حمراء الاستجابة !
بعد فاجعة العراق الأخيرة ؛ أصيب عدد من الناس وافر بنوع من الإحباط جراء ما حصل ، إذ العراق كانت غير متوقعة السقوط بهذه الطريقة ، وما تبع سقوطها من تدمير متعمد ، وإرهاق لأهل العراقة ، فحدث بين صفوف البعض نوع من اليأس والشعور بتأخر نصر الله تعالى ، وتعدى الأمر عند آخرين إلى ترك الدعاء ، والتكلم فيه قدحا وتذمرا !
إن ما مر علينا وعلى أمتنا المباركة في أحداث العراق الأخيرة ، لهو كارثة كبيرة في حركة حياة الأمم ، فقبل العراق فلسطين الحبيبة ، وما بينهما من وقائع في عمر التاريخ كثير جليل ، فليس الدمار والهزيمة على صعيد المجال الحربي ـ إن هو إلا دمار العمران والبنى التحية للمجتمعات ـ إنما دمار المسلم في ذاته وفكره وروحه وتعلقاته .
غير أننا دائما يظهر لنا الجانب المادي المشاهد ، ويغيب عنا الجانب المعنوي الصارخ ، كمثل اهتمامنا بالدعاء والقنوت ، وترك التحرك الواعي المنهجي لبناء الأمة ، وتتبع سنن النصر المبين .
ويطيب لنا دائما ـ إذ نحن نذكر النصر وفلسطين وكرامة هذه الأمة ـ يطيب لنا ذكر الناصر صلاح الدين الأيوبي ، ونصره الكبير وتحرير بيت المقدس ، وتطهيره من رجس الأعداء ، نعم ، وكأن صلاح الدين كان وليد يومه ، أتى به الله تعالى في تلك السنوات من أجل تحرير القدس الشريف ، ويغيب عنا أن صلاح الدين الأيوبي رحمة الله عليه ، ما هو إلا نتاج حركة واعية استمرت لعشرات السنين ، حركة شملت مناحي حياة المجتمع المسلم وقتها ، وحرصت على لمس كافة المحركات النفسية والعلمية والفكرية والدعوية فيه ، فكان النتاج طبيعيا ؛ وفق سنن الله المبثوثة في الكون وفي الآفاق .
وبنظرة فاحصة مؤمنة واعية ، لما مر على الصحابة الكرام ، إذ هم ضيق شديد ، وكرب قوي ، وصل بهم الأمر إلى التكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا . فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون " . البخاري وأبي داود .
ندرك أنه هو ذا نفسه السؤال يتكرر اليوم ، مع فارق الجيل القرآني الفريد ، ذاك الجيل الذي كان يعاني من العذاب ما يعاني ، ثم تتنزل عليه آيات بينات ، تنقله إلى ساحة أوسع من الفكر والتطلع ، وسعة العمل الدعوي والإيماني ، قال تعالى : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * )
يقول صاحب الظلال : ( نزلت الآيات تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرح لها المؤمنون ، الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين .
ولكن القرآن لم يقف بالمسلمين وخصومهم عند هذا الوعد ، ولا في حدود ذلك الحادث . إنما كانت هذه مناسبة لينطلق بهم إلى آفاق أبعد وآماد أوسع من ذلك الحادث الموقوت . وليصلهم بالكون كله ، وليربط بين سنة الله في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما . وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها . ثم يستطرد بها إلى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة الدنيا ، وإلى العالم الآخر بعد عالم الأرض المحدود . ثم يطوف بهم في مشاهد الكون ، وفي أغوار النفس ، وفي أحوال البشر ، وفي عجائب الفطر . . فإذا هم في ذلك المحيط الهائل الضخم الرحيب يطلعون على آفاق من المعرفة ترفع حياتهم وتطلقها ، وتوسع آمادها وأهدافها ، وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة . عزلة المكان والزمان والحادث . إلى فسحة الكون كله:ماضيه وحاضره ومستقبله ، وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه .
ومن ثم يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير . ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون , وتحكم فطرة البشر ؛ ودقة السنن التي تصرف حياة الناس وأحداث الحياة ، وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة ؛ وعدالة الموازين التي تقدر بها أعمال الخلق ، ويقوم بها نشاطهم في هذه الأرض ، ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة .
وفي ظل ذلك التصور المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها - حتى وهي ناشئة في مكة محصورة بين شعابها وجبالها - ويتسع مجالها فلا تعود مرتبطة بهذه الأرض وحدها إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى ، وفطرة النفس البشرية وأطوارها ، وماضي هذه البشرية ومستقبلها . لا على هذه الأرض وحدها ، ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط .
وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد ؛ ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم ؛ ويتطلع إلى السماء والآخرة ؛ ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار ؛ وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر . ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل ، ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله ، فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة ، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام . )
ثم يقول رحمه الله : ( وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان . ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال , والأمم لم تكن وثيقة الاربتاط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر . مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم ; وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب , وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان ; وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم , ويؤثر في قضية الكفر والإيمان .
وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا ؛ ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم . منذ حوالي أربعة عشر قرنا . ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية ؛ ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان ؛ وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان .
وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة ، وحقيقة القضية ؛ فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر ، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة ، مهما تنوعت العلل والأسباب .
والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله , كما تبدو في قولة أبي بكر - رضي الله عنه - في غير تلعثم ولا تردد ، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه ؛ فما يزيد على أن يقول:صدق . ويراهنونه فيراهن وهو واثق . ثم يتحقق وعد الله ، في الأجل الذي حدده : " في بضع سنين " . . وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن ، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله . وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل . والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر , من قول الله سبحانه: " لله الأمر من قبل ومن بعد " . . والمسارعة برد الأمر كله لله . في هذا الحادث وفي سواه . وتقرير هذه الحقيقة الكلية ، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف . فالنصر والهزيمة ، وظهور الدول ودثورها ، وضعفها وقوتها . شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال ، مرده كله إلى الله ، يصرفه كيف شاء ، وفق حكمته ووفق مراده . وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة ، التي ليس لأحد عليها من سلطان ؛ ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة ؛ ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله . و إذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم . ) في ظلال القرآن .
رحم الله الأستاذ سيد ! .
__________________
<center>
نحن لا نرضى بنار الغســـــق *** نحن لا نرضى بنور الشفـــــــق
نحن لا نرضى بنجم الصبح لاح *** لا و لا نرضى تباشير الصباح
نحن لا نرضى نجوما لامعـــة *** أنما نبغي شموسا طالعــــــــــة
</center>
|