والدنا الكريم / أبو إيهاب
قبل أن أبدأ في ردي هذا بودي أن أهنئك بحلول شهر رمضان المبارك ، سائلا الله أن يتقبل منا ومنكم صيامه وقيامه وأن يجعلنا جميعا فيه من المقبولين
ثم إني أعتذر منك أن أكون مخالفا لك في ما كتبته
ولست أبتغي من وراء ذلك إلا الحق ولا أريد سواه
ما كتبته أنت هنا ، ليس أمرا جديدا على المسلمين .
فهو مدار للجدل منذ مدة ليست بالقصيرة ، وقد قال بها الكثيرون وتصدى لها علماء أجلاء سآتي على ذكرهم في ما سأكتبه .
ولهذا فإن الإختلاف في قضايا الإسلام ، لا يجب أن تكون محسومة إلا بالإجماع عليها ، حتى وإن بدت للناس أن الحق فيما نراه ، ولنا في قول الإمام علي رضي الله عنه ( فيما معناه ) لو كان الأمر بالرأي لكان أسفل الحذاء أولى من ظهره بالمسح في التيمم .
وأنت - سيدي الفاضل - اعتمدت إعتمادا شبه كامل في تبرير ما تقول به على حديث
إقتباس:
سعيد بن عمرو: أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا). يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين.
|
ولم أجد في نص الحديث ما يشير إلى الترخيص بالحساب ، بل على العكس فيه دعوة على عدم الحساب ، لأن قوله عليه الصلاة والسلام ( إنا أمة أمية ) لا تعني بحال من الأحوال وصف أمة الإسلام حال قوله بالجهل ، وإلا لما قال ( إنا ) ، وهو واحد من أمة الإسلام ، ومن جانب آخر فقد برع العرب قبل الإسلام في كل الفنون ومنها علم الفلك ، وبرعوا أكثر وأكثر من ذلك بعده .
ولو تأملنا في الحديث قليلا فقد نجد أنه يؤخذ على أنه نص جزم وليس نص تخيير ، لأن في المسلمين آنذاك من كان يكتب ويحسب ، ولكنه عليه الصلاة والسلام بقوله ذلك يجزم بأن الشهر القمري هو إما ( 29 ) أو ( 30 ) ، وقوله عليه الصلاة والسلام ( لا نكتب ولا نحسب ) أي لا نستخدم هذا الأمر ، فالشهر مدته كذا وكذا كتأكيد على هذا تحديدا.
ومن نافلة القول أن الإسلام دين الفطرة ، والرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله جل وعلى للثقلين الإنس والجان وللحاضر منهم والباد، ولهذا صح عنه الحديث الذي أوردته واستشهدت به في موضوعك الأساس ، لأن الإسلام دين عام وليس دينا خاصا، وهذا يؤكد ما ذهبت إليه وذهب إليه كثير من العلماء في تفسيره .
ثم إنه من المعلوم أن الأصل في العبادات أنها توقيفية، وما سواها الأصل فيه الإباحة ، وقد كان المسلمون على مر العصور يعتبرون ترائي الأهلة من العبادات التي يتقربون بها إلى الله ، وهم أصحاب القرون الأولى ، وهذا ما كان يفعله أنس بن مالك رضي الله عنه ، حتى أنه كان يترآى الهلال وعمره يناهز المائة عام حيث كان يخرج ليتعبد الله بترائي الهلال .
لأن الإسلام قد جعل كل العبادات معلقة بالهلال ( ما عدا الصلاة ) وأما الزكاة والصيام والحج وعِدَة النساء والكفارات وغيرها فهي متعلقة بالهلال .
وقد قال تعالى :
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (185) سورة البقرة
ولفظ ( شهد ) تعني المشاهدة بالعين المجردة .
وقال جل من قائل عليم :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (189) سورة البقرة .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "
صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين". وفي رواية أخرى "فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غبي ( أو غم ) عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"،
يدل على أنه حتى في حال الغمام وتعسر الرؤية لا يُعمل ولا يُلتفت إلى الحساب، ولو كان ذلك جائزاً لأرشد إليه أمته صلى الله عليه وسلم.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في
"رسالة الهلال" المضمنة في فتاويه:
( فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم، أوالحج، أوالعدة، أوالإيلاء، أوغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أولا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا، وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أوتعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم).
وقال النووي في
( المجموع ) :
( قال المصنف – الشيرازي الشافعي في مختصره المهذب-: إذا غم الهلال وعرف رجل الحساب، ومنازل القمر، وعرف بالحساب أنه من رمضان، فوجهان، قال ابن سريج: يلزمه الصوم لأنه عرف الشهر بدليل فأشبه من عرفه بالبينة، وقال غيره: لا يصوم لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية، هذا كلام المصنف، ووافقه على هذه العبارة جماعة، وقال الدارمي: لا يصوم بقول منجم؛ وقال قوم: يلزم؛ قال: فإن صام بقوله فهل يجزئه عن فرضه؟ فيه وجهان، وقال صاحب البيان: إذا عرف بحساب المنازل أن غداً من رمضان، أوأخبره عارف بذلك فصدقه فنوى وصام بقوله فوجهان، أحدهما يجزيه، قاله ابن سريج، واختاره القاضي أبو الطيب لأنه سبب حصل به غلب ظن، فأشبه ما لو أخبره ثقة عن مشاهدة؛ والثاني: لا يجزيه لأن النجوم والحساب لا مدخل لهما في العبادات، قال: وهل يلزمه الصوم بذلك؟ قال ابن الصباغ: أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا، وذكر صاحب المهذب أن الوجهين في الوجوب، هذا كلام صاحب البيان، وقطع صاحب العدة بأن الحاسب والمنجم لا يعمل غيرهما بقولهما، وقال المتولي: لا يعمل غير الحاسب بقوله، وهل يلزمه هو الصوم بمعرفة نفسه الحساب؟ فيه وجهان، أصحهما لا يلزمه، وقال الرافعي: لا يجب بما يقتضيه حساب المنجم عليه ولا على غيره الصوم، قال الروياني: وكذا من عرف منازل القمر لا يلزمه الصوم به على أصح الوجهين، وأما الجواز فقال البغوي: لا يجوز تقليد المنجم في حسابه، لا في الصوم ولا في الفطر، وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه فيه وجهان؛ وجعل الروياني الوجهين فيما إذا عرف منازل القمر وعلم بوجود الهلال، وذكر أن الجواز اختيار ابن سريج، والقفال، والقاضي أبي الطيب؛ قال: فلو عرفه بالنجوم لم يجز الصوم قطعاً؛ قال الرافعي: ورأيت في بعض المسودات تعدية الخلاف في جواز العمل به إلى غير المنجم، هذا آخر كلام الرافعي، فحصل في المسألة خمسة أوجه:أصحها: لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك، ولكن يجوز لهما دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما ).
وقالت هيئة كبار العلماء في ردها على سؤال ورد عليها في هل يجوز العمل بالحساب في العبادات أم لا؟:
(أولاً: القول الصحيح الذي يجب العمل به هو ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة"، من أن العبرة في بدء شهر رمضان وانتهائه برؤية الهلال، فإن شريعة الإسلام التي بعث الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خالدة مستمرة إلى يوم القيامة ).
وأخيرا
سبق في علم الله سبحانه وتعالى ما كان وما سيكون من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم، ومع ذلك قال: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث، فعلق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال، ولم يعلقه بعلم الشهر بحساب النجوم، مع علمه تعالى بأن علماء الفلك سيتقدمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها.
واسمح لي سيدي الكريم أن أختم بجملة أتت في موضوعك الأساس ، وهي قول الأعرابي لرسول الله عليه الصلاة والسلام
إقتباس:
يارسول الله إنا نصدقك فيما هو أبعد من ذلك ، ألا نصدقك فى ذلك ؟
|
تحياتي