مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الإسلامي > الخيمة الإسلامية
اسم المستخدم
كلمة المرور

 
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 12-05-2005, 11:22 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي كتاب الفكر الاسلامي للإمام تقي الدين النبهاني

سم الله الرحمن الرحيم

التثقف بالثقافة الإسلامية فرض على المسلمين، سواء التثقف بالنصوص الشرعية أو بالوسائل التي تمكّن من فهم هذه النصوص وتطبيقها. ولا فرق بين التثقف بالأحكام الشرعية، أو التثقف بالأفكار الإسلامية. غير أنه من المؤلم أنه منذ غزا الغرب البلاد الإسلامية في ثقافته وحضارته، وبَسَط عليها أحكامه ومفاهيمه وسلطانه، أعرض المسلمون عن الثقافة الإسلامية نتيجة لتقلص سلطان الإسلام، وانحرافاً في الذوق السليم عن جادّته من جراء الدعايات المضللة التي تشن حملاتها على الإسلام وعلى ثقافته.
وقد رأيت أن أنشر شيئاً من هذه الثقافة الإسلامية، أملاً في أن يجد الناس بها، مسلمين وغير مسلمين، ما يثقف عقولهم، ويصحح أذواقهم، ويعالج بعض الهبوط الفكري الذي يخيّم على هذه المنطقة.
والله أسأل أن يوفق المسلمين للقيام بما فرضه الله عليهم من التثقف بالإسلام وحمل دعوته ونشر ثقافته، إنه سميع مجيب.
تقي الدين النبهاني
الإسلام طريقة معينة في العيش


الإسلام طراز خاص في الحياة، متميز عن غيره كل التميز، وهو يفرض على المسلمين عيشاً ملوناً بلون ثابت معين لا يتحول ولا يتغير، ويحتم عليهم التقيد بهذا الطراز الخاص تقيداً يجعلهم لا يطمئنون فكرياً ونفسياً إلاّ في هذا النوع المعين من العيش، ولا يشعرون بالسعادة إلاّ فيه.
جاء الإسلام مجموعة مفاهيم عن الحياة، تشكل وجهة نظر معينة. وجاء في خطوط عريضة، أي معان عامة تعالج جميع مشاكل الإنسان عن الحياة، يَستنبط منها بالفعل علاج كل مشكلة تحدث للإنسان، وجعل كل ذلك مستنداً إلى قاعدة فكرية تندرج تحتها كل الأفكار عن الحياة، وتُتخذ مقياساً يبنى عليها كل فكر فرعي. كما جعل الأحكام من معالجات وأفكار وآراء منبثقة عن العقيدة، مستنبَطة من الخطوط العريضة.
فهو قد حدد للإنسان الأفكار، ولم يَحُدّ عقله بل أطلقه.
وقيّد سلوكه في الحياة بأفكار معينة ولم يقيّد الإنسان بل أطلقه.
فجاءت نظرة المسلم للحياة الدنيا نظرة أمل باسم، وجدّيّة واقعية، ونظرة تقدير لها بقدرها، من حيث أنها يجب أن تُنال، ومن حيث أنها ليست غاية، ولا يصح أن تكون غاية. فيسعى المسلم في مناكبها ويأكل من رزق الله، ويتمتع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، ولكنه يدرك أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار البقاء والخلود.
وجاءت أحكام الإسلام تعالج للإنسان أمور البيع بطريقة خاصة كما تعالج أمور الصلاة. وتعالج مشاكل الزواج بطريقة خاصة كما تعالج أمور الزكاة. وتبين كيفية تملك المال وكيفية إنفاقه بطريقة خاصة كما تبين مسائل الحج. وتفصّل العقود والمعاملات بطريقة خاصة كما تفصّل الأدعية والعبادات. وتشرح الحدود والجنايات وسائر العقوبات كما تشرح عذاب جهنم ونعيم الجنة. وتدلّه على شكل الحكم وطريقته بطراز خاص كما تدله على الاندفاع الذاتي لتطبيق الأحكام طلباً لرضوان الله. وترشده إلى علاقة الدولة مع سائر الدول والشعوب والأمم كما ترشده لحمل الدعوة للعالمين. وتُلزِمه الاتصاف بعليا الصفات باعتبارها أحكاماً من عند الله، لا لأنها صفات جميلة عند الناس.
وهكذا، جاء الإسلام فنظم علاقات الإنسان كلها مع نفسه ومع الناس، كتنظيمه لعلاقته مع الله، في نسق واحد من الفكر ومن المعالجة. فصارالإنسان مكلَّفاً لأن يسير في هذه الحياة الدنيا بدافع معين، وفي طريق معين محدد، ونحو غاية معينة محددة.
وقد ألزم الإسلام الناس بالتقيد في هذه الطريق وحدها دون غيرها، وحذّرهم عذاباً أليماً في الآخرة، كما حذّرهم عقوبة صارمة في الدنيا ستقع إحداهما عليهم حتماً إذا حادوا عن هذه الطريق قيد شعرة.
ولهذا يصبح المسلم سائراً في هذه الحياة سيراً معيناً، يعيش عيشة معينة، في طراز خاص، بحكم اعتناقه عقيدة الإسلام، ووجوب طاعته لأوامر الله ونواهيه بالتقيد بأحكام الإسلام.
فهذا النوع المعين من العيش في فهم معين للحياة، وسير معين في طريق معين، أمر مفروض حتماً على كل مسلم وعلى المسلمين جميعاً.
وقد جاء به الإسلام صريحاً واضحاً في الكتاب والسنّة، في العقيدة الإسلامية والأحكام الشرعية.
ومن هنا لم يكن الإسلام ديناً روحياً فحسب، ولا مفاهيم لاهوتية أو كهنوتية، وإنّما هو طريقة معينة في العيش يجب على كل مسلم وعلى المسلمين جميعاً أن تكون حياتهم حسب هذه الطريقة وحدها.
  #2  
قديم 12-05-2005, 11:23 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي كتاب الفكر الاسلامي للإمام تقي الدين النبهاني

الله حقيقة ملموس وجودها وليس فكرة متخيَّلة في الأذهان

كثيرون على وجه الأرض، ولا سيما في العالم الغربي، يعتقدون بالله ويؤمنون به، ولكن اعتقادهم وإيمانهم مبني على أن الله فكرة وليس حقيقة. وهؤلاء يرون أن الإيمان بوجود "إله" إيمان بوجود فكرة الألوهية، وهي فكرة يقولون عنها إنها جميلة!! لأنه ما دام الإنسان يتخيلها، ويعتقد بها، ويخضع لسلطانها، فهو يبتعد عن الشر ويقترب من الخير بدافع هذه الفكرة. فهي رادع داخلي يفعل أكثر مما يفعله الدافع الخارجي. ولذلك يرون أنه يجب الإيمان بالله، ويجب تشجيع الإيمان به، حتى يظل الناس خيّرين مدفوعين إلى الخير بدافع داخلي يسمونه "الوازع الديني"!!..
وهؤلاء ما أسهل ما يجرون إلى الإلحاد، وما أقرب ما يرتدون عن إيمانهم هذا بمجرد أن يندفع العقل بالتفكير للمس وجود هذه "الفكرة". فإذا لم يلمس وجودها، ولم يدرك لهذا الوجود أثراً، جحد وجود إله وكفر بالله. وفوق هذا، فإن الإيمان بأن الله فكرة وليس حقيقة يجعل الخير أيضاً فكرة وليس حقيقة، ويجعل الشر أيضاً فكرة وليس حقيقة، فيقوم الإنسان بالأعمال بقدر ما يتخيل فيها من فكرة الخير، ويبتعد عنها بقدر ما يتخيل فيها من فكرة الشر.
والذى أدى بهؤلاء إلى هذا النوع من الإيمان هو أنهم لم يستعملوا العقل في الوصول إلى الإيمان بالله، ولم يهتدوا لحل العقدة الكبرى الناشئة من الأسئلة الطبيعية عن الكون والإنسان والحياة، وعما قبل الحياة الدنيا وعما بعدها، وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها، حلاً عقلياً، وإنما لُقّنوا الحل الذي يريده ملقّنهم، فسلّموا بهذا الحل وظلوا مؤمنين دون أن يدركوا حساً وجود الذي آمنوا به. وكثير منهم من كان يحاول أن يستعمل عقله فيجاب أن الدين فوق العقل ويُجبَر على السكوت!
والصواب أن الله حقيقة وليس فكرة، وأن وجوده ملموس محسوس، وإن كانت ذاته يستحيل إدراكها. ألا ترى أن الإنسان يسمع دوي طائرة في السماء ولا يراها، لأنه جالس داخل غرفته، ومع ذلك فإنه من حسه بصوتها يدرك وجودها ولو لم يرها ولم يحس بذاتها. فهو يعتقد بوجود طائرة في السماء من سماعه صوتها، أي يصدق جازماً عن يقين بوجود الطائرة. فإدراك وجود الطائرة غير إدراك ذاتها. فإدراك ذاتها لم يحصل لعدم الإحساس بذاتها، وإدراك وجودها قطعي من الإحساس بصوتها. فوجود الطائرة حقيقة وليس فكرة.
وكذلك هذه الأشياء المدرَكة المحسوسة، فإن وجودها أمر قطعي لأنها مشاهَدة محسوسة، وكونها محتاجة لغيرها أمر قطعي، لأنه مشاهَد محسوس. فالأجرام السماوية محتاجة إلى النظام، والنار حتى تحرق محتاجة لمن يستعملها، وهكذا كل شيء مدرَك محسوس محتاج لغيره. والمحتاج لا يمكن أن يكون أزلياً، إذ لو كان أزلياً لاستغنى عن غيره، فكونه محتاجاً معناه أنه ليس بأزلي. وعلى ذلك فإنّ كون الأشياء المدرَكة المحسوسة جميعها مخلوقة أمر قطعي، إذ غير الأزلي يعني أنه مخلوق لخالق. فالإحساس بهذه المخلوقات كالإحساس بصوت الطائرة أمر قطعي، ووجود خالق لهذه المخلوقات صدرت عنه، كوجود الطائرة التي صدر عنها الصوت، أمر قطعي، فصار وجود الخالق للمخلوقات أمراً قطعياً. فالإنسان قد أدرك المخلوقات بحسه وعقله، وأدرك من الإحساس بها وجود خالق لها قطعاً. فوجود الخالق حقيقة قد لمس الإنسان وجودها بالحس وليس فكرة تخيلها الإنسان في ذهنه.
وهذا الخالق يجب عقلاً أن يكون أزلياً، إذ لو كان غير أزلي لكان محتاجاً فيكون مخلوقاً، وبما أن الطبيعة ليست أزلية لأنها محتاجة إلى أن تسير بنسب وأحوال معينة لا تستطيع إلاّ أن تتقيد بها فهي محتاجة إلى هذه النسب والأحوال. وبما أن المادة ليست أزلية لأنها محتاجة إذ لا تستطيع أن تتحول من حال إلى حال إلاّ بتكاثر معين ونسب معينة، ولا تستطيع إلاّ أن تتقيد بهذه النسب وهذا القدر من التكاثر، فهي محتاجة، فتكون الطبيعة ليست خالقاً لأنها ليست أزلية قديمة، وتكون المادة ليست خالقاً لأنها ليست أزلية قديمة، فلم يبق إلاّ أن يكون الخالق هو الله تعالى، أي: ذلك الأزلي القديم الذي يسميه الناس الله، أو GOD أو الهيم، أو ما شاكل ذلك من الأسماء التي تدل على مسمى واحد هو الله، أي الخالق الأزلي القديم.
فالله حقيقة يُلمس وجودها بالحس من وجود مخلوقاته، والإنسان حين يخاف الله يخاف من ذاتٍ موجودة حقيقة يلمس وجودها بالحس، وحين يعبد الله يعبد ذاتاً موجودة حقيقة يلمس وجودها بالحس، وحين يطلب رضوان الله يطلب رضوان ذاتٍ موجودة حقيقة يلمس وجودها بالحس. ولذلك يكون الإنسان خائفاً من الله، عابداً الله، طالباً رضوان الله عن يقين لا يتطرق إليه أي ارتياب.

المبـدأ

المبدأ في اللغة مصدر ميمي من بدأ يبدأ بدءاً ومبدأ. وفي اصطلاح الناس جميعاً هو الفكر الأساسي الذي تُبنى عليه أفكار. فيقول الشخص: مبدئي هو الصدق، ويقصد أن يقول إن الأساس الذي أقيم عليه تصرفاتي هو الصدق؛ ويقول شخص آخر: إن مبدئي هو الوفاء، ويقصد من ذلك أن الوفاء هو الأساس الذي يقيم عليه معاملاته، وهكذا. إلاّ أن الناس أطلقوا على أفكار فرعية يمكن أن تُبنى عليها أفكار أخرى فرعية أيضاً بأنها مبادئ، على اعتبار أنها أفكار أساسية، فقالوا: الصدق مبدأ، وقالوا: حُسن الجوار مبدأ، وقالوا عن التعاون: إنه مبدأ، وهكذا.. ومن هنا قالوا: مبادئ الأخلاق، ومبادئ الاقتصاد، ومبادئ القانون، ومبادئ الاجتماع.. وهكذا، وأرادوا أفكاراً معينة من الاقتصاد تُبنى عليها أفكار منبثقة عنها، وأفكاراً معينة من القانون تُبنى عليها أفكار منبثقة عنها، قالوا عنها إنها مبادئ اقتصادية ومبادئ قانونية، وهكذا.
والحقيقة أن هذه ليست مبادئ، وإنّما هي قواعد أو أفكار، لأن المبدأ فكر أساسي، وهذه ليست أفكاراً أساسية بل أفكاراً فرعية، كونها تُبنى عليها أفكار لا يجعلها أفكاراً أساسية مطلقاً، بل تبقى أفكاراً فرعية ولو بُنيت عليها أفكار، أو انبثقت عنها أفكار، ما دامت هي ليست أساسية، وإنّما منبثقة عن أفكار أخرى، أو منبثقة جميعها عن فكر أساسي.
  #3  
قديم 14-05-2005, 01:45 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

فالصدق والوفاء والتعاون وغيرها، أفكار فرعية وليست أساسية، لأنها مأخوذة عن فكر أساسي، وليست هي الأساس، لأن الصدق فرع لأساس، فهو حكم شرعي مأخوذ من القرآن عند المسلمين، وصفة جميلة نافعة مأخوذة عن الفكر الرأسمالي عند غير المسلمين.
وعلى هذا لا يسمى الفكر مبدأ إلاّ إذا كان فكرا أساسياً تنبثق عنه أفكار. والفكر الأساسي هو الذي لا يوجد قبله فكر مطلقاً. وهذا الفكر الأساسي محصور في الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة، ولا يوجد غيرها فكر أساسي، لأن هذا الفكر هو الأساس في الحياة. فالإنسان إذا نظر لنفسه وجد أنه إنسان يحيا في الكون، فما لم يوجَد عنده فكر عن نفسه وعن الحياة وعن الكون من حيث الوجود والإيجاد، لا يمكن أن يُعطى فكراً يصلح أساساً لحياته. ولذلك تبقى حياته سائرة دون أساس، مائعة، متلونة، متنقلة، ما لم يوجد هذا الفكر الأساسي، أي ما لم توجد الفكرة الكلية عن نفسه وعن الحياة وعن الكون.
ومن هنا كانت الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة هي الفكر الأساسي، وهي العقيدة. إلاّ أن هذه العقيدة لا يمكن أن تنبثق عنها أفكار، ولا أن تُبنى عليها أفكار، إلاّ إذا كانت هي فكراً، أي كانت نتيجة بحث عقلي. أمّا إذا كانت تسليماً وتلقّياً، فلا تكون فكراً، ولا تسمى فكرة كلية، وإن كان يصح أن تسمى عقيدة. ولذلك كان لا بد أن تكون الفكرة الكلية قد توصّل إليها الإنسان عن طريق العقل، أي أن تكون نتيجة بحث عقلي، فتكون حينئذ عقيدة عقلية، وحينئذ تنبثق عنها أفكار وتُبنى عليها أفكار. وهذه الأفكار هي معالَجات لمشاكل الحياة، أي هي الأحكام التي تنظِّم للإنسان شؤون الحياة. ومتى وُجدت هذه العقيدة العقلية وانبثقت عنها أحكام تعالج مشاكل الحياة فقد وُجد المبدأ. ولذلك عُرف المبدأ بأنه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام. ومن هنا كان الإسلام مبدأ لأنه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، وهو الأحكام الشرعية، لأنها تعالج مشاكل الحياة؛ وكانت الشيوعية مبدأ لأنها عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام هو الأفكار التي تعالج مشاكل الحياة، وكانت الرأسمالية مبدأ لأنها عقيدة عقلية تُبنى عليها أفكار تعالج مشاكل الحياة.
ومن هنا أيضاً يتبين أن القومية ليست مبدأ، ولا الوطنية مبدأ، ولا النازية مبدأ، ولا الوجودية مبدأ، لأن كل واحدة منها ليست عقيدة عقلية، ولا ينبثق عنها أي نظام، ولا تُبنى عليها أي أفكار تعالج مشاكل الحياة.
أمّا الأديان فإن كانت عقيدتها عقلة قد توصل إليها عن طريق العقل وينبثق عنها نظام يعالج مشاكل الحياة، أو تبنى عليها أفكار، فهي مبدأ ينطبق عليها تعريف المبدأ. وإن كانت عقيدتها ليست عقلية، بأن كانت عقيدة وجدانية لُقّنت تلقيناً وطُلب التسليم بها دون بحث العقل، وكان لا ينبثق عنها نظام، ولا تُبنى عليها أفكار، فكل الأديان التي من هذا النوع ليست مبدأ، لأن عقيدتها ليست عقلية ولا تنبثق عنها أنظمة للحياة.

مقياس الأعمال

يسير كثير من الناس في الحياة على غير هدى، فيقومون بأعمالهم على غير مقياس يقيسون عليه. ولذلك تراهم يقومون بأعمال قبيحة يظنونها حسنة، ويمتنعون عن القيام بأعمال حسنة يظنونها قبيحة. فالمرأة المسلمة التي تمشي في شوارع أمهات المدن الإسلامية كبيروت ودمشق والقاهرة وبغداد تكشف عن ساقيها، وتُبرز محاسنها ومفاتنها، وهي تظن أنها تقوم بفعل حسن، والرجل الورع الملازِم للمساجد يمتنع عن الخوض في تصرفات الحكام الفاسدة لأنها من السياسة، وهو يظن أن الخوض في السياسة فعل قبيح. وهذه المرأة وهذا الرجل وقعا في الإثم، فكشفت هي عورتها، ولم يهتم هو بأمر المسلمين، لأنهما لم يتخذا لأنفسهما مقياساً يقيسان أعمالهما بحسبه. ولو اتخذا مقياساً لَما تناقضا هذا التناقض في تصرفاتهما مع المبدأ الذي يعلنان بصراحة أنهما يعتنقانه. ولذلك كان لا بد للإنسان من مقياس يقيس أعماله عليه حتى يعرف حقيقة العمل قبل أن يُقدم عليه.
والإسلام قد جعل للإنسان مقياساً يقيس عليه الأشياء، فيعرف قبيحها من حسنها، فيمتنع عن الفعل القبيح، ويقدِم على الفعل الحسن. وهذا القياس هو الشرع وحده؛ فما حسّنه الشرع من الأفعال هو الحسن، وما قبّحه الشرع هو القبيح. وهذا المقياس دائمي، فلا يصبح الحسن قبيحاً، ولا يتحول القبيح إلى حسن؛ بل ما قال عنه الشرع حسناً يبقى حسناً، وما قال الشرع عنه قبيحاً يبقى قبيحاً.
وبذلك يكون الإنسان قد سار في طريق مستقيم، وعلى هدى من أمره، فيدرك الأمور على حقيقتها، بخلاف ما لو لم يجعل الشرع مقياساً للحُسن والقُبح، بأن جَعل العقل مقياساً له، فإنه يسير متخبطاً لأنه يصبح الشيء حسناً في حال وقبيحاً في حال آخر، إذ العقل قد يرى الشيء الواحد حسناً اليوم ثم يراه قبيحاً غداً، وقد يراه حسناً في بلد قبيحاً في بلد أخرى، فيصبح الحكم على الأشياء في مهب الريح، ويصبح الحُسن والقُبح نسبياً لا حقيقيا. وحينئذ يقع في ورطة القيام بالفعل القبيح وهو يظنه حسناً ويمتنع عن الفعل الحسن وهو يظنه قبيحاً.
وعليه، كان لا بد من تحكيم الشرع وجعله مقياساً للأفعال كلها وجعل الحَسن ما حسّنه الشرع والقبيح ما قبّحه الشرع.

التدين غريزة

في الإنسان طاقة حيوية تدفعه للقيام بأعماله وتتطلب إشباعاً. وهذه الطاقة الحيوية ذات مظهرين اثنين: أحدهما يتطلب الإشباع الحتمي، وإذا لم تُشبع يموت الإنسان، وهذه هي الحاجات العضوية كالأكل والشرب وقضاء الحاجة. والثانية تتطلب الإشباع ولكن إذا لم تُشبع لا يموت الإنسان وإنّما يكون قلقاً حتى يشبعها، وهذه هي الغرائز، وعملها يكون بشعور طبيعي يندفع متطلباً الإشباع.
إلاّ أن الغرائز ليست كالحاجات العضوية من حيث الدافع، بل تختلف عنها، لأن الحاجات العضوية دافعها داخلي، أمّا الغرائز فإن الذي يدفعها أو يُظهِر الشعور بتطلب الإشباع هو: إما أفكار تتداعى عن الشيء الذي يثير المشاعر، أو واقع محسوس يثير المشاعر للإشباع. فغريزة النوع مثلاً يثيرها التفكير بفتاة جميلة، أو بما يتعلق بالجنس، أو برؤية فتاة جميلة أو أي شيء يتعلق بالجنس. وإذا لم يحصل ذلك لا يحصل ما يثير الغريزة. وغريزة التدين يثيرها التفكير بآيات الله، أو في يوم القيامة، أو ما يتعلق بذلك، أو النظرة إلى بديع صنع الله مما في السموات والأرض، أو ما يتعلق بذلك. ومن هنا نجد الغريزة ظاهرة آثارها عند حصول ما يثيرها، ولا تُرى هذه الآثار في حالة عدم وجود ما يثيرها، أو في حالة تحويل ما يثيرها عن الإثارة بتفسيره تفسيرات مغالطة تُفقده لدى مفهوم الشخص صفته الأصلية التي تثير الغريزة.
والتدين غريزة طبيعية ثابتة، إذ هو الشعور بالحاجة إلى الخالق المدبر بغض النظر عن تفسير هذا الخالق المدبر. وهذا الشعور فطري يكون في الإنسان من حيث هو إنسان، سواء أكان مؤمناً بوجود الخالق، أو كافراً به مؤمناً بالمادة أو الطبيعة. ووجود هذا الشعور في الإنسان حتمي لأنه يخلق معه جزءاً من تكوينه، ولا يمكن أن يخلو منه أو ينفصل عنه، وهذا هو التدين.
والمظهر الذي يظهر به هذا التدين هو التقديس لما يعتقد أنه هو الخالق المدبر، أو الذي يتصور أنه قد حل به الخالق المدبر. وقد يظهر التقديس بمظهره الحقيقي فيكون عبادة، وقد يظهر بأقل صوره فيكون التعظيم والتبجيل.
  #4  
قديم 14-05-2005, 01:48 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

والتقديس هو منتهى الاحترام القلبي، وهو ليس ناتجاً عن الخوف بل ناتجاً عن التدين. لأن الخوف ليس مظهره التقديس، بل مظهره الملق، أو الهروب، أو الدفاع، وذلك يناقض حقيقة التقديس. فالتقديس مظهر للتدين لا للخوف، فيكون التدين غريزة مستقلة غير غريزة البقاء التي من مظاهرها الخوف، ولذلك نجد الإنسان متديناً. ومنذ أن أوجده الله على الأرض نجده يعبد شيئاً. فقد عبد الشمس والكواكب، والنار، والأصنام، وعبد الله. ولا نجد عصراً، ولا أمّة، ولا شعباً، إلاّ وهو يعبد شيئاً. حتى الشعوب التي قام فيها السلطان بالقوة يجبرها على ترك التدين، كانت متدينة تعبد شيئاً، رغم القوة التي تتسلط عليها، وتتحمل كل الأذى في سبيل أداء عبادتها. ولن تستطيع قوة أن تنزع من الإنسان التدين، وتزيل منه تقديس الخالق، وتمنعه من العبادة، وإنّما تستطيع أن تكبت ذلك إلى زمن، لأن العبادة مظهر طبيعي من مظاهر التدين الذي هو غريزة طبيعية في الإنسان.
أمّا ما يظهر على بعض الملحدين من عدم العبادة، أو من الاستهزاء بالعبادة، فإن هؤلاء قد صُرفت غزيرة التدين عندهم عن عبادة الله إلى عبادة المخلوقات، وجعل مظهرها في تقديس الطبيعة أو الأبطال أو الأشياء الضخمة، أو ما شاكل ذلك، واستُعملت لهذا الصرف المغالطات والتفسيرات الخاطئة للأشياء.
ومن هنا كان الكفر أصعب من الإيمان، لأنه صرفٌ للإنسان عن فطرته، وتحويل لها عن مظاهرها الحقيقية. فيحتاج ذلك إلى جهد كبير. وما أصعب أن ينصرف الإنسان عن مقتضى طبيعته وفطرته!
ولذلك تجد الملحدين حين ينكشف لهم الحق، ويبدو لهم وجود الله حساً فيدركون وجوده بالعقل إدراكاً جازماً، تجدهم يسرعون إلى الإيمان ويشعرون بالراحة والاطمئنان، ويزول عنهم كابوس كان يثقلهم، ويكون إيمان أمثال هؤلاء راسخاً قوياً لأنه جاء عن حس ويقين، لأن عقلهم ارتبط بوجدانهم، فأدركوا إدراكاً يقينياً وجود الله، وشعروا شعوراً يقينياً بوجوده، فالتقت فطرتهم بعقلهم، فكانت قوة الإيمان.

الفرض على الكفاية فرض على كل مسلم

الفرض هو خطاب الشارع المتعلق بطلب الفعل طلباً جازماً، كقوله تعالى: (أقيموا الصلاة) (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا في سبيل الله)، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (إنّما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به) (من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية). فهذه النصوص كلها خطاب من الشارع متعلق بطلب الفعل طلباً جازماً. والذي جعل الطلب جازماً القرينة التي جاءت فيما يتعلق بالطلب فجعلته جازماً، فيجب القيام به. ولا يسقط الفرض بحال من الأحوال حتى يقام العمل الذي فُرض. ويستحق تارك الفرض العقاب على تركه، ويظل آثماً حتى يقوم به. ولا فرق في ذلك بين فرض العين والفرض على الكفاية، فكلها فرض على جميع المسلمين، فقوله تعالى: (أقيموا الصلاة) فرض عين، وقوله تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا) فرض كفاية، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعل الإمام ليُؤتمّ به) فرض عين، وقوله عليه السلام: (من مات وليس في عنقه بيعة.. الحديث) فرض كفاية. وكلها فرض تثبُت بخطاب الشارع المتعلق بطلب الفعل طلباً جازماً. فمحاولة التفريق بين فرض العين والفرض على الكفاية من جهة الوجوب إثم عند الله، وصد عن سبيل الله، ومغالطة للتساهل بالقيام بفروض الله تعالى.
أمّا من حيث سقوط الفرض عمن وجب عليه، فإنه أيضاً لا فرق بين فرض العين وفرض الكفاية. فلا يسقط الفرض حتى يقام العمل الذي طلبه الشارع، سواء طُلب القيام به من كل مسلم كالصلاة المكتوبة، أو طُلب القيام به من جميع المسلمين كبيعة الخليفة، فإن كلاً منها لا يسقط حتى يقام العمل، أي حتى تقام الصلاة، وحتى يقام الخليفة وتحصل البيعة له. ففرض الكفاية لا يسقط عن أي واحد من المسلمين إذا قام بعضهم بما يقيمه حتى يتم قيامه، فيبقى كل مسلم آثماً ما دام القيام بالعمل لم يتم.
وعلى ذلك فمن الخطأ أن يقال إن فرض الكفاية هو الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، بل فرض الكفاية هو الذي إذا أقامه البعض سقط عن الباقين. وسقوطه حينئذ أمر واقعي، لأن العمل المطلوب قد قام ووُجد، فلم يبق مجال لبقائه. هذا هو الفرض على الكفاية، وهو كفرض العين سواء بسواء. وعلى ذلك فإن إقامة الدولة الإسلامية فرض على جميع المسلمين، أي على كل مسلم من المسلمين. ولا يسقط هذا الفرض عن أي واحد من المسلمين حتى تقوم الدولة الإسلامية. فإذا قام البعض بما يقيم الدولة الإسلامية لا يسقط الفرض عن أي واحد من المسلمين ما دامت الدولة الإسلامية لم تقم، ويبقى الفرض على كل مسلم، ويبقى الإثم على كل مسلم حتى يتم قيام الدولة. ولا يسقط الإثم عن أي مسلم حتى يباشِر القيام بما يقيمها، مستمراً على ذلك حتى تقوم. وجهاد الفرنسيين في الجزائر فرض على جميع المسلمين، فإذا قام أهل الجزائر بجهاد الفرنسيين، لا يسقط الفرض عن أحد من المسلمين حتى يتم إخراج الفرنسيين من الجزائر ويتم انتصار المسلمين. وهكذا كل فرض على الكفاية يبقى فرضاً على كل مسلم ولا يسقط هذا الفرض حتى يقام العمل المطلوب.

لا إله إلاّ الله تعني: لا معبود إلاّ الله

لمّا كان التقديس في الإنسان فطرياً، كان الإنسان من فطرته أن يعبد شيئاً. فالعبادة رَجْع طبيعي لغريزة التدين. ولذلك يشعر الإنسان حين يؤدي العبادة براحة وطمأنينة، لأنه في أدائه العبادة يكون قد أشبع غريزة التدين. إلاّ أن هذه العبادة لا يجوز أن تُترك للوجدان أن يقررها كما يتطلب، ويؤديها الإنسان كما يتخيل، بل لا بد أن يشترك العقل مع الوجدان لتعيين الشيء الذي يجب أن يُعبد. لأن الوجدان عُرضة للخطأ، ومدعاة للضلال. وكثيراً ما يدفع الوجدان الإنسان لعبادة أشياء يجب أن تحطَّم، وكثيراً ما يدفع لتقديس أشياء يجب أن تُحتقر. فإذا تُرك الوجدان وحده يقرر ما يعبده الإنسان، أدى ذلك إلى الضلال في عبادة غير الخالق، أو إلى الخرافات في التقرب إلى الخالق بما يُبعِد عنه.
وذلك أن الوجدان إحساس غريزي، أو شعور داخلي، يظهر بوجود واقع محسوس يتجاوب معه، أو من تفكير بما يثير هذا الشعور. فإذا أحدث الإنسان رجعاً لهذا الشعور بمجرد وصوله دون تفكير، قد يؤدي ذلك إلى الضلال أو الخطأ.
فمثلاً: قد ترى في الليل شبحاً فتظنه عدواً لك؛ فتتحرك فيك غريزة البقاء في مظهر الخوف؛ فإذا استجبت لهذا الشعور، وأحدثتَ الرجع الذي يتطلبه وهو الهرب مثلاً، كان ذلك خطأ منك، لأنك قد تهرب من لا شيء! وقد تهرب من شيء لا تنفع فيه إلاّ المقاومة، فيكون رجعك الذي أحدثته خطأ. ولكن حين تستعمل عقلك، وتفكر في هذا الشعور الذي ظهر لديك قبل أن تُحدث الرجع الذي يتطلبه، يتبين لك ما هو الذي يجب أن تقوم به من الأعمال. فقد يتبين لك أن الشبح عامود كهرباء، أو شجرة، أو حيوان، وحينئذ يتبدد لديك الخوف وتظل سائراً. وقد يتبين لك أنه سبع لا تقوى على الركض أمامه، فتلجأ
  #5  
قديم 14-05-2005, 01:49 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

إلى الحيلة في تسلق شجرة، أو اللجوء إلى منزل فتنجو. ولذلك لا يجوز أن يقوم الإنسان بالرجع الذي تتطلبه الغريزة، إلاّ مع استعمال العقل، أي لا يجوز أن يقوم بأعمال بناء على دافع الوجدان وحده، بل لا بد من استعمال العقل مع الوجدان. ومن هنا كان لا بد أن يكون التقديس مبنياً على التفكير مع الوجدان، لأنه رجع لغريزة التدين، فلا يجوز أن يحصل هذا الرجع دون تفكير، لأنه قد يؤدي إلى الضلال أو الخطأ. فوجب أن لا يُحدث الإنسان هذا الرجع لغريزة التدين إلاّ بعد التفكير، أي إلاّ باستعمال العقل. ولذلك لا يجوز أن تكون عبادة إلاّ وفق ما يرشد إليه العقل، حتى تكون هذه العبادة لمن تهدي الفطرة لعبادته، وهو الخالق المدبر الذي يشعر الإنسان أنه محتاج إليه.
والعقل يحتم أن لا تكون العبادة إلاّ للخالق لأنه هو الأزلي، وهو واجب الوجود، فلا يجوز أن تكون العبادة لغيره. فهو الذي خلق الإنسان والكون والحياة، وهو المتصف بصفات الكمال المطلق. فإذا اعتقد الإنسان بوجوده فيتحتم أن يعبده، ويتحتم أن تكون العبادة له وحده. فالإقرار بكونه خالقاً، فطرياً وعقلياً، يحتم على المُقِر أن يعبده، لأن العبادة رجع لشعوره بوجوده، وهي أعظم مظهر من مظاهر الشكر التي يجب أن يقوم بها المخلوق لمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد. فالفطرة تحتم العبادة، والعقل يحتم العبادة. والفطرة تحتم أن تكون هذه العبادة لهذا الخالق وحده دون غيره، والعقل يحتم أن يكون الذي يستحق العبادة والشكر والثناء هو الخالق وحده دون سواه. ولذلك نجد الذين استسلموا للوجدان وحده في إحداث رجع التقديس دون أن يستعملوا العقل، ضلّوا، فعبدوا معبودات متعددة مع اعترافهم بوجود الخالق الواجب الوجود، ومع اعترافهم بأن هذا الخالق واحد. ولكنهم حين أحدثوا رجع التدين، قدّسوا الخالق، وقدّسوا معه غيره، فعبدوا الخالق، وعبدوا المخلوقات، إما باعتبارها آلهة تستحق العبادة لذاتها، وإما ظناً منهم أن الخالق حلّ بها، أو أنه يرضى بالتقرب إليه في عبادتها.
فالفطرة تحتم وجود الخالق، ولكن رجع التقديس الذي يتحتم إحداثه حين يحصل ما يحرك مشاعر التدين يؤدي إلى جعل التقديس لكل ما يُظن فيه أنه المستحق للعبادة، إما لكونه خالقاً، أو لتصور رضا الخالق بتقديسه، أو للظن بأنه حلّ به. فيؤدي ذلك إلى تعدد المعبودات، مع وحدة الخالق.
ولذلك جاء ظن التعدد متجهاً نحو المعبود، لا نحو الخالق، فكان النفي للتعدد يجب أن يكون نفياً للمعبودات، وحصراً للعبادة بالخالق الأزلي الذات، الواجب الوجود.
ولذلك جاء الإسلام مبيناً لبني الإنسان كلهم، أن العبادة لا تكون إلاّ للذات الواجب الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى، وشارحاً هذا البيان بطريق عقلي صريح. فسألهم عن الأشياء التي يجب أن يقوم بها المعبود، فأجابوا أنه هو الله، وألزموا أنفسهم الحجة، قال تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله، قل أفلا تذكّرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يُجير ولا يُجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله، قل فأنّى تُسحرون. بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله، إذاً لذهب كل إليه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض). فباعترافهم هذا من أن الله هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، فقد ألزموا أنفسهم بعبوديته وحده، لأنه حسب اعترافهم هو وحده المستحق للعبادة. وقد بين لهم في آية أخرى أن غير الله لا يفعل شيئاً يستحق العبادة، فقال: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم، من إله غير الله يأتيكم به)، وقال: (أم لهم إله غير الله). وقد أكد الله في القرآن وحدانية المعبود في آيات كثيرة، أكد فيها توحيد الإله، فقال: (وإلهكم إله واحد لا إله إلاّ هو) (الله لا إله إلاّ هو) (وما من إله إلاّ الله الواحد القهار) أي ما من معبود إلاّ الذات الواجب الوجود، وهو الله الواحد، وقال: (وما من إله إلاّ إله واحد) أي ما من معبود إلاّ معبود واحد.
فالإسلام جاء بتوحيد العبادة بالذات الواجب الوجود، الذي يحتم العقل والفطرة وجوده وهو الله. والآيات القرآنية تدل دلالة صريحة في نفي تعدد الآلهة، (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا)، أي جاءت الآيات في نفي تعدد المعبودات، وفي حصر العبادة بالإله الواحد وهو الله، أي جاءت بأن المعبود واحد هو الذات الواجب الوجود.
و(إله) في اللغة ليس لها إلاّ معنى واحد هو المعبود، وليس لها أي معنى شرعي غير ذلك. فـ (لا إله) معناها في اللغة وفي الشرع: لا معبود. و(إلاّ الله) معناها في اللغة وفي الشرع: الذات الواجب الوجود، وهو الله. وعلى هذا فيكون المراد من الشهادة الأولى في الإسلام، ليس شهادة بوحدانية الخالق فحسب، كما يتوهم الكثيرون، وإنّما المراد من الشهادة هو أن يشهد أنه لا معبود إلاّ الله الواجب الوجود، حتى يُفرَد وحده بالعبادة والتقديس، وتُنفى نفياً قاطعاً العبادة عن أي شيء غير الله.
ومن هنا كان الاعتراف بوجود الله غير كاف في الوحدانية، بل لا بد من وحدانية الخالق، ووحدانية المعبود، لأن معنى (لا إله إلاّ الله) هو لا معبود إلاّ الله. ولذلك كانت شهادة المسلم بأنه "لا إله إلاّ الله" ملزِمة له قطعاً بالعبادة لله، وملزِمة له بإفراد العبادة بالله وحده. فالتوحيد هو توحيد التقديس بالخالق، أي توحيد العبادة بالله الواحد الأحد.

الرزق بيد الله وحده

الرزق غير المِلكية، لأن الرزق هو العطاء. فرَزَق معناها أعطى. وأمّا الملكية فهي حيازة الشيء بكيفية من الكيفيات التي أجاز الشرع حيازة المال بها. ويكون الرزق حلالاً ويكون حراماً، وكله يقال عنه إنه رزق. فالمال الذي يأخذه العامل أجرة عمله رزق، والمال الذي يأخذه المقامر من غيره في لعب القمار رزق، لأنه مال أعطاه الله لكل منهما حين باشر حالة من الحالات التي يحصل فيها الرزق. وقد غلب على الناس الظن بأنهم هم الذين يرزقون أنفسهم. بالموظف الذي يأخذ راتباً معيناً بكدّه وجهده يظن أنه قد رزق نفسه، وحين تأتيه الزياد بناء على بذل مجهود منه، أو سعي للزيادة، يظن أنه رزق نفسه هذه الزيادة، والتاجر الذي يربح مالاً بسعيه في التجارة يظن أنه قد رزق نفسه، والطبيب الذي يعالج المرضى بأجر يظن أنه قد رزق نفسه. وهكذا يظن كل واحد يباشر عملاً يكسب منه مالاً أنه هو الذي رزق نفسه. وإنّما جاء هذا الظن للناس من كونهم لم يدركوا حقيقة الحالات التي يأتيهم فيها الرزق، فظنّوها أسباباً.
والحقيقة التي يجب على المسلم أن يسلِّم بها هي أن الرزق من الله وليس من الإنسان، وأن هذه الحالات التي يأتي فيها الرزق هي أوضاع حصل فيها الرزق، وليست هي أسباباً نتج عنها الرزق، ولو كانت أسباباً لَما تخلّفت مطلقاً، مع أن المشاهَد حساً أنها تتخلّف، فقد تحصل هذه الحالات ولا يأتي الرزق. فلو كانت أسباباً لنتج عنها المسبَّب حتماً وهو الرزق. وبما أنها لا ينتج عنها حتماً، وإنّما يأتي حين تكون، وقد يتخلف الرزق مع وجودها، فدل على أنها ليست أسباباً وإنّما هي حالات.
على أنه بالإضافة إلى ذلك لا يمكن اعتبار الحالات التي يأتي الرزق حين تكون، أسباباً للرزق، ولا الشخص الذي قام بها هو الذي أتى بالرزق بواسطتها، لأن ذلك يتعارض مع نص القرآن القطعي الدلالة والقطعي الثبوت، وإذا تعارض أي شيء مع نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت يرجَّح النص القطعي ويؤخذ به ويُرفض غيره. وقد وردت الآيات الكثيرة التي تدل بصراحة لا تقبل التأويل على أن الرزق من الله تعالى وحده وليس من الإنسان.
  #6  
قديم 14-05-2005, 01:51 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

وهذا ما يجعلنا نجزم بأن ما نشاهده من وسائل وأساليب يأتي فيها الرزق إنّما هي حالات يحصل أن يأتي الرزق فيها. فالله تعالى يقول: (وكلوا مما رزقكم الله) (الذي خلقكم ثم رزقكم) (أنفقوا مما رزقكم الله) (إن الله يرزق من يشاء) (الله يرزقها وإياكم) (نحن نرزقك) (نحن نرزقكم وإياهم) (نحن نرزقهم وإياكم) (ليَرزُقنّهم الله) (يبسط الرزق لمن يشاء) (فابتغوا عند الله الرزق) (وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها) (إن الله هو الرزاق).
فهذه الآيات وغيرها كثير، قطعية الدلالة ولا تحتمل إلاّ معنى واحداً لا يقبل التأويل وهو أن الرزق من الله وحده لا من غيره. إلاّ أن الله أمر عباده بالقيام بأعمال جعل فيهم القدرة على الاختيار بأن يباشروا فيها الحالات التي يأتي فيها الرزق. فهم الذين يباشرون جميع الحالات التي يأتي فيها الرزق باختيارهم، ولكن ليسوا هم الذين يأتون بالرزق، كما هو صريح نص الآيات، بل الله هو الذي يرزقهم في هذه الحالات بغض النظر عن كون الرزق حلالاً أو حراماً، وبغض النظر عن كون هذه الحالات قد أباحها الله، أو حرمها أو أوجبها، وبغض النظر عن كونها قد حصل فيها الرزق أم لم يحصل. إلاّ أن الإسلام قد بين الكيفية التي يجوز للمسلم أن يباشر فيها الحالة التي يحصل فيها الرزق، والتي لا يجوز له أن يباشرها. فبيّن أسباب التملك لا أسباب الرزق، وحصر الملكية بهذه الأسباب. فليس لأحد أن يملك الرزق إلاّ بسبب شرعي لأنه هو الرزق الحلال وما عداه فهو رزق حرام، وإن كان الرزق كله –حلالاً أو حراماً- من الله سبحانه وتعالى.

التقيد بالأحكام الشرعية يحتمه الإيمان بالإسلام

الأفعال التي يقوم بها العباد باختيارهم لا تأخذ أي حكم قبل ورود الشرع، فهي غير واجبة عليهم، ولا مندوبة، ولا محرَّمة، ولا مكروهة، ولا مباحة، بل يقومون بها حسب ما يرونه هم من مصلحة لهم، لأنه لا تكليف قبل ورود الشرع، قال تعالى: (وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولاً)، فأمّن الله بهذه الآية خلقه من العذاب على ما يرتكبون من أعمال قبل بعثة الرسل، فهم غير مسؤولين لأنهم غير مكلَّفين بحكم من الأحكام. فإذا أرسل الله لهم رسولاً، أصبحوا مقيَّدين بما جاءهم به ذلك الرسول ولم تبق لهم حجة على عدم التقيد بالأحكام التي جاء بها الرسول، قال تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). فمن لم يؤمن بذلك الرسول كان مسؤولاً أمام الله عن عدم إيمانه وعن عدم التقيد بالأحكام التي جاء بها، ومن آمن به كان مقيداً بالأحكام التي جاء بها ومسؤولاً عن عدم اتباع أي حكم منها.
ومن هنا كان المسلمون مأمورين بأن يسيّروا أعمالهم بحسب أحكام الإسلام، لأنهم ملزَمون بتسيير أعمالهم وفق أوامر الله ونواهيه، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). ولا يقال هنا: وما لم يأتكم به ولم ينهكم عنه فأنتم غير مكلَّفين به. لأن التكليف بالشرع عام لعموم الرسالة للإنسان وليس لأفعال معينة من أفعاله، قال تعالى: (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)، فصار يتحتم أن يكون ما أتاكم به من حكمِ كل فعل وما نهاكم عنه من حكمِ كل فعل. وعليه فإن كل مسلم أراد أن يقوم بفعل من الأفعال لقضاء حاجاته والقيام بمصالحه، وجب عليه شرعاً أن يعرف حكم الله في ذلك الفعل قبل القيام به حتى يقوم به بحسب الحكم الشرعي فيه. ولا يقال هنا: إن هناك أشياء حدثت لم يَنُص الشرع عليها فترك لنا الاختيار في فعلها وعدم فعلها. لأن ذلك يعني أن الشريعة ناقصة وغير صالحة إلاّ للعصر الذي جاءت به. وهذا مخالف للشريعة نفسها، وللواقع الذي تنطبق عليه، إذ أن الشريعة لم تأت بأحكام تفصيلية لأشياء معينة حتى تقف عندها، وإنّما جاءت بمعان عامة لمشاكل الإنسان من حيث هو إنسان بغض النظر عن الزمان والمكان، فتندرج تحت هذه المعاني جميع الأفعال الجزئية. فإذا حدثت مشكلة أو جدَّت حادثة فإنها تُدرَس ويُفهم واقعها ثم يُستنبَط حلها من المعاني العامة التي جاءت بها الشريعة، فيكون ما استُنبط من رأي هو حكم الله في هذه المشكلة أو تلك الحادثة. وقد سار المسلمون على ذلك منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ذهاب الدولة الإسلامية. ولا يزال المسلمون المتمسكون بالإسلام يسيرون على ذلك. فقد حدثت مشاكل في أيام أبي بكر لم تكن في زمن الرسول، وحدثت مشاكل في أيام هارون الرشيد مثلاً لم تكن في أيام أبي بكر، فاستنبط لها المجتهدون الذين كانوا يُعَدّون بالمئات والألوف أحكاماً شرعية لم تكن معروفة من قبل. وهكذا ساروا في كل مشكلة، وكل حادثة، لأن الشريعة الإسلامية جامعة: فما من مشكلة إلاّ ولها محل حكم، وما من مسألة إلاّ ولها حكم. وعليه فيجب على كل مسلم أن يتقيد بأفعاله بالأحكام الشرعية، وأن لا يقوم بعمل إلاّ بحسب أوامر الله ونواهيه.

لا يحصل الموت إلاّ بانتهاء الأجل

يظن كثير من الناس أن الموت وإن كان واحداً، ولكن أسباب الموت متعددة. فقد يكون الموت من مرض مميت كالطاعون مثلاً، وقد يكون من طعن سكين أو ضرب رصاص أو حرق بالنار أو قطع رأس أو وقف القلب أو غير ذلك. فهذه كلها عندهم أسباب مباشرة تؤدي إلى الموت، أي يحصل الموت بسببها. ومن أجل ذلك اشتُهرت على لسانهم عبارة "تعددت الأسباب والموت واحد".
والحقيقة هي أن الموت واحد، وأن سببه واحد أيضاً وهو انتهاء الأجل ليس غير. وأمّا هذه الأشياء التي تحصل ويحصل من جرائها الموت فهي أحوال يحصل فيها الموت وليست أسباباً للموت.
وذلك أن السبب ينتِج المسبَّب حتماً، وأن المسبَّب لا يمكن أن ينتُج إلاّ عن سببه وحده، بخلاف الحالة، فإنها ظرف خاص بملابسات خاصة يحصل فيها الشيء عادة، ولكنه قد يتخلف ولا يحصل. فقد توجد الحالة ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت ولا تحصل الحالة.
والمتتبع لكثير من الأشياء التي يحصل فيها الموت، والمتتبع للموت نفسه، يجد أنه قد تحصل هذه الأشياء ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت ولا تحصل هذه الأشياء. فمثلاً: قد يُضرب شخص سكيناً ضربة قاتلة ويُجمِع الأطباء على أنها قاتلة، ثم لا يموت فيها المضروب بل يشفى ويعافى منها. وقد يحصل الموت دون سبب ظاهر، كأن يقف قلب إنسان فجأة فيموت في الحال دون أن يتبين أي سبب لوقوف هذا القلب لجميع الأطباء بعد الفحص الدقيق.
والحوادث على ذلك كثيرة يعرفها الأطباء. وقد شَهِدَت منها المستشفيات آلاف الحوادث. يحصل سببٌ يؤدي إلى الموت عادة جزماً، ثم لا يموت الشخص. ويحصل موت فجأة دون أن يظهر أي سبب أدى إليه. ومن أجل ذلك يقول الأطباء جميعاً إن فلاناً المريض لا فائدة منه حسب تعاليم الطب ولكن قد يعافى وهذا فوق علمنا. ويقولون إن فلاناً لا خطر عليه وهو معافى وتجاوز دور الخطر، ثم ينتكس فجأة فيموت. وهذا كله واقع مشاهَد محسوس من الناس ومن الأطباء. وهو يدل دلالة واضحة على أن هذه الأشياء التي حصل منها الموت ليست أسباباً له، إذ لو كانت أسباباً لَما تخلّفت، ولَما حصل بغيرها. فمجرد تخلفها ولو مرة واحدة، ومجرد حصول الموت بدونها ولو مرة واحدة يدل قطعاً على أنها ليست أسباباً بل حالات، وسبب الموت الحقيقي الذي ينتِج المسبَّب هو غيرها وليست هي.
وهذا السبب الحقيقي لم يستطع العقل أن يهتدي إليه لأنه لم يقع تحت الحس، فلا بد أن يخبرنا به الله، وأن يثبت ذلك بدليل قطعي الدلالة والثبوت. وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في آيات متعددة بأنه الأجل، وأن الله هو الذي يميت. فالموت يحصل بالأجل والذي يميت هو الله سبحانه وتعالى. وقد ورد ذلك في آيات متعددة، قال تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله كتاباً مؤجلاً) (الله يتوفى الأنفس حين موتها) (ربي الذي يحيي ويميت) (والله يحيي ويميت) (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيَّدة) (قل يتوفاكم مَلَك الموت الذي وُكِّل بكم) (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) (نحن قدّرنا بينكم الموت) (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخَّر) (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
فهذه الآيات وغيرها قطعية الثبوت قطعية الدلالة بأن الله هو الذي يميت، وأن سبب الموت هو انتهاء الأجل، وليس الحالة التي حصل فيها الموت.
وعلى ذلك كان واجباً على المسلم أن يؤمن عقلاً وشرعاً بأن ما يظنه أسباباً للموت هو حالات وليست أسباباً، وأن السبب غيرها، وثبت شرعاً من طريق الدليل القطعي أن الموت بيد الله، وأن الله هو الذي يميت، وأن سبب الموت هو انتهاء الأجل. وإذا جاء الأجل لا يؤخر ولا يقدّم ولا يستطيع إنسان أن يتوقّى من الموت أو يهرب منه مطلقاً، فهو آتيه لا محالة.
أمّا الذي أمر الإنسان أن يتوقّاه ويعمل على إبعاده عنه فهو الحالات التي يحصل منها الموت، فلا يعرِّض نفسه لأي حالة من الحالات التي يحصل فيها الموت عادة. أمّا الموت لا يخاف منه، ولا يهرب منه، لأنه لا يستطيع أن ينجو منه مطلقاً، لأن الإنسان لا يموت إلاّ بعد انتهاء أجله، سواء مات موتاً طبيعياً أم قتلاً أم حرقاً أم غير ذلك. فالموت بيد الله والأجل بيد الله.
  #7  
قديم 14-05-2005, 01:52 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

الجهاد فرض على جميع المسلمين

الجهاد هو بذل الوُسع في القتال في سبيل الله، مباشرة أو معاوَنة بمال أو رأي أو تكثير سواد أو غير ذلك. فالقتال لإعلاء كلمة الله هو الجهاد.
أمّا الجهاد بالرأي في سبيل الله، فهو إن كان رأياً يتعلق بمعركة من المعارك أي يتعلق بالقتال مباشرة كرسم خطة لمعركة، أو إعطاء رأي في خطة للقتال، فهو جهاد. أمّا إعطاء رأي في أمر للأعداء فلا يكون جهاداً.
والخطابة والكتابة، إن كانت خطبة في الجيش لتحميسه عند المعركة أو كتابة للقتال مباشرة، فهو جهاد. وإن كانت غير ذلك لا تعتبر جهادا. فالجهاد خاص بالقتال وما يتصل بالقتال مباشرة. والمجاهدون هم المقاتلون بالفعل. والجهاد فرض بنص القرآن والحديث، قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، وقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يَدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غِلظة واعلموا أن الله مع المتقين)، وقال: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليها حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله) وقال: (الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة)، وقال: (بُعثت والسيف بين يدي الساعة).
وفي حديث الحسن رضي الله عنه قال: (غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).
والجهاد فرض كفاية ابتداءً وفرض عين إن هجم العدو. ومعنى كون الجهاد فرض كفاية ابتداءً، هو أن نبدأ بقتال العدو وإن لم يبدأنا، وإن لم يقم بالقتال ابتداءً أحد في زمن ما، أثِم كل المسلمين بتركه. ولا تسقط فرضيته عن أهل الهند واندونيسيا بقيام أهل مصر والعراق، بل يُفرض على الأقرب فالأقرب من العدو، إلى أن تقع الكفاية بمن قاموا بالقتال بالفعل. فلو لم تقع الكفاية إلاّ بكل المسلمين صار الجهاد فرض عين على كل مسلم.
وذلك كإقامة الدولة الإسلامية، فإنها فرض على المسلمين جميعاً، فإنْ أقامها البعض سقطت فرضيتها ولا يسقط الإثم عن تقصيرهم عن العمل على إقامتها قبل قيامها. وإن لم يُقِمها المسلمون ظلت فرضيتها على جميع المسلمين حتى تحصل الكفاية بإقامتها بالفعل. وكذلك الجهاد إن لم يدفع العدو ظل الجهاد فرضاً على المسلمين حتى يُدفع العدو.
ومن هنا جاء الخطأ في تعريف الفقهاء لفرض الكفاية بأنه إذا قام به البعض سقط عن الباقين. لأن هذا التعريف يقضي بأنه إذا قام أهل الجزائر بالجهاد ضد فرنسا بالفعل سقط عن باقي المسلمين سواء خرجت فرنسا أم لم تخرج, لأنه يكون حسب تعريفهم قام البعض بالفرض وهو الجهاد فيسقط عن الباقين. وهذا خطأ بلا خلاف بين المسلمين منذ عهد رسول الله إلى اليوم، وهو يناقض نص القرآن القطعي في فرضية الجهاد حتى يخضع العدو.
فنص القرآن قطعي في جعل الجهاد ضد فرنسا في الجزائر فرضاً على جميع المسلمين لا على أهل الجزائر. فإذا قام أهل الجزائر بالجهاد فعلاً لا يسقط الفرض عن أهل مصر ولا أهل العراق وغيرهم، بل يظل فرضاً عليهم، آثمين بتركه حتى تخرج فرنسا بالفعل.
ولذلك كان تعريف الفقهاء لفرض الكفاية خطأ، والتعريف الصحيح هو أن فرض الكفاية يبقى فرضاً ولا يسقط حتى يوجَد الشيء الذي وُجد الفرض من أجله, فإن وُجد سقط وإن لم يوجد لم يسقط.
فإقامة الدولة الإسلامية فرض على جميع المسلمين، فإن قام حزب التحرير بالعمل لإقامتها لا تسقط فرضيتها بل تبقى فرضاً على المسلمين جميعاً حتى تقوم بالفعل، ولا يسقط إثم فرضيتها إلاّ عمّن باشر القيام بالعمل لها بالفعل، ويبقى هذا الإثم على الباقين. وكذلك جهاد فرنسا بالجزائر، وجهاد بريطانيا في عُمان، فرض على جميع المسلمين، فإن قام أهل الجزائر بجهاد فرنسا وقام أهل عُمان بجهاد بريطانيا، لا تسقط فرضية جهادهما بل تبقى فرضاً على المسلمين جميعاً حتى تطرد فرنسا وبريطانيا بالفعل. ولا يسقط إثم فرضيتها إلاّ عن أهل الجزائر فقط، ويبقى هذا الإثم على الباقين.
واليوم وقد احتل الكافر المستعمِر بعض بلاد المسلمين، فإن الجهاد فرض على جميع المسلمين ويبقى فرضاً عليهم جميعاً، آثمين بتركه حتى تطهر جميع بلاد الإسلام من سلطان الكفار من الدول الأجنبية، ويبدأ المسلمون بقتال أعدائهم. فإن حصل ذلك بالفعل سقطت حينئذ فرضيته عن باقي المسلمين. أمّا قبل ذلك فتبقى فرضية الجهاد على جميع المسلمين، ويأثمون بتركه ولو قام بعضهم بالفعل بالجهاد ولم يتحقق بهم ما قام الجهاد من أجله.

الأحكام الخمسة

الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد. فيَثبُت الحكم الشرعي بثبوت الخطاب، ويتبين ما هو بتبين معنى الخطاب. وخطاب الشارع هو ما جاء في الكتاب والسنّة من أوامر ونواهٍ. ولذلك كان فهم الحكم الشرعي متوقفاً على فهم الكتاب والسنّة، فإنهما أصل التشريع ومصدر الأحكام.
إلاّ أنه ليس كل خطاب للشارع يجب القيام به ويعاقَب على تركه، أو يحرم الإقدام عليه ويعاقَب على فعله، بل يتوقف ذلك على نوع الخطاب. ومن هنا كان من الإثم والجرأة على دين الله أن يسارع شخص للتصريح بأن هذا فرض لأنه قرأ آية أو حديثاً دل على طلب القيام به، أو يسارع للفتوى بأن هذا حرام لأنه قرأ آية أو حديثاً دل على طلب تركه.
وقد بُلي المسلمون في هذه الأيام بكثير من أمثال هؤلاء الذين يسارعون للتحليل والتحريم بمجرد قراءتهم الأمر أو النهي في آية أو حديث. وأغلب ما يكون هؤلاء من الذين اكتشفوا أنفسهم أنهم يفهمون قبل أن يفهموا، ونادراً ما يكون من الذين يفهمون معنى التشريع. ولذلك كان لا بد من فهم نوع خطاب الشارع قبل إعطاء الرأي في نوع الحكم الشرعي، أي لا بد من فهم معنى الحديث أو الآية فهماً تشريعياً لا فهماً لغوياً فحسب، حتى لا يخطئ المسلم فيُحرّم ما أحلّ الله ويحلل ما حرّمه.
وخطاب الشارع يُفهم بالنص، وبالقرائن التي تعيّن معنى النص. فليس كل أمر للوجوب، ولا كل نهي للتحريم، فقد يكون الأمر للندب أو الإباحة، وقد يكون النهي للكراهة.
فالله تعالى حين يقول: (قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخِر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله... الآية)، فإنه يأمر بالجهاد. وهذا الأمر في هذه الآية فرض، يعاقِب الله على تركه. ولكن كون هذا فرضاً لم يأت من صيغة الأمر وحدها، بل أتى من قرائن أخرى غيرها دلت على أن هذا الأمر طلب للفعل طلباً جازماً. وهذه القرينة نصوص أخرى، مثل قوله في آية ثانية: (إلا تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً). وحين يقول الله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) فإنه ينهى عن الزنا، وهذا النهي في هذه الآية تحريم للزنا، يعاقب الله على فعله. ولكن كون هذا حراماً، لم يأت من صيغة النهي وحدها، بل أتى من قرائن أخرى غيرها دلت على أن هذا النهي طلب للترك طلباً جازماً، وهذه القرينة نصوص أخرى، مثل قوله في نفس الآية: (إنه كان فاحشة وساء سبيلاً)، وقوله في آية أخرى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة).
وحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تَفضُل على صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة) فإنه يأمر بصلاة الجماعة ولو جاء الطلب
  #8  
قديم 14-05-2005, 01:55 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

غير صيغة الأمر. وحين يقول: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) ) يأمر بزيارة القبور، إلاّ أن هذا الأمر أو هذا الطلب في هذين الحديثين مندوب، وليس بفرض. وكونه مندوباً آتٍ من قرائن أخرى، مثل سكوته صلى الله عليه وسلم عن جماعة صلوا منفردين، وسكوته عن أناس لم يزوروا القبور. فدل على أنه طلبٌ غير جازم. وحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان موسراً فلم ينكح فليس منا)، وحين نقرأ نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التبتل، أي عن عدم الزواج في الحديث عن سُمرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل)، نجد أن الرسول ينهى عن عدم الزواج للموسر في الحديث الأول وينهى عن عدم الزواج مطلقاً في الحديث الثاني، ولكن ليس معنى ذلك أن عدم الزواج للموسر حرام، وعدم الزواج مطلقاً حرام، بل هذا النهي يدل على أنه مكروه وليس بحرام. وكونه مكروهاً فقط آتٍ من قرائن أخرى، من مثل سكوته صلى الله عليه وسلم عن بعض الموسرين وهو يعرف أنهم لم يتزوجوا، وسكوته عن بعض الصحابة وهم لم يتزوجوا.
وحين يقول الله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) (فإذا قُضيَت الصلاة فانتشروا)، فإنه يأمر بالصيد بعد فك الإحرام، ويأمر بالانتشار بعد الصلاة، ولكن هذا الأمر لا يدل على أن الصيد بعد فك الإحرام فرض ولا مندوب، ولا على أن الانتشار بعد صلاة الجمعة فرض ولا مندوب، بل يدل على أنه مباح. وكون هذا مباحاً جاء من قرينة أخرى، وهو أن الله تعالى أمر بالصيد بعد الإحرام، وكان قد نهى عنه قبل الإحرام. وأمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة، بعد أن كان نهى عنها عند صلاة الجمعة. فدلت تلك القرينة على أن هذا الأمر للإباحة، وأن الصيد في هذه الحالة، والانتشار في تلك الحالة مباح.
وعلى ذلك فإن معرفة نوع الحكم من النص، تتوقف على فهم النص فهماً تشريعياً، بربطه بالقرائن التي تدل على معنى الخطاب فيه. ومن هنا يتبين أن الأحكام الشرعية أنواع.
ويظهر مِن تتبّع جميع النصوص والأحكام أن الأحكام الشرعية خمسة هي: الفرض ومعناه الواجب، والحرام ومعناه المحظور، والمندوب، والمكروه، والمباح. لأن خطاب الشارع إما أن يكون طلباً للفعل أو طلباً للترك أو تخييراً بين الفعل والترك. والطلب إما أن يكون جازماً وغير جازم، فإن كان طلب الفعل جازماً فهو الفرض، وإن كان غير جازم فهو المندوب. وإن كان طلب الترك جازماً فهو الحرام، وإن كان غير جازم فهو المكروه. وطلب التخيير هو المباح.
ومن هنا كانت الأحكام الشرعية خمسة ليس غير هي: الفرض، والحرام، والمندوب، والمكروه, والمباح.

الرأي الذي يستنبطه المجتهد حكم شرعي

تأخذ عملية صرف المسلمين عن التقيد بالحكم الشرعي صنوفاً من الأساليب، ومن أخبث هذه الأساليب ما يزعمه أفراد من الناس من أن رأي الأئمة المجتهدين كالشافعي أو جعفر الصادق أو أبي حنيفة ليس حكماً شرعياً وإنّما هو رأي له ولا يَلزم التقيد به، ويدّعون أن الحكم الشرعي هو نص القرآن أو الحديث فقط. ويترتب على هذا حصر الأحكام الشرعية فيما ورد به النص صراحة، ويُفهم منه بمجرد القراءة. وعلى ذلك تبقى مشاكل عديدة متجددة، ومسائل مختلفة طارئة لم يَرِد بها نص شرعي، فلا يوجد لها حكم شرعي، وإنّما يسير فيها كلٌّ برأيه، ويتحكم فيها العقل فيضع الحل الذي يراه، والحكم الذي يوافق هواه. وهذا لعمر الحق إثم مبين، وافتراء على الشريعة الإسلامية، وتعطيل للاجتهاد، وصرف للناس عن أحكام الإسلام، لأن الكتاب والسنّة وهما مصدر الشريعة الإسلامية، قد جاءا خطوطاً عريضة، ومعاني عامة، وقد جاءت نصوصهما ألفاظاً تشريعية، تدل على واقع ووقائع، فتُفهم فهماً تشريعياً، ويؤخذ فيها بمنطوقها وهو المعنى الذي دل عليه اللفظ، وبمفهومها وهو المعنى الذي دل عليه معنى اللفظ، وباقتضائها وهو المعنى الذي يقتضيه المنطوق والمفهوم. وهذه الألفاظ لها معان لغوية، ومعان تشريعية، ولها نصوص أخرى من الكتاب والسنّة تخصصها في حالة العموم، وتقيدها في حالة الإطلاق، وقرائن تعيّن المعنى المراد منها، والحكم الذي تقتضيه في دلالة الأمر على الوجوب أو الندب أو الإباحة، ودلالة النهي على التحريم أو الكراهة، وكونها خاصة في حادثة أو عامة في كل شيء، إلى غير ذلك مما تحويه نصوص القرآن أو الحديث. ولذلك تُفهم فهماً تشريعياً، لا فهماً ظاهرياً، ولا فهماً منطقياً. ولذلك يحصل الاختلاف من فهم النص الواحد، فيُعطى فيه رأيان مختلفان أو متناقضان.
هذا من ناحية الفهم أي من ناحية دلالة اللفظ. علاوة على الاختلاف في ثبوت نص الحديث من حيث اعتباره وعدم اعتباره، فيحصل الخلاف أيضاً في اعتبار الحكم الذي يؤخذ منه، وعدم اعتباره. وينتج عن هذا كله اختلاف في الآراء: في كون المعنى الفلاني هو الحكم الشرعي، أو المعنى المخالف له أو المغاير له، وكلها يدل عليها النص الشرعي، فكلها حكم شرعي، مهما تعددت واختلفت أو تناقضت، لأن الحكم الشرعي هو "خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد". وخطاب الشارع الذي جاء به الوحي يحتاج إلى فهم من المخاطَب حتى يصبح حكماً شرعياً في حقه، لأن النص يحتاج إلى فهم حتى يصبح موضع عمل. فخطاب الشارع يصبح حكماً شرعياً حين يُفهم من مدلول النص بعد أن يثبُت النص أنه قرآن أو حديث. وقبل ثبوت النص وفهم دلالته لا يعتبر حكماً شرعياً. وعليه فالذي جعل النص خطاب شارع هو فهمه. فالحكم الشرعي هو الرأي الذي يؤخذ من النص، وهو الذي يعتبر خطاب الشارع. ومن هنا كان رأي المجتهد حكماً شرعياً ما دام يستند فيه إلى الكتاب والسنّة، أو إلى ما دل عليه الكتاب والسنّة من الأدلة الشرعية.
وعليه، فآراء المجتهدين السابقين من أصحاب المذاهب وغيرهم، أحكام شرعية، وآراء المجتهدين اليوم أحكام شرعية، وآراء المجتهدين في المستقبل في كل مكان وزمان أحكام شرعية، ما داموا قد استنبطوها باجتهاد صحيح، مستندين فيها إلى الأدلة الشرعية. وقد أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبار فهم النص هو الحكم الشرعي، وأقر الاختلاف فيه. فإنه على اثر ذهاب الأحزاب في غزوة الخندق أمر عليه السلام مؤذناً فأذّن في الناس (من كان سامعاً مطيعاً فلا يُصلينّ العصر إلاّ في بني قريظة)، ففَهِم بعضهم ترك صلاة العصر في المدينة، فلم يُصلّوا حتى وصلوا إلى بني قريظة، وفَهِم البعض الآخر أن المقصود هو الإسراع فصلّوا العصر وذهبوا إلى بني قريظة بعد أداء صلاة العصر، وقد عرضوا ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم فأقرّ الفهميْن واعتبرهما. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون في فهم القرآن والحديث، ولهم في ذلك آراء مختلفة، وكل رأي من آرائهم حكم شرعي، وقد أجمعوا على أن الرأي الذي يفهمه أي مجتهد من النص حكم شرعي.
وعلى ذلك، فالسنّة وإجماع الصحابة يدلان على أن الرأي الذي يستنبطه أي مجتهد يعتبر حكماً شرعياً يجب التقيد به على مستنبِطه، وعلى كل من أقرّه على هذا الفهم، أو قلّده فيه.

الأصل في الأفعال التقيّد بأحكام الشرع
وليس الأصل فيها الإباحة ولا التحريم

المباح هو ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك من غير بدل، أو هو ما خُيِّر المرء فيه بين فعله وتركه شرعاً.
والإباحة من الأحكام الشرعية، فالمباح حكم شرعي. والحكم الشرعي يحتاج إلى دليل يدل عليه، فما لم يوجد دليل يدل عليه لا يكون حكماً شرعياً. فمعرفة كون حكم الله في الفعل مباحاً تحتاج إلى دليل شرعي. وعدم وجود الدليل الشرعي لا يدل على أن الفعل مباح، لأن عدم وجود الدليل لا يدل على وجود حكم الإباحة ولا على وجود أي حكم له، بل يدل على نفي وجود حكم له، ويدل على وجوب التماس الدليل لمعرفة حكم الله فيه حتى يحدد موقفه منه. ذلك أن معرفة حكم الشرع في الفعل فرضٌ على كل مكلف ليحدد موقفه من الفعل، هل يقوم به أو يتركه. فالإباحة خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك، فما لم يُعرف خطاب الشارع لا يُعرف الحكم الشرعي، وما لم يوجد خطاب الشارع بالإباحة لا يوجد حكم الإباحة، فإنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع. فيتوقف الحكم بكون الفعل مباحاً أو مندوباً أو فرضاً أو مكروهاً أو حراماً على ورود الدليل السمعي بهذه الأحكام. وبدون الدليل السمعي لا يمكن إعطاء الفعل حكماً من الأحكام. فلا يمكن أن نحكم بإباحة ولا حرمة ولا غيرهما من الأحكام الشرعية الخمسة إلاّ أن يقوم الدليل السمعي على ذلك.
وليس معنى هذا ترك طلب حكم الله بالفعل وتعطيل أحكام الشرع، أو ترك القيام بأعباء الحياة بحجة جهل الله فيها، فإن ذلك كله لا يجوز شرعاً، وإنّما يعني ذلك أن فعل الإنسان يحتاج إلى معرفة حكم الله فيه، وذلك يوجب طلب الأدلة الشرعية وتطبيقها على ذلك الفعل حتى يُعرف حكم الله في الفعل من كونه مباحاً أو حراماً أو فرضاً أو مكروهاً أو مندوباً. لأن مقياس الأعمال عند المسلم هو أوامر الله ونواهيه. وقد فرض الله على كل مسلم أن ينظر في كل عمل يأتيه أن يعرف قبل القيام بالفعل حكم الله فيه: هل هو حرام أو واجب أو مكروه أو مندوب أو مباح. فكل عمل لا بد أن يتعلق به حكم من الأحكام الخمسة المذكورة، فهو لا بد أن يكون إما واجباً أو حراماً أو مندوباً أو مكروهاً أو مباحاً. وكل عمل من الأعمال التي يقوم بها المسلم يجب أن يعلم حكم الله في هذا العمل قبل مباشرته له، لأن الله سيسأله عنه، قال تعالى: (فوربك لنسألنّهم أجمعين عما كانوا يعملون)، وقال: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلاّ كنا عليكم شهوداً إذ تُفيضون فيه)، ومعنى إخباره تعالى لعباده أنه شاهد على أعمالهم هو أنه محاسبهم عليها وسائلهم عنها.
  #9  
قديم 14-05-2005, 01:58 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب أن يكون العمل وفق أحكام الإسلام، فقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ)، وما زال الصحابة رضوان الله عليهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تصرفاتهم حتى يعرفوا حكم الله فيها قبل أن يفعلوها، فقد أخرج ابن المبارك (أن عثمان بن مظعون أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتأذن لي في الاختصاء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس منا من خصى أو اختصى، وإن اختصاء أمّتي الصيام. قال: يا رسول الله أتأذن لي في السياحة؟ قال: سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله. قال: يا رسول الله أتأذن لي في الترهب؟ قال: إن ترهّب أمّتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة). فهذا صريح بأن الصحابة ما كانوا يُقدمون على عمل إلاّ سألوا عنه قبل الإقدام عليه لمعرفة حكم الله فيه. ولو كان الأصل في الأفعال الإباحة لفعلوه وما سألوا عنه، فإذا حرّمه الله تركوه وإلاّ استمروا على فعله ولا حاجة بهم إلى السؤال.
وأمّا سكوت الشارع عن أفعال لم يبيّن حكم الله فيها مع أن الناس كانوا يفعلونها، فليس معناه أن عدم إعطاء الشارع رأياً قولياً أو فعلياً دليل على إباحة الأفعال التي لم يبيّن فيها نص صريح قولي أو فعلي، بل معنى السكوت: أن الأفعال التي فُعلت أمام الرسول، أو كان يعلم أن الناس يفعلونها داخل سلطانه، دليل على إباحة هذه الأفعال فقط، لا على إباحة الأفعال مطلقاً، لأن سكوته عليه الصلاة والسلام على الأفعال، أي إقراره لها، دليل على إباحة هذه الأفعال. فالسكوت على الفعل يعتبر دليلاً على إباحته إذا كان ذلك مع العلم به بأنْ فُعل أمامه أو كان يعلم به. أمّا سكوته عن الفعل دون علمه به، أو عن الفعل الحاصل خارج سلطانه، وإن علم به، فلا يسمى سكوتاً باعتبار السكوت من الأدلة الشرعية.
والسكوت الذي هو الدليل على الإباحة، سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم لا سكوت القرآن، لأن القرآن كلام الله، والله يعلم ما كان من الأفعال، وما يكون، وما هو كائن. فلا يعتبر عدم بيان القرآن حكم فعل أنه سكت عنه، بل المراد من السكوت عن الفعل هو سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم عنه مع علمه به، أي أنه يُعمل العمل أمامه أو يُعمل داخل سلطانه على علم منه ويسكت عنه.
وقد استدل بعض الصحابة على جواز العزل بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (كنا نعزل والقرآن ينزل)، أي ورسول الله بيننا، إذ قوله: (والقرآن ينزل) كناية عن وجود الرسول بينهم. واستدل بعض المجتهدين على جواز أكل لحم الضب بسكوت النبي عن أكله، فقد روي أنه (أُكل الضب على مائدة النبي ولم يأكل منه)، فسكوته عن الصحابة وهم يأكلوب الضب على مائدته دليل على إباحة أكله. فسكوت الشارع عن الفعل مع علمه به دليل على إباحته، وليس عدم بيان الشارع حكماً للفعل دليل على إباحته. وفرقٌ بين السكوت وبين عدم البيان، في الدلالة.
ومن ذلك كله يتبين أن الأصل في أفعال العباد هو أن لها حكماً شرعياً وجب طلبه من الأدلة الشرعية قبل القيام بالفعل، ويتوقف الحكم على الفعل بكونه مباحاً أو فرضاً أو مندوباً أو حراماً أو مكروهاً على معرفة الدليل السمعي على هذا الحكم من الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس.

الأصل في الأشياء الإباحة

الأشياء غير الأفعال. فالأشياء هي المواد التي يتصرف فيها الإنسان بأفعاله. وأمّا الأفعال فهي ما يقوم به الإنسان من تصرفات فعلية أو قولية لإشباع جوعاته.
والافعال لا بد أن تكون متعلقة بأشياء تُستعمل لتنفيذ الفعل الذي أراد الإنسان به الإشباع. فالأكل والشرب والمشي والوقوف وما شاكل ذلك، أفعال وتصرفات فعلية. والبيع والإجارة والوكالة والكفالة وما شاكل ذلك، أفعال وتصرفات قولية. وهذه الأفعال كلها، من تصرفات فعلية أو قولية، متعلقة بأشياء حتماً. فالأكل من حيث هو أكل، فعل، ولكنه متعلق بالخبز والتفاح ولحم الخنزير وغير ذلك. والشرب من حيث هو شرب، فعل، ولكنه متعلق بالماء والعسل والخمر وغير ذلك. فهذه الأشياء لا بد لها من حكم، كما أن الأفعال لا بد لها من حكم شرعي. فهل تأخذ الأشياء حكم الفعل المتعلق بها من حيث الوجوب أو الحرمة أو الندب أو الكراهة أو الإباحة، أو تأخذ حكماً آخر غير حكم الفعل؟ أم أنه لا حكم لها والحكم إنّما هو للفعل وحده؟
إن الذي يتبادر إلى الأذهان هو أن الأشياء والأفعال شيء واحد، فالفعل لا ينفصل عن الشيء، والشيء لا ينفصل عن الفعل إذا كان يراد أن يكون له اعتبار، وإذا انفصل أحدهما عن الآخر سقط عن الاعتبار. وبناء على ذلك يتبادر للذهن أيضاً أن حكم الفعل يكون سائراً على حكم الشيء المتعلق به الفعل. ولذلك لم يفرق العلماء في العصر الهابط بين الشيء والفعل، فقال بعضهم: الأصل في الأشياء الإباحة وجعلوها شاملة الأفعال والأشياء، وقال آخرون: الأصل في الأشياء التحريم وجعلوها شاملة للأفعال والأشياء.
والحقيقة أن هناك فرقاً بين الأفعال والأشياء في الشريعة الإسلامية. فإن المتتبع للنصوص الشرعية والأحكام الشرعية، يرى أن الشرع جعل الأحكام المتعلقة بالأفعال لا تخرج عن خمسة أحكام هي: الوجوب أو الحرمة أو الندب أو الكراهة أو الإباحة. وكل فعل لا يخرج عن كونه واجباً أو حراماً أو مندوباً أو مكروهاً أو مباحاً.
وعُرّف الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، فجُعل الحكم الشرعي للفعل بغض النظر عن الشيء الذي يتعلق به. فالحكم الشرعي إنّما هو للأفعال لا للأشياء. فأحل البيع من حيث هو بيع، فقال تعالى: (وأحل الله البيع).
أمّا الأشياء المتعلق بها البيع، فمنها ما أحله الله كالعنب، ومنها ما حرّمه الله كالخمر. فالحكم هو لفعل البيع، والتحريم هو لفعل الربا، بغض النظر عن الشيء المتعلق به الفعل. أمّا الأشياء، فإن المتتبع للنصوص الشرعية يرى أن الله أعطاها وصف الحِل أو الحرمة فقط، ولم يعطها حكم الوجوب أو الندب أو الكراهة. وجعل الحرمة أو الحِل وصفاً للشيء، قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً)، وقال: (ولا تقولوا لِما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) (إنّما حرّم عليكم الميتة) (حرّمنا كل ذي ظفر) (ويحرّم عليكم الخبائث) (لِمَ تُحرّم ما أحلّ الله لك). فالنصوص كلها لم تجعل للشيء إلاّ أحد أمرين: إما أن يكون حلالاً وإما أن يكون حراماً ولا ثالث لهما، ولا يخرج عن أحدهما.
وهذا التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده، ليس لأحد أن يشركه فيه، وكل من يعطي رأياً من عنده فهو آثم معتدٍ مفترٍ على الله. والحِل والحرمة وصفان لا مناص من لزوم أحدهما لكل ما خلق الله من شيء يمكن أن يقع عليه حس الإنسان، سواء ما يؤكل أو يُلبس أو يُركب أو يُسكن أو يُستعمل أو لا يُستعمل. وإذا تتبعنا النصوص الشرعية نجد أن الله تعالى أصّل في هذه الأشياء جميعها أصلاً وجعله الإباحة. فرخّص لنا أن ننتفع بكل ما كان بمتناول يد الإنسان واستثنى من ذلك العموم بعض الأشياء نص عليها بخصوصها فحرّمها.
وتلك الإباحة تُفهم من نصوص الشريعة إجمالاً وتعميماً. فنجد النصوص تُجمل الإباحة في مثل قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، وتعمّم مثل قوله تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)، ويُجمل ويُفصل في مثل قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم) (وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار وسخّر لكم الشمس والقمر دائبيْن وسخّر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سآلتموه وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها) (ونزّلنا من السماء ماءً فأنبتنا به جنات وحبّ الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد) (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (إنّما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلّ به لغير الله) (لا أجد فيما أوحي إليّ محرَّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحا.. الآية).
فهذه الآيات تدل على أن الله أباح للإنسان جميع الأشياء، وأن ما حرّمه منها استثناه، ونص بخصوصه وحده. كما جاء الحديث فنص أيضاً على بعض الأشياء المحرّمة، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلف من الطير.
فالشارع أباح الأشياء جميعها بمعنى أنه أحلّها، إذ الإباحة في الأشياء معناها الحلال، ضد الحرام. فإذا نص على حُرمة بعضها استثنى هذا البعض وحده. فالحِل والحرمة بالنسبة للأشياء وصفٌ لها، وليس للأشياء غيرهما أي وصف شرعي، ولا تحتاج إباحة الشيء، أي كونه حلالاً، إلى دليل، لأن الدليل العام في النصوص أباح جميع الأشياء. وأما حرمته فهي التي تحتاج إلى دليل لأنها مستثناة ومخصصة من عموم أدلة الإباحة فلا بد لها من نص. ولذلك كان الأصل في الأشياء الإباحة، أي الأصل فيها أن تكون حلالاً.

لا يجوز أن تتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان

يسيطر على أذهان غالبية المسلمين في هذه الأيام اعتقاد مؤداه أن الإسلام مرن، وأنه يساير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كل زمان ومكان، وهو يتطور لينطبق في أحكامه على مقتضيات الأوضاع العصرية، ومتطلبات ما ألِفَه الناس واعتادوه في أيامنا هذه.
وهم يدّعون في سند دعواهم هذه بقاعدة يصفونها بأنها شرعية تقول: "لا يُنكَر تغير الأحكام بتغير الزمان"! وعلى أساس ذلك تجدهم يسايرون الواقع في سلوكهم، ويتكيفون بتصرفاتهم حسبما يقتضيه، فإن ذكّرتهم بأحكام
  #10  
قديم 14-05-2005, 02:01 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

شرع قالوا إنها كانت لزمن معين، والإسلام يوجِب أن يكون الإنسان مجارياً لعصره! وعاملاً بما يلائم زمانه ومكانه!!.. فهم يبررون وجود البنوك الربوية والشركات المساهمة والتعامل معها، بأن ذلك مصلحة واقعية ولا بد من ليّ الإسلام ليقبلها، فهو مرن كما يفترون. وتبرّج النساء واختلاطهن بالغير لغير حاجة يقرّها الشرع، والسهر مع الغرباء في الحفلات لا بد من السماح به والرضى به لأنه من متطلبات العصر. وكيف يخالف الإسلام العصر والقاعدة الشرعية تقول: إن الإسلام يتغير بتغير الزمان والمكان؟! ذلك ما يدّعون. وتعدد الزوجات انتهى حكمه لأن الزمن لم يعد يستسيغ ذلك. وقطع يد السارق، ورجم الزاني أو جلده لا يجوز البحث بها لأنها لا تناسب ذوق زماننا هذا.
وهكذا تسير القاعدة وأمثلتها لتركَّز تماماً في أذهان المسلمين في حين أنها تخالف الإسلام مخالفة كلية، بل تنسف أصوله وفروعه، وتقضي على تشريعه وتطمس معالمه. وهي إنّما نشأت في آخر القرن التاسع عشر أيام شدة الانحطاط الفكري، ثم جاء الاستعمار فغذّاها حتى طغت بهذا الشكل العنيف.
إن الأحكام الشرعية في الإسلام أنظمة جاءت لمعالجة الإنسان في إشباع جوعاته الغريزية والعضوية، وقد خاطَبَنا بها الشارع في الكتاب والسنّة وهما مصدر الاستنباط الوحيد للأحكام الشرعية في الإسلام. فالحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، وهو –أي الحكم الشرعي- لا بد أن يثبُت بالدليل أنه خطاب من الشارع، بمعنى أنه لا بد أن يكون مأخوذاً من النص الذي هو الآية أو الحديث، أو ما ثبت بالنص كإجماع الصحابة والقياس لعلّة شرعية. وعلى هذا كان مصدر الأحكام الشرعية واحداً لا غير، هو كتاب الله وسنّة رسوله، منهما تُستنبط المعالجات لحل مشاكل الناس وفض النزاع بينهم. فهل الزمان والمكان كتاب أم سنّة؟ وعلى أي أساس يجوز للإنسان أن ينظم معالجات نفسه، أو للأمّة أن تنظم علاقات مجتمعها بمقتضى الزمان والمكان، والله قد فرض أن يعالَج الواقع بالأحكام المستنبَطة من كتاب الله وسنّة رسوله؟
إن الشريعة الإسلامية في معالجتها للإنسان تقضي بدراسة واقع مشاكله ثم التعرف على حكم الله فيها باستنباطه من الكتاب والسنّة، أو ما أرشدا إليه. فواجب على كل مسلم عند تطبيق الشريعة على المجتمع أن يدرس المجتمع دراسة دقيقة ثم يعالجه بشرع الله، ويغيره تغييراً انقلابياً على أساس مبدأ الإسلام دون إقامة وزن للظروف والأحوال في مخالفة الشرع، فكل ما خالف الإسلام لا بد من إزالته، وكل ما أمر به الإسلام لا بد من تمكينه وجعله موضع التطبيق. فواقع المجتمع لا بد أن يكون مقيَّداً بأوامر الله ونواهيه، ولا يحل للمسلمين أن يتكيفوا حسب واقع زمانهم ومكانهم بل عليهم أن يعالجوا ذلك بكتاب الله وسنّة رسوله.

الأمر وصيغة فعل الأمر

المسلمون مكلَّفون في هذه الحياة بالسير حسب أوامر الله ونواهيه. وأوامره ونواهيه وردت على لسان رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنّة، ومنهما نستنبط الأحكام، ونستنبط ما يصلح أن يكون معهما أدلة للأحكام، وهو إجماع الصحابة والقياس.
وهذه الأحكام تؤخذ من الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنّة. والأوامر الواردة في الكتاب والسنّة ليست محصورة بصيغة فعل الأمر، بل واردة في عدة صيغ، ولذلك يخطئ الذين يظنون أن معنى أمر الله أن يأمر الله بالشيء بصيغة افعل، بل قد يأمر به بصيغة الأمر، وقد يأمر بصيغ أخرى.
فالله تعالى يقول: (كُتب عليكم الصيام) يأمر بالصيام، وحين يقول: (ولله على الناس حج البيت) يأمر بالحج، كما يأمر بذلك في قوله: (أقيموا الصلاة)، وفي قوله: (إذا تداينتم بديْن إلى أجل مسمى فاكتبوه)، مما ورد به صيغة الأمر. فالأمر من الله هو طلبه منا فعل الشيء، سواءً أطلبه بصيغة الأمر أم بصيغة الإخبار.
فلا يقال إن هذا الشيء غير واجب لأنه لم يَرِد به نص يأمرنا به لعدم ورود فعل الأمر ولوروده بصيغة الإخبار. ولا يقال إن هذا الأمر واجب لأنه ورد بصيغة فعل الأمر. إذ قد يكون الشيء واجباً ويَرِد بغير صيغة الأمر. وقد يكون غير واجب ويَرِد بصيغة فعل الأمر، لأنه المراد بالأمر طلب الفعل مهما كانت الصيغة التي ورد بها الطلب، لأنه ليس للأمر صيغة تخصه.
وأمّا صيغة "افعل" فليست خاصة بالأمر وحده بل هي لفظ مشترك بين الأمر وغيره، فقد تكون للتهديد، وتكون للإرشاد، وتكون للإباحة، وهذه كلها ليست أوامر. واللفظ المشترك في اللغة بين عدة معان، إذا ورد مجرداً عن القرائن يكون صالحاً لجميع المعاني التي وردت له في اللغة ولا تخصه في معنى معين، إلاّ إذا جاءت قرينة دالة على ذلك.
فلفظ "العين" لفظ مشترك بين عدة معان، فتُطلق على العين الباصرة، وعلى الجاسوس، وعلى العين الجارية، وعلى النقد، ولا يترجح معنى واحد من هذه المعاني على غيره إلاّ بقرينة، لأنه حقيقة فيها جميعاً، وليس هو حقيقة في بعضها مَجازاً في البعض الآخر.
وكذلك صيغة "افعل" لفظ مشترك بين عدة معان، فيُطلق ويراد منه الأمر، ويُطلق ويراد منه التخيير، ويُطلق ويراد منه الامتنان، ويُطلق ويراد منه التهديد، ولا يترجح معنى واحد من هذه المعاني على غيره إلاّ بقرينة، لأنه حقيقة فيها جميعها، وليس حقيقة في بعضها مَجازاً في البعض الآخر. وقد ورد القرآن بذلك في آيات متعددة صريحة لا تحتمل التأويل.
ويظهر من تتبّع الآيات التي وردت فيها صيغة فعل الأمر أن القرآن أطلقها على عدة اعتبارات ولم يخصّها بالأمر. فقد وردت للوجوب كقوله تعالى: (أقِم الصلاة)، وللندب كقوله: (فكاتبوهم)، وللإرشاد كقوله: (فاستشهدوا) أي إذا أردتم إتمام معاملة فالأوفق لكم أن تجعلوا شهوداً عليها حتى لا يذهب حقكم. وقد وردت للإباحة كقوله: (وإذا حللتم فاصطادوا)، و(فإذا قُضِيَت الصلاة فانتشروا في الأرض)، وللامتنان كقوله: (كلوا مما رزقكم الله)، وللإكرام كقوله: (ادخلوها بسلام)، وللتهديد كقوله: (افعلوا ما شئتم) (تمتعوا حتى حين)، وللتسخير (كونوا قردة خاسئين)، وللتعجيز (كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبُر في صدوركم)، وللإهانة كقوله: (ذُق إنك أنت العزيز الكريم)، وللتسوية (اصبروا أو لا تصبروا).
وعلى هذا، فإن صيغة فعل الأمر تحتمل عدة معان، فإذا وردت عارية عن القرائن كان لا بد من التماس القرينة في الكلام الذي وردت فيه أو في غيره مما ورد في موضوعه أو في الحال التي جاء في شأنها، حتى يتعين المراد بالأمر في النص أو يتعين المعنى المراد بصيغة فعل الأمر بالنص.
وعلى هذا الوجه يمكن أن يُفهم النص الشرعي ويمكن أن يُستنبط فيه حكم الله المراد من هذا النص، فيتبع الإنسان الحلال كما ورد لا كما يريده الشخص، ويتجنب الحرام الذي ورد لا ما يراه الشخص نفسه، فيكون اتَّبَع الإنسان الحلال وتَجنَّب الحرام على الوجه الذي أراده الله.

حيثما يكون الشرع تكون المصلحة

قال الله تعالى في كتابه العزيز مخاطِباً الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)، وكونه قد جاء رحمة لهم يعني أنه جاء بما فيه مصلحتهم. وقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين). وقال تعالى: (فقد جاءتكم بينة من ربكم وهدى ورحمة). فالهدى والرحمة هي إما جلب منفعة للناس أو دفع مضرة عنهم. وهذه هي المصلحة، لأن المصالح هي جلب المنافع ودفع المفاسد. وتحديد الشيء من كونه مصلحة أو ليس مصلحة، إنّما يكون للشرع وحده، لأنه هو الذي جاء بالمصلحة، وهو الذي يحدد هذه المصلحة للناس. لأن المراد من المصلحة هي مصلحة الإنسان بوصفه إنساناً، وحتى المراد من مصلحة الفرد هو مصلحته باعتباره إنساناً لا باعتبار فرديّته وحدها.
على أن المصلحة إما أن يقررها العقل أو الشرع. فإذا تُرك تقريرها للعقل استغلق على الناس تقرير المصلحة الحقيقية، وذلك لأن العقل محدود، فهو لا يستطيع الإحاطة بكنه الإنسان وحقيقته، فلا يستطيع أن يقرر ما هو مصلحة له، لأنه لم يدرك حقيقته حتى يدرك أن هذا الشيء مصلحة له أو مفسدة، ولا يدرك حقيقة الإنسان إلاّ خالق الإنسان، فلا يمكن أن يقرر ما هو مصلحة له أو مفسدة على وجه التحقيق إلاّ خالق الإنسان وهو الله سبحانه وتعالى.
نعم إن الإنسان يمكنه أن يظن أن هذا الشيء مصلحة له أو مفسدة له، ولكنه لا يمكن أن يجزم بذلك. وترك تقرير المصلحة للظن يؤدي إلى الوقوع في المهالك، إذ قد يظن الشيء أنه مصلحة ثم يظهر أنه مفسدة، فيكون قد قرر المفسدة للإنسان على أنها مصلحة فأوقع الضرر به. وقد يظهر الشيء أنه مفسدة ثم يظهر أنه مصلحة، فيكون قد أبعد المصلحة عن الإنسان على أنها مفسدة، فأوقع الضرر به بحرمانه من المصلحة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العقل قد يحكم على الشيء أنه مصلحة اليوم ثم يتبين له نفسه غداً أن هذا الشيء مفسدة، فيقول عنه إنه مفسدة. وقد يحصل ذلك بالنسبة للمفسدة أيضاً، فيقول عن الشيء إنه مفسدة اليوم ثم يتبين له نفسه غداً أنه مصلحة فيقول عنه إنه مصلحة، فيصبح الشيء الواحد مصلحة ومفسدة، وهذا لا يجوز ولا يكون، إذ الشيء إما مصلحة وإما مفسدة للحالة الواحدة، وبذلك تصبح المصلحة مصلحة اعتبارية لا مصلحة حقيقية.
ومن هنا وجب أن لا يُترك للعقل أن يقرر ما هي المصلحة، بل يجب أن يقرر ذلك الشرع وحده، لأنه هو الذي يقرر المصلحة الحقيقية والمفسدة الحقيقية، والعقل إنّما يفهم واقع الشيء كما هو فهماً تاماً، ثم يفهم النص الشرعي الذي جاء في هذا الشيء، ثم يطبق النص على الواقع، فإذا انطبق
 


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م