إلاّ بوجود مادة قابلة للاحتراق، فهي حتى تحرق محتاجة إلى المادة القابلة للاحتراق. والأحماض لم تستطع أن تذيب إلاّ عناصر معينة فيها قابلية الذوبان، فهي محتاجة إلى العناصر التي فيها قابلية الذوبان حتى تستطيع أن تُحدِث الإذابة. والعناصر لا تستطيع الاتحاد والتفاعل إلاّ بوجود عناصر فيها قابلية التفاعل والاتحاد، فهي محتاجة إلى العناصر التي فيها قابلية التفاعل والاتحاد حتى تستطيع الاتحاد والتفاعل. والماء حتى يتحول إلى ماء ثقيل محتاج إلى من يضيف إليه ذرة أخرى من الأوكسجين إلى كل ذرتين من الهيدروجين حتى يتحول إلى الماء الثقيل. ولا يقال احتاج إلى ما هو فيه، بل احتاج إلى زيادة كمية إلى ما هو فيه، واحتاج إلى من يوجِد له هذه الكمية، فهو محتاج.

ولا يقال إن الأشياء التي في الكون احتاجت لبعضها ولكنها في مجموعها مستغنية عن غيرها. لا يقال ذلك، لأن الحاجة إنّما تبين وتوضح للشيء الواحد، وتُلمس لمساً ولا تُفرض فرضاً نظرياً لشيء غير موجود، فيُفرض وجوده. فلا يقال إن النار احتاجت لجسم فيه قابلية الاحتراق فلو اجتمعا معاً لاستغنيا ولم يحتاجا إلى غيرهما، لأن هذا فرض نظري. فالحاجة للنار وللجسم القابل للاحتراق، هي حاجة لشيء موجود حساً محسوس بإحدى الحواس أو مدرَك عقلاً، وهو بالطبع مما يقع الحس على مدلوله حتى يتأتى إدراكه عقلاً، فالحاجة لشيء موجود والنار والجسم لا يوجد من اجتماعهما شيء يحصل فيه الاستغناء أو الحاجة، وكذلك الأشياء التي في الكون لا يحصل من اجتماعها شيء يحصل فيه الاستغناء أو الحاجة. فالحاجة والاستغناء متمثلة في الجسم الواحد ولا يوجد شيء يتكون من مجموع ما في الكون حتى يوصف بأنه مستغنٍ أو محتاج. فإذا قيل إن مجموع الأشياء التي في الكون مستغنٍ أو محتاج فإنه يكون وصفاً لشيء متخيَّل الوجود لا لشيء موجود. والبرهان يقوم على حاجة شيء معين موجود في الكون لا مجموعة أشياء يُتخيّل لها اجتماع يتكون منه شيء ويُعطى له وصف الحاجة أو الاستغناء. ولذلك لا يَرِد هذا السؤال، لأنه سؤال فرضي تخيلي وليس هو واقعياً حتى ولا فرضاً نظرياً.

ولا يقال إن الأشياء احتاجت لبعضها فلا يكون دليلاً على أنها محتاجة لخالق. فإن البرهان على إثبات مجرد الاحتياج لا الاحتياج إلى خالق، فمجرد وجود الاحتياج في كل شيء يُثبِت الاحتياج في كل شيء.

ولا يقال إن كل جزء محتاج إلى جزء آخر فالأجزاء جميعها محتاج بعضها لبعض، فالثابت هو أن كل شيء محتاج إلى شيء آخر، وهذا لا يثبِت أن الأشياء محتاجة مطلقاً. لا يقال ذلك، لأن احتياج الشيء ولو إلى شيء واحد في الدنيا يثبت أنه لا يوجد في الكون شيء يستغني الاستغناء المطلق، يعني أنه محتاج ولو لشيء واحد في الوجود، أي ثبت له وصف الاحتياج كمن يمشي خطوة واحدة فقد ثبت له وصف المشي، وكمن يتكلم كلمة واحدة ثبت له وصف التكلم. فالاحتياج والمشي والتكلم وغير ذلك مما يدل على الجنس أي مما يدل على الماهية، فإن ثبوت المرة الواحدة فيه يُثبِت الوصف لماهيته. فمجرد ثبوت الاحتياج إلى شيء واحد، والاحتياج مما يدل على الجنس أي على الماهية، يثبِت وصف الاحتياج لكل شيء في الكون، ولذلك فإن احتياج كل جزء إلى جزء آخر يثبِت له قطعاً وصف الاحتياج. وهذا كله ملموس محسوس بالنسبة إلى جميع الأشياء الموجودة على سطح الأرض.
  #9  
قديم 06-07-2005, 09:27 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

أمّا بالنسبة للكون والإنسان والحياة، فإن الكون مجموعة أجرام وكل جرم منها يسير بنظام مخصوص لا يملك أن يغيره، وهذا النظام إما أن يكون جزءاً منه أو خاصة من خواصه أو شيئاً آخر غيره، ولا يمكن أن يكون غير واحد من هذه الثلاثة مطلقاً. أمّا كونه جزءاً منه فباطل، لأن سير الكواكب يكون في مدار معين لا يتعداه، والمدار كالطريق هو غير السائر، والنظام الذي يسير به ليس مجرد سيره فقط، بل تقييده بالسير في هذا المدار. ولذلك لا يمكن أن يكون هذا النظام جزءاً منه. وأيضاً فإن السير نفسه ليس جزءاً من ماهية الكوكب، بل هو عمل له. ولذلك لا يمكن أن يكون جزءاً منه. وأمّا كونه خاصية من خواصه فباطل، لأن النظام ليس هو سير الكوكب فحسب، بل سيره في مدار معين. فالموضوع ليس السير وحده، بل السير في وضع معين. فهو ليس كالرؤية في العين من خواصها بل هو كون الرؤية في العين لا تكون إلاّ بوضع مخصوص. ومثل كون تحوّل الماء من ماء إلى بخار لا يتأتى إلاّ بنسبة معينة. فالموضوع ليس سير الكوكب، أو رؤية العين، أو تحوّل الماء، بل الموضوع هو سير الكوكب في مدار مخصوص، ورؤية العين في أحوال مخصوصة، وتحوّل الماء بنسبة معينة. هذا الوضع المفروض على الكوكب، وعلى العين، وعلى الماء، هو النظام. وهو وإن كان السير من خواصه، فإن كون السير لا يكون إلاّ بوضع معين، ليس من خواصه، وإلاّ لكان من خواصه أن ينظم سير نفسه. وحينئذ يستطيع أن ينظم نظاماً آخر ما دام من خواصه التنظيم، والواقع أنه لا يستطيع ذلك، ولهذا لا يمكن أن يكون من خواصه. وما دام ليس جزءاً منه وليس من خواصه، فهو غيره قطعاً. فيكون قد احتاج إلى غيره، أي احتاج الكون إلى النظام.

ولا يقال إن كونه يسير في مدار معين هو خاصية ناتجة عن اجتماع الكواكب مع بعضها فنتج عن اجتماعها خاصية كون السير في مدار معين، كالهيدروجين وحده له خاصية، والأوكسجين وحده له خاصية، فإذا اجتمعا معاً صارت لهما خاصية أخرى، وكذلك الكواكب. لا يقال ذلك لأن الهيدروجين والأوكسجين حين اجتمعا كوّنا جسماً آخر، فصارت له خاصية أخرى، فهي خاصية جسم لا خاصية وجودهما في الكون، بخلاف الكواكب فإن الكوكبين أو الكواكب لم تكن لكل منهما خاصية وهي منفردة ثم صارت له خاصية بالاجتماع، بل ظلت هذه الخاصية خاصية لكل كوكب بمفرده خاصية له وحده ولم يجتمعا ولم يكوّنا جسماً واحداً قط، ولذلك تكون الخاصية للكوكب ولا تكون لاجتماع كوكبين أو لاجتماع الكواكب، لأن الاجتماع الذي يشكل جسماً آخر لم يحصل.

وكذلك لا يقال إن هذه هي خاصية الجاذبية. فإن الجاذبية هي الدافع للحركة، كالحياة في الإنسان فإن المشي في الإنسان لأنه حي، ولكن المشي ليس من خواص الحياة، وسير الكواكب لأن فيه جاذبية، ولكن السير ليس من خواص الجاذبية، فمن باب أوْلى أن لا يكون السير في مدار معين من خواص الجاذبية، ففي السير خاصية الكوكب والسير في مدار معين هو النظام، وأمّا الحياة فإن احتياجها إلى الماء وإلى الهواء ملموس محسوس. وأمّا الإنسان فإن احتياجه إلى الحياة ثم إلى الطعام وغير ذلك، ملموس محسوس، وعليه فإن الكون والإنسان والحياة محتاجة.

ولا يقال إن ما في الكون من أشياء احتاجت لبعضها هي أشكال لشيء واحد، فهي كله مادة تشكلت بأشكال مختلفة، ولكنها في الحقيقة شيء واحد هو المادة. فالمادة احتاجت لنفسها ولم تحتج إلى غيرها، فهي غير محتاجة. لا يقال ذلك لأن المادة حتى تتشكل بأشكال مختلفة لا تستطيع أن تتشكل إلاّ بنسبة معينة مفروضة عليها فرضاً من غيرها. فالماء حتى يتحول إلى بخار يحتاج إلى نسبة معينة حتى يتحول، والبيضة حتى تتحول إلى كتكوت تحتاج إلى نسبة معينة من الحرارة، وهكذا. فتشكُّل المادة لا يمكن إلاّ بنسبة معينة أو وضع معين. وهذه النسبة أو هذا الوضع ليس من المادة، وإلاّ لاستطاعت أن توجِدها كما تشاء، ولَما فُرضت عليها، فكونها مفروضة عليها فرضاً معناه أنها جاءت من غيرها، فهي محتاجة إلى هذه النسبة أو هذا الوضع حتى يتم التشكل، ومحتاجة إلى من يوجِد لها هذه النسبة حتى يتم التشكل. وعليه فهي محتاجة إلى غيرها أي ثبت لها وصف الاحتياج.

ومدلول كلمة محتاج يعني أنه مخلوق، لأن مجرد حاجته تعني أنه عاجز عن إيجاد شيء ما من العدم، أي عاجز عن إيجاد ما احتاج إليه، فهو ليس خالقاً. وما دام ليس خالقاً فهو مخلوق، لأن الوجود كله لا يخرج عن خالق ومخلوق، ولا ثالث لهما. وأيضاً فإن المحتاج لا يمكن أن يكون أزلياً، لأن مدلول كلمة أزلي تعني أن لا يستند إلى شيء، لأنه إذا كان في تصرفه وتحوله يحتاج إلى غيره، يكون احتياجه لغيره في وجوده من باب أوْلى. ولأنه لو احتاج في وجوده إلى غيره لكان ذلك الغير موجوداً قبله، فلا يكون أزلياً. فمدلول الأزلي أنه لا يستند إلى شيء، ولا يحتاج إلى شيء. وما دام المحتاج ليس أزلياً، فهو مخلوق قطعاً. وعلى هذا فكون الأشياء المدرَكة المحسوسة محتاجة أمر قطعي، وهذا يعني أن كونها مخلوقة لخالق أمر قطعي أيضاً، فكون الأشياء المدرَكة المحسوسة مخلوقة لخالق يدل على وجود الخالق قطعاً.

وهذا الخالق لا بد أن يكون غير مخلوق، ولا بد أن يكون أزلياً. أمّا كونه غير مخلوق فلأنه لو كان مخلوقاً لَما كان خالقاً، لأنه لا يوجد إلاّ خالق ومخلوق، وهما شيئان متباينان، فأحدهما غير الآخر قطعاً. ولذلك فإن من صفات الخاق كونه غير مخلوق، فكل ما ليس بمخلوق هو الخالق. ولا يقال إنه خالق لشيء ومخلوق لشيء آخر، لأنه ليس البحث عن شيء معين كالإنسان أو الآلة، بل البحث عن المخلوق من حيث هو مخلوق لا عن مخلوق معين، وعن الخالق من حيث وصفه بالإيجاد من عدم، فلا يكون الشيء خالقاً ومخلوقاً في وقت واحد، فالخالق هو ما سوى المخلوقات. وأمّا كونه أزلياً أي لا أول له فلأنه إذا كان له أول كان مخلوقاً، إذ قد بُدئ وجوده من حد معين، فكونه خالقاً يقضي بأن يكون أزلياً. إذ الأزلي تستند إليه الأشياء ولا يستند إلى شيء. وهذا الأزلي الخالق هو مدلول كلمة الله أي هو الله تعالى، وأيضاً فإن الأشياء التي يدركها العقل هي الإنسان والحياة والكون. وهذه الأشياء محدودة، فهي مخلوقة. فالإنسان محدود، لأنه ينمو في كل شيء إلى حد ما لا يتجاوزه، فهو محدود. ولأن الإنسان جنس متمثل تمثلاً كلياً في كل فرد من أفراده. فكل فرد إنسان، ولا يوجد أي فرق بين فرد وفرد في الخواص الإنسانية، فما يصدُق على فرد من الإنسان يصدُق على الآخر، كأي جنس من الأجناس كالذهب في قطعه الصافية وكالأسد في الحيوان وكحبة التفاح في جنسها من الفواكه، وهكذا. فالجنس، أي جنس، ينطبق عليه كله ما ينطبق على كل فرد من أفراده. وأبسط ما يشاهَد أن الفرد يموت وأن الإنسان يموت. فجنس الإنسان قطعاً يموت، وهذا يعني أن هذا الجنس محدود قطعاً. ومجرد التسليم بأن الإنسان يموت معناه التسليم بأن الإنسان محدود.

ولا يقال إن الإنسان الفرد هو الذي يموت، ولكن جنس الإنسان لا يموت، بدليل أنه في كل عصر يموت الملايين ومع ذلك فإن في العصر الذي بعده بدل أن يفنى الإنسان مع الزمن نراه بالمشاهدة يكثر، فهو إذن لا يموت كجنس بل يموت كفرد. لا يقال ذلك، لأن جنس الإنسان ليس مركباً من مجموع أفراد حتى يقال إن الفرد يموت والمجموع لا يموت، فيوصَل من ذلك إلى أن الجنس لا يموت. بل الإنسان هو ماهية معينة تتمثل في أفراد تمثلاً كلياً دون فرق بين فرد وفرد، وذلك كالماء وكالبترول وكالقمح وككل جنس. ولذلك فإن الحكم عليه لا يجوز أن ينصب على مجموعه، لأن جنسه ليس مركباً من مجموعه، وإنّما الحكم عليه ينصب على ماهيته، أي على جنسه. فما يصدُق على الماهية في فرد يصدُق على الجنس كله مهما تعددت أفراده. وبما أن الماهية متحققة كلها في الفرد الواحد، وفي كل فرد، والفرد الواحد يموت، معناه جنس الإنسان يموت. أمّا المشاهَدة فإنه لا يجوز أن تُحكَّم لأنها مشاهَدة لغير المطلوب البرهان عليه، فهي مشاهَدة للمجموع وهو غير الجنس. فهي فوق كونها مشاهَدة ناقصة لا تحكَّم لأنها ليست الجنس. ألا ترى أن الماء في البحار لا تنفد مهما أخذتَ منها، وهذا يعني أنها ليست محدودة، وأن البترول لا ينفد مهما أخذتَ منه وهذا يعني أنه ليس محدوداً؟ ألا ترى أن القمح يتزايد مع الاستهلاك الكثير منه؟ فإذا نظرنا إلى مجموعه معناه لا ينفد، مع أن الواقع أن جنسه ينفد، ومعناه أنه ينفد. وجنس الإنسان المتمثل في الفرد الواحد يموت، معناه أن جنس الإنسان من حيث هو يموت، وعليه فإن الإنسان محدود.

والحياة محدودة لأن مظهرها فردي فقط، والمشاهَد بالحس أنها تنتهي في الفرد، فهي محدودة. إذ الحياة في الإنسان هي عين الحياة في الحيوان، وهي ليست خارج هذا الفرد بل فيه. وهي شيء يُحَس وإن كان لا يُلمس، ويفرّق بالحس بين الحي وبين الميت. فهذا الشيء المحسوس، والذي هو موجود في الكائن الحين، والذي من مظاهره النمو والحركة، هو ممثل كلياً وجزئياً في الفرد الواحد لا يرتبط بأي شيء غيره مطلقاً، وهو في كل فرد من أفراد الأحياء كالفرد الآخر سواء بسواء، فهو جنس متمثل بأفراد كالإنسان. وما دامت تنتهي هذه الحياة في الفرد الواحد فمعناه أن جنس الحياة ينتهي، فهي محدودة.

والكون محدود لأنه مجموع أجرام، وكل جرم منها محدود، ومجموع المحدودات محدود بداهة. وذلك لأن كل جرم منها له أول وله آخر، فمهما تعددت هذه الأجرام فإنها تظل تنتهي بمحدود. فالمحدودية ليست بعدد الأجرام، بل هي بكون لها أول ولها آخر، بل تثبُت بمجرد وجود الأول ومجرد أن قيل أكثر من واحد يحتم حينئذ المحدودية، لأن الذي يزيد شيء محدود، فتظل الزيادة حاصلة بمحدود لمحدود، فيظل الجميع محدوداً. وعليه فالكون محدود. وعلى ذلك فالإنسان والحياة والكون محدودة قطعاً.

وحين ننظر إلى المحدود نجده ليس أزلياً، وإلاّ لَما كان محدوداً، لأن هذا المدرَك المحسوس إما أن يكون له أول فيكون ليس أزلياً، وإما أن يكون لا أول له فيكون أزلياً. وثبت أن المحدود له أول فلا يكون أزلياً، لأن مدلول الأزلي أن لا أول له، وما لا أول له لا آخر له قطعاً، لأن وجود آخر يقتضي وجود أول، لأن مجرد البدء لا يكون إلاّ من نقطة، وهذا يعني أن النهاية لا بد منها ما دام قد حصل البدء من نقطة، سواء أكان ذلك في الزمان أم المكان أم الأشياء أم غير ذلك. وهذا حتمي في الحسيات، وكذلك حتمي في المعقولات، لأن المعقولات هي حسيات، وما لم تكن حسيات لا تكون معقولات. وعليه فكل ما له أول له آخر، فمدلول الأزلي أنه لا أول له ولا آخر له، فهو غير محدود. فالمحدود ليس أزلياً. فكون الكون والإنسان والحياة محدودة معناه ليست أزلية وإلاّ لَما كانت محدودة. وما دامت ليست أزلية فهي مخلوقة لغيرها. فالكون والإنسان والحياة لا بد أن تكون مخلوقة لغيرها. وهذا الغير هو خالقها أي هو خالق الكون والإنسان والحياة. فوجودها يدل على وجود خالق.

والخالق إما أن يكون مخلوقاً لغيره أو خالقاً لنفسه أو أزلياً، ولا يمكن أن يكون غير واحد من هذه الثلاثة. أمّا أنه مخلوق لغيره فباطل لأنه يكون محدوداً، وثبت أن الخالق غير محدود. وأمّا أنه خالق لنفسه فباطل، لأنه يكون مخلوقاً لنفسه وخالقاً لنفسه في آن واحد، وهذا باطل أيضاً. فلا بد أن يكون أزلياً لا أول له، لا يستند إلى شيء والأشياء تستند إليه، وهو مدلول كلمة الله تعالى، أي هذا المسمى يعني هو الله تعالى. أي أن المتصف بهذه الصفات هو الخالق قطعاً وهو الله تعالى. فإدراك هذا الوجود حصل بالحس لأنه واقع محسوس، ولكن ذات الأزلي، أي ذات الله لا تُحس فلا يُطلب من العقل أن يدركها مطلقاً.
  #10  
قديم 06-07-2005, 09:29 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

ولا يقال إن هذا إيمان بالمجهول. فإنه ليس مجهولاً بل هو معلوم بصفاته، فهو إيمان بمعلوم وليس بمجهول. ولا يقال كيف يمكن تصور الأزلي وهو ما لا أول له مع أن الأذهان لا يمكنها تصور غير المحدود؟ لا يقال هذا لأن الأذهان حقيقة لا تتصور الأزلي وإنّما تدرك وجوده فقط. ولا يقال كيف يجبَر الإنسان على الإيمان بما لا يستطيع تصوره؟ لأن الذي يجبَر على الإيمان به إدراك وجوده إدراكاً قطعياً، والإدراك أتى من وجود المحسوسات. ولهذا لا يُطلب من العقل إلاّ إدراك الواقع المحسوس ليس غير.

وكذلك لا يُطلب من العقل الوصول إلى نتيجة غير النتيجة التي توصِل إليها العملية العقلية التي يقوم بها، فإن ذلك يستحيل الحصول عليه من نفس العملية، بل لا بد لها من عملية أخرى. فلا يُطلب من عالم الذرّة وهو يقوم بعملية عقلية لتحطيم الذرّة أن يصل من هذه العملية إلى الإيمان بوجود الله، لأن العملية العقلية التي يقوم بها لا توصِل إلى هذه النتيجة، وإنّما تحتاج إلى عملية أخرى، ولذلك لا يستغرب المرء أن يشاهد عقلية جبارة تقوم بأدق الأعمال وتصل إلى أضخم النتائج كعالِم الذرّة مثلاً ثم نشاهد هذه العقلية نفسها تذهب إلى الكنيسة لتصلي إلى خشبة، وتعتقد أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة، وأن المسيح ابن الله، أو ما شاكل ذلك. لا يُستغرب هذا لأن هذه العقلية لم تُستعمل للوصول إلى وجود الله وصفات الألوهية وإنّما استُعملت لتحطيم الذرّة وعُطلت فيما عدا ذلك. وكذلك لا يُستغرب أن يوجَد عالم يبحث في النبات ويشاهد دقة الخلق وحكمة الصنع ومع ذلك لا يصل إلى وجود الله بل يظل ملحداً ينرك وجود الله. لا يُستغرب ذلك لأن العملية العقلية التي كان يقوم بها وهو يشاهد النبات كانت للوصول إلى معلومات فقط. والوصول إلى أن هذه الدقة في الصنع لا تحصل صدفة، ولا تكون إلاّ من مبدع تحتاج إلى عملية أخرى لم يقم بها هذا العالم وظلت معطَّلة عند البحث في وجود الخالق. ولذلك كان عدم وصوله إلى الإيمان من العملية العلمية أمراً غير مستغرَب. وكذلك حين يُستعمل العقل لفهم نص تشريعي لا يتطلب في تلك العملية أن يصل إلى أن هذه المعالجة صحيحة أم لا، بل المطلوب منه فقط أن يصل اى ما يدل عليه هذا النص من معالجة، لا إلى كون هذه المعالجة صحيحة أم لا. والوصول إلى أن هذه المعالجة صحيحة أم لا يحتاج إلى عملية عقلية أخرى يكون العقل هو دليل المعالجة وليس النص، بغض النظر عن كون هذا النص تشريعاً من الله أو تشريعاً من الإنسان. فالعقل حين يبحث مادة في القانون المدني إنّما يُطلب منه الوصول إلى ما تدل عليه لا إلى كون ما تدل عليه صحيحاً أم لا، فإذا أريد معرفة ما تدل عليه صحيحاً أم لا يحتاج إلى عملية أخرى وهي البحث في المعنى الذي دلت عليه لا في النص الذي دل على المعنى هل هذا المعنى صحيح أم لا، وحينئذ يكون العقل هو الدليل على المعنى وليس النص، وفي حالة البحث في معنى النص يكون النص دليلاً على المعنى وليس العقل.

هذا هو الأمر الحتمي في استعمال العقل. وعليه فإن العقل حين يُستعمل في الإسلام للوصول إلى نتائج يجب أن يفرَّق بين استعماله في العقيدة للوصول إلى الإيمان، وبين استعماله في الأحكام الشرعية للوصول إلى فهم النصوص الشرعية. فحين يُستعمل العقل في العقيدة تكون النتيجة المطلوبة منه في هذه العملية هي الوصول إلى أن هذا الفكر صحيح أم خطأ، لأنه يكون العقل حينئذ دليلاً على صحة الفكر أو خطئه. أما حين يُستعمل العقل في الأحكام الشرعية فإن النتيجة المطلوبة منه في هذه العملية هي الوصول إلى معرفة الفكر الذي يدل عليه النص ما هو: هل هو فكر كذا أم فكر كذا أم ماذا؟ فالمطلوب منه ليس الحكم على الفكر الذي دل عليه النص بأنه خطأ أم صواب، بل المطلوب منه هو: ما هو الفكر الذي دل عليه هذا النص، وذلك لأن الدليل على الفكر في هذا هو النص وليس العقل. وعلى ذلك فإن وظيفة العقل في فهم النصوص الشرعية هي الفهم ليس غير. فلا يحكم بصحة الأحكام التي دلت عليها أو فسادها لأنه ليس دليلاً على الأحكام بل أدلتها هي النصوص الشرعية، وما دلت عليه النصوص الشرعية من أدلة، ولأن المطلوب منه هو فهم النص لا الحكم على صحة ما فيه أو خطئه.
 


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م