بقية الحديث
ثانيا: هناك فارق كبير وبون شاسع ما بين الوسيلة والشرك. فالوسيلة مأمور بها شرعا في قوله تعالى
يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون)(المائدة:35)، واثنى سبحانه على من يتوسلون إليه في دعائهم فقال
اولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا)(الإسراء:57). والوسيلة في اللغة: المنزلة، والوصلة، والقربة، فجماع معناها هو : التقرب الى اله تعالى بكل ما شرعه سبحانه ويدخل في ذلك تعظيم كل ما عظمه الله تعالى من الامكنة والازمنة والاشخاص والاحوال، فيسعى المسلم مثلا للصلاة في المسجد الحرام والدعاء عند قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والملتزم تعظيما لما عظمه الله سبحانه وتعالى من الاماكن، ويتحرى قيام ليلة القدر والدعاء في ساعة الاجابة يوم الجمعة وفي ثلث الليل الأخير تعظيما لما عظمه الله من الأزمنة، ويتقرب الى الله تعالى بحب الانبياء والصالحين تعظيما لمن عظمه الله من الاشخاص. ويتحرى الدعاء حال السفر وعند نزول الغيث وغير ذلك تعظيما لما عظمه الله من الاحوال.. وهكذا وكل ذلك داخل في قوله تعالى
ذلك ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب«(الحج:32).
اما الشرك فهو صرف شيء من انواع العبادة لغير الله على الوجه الذي لا ينبغي الا لله تعالى، حتى لو كان ذلك بغرض التقرب الى الله كما قال تعالى
والذين اتخذوا من دونه اولياء مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر: 3) وانما قلنا »على الوجه الذي لا ينبغي الا لله تعالى« لاخراج كل ما خالف العبادة في مسماها وان وافقها في ظاهر اسمها، فالدعاء قد يكون عبادة للمدعو (ان يدعون من دونه إلا إناثا) (النساء: 117) وقد لا يكون (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) (النور: 63) والسؤال قد يكون عبادة للمسؤول (واسئلوا الله من فضله) (النور: 23)، وقد لا يكون »(للسائل والمحروم) (المعارج: 25) والاستعانة قد تكون عبادة للمستعان به (إياك نعبد وإياك نستعين) (الفاتحة: 5)، (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا) (الاعراف: 128) وقد لا تكون (واستعينوا بالصبر والصلاة) (البقرة: 45)، والحب قد يكون عبادة للمحبوب وقد لا يكون كما جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في قوله: »احبوا الله لما يغذوكم من نعمه، واحبوني بحب الله، واحبوا اهل بيتي لحبي« رواه الترمذي وصححه الحاكم.. وهكذا، اي ان الشرك انما يكون في التعظيم الذي هو كتعظيم الله تعالى كما قال تعالى: (فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون) (البقرة: 22) وكما قال سبحانه: (ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا تحبونهم كحب الله والذين امنوا اشدّ حبا لله) (البقرة: 165).
وبذلك يتبين لنا فصل ما بين الوسيلة والشرك، فالوسيلة »نعظم فيها ما عظمه الله، اي انها تعظيم بالله والتعظيم بالله تعظيم لله كما قال عزوجل: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (الحج: 32)، اما »الشرك« فهو تعظيم مع الله او تعظيم من دون الله، ولذلك كان سجود الملائكة لادم عليه السلام ايمانا وتوحيدا وكان سجود المشركين للاوثان كفرا وشركا مع كون المسجود له في الحالتين مخلوقا، لكن لما كان سجود الملائكة لادم عليه السلام تعظيما لما عظمه الله كما امر الله كان وسيلة مشروعة يستحق فاعلها الثواب، ولما كان سجود المشركين للاصنام تعظيما كتعظيم الله كان شركا مذموما يستحق فاعله العقاب.
وعلى هذا الاصل في الفرق بين الوسيلة والشرك بنى جماعة من اهل العلم قولهم بجوار الحلف بما هو معظم في الشرع. النبي صلى الله عليه و آله وسلم، والاسلام و الكعبة ومنهم الامام احمد رحمه الله تعالى في احد قوليه، حيث اجاز الحلف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم معللا ذلك بانه صلى الله عليه وآله وسلم احد ركني الشهادة التي لا تتم الا به، وذلك لانه لا وجه فيه للمضاهاة بالله تعالى بل تعظيمه بتعظيم الله له، وحمل هؤلاء احاديث النهي عن الحلف بغير الله على ما كان من ذلك متضمنا للمضاهاة بالله بينما يرى جمهور العلماء المنع من ذلك اخذا بظاهر عموم النهي عن الحلف بغير الله.
وفي بيان مأخذ الاولين وترجيحه يقول بن المنذر رحمه الله تعالى: »اختلف اهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة: هو خاص بالايمان التي كان اهل الجاهلية يحلفون لغير الله تعالى كاللات والعزى والاباء، فهذه يأثم الحالف بها ولا كفارة فيها، واما ما كان يؤول الى تعظيم الله كقوله: وحق النبي، والاسلام والحج والعمرة والهدي والصدقة والعتق ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقرابة اليه فليس داخلا في النهي، وممن قال بذلك ابوعبيد وطائفة ممن لقيناه واحتجوا بما جاء عن الصحابة من ايجابهم على الحالف بالعتق والهدي، والصدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدل على ان ذلك عندهم ليس على عمومه، اذ لو كان عاما لنهوا عن ذلك ولم يوجبوا فيه شيئا«. اهـ
نقلا عن فتح الباري للحافظ ابن حجر (535/11).
فاذا ما حصل خلاف بعد ذلك في بعض انواع الوسيلة كالتوسل بالصالحين والدعاء عند قبورهم مثلا او حصل خطأ فيها من بعض المسلمين فيما لم يشرع كونه وسيلة كالسجود للقبر او الطواف به، فانه لا يجوز ان ننقل هذا الخطأ او ذلك الخلاف من دائرة الوسيلة الى دائرة الشرك والكفر، لأننا نكون بذلك قد خلطنا بين الامور وجعلنا التعظيم بالله كالتعظيم مع الله، والله تعالى يقول: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون) (القلم: 36ـ35).
ثالثا: ان هناك فارقا ايضا ما بين كون الشيء سببا واعتقاده خالقا ومؤثرا بنفسه، تماما كما مثلنا في الاصل الاول من اعتقاد المسلم ان المسيح عليه السلام سبب في الخلق باذن الله في مقابلة اعتقاد النصراني انه يفعل ذلك بنفسه، فاذا رأينا مسلما يطلب او يسأل او يستعين او يرجو نفعا او ضرا من غير الله فانه يجب علينا قطعا ان نحمل ما يصدر منه على ابتغاء السببية لا على التأثير والخلق، لما نعمله من اعتقاد كل مسلم ان النفع والضر الذاتيين انما هما بيد الله وحده، وان هناك من المخلوقات ما ينفع او يضر باذن الله، ويبقى الكلام بعد ذلك في صحة كون هذا المخلوق او ذلك سببا من عدمه.
اذا ما تقررت هذه الاصول الثلاثة فانه يجب علينا استحضارها في الكلام على حكم الطواف بالقبور، فاذا علمنا اننا نتكلم في افعال تصدر من مسلمين، وان هؤلاء المسلمين يزورون هذه الاضرحة والقبور اعتقادا منهم بصلاح اهلها وقربهم من الله تعالى، وان زيارة القبور عمل صالح يتقرب ويتوسل به المسلم الى الله تعالى، وان الكلام انما هو في جواز بعض ما يصدر من هؤلاء المسلمين من عدمه، وان في بعض افعالهم خلافا بين العلماء وفي بعضها خطأ محضا لا خلاف فيه ـ اذا علمنا ذلك كله فانه يتبين لنا بجلاء انه لا مدخل للشرك ولا للكفر في الحكم على افعال هؤلاء المسلمين في قليل ولا كثير او من قبيل او دبير، بل ما ثم الا الخلاف في بعض الوسائل والخطأ المحض في بعضها الآخر من غير ان يستوجب شيئا من ذلك تكفيرا لمن ثبت اسلامه بيقين.
وباستعراض اقوال اهل العلم في حكم الطواف بالقبور نراها دائرة بين الحرمة والكراهة، اي ان منهم من يرى في الطواف وسيلة محرمة يأثم فاعلها، ومنهم من يرى انه يستحب للمسلم تركه ولكنه ان فعله فلا عقاب عليه، والقول بالكراهة هو المعتمد عند السادة الحنابلة ـ كما في »كشاف القناع« لخاتمة محققيهم العلامة البهوتي ـ والقول بالتحريم هو مذهب جمهور العلماء، وهو الذي عليه الفتوى.
اما اقحام الشرك والكفر في هذه المسألة فلا وجه له، اللهم الا على افتراض ان الطائف يعبد من في القبر، او يعتقد انه يجلب الضر او النفع بذاته، او يعتقد بأن الطواف بالقبر عبادة شرعها الله تعالى كما شرع الطواف بالبيت.. وكلها احتمالات ينأى اهل العلم عن حمل فعل المسلم عليها كما سبق، لأن فرض المسألة في المسلم الذي يطوف بالقبر لا في غير ذلك.
ولا يجوز للمسلمين ان يشغلوا انفسهم بمثل هذه المسائل ويجعلوها قضايا يحمل بعضهم فيها سيف الكلام على صاحبه، فيكون جهاد في غير وغى، ويكون ذلك سببا في تفريق الصفوف وبعثرة الجهود ويشغلنا عن بناء مجتمعاتنا ووحدة أمتنا، نسأل الله تعالى ان يجمع قلوب المسلمين على الكتاب والسنة وحسن التفهم للدين ومعرفة مراد الله تعالى من خلقه، آمين.
تاريخ النشر: الخميس 20/4/2006