مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 30-03-2006, 08:18 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي ذكريات قرية لم تعد موجودة

ذكريات قرية لم تعد موجودة


لو فرغ أحدنا من الاستحمام ، فإنه يلحظ أن هناك شعرات قد سقطت منه ، والتصقت بجوانب الحوض أو أسفله .. ولكنها لم تعد تنتمي اليه بالتأكيد .. ويقال أن الإنسان يفقد أكثر من ثلاثين شعرة كل يوم .. وعند الحديث عن الأعصاب فإن الأطباء يقولون أن الخلايا العصبية التالفة لن تعوض بعد ..

لا أدري أين تستقر ذاكرة الإنسان ، هل لها مكان معين في جسم الإنسان تستقر به ، أم أنها تكون كهالة تحيط بكيانه ، تسبح معه حيث عام .. ويستعين بها عندما يستفز ، أو يضطر الى اتخاذ موقف تجاه ما يرى أو يسمع أو يضطهد بفتح الياء أو ضمها .. ولكن لا بد لتلك الذاكرة أن يتساقط منها ما يقارب أعداد تساقط الشعر في الحمام ..

هذا بالنسبة للفرد .. أما الجماعات ، فستكون مسألة تتبع نمو ذاكرتها و تفقدها من الصعوبة بمكان ، وتزداد صعوبتها كلما ازداد أعداد الجماعة وتفاوتت أعمارهم .. فسيكون على من يريد أن يتفهم تلك الظاهرة أن يتفقد ذاكرة كل فرد من أفراد الجماعة على حدة ، و هي مهمة شاقة وغير مسموح بها في جميع الأحوال .. وسيشوبها الكذب أو الاجتهاد في أحسن الأحوال ..

كما أن للقبور شواهد .. فان للذاكرة شواهد .. فان كانت القبور بلا شواهد ستدرس وتزول مع الزمن .. وهناك من يشجع على ذلك ( فقهيا ) .. فبنظره ، لم يعد أهمية لتجميل قبر والكتابة عليه ، طالما أن ما بداخله أجزاء من مواد لم يعد لها أي فاعلية تذكر .. وهناك من يعاكس تلك النظرة فيقول : أن الشاهد على القبر و الكتابة عليه ، سيجعل من القبر بمثابة أيقونة في جهاز الكمبيوتر ، ما أن تضغط عليها العين ، حتى تستعيد شريط من في داخل القبر !

بالقرى والمدن ، تكون الشواهد ، هي مجموع المعالم البارزة ، كمنارة مئذنة أو قصر بارز .. أو سفح جبل .. أو تمثال .. أو بيت يصدر منه صوت امرأة مجنونة .. أو زقاق يبرز منه كلب شرس يخيف الأطفال .. فتصبح سلطة الكائنات الحية شواهد إضافية على الشواهد الجامدة .. فشجرة عالية ، أو ارتطام قطيع أغنام بسيقان المارة .. تجعل من الذكرى .. مزيجا بين المكان والأحياء ..

ويصبح كل إنسان شاهد إضافي على الشواهد السابقة ، وهذا ما يفسر لنا لماذا نحزن على ميت ، يرتبط معنا بذكرى ، وهو يقل شرفا ومكانة عن شخص آخر ، ولكن لا نحزن عليه .. ولكن حزننا سيكون على أنفسنا ، أو على وجه الدقة على ذاكرتنا ، إذ أنها فقدت شاهدا على مخزونها .. فان تسامرنا في طرائف أحمق قبل أربعين عاما ، فان كان من يشاركنا الحديث عن ذلك الأحمق ، فان الحديث سيكون بنكهة ممتعة ، وعندما لا نجد من يحفل بذلك الحديث سنحس بغصة ، لزوال شهود الذاكرة ..

كانت قرية ( العتيقة ) هي صورة لكل ذلك ، فهي وإن كان اسمها قد يكون منحوتا ، فلم يعد للاسم أهمية ، فقد تجدها شمال غرب العراق أو في صعيد مصر أو على الحدود السورية الأردنية ، أو في جبال الأطلس .. فلا فرق ، طالما أن شواهدها قد زالت .. فلم يعد للاسم أي معنى ..

يتبع
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #2  
قديم 30-03-2006, 06:31 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 2)

لو أقبلت على القرية من جهة الجنوب لرأيت مئذنة مسجدها الوحيد بارزة بارتفاع واضح حيث بني المسجد في أعلى نقطة بالقرية .. و سيكون عليك أن تسير بمحاذاة طريق معبد ضيق ، أو يمكنك السير فوق الطريق المعبد الذي قيل أن الألمان قد عبدوه .. ولم يتلف ، لا لدقة الألمان في التنفيذ ، بل لندرة ما يسير فوقه من سيارات .. وكانت بعض الجهات تقوم بين كل عدة سنوات في رش قليل من الرمل الناعم و سائل أسود يغلي ، لإخفاء ما قد يحصل على الطريق من تلف قليل ..

وكان الأطفال يتمتعون بالسير فوق الطريق وهم حفاة ( طبعا كعادتهم ) .. وكانت لا تمنعهم حرارة الصيف من الاستمرار في السير على الطريق ، فكانت أقدامهم قد تطورت ، بحيث أصبحت أقرب الى خف البعير ، وكان ما يزيل إحساسهم بحر الطريق ، هو تتبعهم لفقاعات تكونت من فعل أثر الشمس على السائل الأسود الذي تجمد ، ولكن حرارة الشمس تنفخ بعض الفقاعات فيتتبعها الأطفال ليدوسون عليها بإبهام الرجل .. فتحدث صوتا يبتهجون به .. أو لعلهم كانوا يبتهجون به ، لندرة ما يبهجهم ..

لم يكن للقرية ألوانا زاهية يصبغون به بيوتهم ، ولم تكن في القرية أشجار تظهر عن بعد ، بل كان في القرية شجرتان من الكينا ( اليوكاليبتوس) واحدة تظهر عليك إذا أتيت القرية من الشرق ، وواحدة تظهر اذا أتيتها من الشمال ، وكانت الشجرتان تسهل مهمة من يصف بيتا لأحد ، وكان نادرا ما يسأل أحد عن بيت و يتغلب في إيجاده .. لكن كانت كل شجرة من الشجرتين تشكل شاهدا استقر في ذاكرة من يتذكر ..

كان الأطفال ، غالبا ما يسيرون باتجاه الطريق الذي يخترق القرية ، باتجاه الجنوب ، ويسيرون كفرق للبحث عن ألغام .. كلهم يرمون رؤوسهم في الأرض مطرقين ، عل أحدهم أن يجد علبة فارغة من أي شيء ، رموها السواح بعد أن استفادوا من محتوياتها .. فإن كانت العلبة مسطحة كعلب ( السردين مثلا) التقطها الطفل ، وربط بها خيطا ، بعد إحداث ثقب بطرفها ، و ملأها بالتراب وأخذ يلعب بها كسيارة .. و إن كانت العلبة أسطوانية ونظيفة ، فإنها ستضاف للأواني المنزلية ، كوعاء يغرف به الماء أو يسلق به البيض .. وإن كانت مغلقة من الجانبين ، لكنها ليست بتلك النظافة ، فإن الطفل يحدث في أوسط طرفيها ثقبين ويدخل بها سلكا و يعتبرها عجلة يلعب بها ..

و كانت لحظات فرح كبرى ، إذا عثر الطفل على بقايا علبة بها محتويات غذائية ، أو حتى بعض أجزاء فواكه يرميها الموسرون الذين كانوا قد مروا فوق الطريق قبل أيام أو حتى أسابيع .. فلم يكن الأطفال المعدمون يوفروا شيئا ، أو يتعففون عنه .

كان لون القرية في الشتاء هو لون التراب ، وكان في الصيف قد تلون عند بعض المقتدرين بلون حجري كلسي أبيض ، لا يصمد الا لشهرين أو ثلاثة ثم يختفي نتيجة لخواصه الكيميائية أو نتيجة لنزول مزنة من المطر خالفت الموسم وسقطت في غير حينها .. وعلى العموم لم تكن الألوان متوفرة ، فقد أدخلت الدولة لونا جديدا عندما صبغت المدرسة الوحيدة بلون ( سمني ) لا هو بالأصفر ولا هو بالبني .. وقد أثار ذلك اللون إعجاب المواطنين .. و أضاف عاملا جديدا لتهيبهم من الدولة ..

إذا اقتربت من القرية ، عند المساء ، فتستطيع التعرف على رائحتها بسهولة ، فهي مزيج من روائح فضلات الحيوانات الطازجة ، أو المحترقة لإبقاء حرارة أفران الخبز على ما هي .. حيث كانت النساء تغطي ( التنور ) بطبقة كثيفة من زبل المواشي المتخمر ، والذي لم يجف تماما ، فحين يلامس بعض الجمر المختفي في الغطاء القديم ، فإنه يبدأ بالاشتعال البطيء طيلة الليل ، وحتى الصباح .. فإن جاء الصباح وضع بعض ( الجلة ) اليابسة ، أو قطع صلبة من سيقان نباتات القمح ( قصل ) لم تستطع الحيوانات أكلها .. فتشعلها النساء ، داخل الفرن ( التنور أو الطابون ) .. فيصبح مهيئا لإعداد الخبز .

كانت تلك الروائح الممزوجة ، تلتصق بأثاث البيوت البسيط ، وبملابس الأهالي فلا أحد يتأفف من رائحة الآخر ، طالما أنهم يتشابهون فيها ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #3  
قديم 01-04-2006, 10:01 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(3)

لم تكن مهمة خبير المساحة الإنجليزي سهلة ، فقد أوكلت إدارة الانتداب البريطاني في أواسط الثلاثينات من القرن السابق ، الى المساح ( موفد ) مهمة تنظيم وتقسيم و إفراز أراضي ( العتيقة ) .. وقد أقام ( موفد ) مع فريق عمله عدة سنوات ، حتى أنجز مهمته الصعبة ..

لقد كانت أراضي العتيقة والتي بلغت مساحتها أكثر بقليل من ثمانية عشر ألف هكتار ، في حالة تنازع بين سلطتي الانتداب الفرنسي و البريطاني ، وعندما تم إلحاق ( العتيقة) بإدارة الانتداب البريطاني .. شرعت لتنظيم تلك القرية .. والتي كان أصحابها يحتفظون بسندات تسجيل عثمانية ، وقسم كبير يحتفظ ب ( حجة) تملك .. وهي سندات تنظم بوجود شهود ، على أن فلانا قد باع لآخر أرض ..

لقد مر على هذه القرية ، عدة موجات توطن ، فتجد بآثار ( الخرائب) ما يشير الى وجود توطن في العهد اليوناني و الروماني و الأموي و المملوكي .. ولكن ليس بالقرية من يدعي بالقدرة على تتبع وجود أجداده ، لأكثر من مائة وخمسين عاما .. رغم وجود علماء نحو و تاريخ تنتهي أسماؤهم بالعتيقة .. لكن لم أسمع من المسنين ، أن أحدا يقول أنه من أحفاد النحوي عبد الله العتيقي أو المؤرخ محمود العتيقي ..

عندما تأملت في ظاهرة عدم تتابع وتواصل أجيال ( العتيقة ) ..عن دون القرى والتجمعات السكنية التي تقع غربها بعدة أميال ، ركزت نظري ، علني أجد لذلك سببا .. فوجدت أن القرية كانت تقع على مقربة من الصحراء ، لكنها تتفوق على الصحراء في أنها تستطيع إطعام بضعة مئات من العائلات من إنتاجها ..ولكن دون انتظام .. ففي بعض العقود كانت سنين القحط تمتد الى خمسة سنوات أو أكثر ..

كان التصاق سكان القرية بها ، ضعيفا و إدارة الدولة العثمانية ، لم تغطيها بشكل يكفي لدرء هجوم رعاة الأغنام و الإبل ، الذين كانوا يستغلون سنين الغلال والمواسم الجيدة ، ليرعوا بها و يهجرون سكانها أو يقتلونهم .. فكان بقائهم بها يتوقف على الجانب الأمني ..

وقد عاود السكان التوطن بها في أواخر القرن الثامن عشر .. ولو تتبعت أصل سكانها ، لأفادك كل منهم أن أجداده أتوا لتلك القرية ، بعد أن قتلوا شخصا في القرية الفلانية ، وستجد منهم أصولا من أربعة أقطار عربية مختلفة . أو هربا من الخدمة في الجيش العثماني ، حيث كنت تجد في القرية عشرات العرق ( بضم العين و مفرده عراق وهو ثقب أو كهف في أبط تل ) يسهل على المتخفي أن يبقى به هو عياله و حلاله دون أن يفضح أمره ..

كان على (موفد) أن يوفق بين عدة مئات من الرجال الذين كانوا ينتمون لعدة عائلات ، انقسموا في السابق الى قسمين : قسم أراد أن يكون تحت الإدارة الإنجليزية و قسم أراد أن يكون تحت الإرادة الفرنسية ..

فقسم الأراضي الى مائة و ثمانين ( ربعة ) والربعة كانت تساوي بين ثمانين هكتارا و مائة و عشرين هكتارا .. حسب خصوبتها .. وحسب تراضي لجنة ممثلي المالكين ..

لقد كانت الأراضي قبل وصول ( موفد) تقسم الى ( دواقير ) و ( الداقورة) هي مساحة الأرض التي يمكن لأسرة حصادها في يوم واحد .. ويبدو من شكل التقسيم السابق ، أن دوافعه كانت أمنية بحتة ، حيث يرحل الحاصدون كلهم الى اتجاه واحد يحصدون و ينقلون قشهم و غلالهم في نفس اليوم على الجمال ، ويحتمون بكثرتهم أمام هجمات الرعاة ..

وقد حسم أمر الرعاة و البدو قبل مجيء ( موفد) بحوالي عشرة سنوات عندما انتهت الحرب ( حرابة ) بين البدو والفلاحين والتي قتل بها عشرات الأشخاص من الطرفين وانتهت لصالح الفلاحين الذين أثاروا إعجاب سكان القرى المجاورة ببسالتهم .. و خلدت القصائد الشعبية تلك ( الحرابة ) التي استمرت تسع سنوات متواصلة .. حتى استقر شكل الأرض للفلاحين .

كان رؤساء العائلات الذين جلسوا مع ( موفد) لتسوية أراضي القرية ، يراعون جانب العلاقات بين المتجاورين .. فوضعوا شكلا للملكية لا يزال يثير إعجابي لدقته و عدله في كثير من جوانبه .. فقسموا ال (180 ربعة ) الى 36 قسم سموه الخمسات أي كل خمس ( ربعات ) جزء ووضعوا له رئيسا و ممثلا عن الملاكين .. وبين كل خمسة وخمسة طريق ضيق بعرض ثلاثة أمتار ، وبين كل عشر( ربعات ) طريق بعرض ستة أمتار ..

لقد ترك للبلدة جذرا سمي فيما بعد ( جذر البلد) و كان بمساحة تسعة كيلومترات مربعة .. و ترك حول الجذر ( بيادر ) لنقل القش ودرسه و تذريته واستخلاص الحبوب منه ..

لقد طال رؤساء الخمسات ، نصيب من الحظوة الإضافية ، وكانوا ست وثلاثون شخصا ، حيث تضاعفت حصصهم عن دون سكان البلدة ، ولربما كانت تلك أجورهم من قبل الإنجليز بدلا من أتعابهم خلال سنين التنظيم .. وأصبح
هؤلاء أكثر أهل البلدة وجاهة ، وهم الأكثر تأثيرا و الأكثر قربا من الحكم !
__________________
ابن حوران

آخر تعديل بواسطة ابن حوران ، 01-04-2006 الساعة 10:18 AM.
الرد مع إقتباس
  #4  
قديم 03-04-2006, 06:08 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(4)

لو تم إلزام ( موفد) برسم أو تنظيم جذر ( العتيقة ) ، لاعتذر ولو استعان بأحدث الطائرات للرسم الجوي ، فقد كانت شوارع القرية على عداء سافر مع كل ما هو مستقيم .. لقد كانت أشبه باللعب التي توضع في المجلات أو الجرائد تحت عنوان ( الطريق الى الكنز ) .. كانت أشبه بالمتاهات الموضوعة بمكر .

لكنها لم تكن آتية من غايات ماكرة .. بل كانت تمليها طوارئ الأفكار التي تنمو كأعراض جانبية لمرض ، فقد تنتشر على وجه أحدهم بثور ، ولكن تلك البثور آتية من التعرض لحمى أو خلل في الأجهزة الفسيولوجية ، ولم تكن البثور بحد ذاتها مرضا .. كذلك هي حالة الأفكار المتعلقة بالبناء عند أهل (العتيقة ) ..

فقد تتدخل طبوغرافية الأرض في تحديد شكل المنزل ، حيث يكون قرب جرف أو قبر ولي أو بئر قديم .. وبالتأكيد فإن السور للمنزل كان يأتي بمرحلة متأخرة حيث تتشكل الغرف ، وملحقات المنزل من حظائر و مستودعات لتخزين الأعلاف وغيرها ..

لم تكن وحدات القياس كما هي اليوم ، فلم يكن للياردة أو المتر أي مكان ولا حتى الذراع ، بل كانت المقاييس معنوية ، تتفق مع الموجودات المتحركة من الكائنات المتعايشة مع الساكنين ، وما يتعلق بما تحمل على ظهورها .. فكان الارتفاع للبوابة يتناسب مع ارتفاع الجمل و هودجه وما يحمل ، وكان عرض الشارع يأخذ بنظر الاعتبار التقاء جملين أو حمارين عليهما حمولتهما .. فوظيفة الأشياء كانت تحدد القياسات لا علوم الهندسة والحساب .

وكانت ارتفاعات الغرف أو الحظائر أو الأسوار ، تراعي نقاطا لها جانب أمني وخصوصي في بعض الأحيان ، فغرفة النوم ، وهو اسم خليع لا يتناسب مع تلك الحالات التي بنيت من أجله الغرف ، بل كان يطلق على الغرفة اسم بيت و على البيت دار وليس منزل ، كان ارتفاعها يتحدد بالمساحة التي تلتف عليها قنطرة حمل البيت ( الغرفة ) ..فان كان عرض الغرفة خمسة أمتار ، فكانت القنطرة التي تبنى على شكل نصف دائرة ، لا بد أن يكون نصف قطرها لا يقل عن ثلاثة أمتار فستجد أن معظم الغرف يزيد ارتفاعها عن أربعة أمتار .. أما في الحظائر والغرف الأقل شأنا فإن الارتفاع ينخفض قليلا ، معتمدا على تقنيات تختلف بعض الشيء عن بناء غرف النوم ..

كنت إذا دخلت ( زقاق ) وهو الاسم الجدير أن تحمله تلك الشوارع .. لا ترى الا جدران طينية مصمتة ، لا نوافذ عليها ، حتى لا ينكشف ما بداخل المنزل من عورات .. و أحيانا كنت تجد ( طاقة ) وهي فتحة بأعلى الجدار لا تسمح لمن تسول له نفسه لا الدخول من خلالها و لا حتى النظر ، حتى لو استخدم سلما ، فامتداد نظره لن يرى من في الغرفة ، بل سيصطدم بنقطة على الجدار المقابل وعلى نفس الارتفاع لسماكة الجدار الذي يقل عرضه عن متر بقليل ..

كان يصدف المارة نتوءات بارزة في الشارع بين كل مسافة منزلين أو ثلاثة وهي مكونة من طين وحجر ترتفع حوالي مترا وربع أو بعلو ( الحمار ) وعرضها أقل من متر ، أو بعرض ( خيشة التبن ) .. كان يطلق عليها ( مقرص) .. وكان الاسم مشتقا من الوظيفة التي تقوم بها تلك النتوءات .. فهي ان أخذت على أساس أن النساء يقرصن عليها العجين قبل خبزه ، فالاشتقاق جائز هنا .. وان كان الهدف منها هو ، وضع ( خيشة التبن ) من على ظهر الحمار ثم قرصها ، لتفرغ محتوياتها في مخازن التبن ، فالاشتقاق أيضا جائز .

كانت الرطوبة والملح ( بفتح الميم واللام ) قد أكلتا من أسفل الجدران ، فكونتا بجانب الجدران ، هالة من الرماد الناعم جدا والذي لا يتحرك من مكانه ، فكنت تجد في بعض الأحيان صبيانا يبحثون بين ذراته المتراكمة عن صنف من الحشرات ، ليستخدمونه كطعم لفخاخ الصيد ، وكانوا يطلقون على تلك الحشرة اسم ( كعكل .. بضم الكافين ) ..

واذا واصلت السير ، فستجد انبعاجات في الزقاق عند التقاء زقاقين أو أكثر فتتسع المساحة هناك ، لتسهيل عمليات فرز الحوش ( بفتح الحاء و الواو ) وهو قطيع الأغنام و الماعز ، الذي كان يوكل لراعي يجمع ما للناس من ماشية ليرعى بها طيلة النهار ثم تفرز أثناء عودتها لأصحابها ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #5  
قديم 05-04-2006, 08:18 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(5)

تندرج حاجات الإنسان تحت ثلاثة مستويات ، الأول يعني بأساسيات الغاية من الحاجة نفسها ، وقد يسميه بعض العلماء المستوى ( الحدي ) .. فاذا كانت الغاية من المسكن هي الوقاية من الوحوش و اللصوص و عوامل الجو كالأمطار والحرارة وغيرها ، فإن كهفا سيشبع تلك الحاجة ، أو أي أربع جدران و سقف وباب ..

وهذا ينسحب على الملبس ، فالغاية هي ستر العورة و اتقاء البرد . ويمكن أن يقال هذا الكلام عن الطعام و الشراب و غيره ..

والمستوى الثاني ، يتعلق بصناعة نمط خاص بجماعة ، يطلق عليه العلماء اسم ( الرمزية ) وهو يعني بالتطور من حالة الإشباع الأساسية ، الى حالة إيجاد لون خاص بالجماعة ، والحديث هنا عن الجماعات الطبيعية وليس عن الجماعات المصطنعة ..فتجد نمط بناء مدينة أو حي مأسور بنمط يعبر عن لون حضارة الناس الذين أوجدوا هذا اللون .. فلو ذهبت الى شارع الرشيد في بغداد أو الى البصرة ولون شناشيلها ، أو الى أحياء حلب القديمة ، أو الى مدينة بولونيا شمال إيطاليا ستجد هذه الرمزية واضحة ..

هذا الكلام ينسحب على أزياء اللبس و أصناف الطعام .. فبعد أن تشبع الحاجة الأساسية الأولى في الستر ، فإن اللون والزي يصبح آسرا لمن يحاول إشباع حاجته ، فيكون غطاء الرأس و الدشداشة لونا عند بعض أبناء العرب ، وسيكون نشازا من يعتمر(برنيطة ) في حين يلبس الدشداشة ..

ويأتي المستوى الثالث ، وهو التخصص في إيجاد ميزة استثنائية للفرد تميزه عن غيره ، و قد أطلق عليها المختصون ب ( الأستيطيقية ) .. وهي كمن يضيف نقشا معينا على حجر البناء ، أو قرميدا ، أو بعض الصنوبر فوق الطعام أو بعض الإضافات التمييزية على الملابس الخ ..

إن تطور الحاجات و إشباعها وفق سير منتظم ، يعطي الحضارة سمات مستقرة ثابتة أصيلة ، و بعكسه فإن الطفرات و عدم التدرج بنمو تلبية الحاجات يجعل الارتباك سمة الحضارة .. فقد تجد بأحياء بعض المدن العربية أنماط بناء مختلفة و متجاورة فتجد قصرا على النمط المغربي ، يجاوره قصر على النمط الماليزي و بجانبه فيلا على النمط الأوروبي .. كما تجد لهجات المواطنين ، متنوعة تنوعا مبتذلا ، فمنهم من يتكلم بلهجة الريف ( الجلفة ) ومنهم من يتكلم بلهجة أهل الشام ، ومنهم من يحشر كلمات أجنبية في حديثه ، بمناسبة و من غير مناسبة .. وقد تجد كل هؤلاء من جد واحد ، ومنشأ أصلي واحد !

لم يكن أهل العتيقة ، يتطاولون بتفكيرهم ليرتقوا فوق المستوى الأول من إشباع الحاجات عندهم ، بشكل كبير ، فقد كان أهل القرية يحاولون إشباع حاجاتهم ، بكثير من التقشف و التدبير القاسي للاستفادة من الطبيعة التي حولهم مع بعض الإبداعات البسيطة غير المكلفة ..

لو أراد أحد أن يدخل بيتا من بيوت العتيقة ، فعليه أن يطرق الباب بكل ما أوتي من قوة ، حتى يسمع طرقاته من في الداخل ، والذين يكونون في الغالب ، ليس على مقربة من البوابة .. وكان قسم من الناس يضع على البوابة مطرقة معدنية على شكل قبضة يد صغرى ، مثبتة في أعلى البوابة على مستوى رأس الطارق البالغ ، ولها مفصل يسمح لها بالحركة والطرق على نتوء معدني أسفل طرف القبضة .. وكانت تلك التقنيات مما يميز طبقية بعض الناس !

أما البوابة ، فكانت من ألواح خشب الشوح ، غمست بالقير قبل رصفها ، حتى لا تتشقق بفعل العوامل الجوية ، وربطت ببعض بواسطة شرائط معدنية سميكة تثبت القطع ببعض بواسطة ( أسافين ) معدنية .. وهي كما أسلفنا بارتفاع أكثر من مترين ونصف ، لتسمح للخيال أن يدخل ، أو البعير المحمل .. وكانت بعرض أكثر من مترين ، ومثبتة بواسطة عمود خشبي أسطواني بطرفها ، يرتكز داخل حفرة في حجر صلب يسمى ( صعرور ) يسمح بفتح البوابة دون تغيير مكانها ، و يخترق فتحة في حجر ( الحنت ) الذي يعلو البوابة ..

لم تكن البوابة تفتح الا في مناسبات معينة ، أما الذي يفتح ، فهو فتحة عملت داخل البوابة ، بوسطها ترتفع عن الأرض بمقدار ذراع ، وهي بعرض رجل سمين ، وبارتفاع يسمح له بالدخول دون صعوبة .. وكان لها مفصلان مثبتان بجسم البوابة ..

أما القفل أو الغال أو ( السكرة ) فكانت مصنوعة من قطع خشبية متداخلة من خشب الجوز ، ومفتاحها قطعة خشبية مستقيمة ثبت به نتوءات معدنية ، ترتيبها يختلف من بوابة لأخرى و كأنها استنبطت من طريقة ( بريل ) للكتابة عن العميان ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #6  
قديم 10-04-2006, 05:02 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

(6)

لو سمح لك أن تدخل الى داخل ( الدار) .. ولم تكن هناك موانع أصلا ، لتحول دون دخولك .. فالبوابات دائما تكون مفتوحة من خلال الفتحة التي تسمح بدخول من يريد .. فيكفي أن تطرق الباب أو تصرخ بأحد العبارات التي تدل على وجودك ، كأن تقول ( يا ساتر ) أو ( يا الله يا الله ).. أو تصرخ ( منو هون )..
فكلها إيماءات تعطيك إشارة مرور .. ونادرا من يكون هناك من يسألك ( منو هذا؟) .. بل ستسمع صوتا واضحا ( فوت جاي ) .. وقد يشاغلك في بعض الأحيان نباح كلب ضجر ، فقد حماسه في الدفاع عن حرم البيت ، لجوع ألم به ولربطه لمدة طويلة ، أو حتى يكون بلا رباط ، فكل الأماكن تتشابه عنده ..

سيكون على يمينك أو يسارك ، نافذة طويلة عليها قضبان حديدية مبرومة ، لكنها مفتوحة باستمرار ، لتسمح لمن يجلس مقابلا لها ، أن يرى من يدخل للدار أو يخرج منها .. وهو غالبا ما يكون رجلا مسنا ، يعبث إما بلحيته ، أو يناغي أحد أطفال الدار ، أو يشغل نفسه بتنقية التبغ من عيدانه القاسية تمهيدا لفركه ، أو أنه غارق في نوم لحظي ، يستفيق بعد أي إنذار من أي نوع ..

وبالواجهة المقابلة للنافذة من المدخل ، ستجد حظيرة ( بايكة ) ، لمبيت حيوانات الركوب أو العمل .. وقد تم وضعها في هذا المكان ، نظرا لأن أحد الزوار ، قد يأتي راكبا على فرس ، فلا بد من الإسراع بربطها في هذا المكان ، ولو دخلت الى داخل تلك الحظيرة ، لوجدت في داخلها المعتم ، بعض الطوالات وهي مداود يوضع فيها العلف أمام الحيوانات ، التي تربط بوتد قرب المدود . واذا جلت بنظرك ، فإنك ستجد أوتادا دقت في الجدران المكونة من الطين و الحجر ، وعلى ارتفاع مناسب ، لا يصيب رأس المار ، وعلق عليها بعض الأدوات الزراعية ، كالمذراة أو الغربال أو الحواة أو الحياصة أو مجموعة حبال وكلها أدوات لا يمكن الاستغناء عنها ، لكنك ستجدها معلقة ، إذا لم تكن في الخدمة ..

بجانب حظيرة الحيوانات ، ستجد مخزنا للتبن ، وهو لكي يستوعب مخزونا كبيرا من التبن ، قد يحتاجه صاحب الدار لثلاث سنوات ، إذا ما تعذر على الحصول على تبن جديد نتيجة لسنين القحط .. فإن من أنشأه قد حفر أكثر من مترين في أرضيته لتكون حيزا إضافيا للتخزين .. وأحيانا يحفر في الأرضية المنخفضة أصلا ، بئرا لخزن الشعير أو القمح ، لإخفاءه تحت التبن عن عيون السلطات العثمانية ، عندما كانت تجمع محاصيل الفلاحين لإمداد الجيش ..

أما ما يحاذي ( مخزن التبن ) فكان شيئا بلا باب و لا سقف ، كان يطلق عليه (الشونة ) وهو ما يزال من تحت الحيوانات من فرش مبلل ، بعد استخراج ما يمكن تصنيع ( الجلة ) منه .. فكان يكوم بالشونة ، ويترك حتى يتخمر ، فتغطى به ( طوابين ) الخبيز .. وكان من يمر بجانبه شتاءا ، يجد أن بعض الكلاب قد حفرت به و اختبأت طالبة بعض الدفء الناتج من التخمر ..

أما ما يحاذي ( الشونة) فهو ( القطع ) وهو بناء هزيل مسقوف ، ولكنه ملون بالسواد باستمرار نتيجة عشقه للدخان الذي يصدر من ( الفرن ) الذي يتصل به دون فواصل صلدة .. وكان يحفظ به الوقيد المكون من عيدان القمح أو الحمص أو الفول ، والتي لا يمكن للحيوانات أن تمضغها لصلابتها ، هذا بالإضافة الى بعض قطع الحطب و أقراص ( الجلة ) ..

أما الفرن .. فكان له دلالة رمزية ومادية و يرتبط بكل ما يغذي أهل الدار ، لقد كان غرفة أو شيئا شبيها بالغرفة ، له فتحة باب ولكن ليس عليه باب يغلق ، بل كان مفتوحا باستمرار ، فليس هناك ما يسرق منه ، وعندما يكون به ما يطبخ ، سيكون بالتأكيد امرأة تطبخ و تحرس ما تطبخ .. وكان من الصعب على من يحاول أن يدخل الى الفرن أن يرى حتى المرأة التي تطبخ ، فهي تربض وسط جو مفعم بالدخان ، الذي يدمع العيون ، ولحسن حظ من ينتظرها في إنجاز الطعام ، فإن مكونات الطعام لم تكن لتحتاج الى إضاءة ، ولا تحتاج الى دقة في المقادير ، أو توقيت إضافة الإضافات ، القلية أو النادرة أصلا .. لقد كان الفرن مجللا بالسواد ، حيث تجمع عليه السنا الأسود المتطاير من الحرق ، منذ تأسيسه ، حتى لو أسس في العهد الحجري ، فلم يكن يجري للسنا ، عمليات إزالة ، لعدم الضرورة !

بجانب الفرن ، هناك غرفة تسمى ( بيت العيلة ) وهي لتخزين المئونة ، وقد صنع لها غال وله مفتاح ، يتدلى في رقبة أكبر امرأة في الدار ( الوكيلة ) وكانت لا تتسامح في النظر اليه ، ولن تعطيه لأحد حتى لو قصوا رقبتها معه . كان به مجموعة من الجرار الفخارية الكبيرة ( بيطس ) و ( بقسة ) ، فعندما تتسع لأكثر من مئة لتر كان يطلق عليها ( بيطس ) .. كان يصنع بها (الكشك) أو يخزن بها السمن في سنين ( الفيض) .. وكان ببيت (العيلة ) مجموعة من أواني جلدية ( جف ) لجلد العجل ، و (شكوة) لجلدة الشاة وهناك ( الزق) وغيرها من الأدوات التي تأخذ اسمها من حجمها و الحيوان التي استخرجت منه، وكان بها مجموعة من (الكواير ) وهي أواني طينية تتسع الواحدة منها لحوالي ربع طن لتخزين الطحين و البرغل و بعض الحبوب التي تستخدم في الطبخ ..وكانت ( الكواير ) تصنع على مهل ، من الطين المخمر المجبول بالتبن وتبنى كل ما جف جزء منها بارتفاع شبر أضيف عليه جزء جديد حتى تصبح بارتفاع مترين تقريبا ، ويصنع لها فتحة من الأسفل ، لاستخراج مخصصات الطعام لذلك اليوم ..

يتبع
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #7  
قديم 09-06-2006, 03:16 PM
Orkida Orkida غير متصل
رنـا
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2005
المشاركات: 4,254
إفتراضي

ماشاءالله
أخي الغالي ابن حوران الموضوع رائع
وآخر مشاركتين أكثر من رائعتين،
حفظك الله أخي وبارك فيك
دمت بخير
الرد مع إقتباس
  #8  
قديم 10-06-2006, 12:49 AM
يتيم الشعر يتيم الشعر غير متصل
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2001
الإقامة: وأينما ذُكر اسم الله في بلدٍ عدَدْتُ أرجاءه من لُبِّ أوطاني
المشاركات: 5,873
إرسال رسالة عبر MSN إلى يتيم الشعر إرسال رسالة عبر بريد الياهو إلى يتيم الشعر
Arrow

أخي الكريم

اسمح لي أن أضع هذه الخاطرة في موضوعك ..

يحكون عن أسطورةٍ
بـذلـك الـزمـان
عن قرية مهجـورةٍ
قديـمـة الآســان
يحـكـون أنـهـا
بقـديـم عهـدهـا
كانت تعيش في بها
يُظِلُّـهـا الأمــان
كانت قديماً طاهـرة
بالخير كانت عامرة
بالحب فاحت عاطرة
مخضـرَّة الأفنـان
وبينمـا طيـورهـا
تبني بأمـنٍ عُشَّهـا
تشدو جميل نشيدها
بأعـذب الألحـان
في ليلـةٍ مشؤومـةٍ
شـديـدة الـظـلامْ
وأهلها فـي غفلـةٍ
فـي هـدأةٍ نـيـامْ
والليل يستر أنجمَـهْ
برزت ظلالٌ مبهمة
في ضجَّةٍ وهمهمـة
بالشرِّ كانت مفعَمـة
فدمَّـروا بيوتـهـا
فــصُــيِّــرتْ
مـحـطَّــمــة
جدرانهـا مهـدَّمـة
أنوارهـا مهشَّـمـة
كم من فتـاةٍ حـرَّةٍ
عـاشـت بـهــا
مــكــرَّمـــة
صارت لعبدٍ جارية
بيعت له كي تخدمه
هذي حكايـة قريـةٍ
عـاشـت سنيـنـاً
ســالــمـــة
تحـيـا بـخـيـرٍ
لـــم تــكــن
أبداً بيـومٍ معدَمـة
وأهم شـيءٍ أنهـا
كـــانــــت
قــديـــمـاً
مـســلــمــة
__________________
معين بن محمد
الرد مع إقتباس
  #9  
قديم 22-06-2006, 05:16 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 13 )

للزواج أهداف منها سننية ( تتبع لسنة الحياة ) ومنها وظيفية تشبع حاجات فسيولوجية من جانب ، وترفد من يعملون لإتمام الزواج بحاجات يعرفونها معرفة جيدة ..

في الجانب السنني ، يلهم الله عز وجل كل الكائنات الحية إلهاما يدفعها للقيام بالتكاثر ، فتجد عند كل الكائنات الحية من مستوى كائن حي مكون من خلية واحدة ، كالأميبا أو أي بكتيريا أو فطر ، الى أكبر حيوان يتحرك حركة ديناميكية ، أو حتى ستاتيكية .

فقد لاحظت كمختص أن شتلة من أشتال الحمضيات (كالمنتينا ) كانت بعمر أقل من سنتين ، قد تغطت بأزهار الإثمار تغطية كاملة ، وطبعا نعرف كمختصين أن تلك الظاهرة ، تنبئ بوجود مرض ، وعندما توقفت فاحصا ما يجعلها تطلق هذا الكم الهائل من الأزهار .. وجدت السبب .. أما لماذا قامت تلك الشتلة بعمرها المبكر بإطلاق هذا الكم الهائل .. فإن الشتلة تعتبر نفسها مسئولة عن تواصل جنسها ، فعندما أحست بالضعف ، استعجلت لإطلاق هذا الكم من الأزهار لتخلف من يخلفها في الحفاظ على جنسها ..

عند البشر ، يسلك الإنسان مثل سلوك شتلة الكالمنتينا ، فإذا لم يرزق بمولود فإنه يبذل قصارى جهده ، في معالجة الأسباب ، ويبقى نشاطه في البحث عن علاج يحل مشكلته قائما حتى يموت .. وهو يعلم أن له أخوانا أو أقارب أو غيره من البشر ، يقوم بمهمة الحفاظ على الجنس البشري !

في العتيقة كغيرها من قرى الريف ، يتغلب الجانب الوظيفي على الجانب السنني ، رغم الاحتفاظ بأهمية الجانب السنني ، فالزواج يعني مشروع رفد الأسرة بأعضاء جدد يقومون بأعمال الزراعة ، فإضافة مولود جديد ، يعني إضافة فلاح جديد ، يبذر ويزرع و يحصد و يقوم بالأعمال الأخرى .. ويعوض من ينتهوا من جراء أوبئة كالكوليرا أو الطاعون أو الحصبة أو غيرها ..

وقد تكون تلك العوامل الغائبة لدى الغرب ، هي ما تدفعهم لعدم الارتباط بالزواج و عدم الإنجاب ، لغياب مثل تلك المحفزات أو الأسباب ، التي يبدو أنها التصقت ك ( أليلات وراثية ) على كروموسومات أبناء شعبنا .. حتى بعد زوال عوامل الفلاحة ..

كان على الوالد عندما ينوي تزويج ولده ، أن يؤمن له (غرفة) يسكن فيها مع عروسه ، ويتدبر موضوع المهر و اللوازم الأخرى .. لكن اللوازم الأخرى لم تكن بنفس أهمية المهر ، الذي كان يتم بالمقايضة ، فيكون ( ربع ربعة دوارة ) وهي مساحة من الأرض تساوي حوالي عشرون هكتار ، و أعرف نساء تقدر قيمة مهر إحداهن ، الآن أكثر من 25 مليون دولار .. على الأسعار الحالية .. وإحداهن بعين واحدة ..


ومن لم يجد مهرا كافيا ، فيستبدل شقيقته بعروس ، وفي بعض الحالات تستبدل الابنة بعروس ! لقد كانت كثير من الزيجات تتم على طريقة سندات القيد فينزل من حساب فلان ، الى حساب فلان .. حتى تتساوى القيمتان ..

لا أذكر أكثر من حالتين ( خطف ) .. حيث سمعت أن فلانا خطف فلانة ، وكانت طريقة الخطف ، تتم عندما تنسد الأبواب في وجوه عشيقين ، ولم يستطع العريس تلبية طلبات والد العروس ، ولكن كل من العريس و العروس متمسك بالآخر ، فيهرب بها الى منطقة بعيدة ، ويدخل في حمى شيخ عشيرة ، فيعقد قرانه على فتاته ، ويتم الزواج ، ولكنني لم أسمع بأنهما عادا الى القرية ..


كنت أقلب صفحات (مفكرات ) والدي رحمه الله ، فعندما يدون حالة خطوبة ، يكتب ذبح دار فلان على فلانة ، وهي إشارة واضحة لعقد القران ، إذ كان الوفد(الجاهة) الذي يذهب لخطبة فتاة ، يأخذوا معهم كبشا أو تيسا ، ولوازمه و يذبحونه ، لعمل طعام بالمناسبة ..

من الطبيعي أن المفاوضات قد سبقت عملية اللحظات (الكرنفالية ) الذبح ، وقد تأخذ المفاوضات مدة تطول أو تقصر ، وقد تكون للنساء ( النسوان) الدور الأكبر في عمليات المفاوضات .. و أما المراسيم ( الكرنفالية ) ، ما هي إلا ملامح لنفاق اجتماعي ( محبب) .. و أظن أن لا تغيير كبير في ذلك قد حصل في الوقت الراهن ..

فعند دخول الجاهة ، يصب فنجان من القهوة ، و يشير أعضاء الجاهة (الوفد) الى رجل مرموق قد اختاروه قبل مجيئهم ، وهو من سيمثل أهل العريس ، وعندما تكون (الجاهة ) ، قد أغفلت اختيار من يتكلم باسمها ، فان من يصب القهوة ، سينتبه الى ذلك التقصير ، فيضع فنجان القهوة في وسط المجلس ، ويقول : ( شومتكم بينتاكم ) .. أي أن على الجاهة أن تقوم بتكريم من تريد من أعضائها .. فيقدم أعضاء الجاهة أحدهم ، فيعتذر ويكرم آخرا بها ، حتى يستقر الاختيار على واحد ..

فيقوم من تم تكريمه ، بقول كلام مكرر ، كان بإمكان أي واحد أن يقوله ، فهو لا يحتاج الى مذاكرة و حفظ ، وليس هو بالكلام المعقد والخطير ، بل كلام يشير الى الرغبة في طلب القرب من أهل العروس ، ويضيف بعض الصفات التي تدلل على نبل و ندرة و أهمية أهل العروس ، وهي صفات لا أظن أنها قد قيلت لهؤلاء فقط ، ولا أظن أن أهل العروس سيرهنون موافقتهم على ضوء صياغة هذا الكلام .. بل هي نمرة في برنامج .. وعندما ينهي المتكلم ، قوله بأن قهوتكم لا تبرد ، يوافق والد العروس على طلب الجاهة وتنطلق الزغاريد ..

في كثير من الأحيان ، بل في كلها ، كان يتم كتابة عقد القران ، في نفس الجلسة ، ويبقي الوفد ( الجاهة ) .. حتى يتناولوا الطعام وهو غالبا ما كان يتم مساء .. أي طعام عشاء ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
  #10  
قديم 11-07-2006, 02:51 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

( 14 )

في كثير من الأحيان ، يكون الفرح مؤلما ، كما هو الحزن مؤلم ، فمن يريد أن يفرح بزواج ابنه أو ابنته ، لو أحصينا لحظات الأسى لوجدناها تفوق لحظات السرور بدرجات كثيرة ، فمن التفكير بالمهر و التفكير بتذليل صعوبات أهل العروس ، للتفكير في مكان سكن العريس للتفكير في أثاث العرس ، و مأدبة الغداء ، و كلف الاحتفالات ، كلها مكابدة و آلام ..

يتواصى أهل العرس ، بالصمود فكلها عدة أيام وينتهي هذا العرس ، وكأنهم في نكبة أو حرب ، ويتواصى من سيقف معهم في أفراحهم ، بضرورة الذهاب للعرس ، حتى لو فيها تكليف و ثقل ، فأهل العرس متثاقلون و زوارهم متثاقلون ومع ذلك يصر الناس على إقامة الأعراس بأشكال لم تختلف كثيرا عن الماضي . لكن لو حاولنا تفسير ذلك ، فتزويج الابن هو من مسؤولية الأسرة ، فيقدم الناس على القيام بمسئولياتهم بخفة ، وتقاليد العرس هي من الواجبات ، فيتثاقل الناس من القيام بواجباتهم ..

ما أن تقترب أيام الزفاف ، فإن الاستعدادات بالعتيقة لتلك المناسبة تتزايد ، بطريقة محمومة ، فهناك من يشد (فرشات ) الصوف ، و الألحفة و الوسائد وهناك من يهتم بتنقية (البرغل ) .. وهناك من يحتاط على لوازم (الطبخ) من حطب و ذبائح و بصل و بهارات وغيرها ، و هناك من يذهب الى الأسواق لتكملة شراء أثاث العروس و ملابسها ، و هناك من يدهن (أوظة ) أو (غرفة) العريس .. ورشات مختلفة ، تؤدي كل ورشة عملها ، وتتكون تلك الورش من أهل البيت و الأقارب و الجيران ..

كانت ( التعاليل ) وهي سهرات الاحتفال بالزفاف تستمر عشرة أيام ، ثم تقلصت الى أسبوع ثم أصبحت أربعة أيام .. قبل وصول الكهرباء للعتيقة ..

كان الفتيان يقومون بتنقية الحصى و الحجارة من ساحة الاحتفال الليلية ، ويمهدونها بشكل جيد فيردمون الحفر الصغيرة ، ويزيلون النتوءات من الأرض ، حتى لا يلتوي كاحل بعض الراقصين في ( الدبكات ) .. ثم قبيل وصول المحتفلين ، ترش الأرضيات بقليل من الماء لمنع إثارة الغبرة ، وتنصب (سيبة) يعلق عليها (لوكس نفطي قوي) .. وتوقد في زاوية بعض النار لتسخين الطبلة التي تحدد إيقاع الرقص ، كلما تراخى إيقاعها ..

ثم تفتتح حلقة أو اثنتان من كبار السن ، في دور يقال له ( جوفية) .. ولا أظنها تحريفا ل (الجوبية ) العراقية .. بل لأن الكلام الذي يقال بها ، أصله من الجوف ـ الحجاز . فيقول أحدهم كلاما يردده الصف المقابل عشرة أو عشرين مرة دون ملل ، ويتحركون ببطء شديد .. و كأنهم في امتحان للمذاكرة في إعادة هذا اللون ، أو قد يكون هذا النمط من افتتاح الاحتفال هو إعلان لبدء السهرة ، حيث كانت أصواتهم تخترق كل أرجاء القرية ، يساعدهم في ذلك عدم وجود ضجيج .. فيتجمع الناس و المحتفلون ويتزايدون ..

ثم تنبري مجموعة من الشباب ، فيقومون بالدبكة ، وهي ذات إيقاع أسرع و أكثر حركة ، من اللون الأول ، وكانوا يلبسون ثيابا بيضاء مصبوغة بلون (نيلي) ، ويضعون في جيوبهم بعض القطع النقدية ، لتعطي رنات تضفي طابعا كانوا يفرحون به ، وإن لم يجدوا نقودا ، كانوا يلجئون لحيلة ، يكسرون قطعا من زجاج و يضعونها في جيوب ثيابهم ، فما أن يتقافزوا حتى ترتطم ببعض ، وتصدر صوتها المرغوب .

وهناك من على مقربة منهم ، تنبري امرأة ، غالبا ما تكون أم العريس أو خالته أو عمته ، فتقول كلاما بصوت عالي ، منظم تعلن عن فرحتها ، ذاكرة صبر الأم للحظوة برؤية ابنها و هو عريس ( تهاهي) .. وما أن تنتهي من نظمها البدائي لقولها .. فتنطلق الزغاريد من النسوة التي كانت بالأصل متهيئات لمثل هذا الدور .. وأحيانا تنطلق بعض العيارات النارية ، استكمالا لتصاعد إيقاع المشهد الاحتفالي ..

وبعد أن تخيم النشوة بالاحتفال ، و تغطي أجواء الاحتفال الحميمة على الساحة ، وبعد أن يتعب الشباب ، تنزل الفتيات في دور خاص بهن ، وهو دور لا يخلو من شد وانتباه لذويهن ، بأن يبقى في إطار الاحتشام ، وغالبا ما ينتقي الشباب أو حتى النساء زوجات المستقبل من مرونة حركة تلك الفتيات ..

يستمر هذا النوع من السهرات الى آخر ليلة ، والتي تسمى (ليلة الحنة) أو ليلة (القرى ) .. حيث ينفرد قسم من ذوي العريس في التحضير لطعام الغداء في اليوم التالي ، والذي يتكون من اللحم و البرغل و ( الكبة ) وكانت تسمى (كبة حيلة) .. حيث لا يكون بداخلها إلا (قمحا مجروشا مع البصل وقليل من الزيت) وعلى ما يبدو ( هنا جانب الاحتيال) .. فكانوا يصنعون منها كميات هائلة ، يزيد القمح المستخدم بها عن نصف طن .. حيث لا بد من إعطاء كل من يحضر (عونة) .. أن يأخذ من هذه الكبة لبيته ..

يباشر الناس بإرسال (عوناتهم ) وهي تتفاوت بين 20 كغم من القمح الى الخروف .. كمعاونة لأصحاب العرس .. فيضعون لهم قسم من الكبة حوالي (30 كبة) لكل من يحضر ( عونة) .. ويكون ذلك قبل صلاة الجمعة .. وبعد الصلاة ، يكون العريس ، قد اختار أحد البيوت للجيران أو الأقارب ، فبعد أن يقوم الشباب بإدخاله للحمام ، وتوظيبه ، وتقديم نصائحهم اللازمة ، يزفونه الى البيت المخصص من الجيران أو الأقارب .. ويؤخذ لمن زفه غداء الى ذلك البيت ، في حين يتناول الزوار طعام الغداء في بيت أبيه ..

في المساء و بعد أن تحضر العروس على فرس ، مغطاة بعباءة والدها ، يكون العريس لا زال في البيت الذي تناول فيه طعام الغداء ، فيحضر إلى من معه طعام العشاء ، ويقوم كل من تعشى بتنقيط العريس ، قدرا من المال ، وكل ذلك يسجل في دفتر ، و يعلن أمام الجميع ، حيث أن من يدور على ( المنقطين ) يصيح بأعلى صوته ( خلف الله عليك يا فلان ابن فلان أنت و أقاربك جميع .. محبة للنبي الشفيع ) ويقول الرقم الذي دفعه هذا ( الفلان ) .. وهكذا .. حتى يزف في النهاية العريس الى عروسه ..

وتبقى الأسر القريبة و الجيران يخصون العروسين بطعام خاص ، يسمى بأول يوم ( الصبحة ) .. وفي ثالث يوم ، يأتي أهل العروس و أعمامها و أخوالها لتنقيطها ، وطبعا هذا كان يدفعه أهل العريس مسبقا ، تحت مسمى ( عباءة العم ) و ( عباءة الخال ) ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م