هذا الذي يحدث !!!
1
كانت تجلس في ركن الحجرة مستندة بظهرها إلى الحائط ، مطرقة الرأس ..وحينما تسمع وقع خطاه أو تحس بظله ترفع وجهها الهزيل المعتصر وعينيها الكئيبتين . فيقف عند باب الحجرة مترددا مرتبكا.. فتدعوه بالدخول .. فتارة تدعوه بأبيها ، وتارة تدعوه بخالها ، وتارة تدعوه بعمها ..وهي لا تدري ولا تعي بأنه إبنها الوحيد الذي بقي لها من حطام هذه الدنيا..
ينظر إلي عينيها المتورمتين الحزينتين .. ويقول في نفسه ، ربّي إرحمها كما ربتني صغيرا..
كان يرى في عينيها الكئيبتين في كل مرة نفس الضوء الشاحب الذي يشبه ضوء شمعة يرتعش بحدة... يلتهب على غير توقع لوقت قصير ثم ينطفيء..فجعله نبراسا في حياته معها والتي يسعى لتكريسها في خدمتها في عمرها هذا وأمام ضغوط الحياة التي يعيشها هو وضغوط أشرارها وشريراتها الذين يحاولون زجها بمستشفى المجانين و الضغط عليه لفعل ذلك..
منذ زمن طويل توفي زوجها ، فعاشت معه دون بقية بناتها وإبنها الأصغر الذي كانت تفضل العيش معه نظرا للأسرة الكبيرة التي كان يعولها إبنها الأكبر وغياب إبنها الأصغر عن أسرته لعمله في مكان بعيد عن المدينة التي يسكنها...
كانت حياتها تنقلا بين هذا وذاك حتى وافت المنية إبنها الأصغر الذي رحل فجأة ...
كان رجلا طيبا لم يؤذ ذبابة في أي يوم من الأيام . و بنفس القدر كان عربيدا لم يترك موبقة من موبقات الدنيا يستطيع الوصول إليها إلا وإرتكبها.. رغم الوضوح الذي كان يحيط به...والذي يجعل الناظر إليه يرفع بصره ويطيل النظر في ملامح وجهه فيزداد حيرة ودهشة.
كان زاهدا أو مجنونا، وعلى شيء من الثراء.
كان ما يعرفه عنه الناس ليس قليلا ويسيرا إلى أبعد حد. فهو رجل لا يتواجد في بيته كثيرا لإرتباطه بعمل بعيد جدا عن المدينة التي يسكنها . و إذا ما حضر لبيته كان كثيرا ما يسافر بأسرته خارج البلاد...
لم يكن ثمة ما يميز تلك الأسرة عن بقية الأسر المتوسطة في المجتمع سوى كثرة السفر ، وخاصة في مناسبات الأعياد والعطلات الصيفية، ومرد ذلك أن زوجته كانت من خارج الوطن..
وتمر السنوات بسرعة..وتطير كأوراق أشجار الخريف الذابلة ... ولا ينتبه إلى مرورها أو يشعر بها..يموت بعض الناس.. أقارب ، جيران ، أصدقاء..فتلفضهم الدنيا في صمت.
وتدور الأيام بآخرين في دورة تقليدية ، فيتزوجون وينجبون ..يزداد البعض فقرا ويزداد البعض الآخر غنى..ويزداد البعض حكمة وعلما ويزداد البعض الآخر غفلة و جهلا .. وينتظر البعض الآخر أن تحل بهم رحمة الله..
ويكبر الأطفال ..ويصير الذكور شبابا..وتصير الإناث صبايا وينفخ الزمن في أجسادهن بشدة فيحيلها من أجساد نحيفة ذابلة إلى أجساد مكتنزة وأنوثة جذابة، فيضفي عليها سحرا أنثويا دافئا تهتز له القلوب وتشتعل لها..وتميل لها الرؤوس حيث تميل وتصاب النفوس برعدة كلما مر أحدها في زقاق الحي أو ميادينه...
نكس بعض أفراد الأسرة الكبيرة المتمثلة في أقارب الزوج رؤوسهم أزاء هذه الظاهرة التي أصابت العائلة الكبيرة... في البداية ثار جدل وحمي النقاش ، وسعى كثير من مدعي الوقار وفرسنة التقاليد لدى شقيقه حتى يضع حدا لهذه المهازل وهذا العار.. الأعياد خارج البلاد..وترك شقيقه للبيت في الأعياد والمناسبات الدينية التي عادة ما تجتمع فيها الأسرة وتتشارك في إحيائها مما رأوه خرقا لسنة حميدة يجب التشبث بها وعليه هو بإعتباره الأكبر أن يرد شقيقه عن هذا السلوك....
إشتهر الرجل بأنه مستقيم السيرة ، جاد الملامح إلى حد التجهم ، رغم أن شفتاه لا تفتر عن إبتسامة ... ولا تكاد تزول آثاره من العمل إلى البيت ، ومن البيت إلى العمل .. نمط عيش محدد وصارم.
كان أبا لعدة أطفال ذكورا وإناثا.. كان يحظى بإحترام الجميع . كبارا وصغارا ، نساء ورجالا ، شيبا وشبابا....
تواصل الجدل فترة طويلة في يوم عيد. ذلك العيد الذي صار يطبق على نفسه تحت وطأة الأحداث. يتوسد عذاباته ويغفو...ويحلم فيه ربما بطلّة شقيق آخر لا يموت قبله ويتبدد كالبخار في حركة دائرية مضطربة وقلب ترهقه الهموم... ومخاوف تحاصر كل فرح مهما كان صغيرا أو كبيرا...
لقد مات فجأة فإنقلب كل ما كان يحيط بأسرته من فرح وسعادة رأسا على عقب. ولم يبق لها سوى السراب.. ترملت زوجته وتيتم أطفاله. وكان يتمنى أن يصيروا تحت مظلته فيكون أبا لهم لم ترتبط به أمهم .. لكن العكس هو الذي كان..!
يهز رأسه ويلقي نظرة متفحصة على الوجوه الوديعة والشاحبة الواجمة الكالحة ويتوغل بين نفوس تلك الأجساد المستندة والمتكئة ويدير عيناه الكئيبتين متعجبا ، ويشعل لفافة تبغ فيأخذه الخيال إلى المقبرة التي دفنه فيها والقبور المحيطة .. وتشهد تلك القبور البيضاء أن الدموع إنهمرت من عينيه ما أراد لها أن تنهمر ، وفاض الحزن وضاق الصدر وصعب عليه هول الفاجعة ، فتنفس لوعة ثم سكن وعاد.. مخنوقا كالصقر المطوق أو الشاهين الذي تبرزت عليه حبارة بعد أن ضربها بناظريه...
ويتواصل الجدل دون أن ينبس ببنت شفة.. فما إن يهدأ حتى يهب مرة أخرى كالرياح المحملة بالغبار ، وينقسم الجمع بين مؤيد ومعارض ومستخف و متهكم.. وهو يستمع ..وأخيرا يحسم الموقف ويقول لهم ، عندما يعود إن شاء الله كلموه !!!!!!!!!!!!!!!
2
لا يجروء أحد أن يتحدث معه في حياته..فهي خاصته ومن حقه أن يعيشها كما يشاء... رغم الأعراف والعادات والتقاليد .. فلكل إنسان أسلوبه في الحياة ، ولكل أهدافه كذلك. ورغم ذلك كله تحدث معه ونصحه وأوضح له أن الأطفال يحتاجون لرعاية الأب. فليست الأم كل شيء في الحياة... فالأب كما يقولون هو عمود البيت.. وضرب له مثلا بأحداث قصة سيدنا إبراهيم مع إبنه إسماعيل حينما زاره في مكة...
أخذ من ذلك العبرة وبدأ يسعى حثيثا للإنتقال للعمل في المدينة التي يسكنها.. ولم يطل سعيه.. فبعد ما يربو من عقدين من الغربة والكد والجد عاد إلى مدينته حيث سكنه والبيت الذي كان قليلا ما يأويه.. ليعود إلى ميدان عمله فيغيب عنه وعن تلك الأسرة التي كانت تتولى شئونها إمرأة لا يميزها عن بنات جنسها عدا أنها إمرأة على إستعداد في كل وقت لإقناع الشياطين أنفسهم بصواب أفكارها وحسن تصرفاتها...فقد كانت إمرأة نحيفة غامقة الصفرة ، ذات عينين مدهوشتين وساقين رفيعتين ووجه باهت شاحب مربد، لم يكن أحد يبالي بها ، تتحرك متعجلة مرتبكة.. تتكلم بحدة وسرعة وتحسب نفسها لأمر لا يعلمه إلا الله أنها مركز الكون ، وهي المرأة الوحيدة الحريصة فيه.. وبذلك فهي لا تفتأ تذكر الناس بمناسبة وبدون مناسبة وأنها أطهر من الطهارة وأحرص من الحرص على الشرف والأمانة حتى بدون سبب أو مناسبة لهذه الأحاديث.. ولولاها ما كان من حسن الوضع الإجتماعي .. وهي التي تشرد أخوات أبويها يمنة ويسرة في ديار الغربة.....
كانت سنوات البؤس والعناء قد إمحت من ذاكرتها ، أيام كانت تقيم في غرفة واحدة مع أسرتها التي تعجز في كثير من الأحيان عن دفع إيجارها. إمحت من ذاكرتها وجبات الخبز والماء ، والخبر والزيت في أحسن الظروف، والنوم فيما يشبه الزنزانة صحبة بقية أفراد الأسرة ..في محيط من الطوب أو القصدير، حيث تقبر الآمال والآهات، ويدفن الأحياء والأموات.. ويطول الليل والنهار ويتمططا إلى ما لا نهاية .. محيطات القلق والخوف والصمت.. حيث الحرمان والضيق والإمتهان.. والإنقطاع عن الدرس يوم أن عجزت الأسرة عن توفير الحد الأدنى من الأدوات المدرسية... حيث دفع بها إلى بعض المصانع للعمل كامل اليوم بأجرة زهيدة تعود بعدها إلى البيت متعبة فتجد الأم والأب في إنتظار ما تبقى من الأجرة لينالوا شيئا من الطعام يخفف حدة جوع النهار وكابوس الليل... ففطرت على حب الدنيا ، وكان إختيارها في كل شيء ، الدنيا أولا و أخيرا..
لم تعرف الأسر الوديعة الطيبة الخيرة...
لم تعرف البيوت المزدهرة والحدائق المزهرة...
لم تعرف أحضان الرفاهية والدلال...
بل عرفت الحرمان والضيق وتولدت في نفسها رغبة عارمة في تغيير الحال والإنتقام من أيام التعاسة والعناء .. وترعرعت فيها عبر السنين..
فوراء كل علاقة منفعة. وإن لم تتحصل عليها رأتها وصمة عار في جبينها وجرى في عروقها العذاب مجرى الدم..
فهي تسأل عن كل شيء ، وتريد أن تعرف كل شيء عن كل شيء..وكل التفاصيل ، رغم أن القاعدة الطبيعية لبني البشر أن لكل إنسان مملكة أسرار لا يسمح لأحد أن يقتحمها...
قد تنسى كل شيء .. البؤس والعذاب والحرمان والضيق.. لكن عيناه يوم سقط ميتا فوق سريره لم تنساها يوما ما.. فقد قالت في حديث أنه كان ينظر إليها وهو ميت وكأنه يتهمها . بل قالت إنه قال قبل موته أن تركته كلها لإبنه الوحيد.. وهو لم يدفن بعد ولم يمض على وفاته الساعة الواحدة...
عرفت كيف تجيد التلاعب بالألفاظ وبالأفكار والعقول ومشاعر الآخرين في ذلك الوقت. وعرفت كيف تركب الصور والرقص عليها أيضا.. وكيف تجيد الإستعطاف وإستدرار الهمم. ولما إكتشفت أن اللعبة خطيرة جدا والتمادي في الحديث عن موته قد يجرها إلى مزالق غير محسوبة.. بل إلى التهلكة.. قامت بلعبة قذرة وحولت المحيطين بها إلى دمى خيوطها بين أصابعها كلعبة العرائس...إستدرت عطفهم ونواحهم وإلتصقت بالبعيدين من أهل زوجها والذين كانوا حديثها القذر في حياته وناصبت العداء لأقرب أقاربها و زوجها.
كانت تحدث نفسها والمقربين لها من أمثالها إنهم جبناء ، الفعل ليس من شيمهم ولا من شأنهم.. يتكلمون ولا يفعلون ، أنا التي أفعل ... أنا وحدي التي يمكنها أن تفعل. فهم مجرد دمى تتحرك بمشيئتي ، إنهم جبناء ولو عجنوا في بعضهم لما تشكل منهم رجلا واحدا..
3
عاد ويا ليته ما عاد وإستمرت به الحياة وإمتد به الزمن يطوقه إلى ما لا نهاية وإستمر بهن فاحشا مستديرا. فقد إستيقظ شبه مخدرا.. أو مغميا عليه .. ظل يتهجى محتويات البيت البشرية ومعالمها فلم يدرك شيئا مما يدور حوله ، لكن شعورا كان يقبض على قلبه، فتنبه إلى أن المكان كانت تعمه الفوضى... لكن سرعان ما يعود لحالة التخدير التي كان عليها، ثم يستفيق فتدور في رأسه هواجس كثيرة إحتلت كل تفكيره على نحو سافر وعار....
بدأ أول الهواجس يشاغبه معلنا عن نفسه .. سوء تربية ... عدم أصالة... خيانة .. مكيدة.. دسيسة.. مؤامرة .. ماذا ؟؟ ما هذا ؟؟ فالبيت الذي لم يكن يأويه إلا قليلا كان كأنه فندقا أو محطة عبور لمسافرين من الشرق والغرب .. و أسرته كانت فرجة لكل من هب ودب...
و بدأت المعاناة..
عليك بإعادة النظر في خط حياتك فالمسألة ليست بالحجم الذي تتوقع.. يقولون يا جبل ما يهزك ريح.. وما من شجر إلا وهزها الريح.. فلسفة منطقية .. فالجبل لا يستطيع الريح أن يحركه ، والشجرة يهزها ويسقط أوراقها وثمارها أيضا.. وقد يقتلعها من جذورها ... والفلاح الكيس هو من يعرف كيف يتعامل مع أشجاره وثمارها حتى لا تضرها الرياح ، فهو يعتني بأغصانها فيقوم بقص ما هو مضر وزائد في أوقات معينة حتى لا يحدث ضرر لشجرته ولا يتأثر ثمارها فيأتي ضعيفا أو غير جيد.. ألا تذكر كيف كنت وأنت شاب ؟... هل نسيت نفسك و نسيت ماضيك ؟ .. هون عليك وخذ الأمور بعقل وتؤددة...
من هناك ظل قلبه يتكئ على بقايا أمل وصبر مفتت.. فاللحظات الكسيحة صارت تلتف حول عنقه محاولة كتم أنفاسه وقلبه المنهك من شدة الصدمة...
شعر بالمناكدة والشماتة فيه. بدأ له أن أوصاله المفرقعة ستتفكك كلما نظر لهن.. تآمر ومعاناة لعينة على قلبه الخائر.. تسلل الهم إلى نفسه فإنسكب عليها بحرا وشعر بأنه في ساحة لمؤامرة دنيئة.
أي خبث تخبئه الأيام لهذا القلب الكسير ؟ كتم آهة حرّى أطلت في أعماقه.. تسلل بفكره وهن يستمتعن بتعذيبه.. بقتله ببطء شديد على مرآى من أي قبح لم تستطع الأيام العاهرة دفعه عنه.. إستسلم للعذاب ، للواقع المهين يعبث به كيف يشاء.. ذاب الصبر ... تفتت القلب.. وإنطلق الموت يعدو نحوه بساقين من برق...!!!!!!!!!!
|