مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 29-09-2006, 05:53 AM
ليلى محمود البدوى ليلى محمود البدوى غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2006
المشاركات: 10
إفتراضي الأدب العربى ـ خمس قصص قصيرة ل محمود البدوى



(1)
قصة من اليابان
الحقيـبــــة

قصة محمود البدوى


دخلنا فى عاصفة عاتية قبل أن نبلغ طوكيو .. وأخذت الطائرة الضخمة تتأرجح وتلعب بها الأنوار ..

وكان بجوارى راكب من سنغافورة .. لم يستطع أن يصمد فى كرسيه فأخذه القىء .. وخشيت أن تصيبنى عدواه .. بعد أن أصبحت المضيفات الثلاث عاجزات عن إسعاف الركاب لكثرة من أصيب منهم بالدوار فى ساعة واحدة ..

فتحركت من مكانى إلى أربعة صفوف أمامية فى الدرجة السياحية .. كانت خالية تماما من الركاب ..

واسترخيت على الكرسى الطويل .. معلقا عينى بعد أن أغلقت أزرار المصابيح المضاءة فوق رأسى .. وزر مكيف الهواء أيضا .. فقد كنت أود أن أنام .. وأغيب عن وعيى حتى تنجلى العاصفة .. ولقد أفلحت فى هذه المحاولة فعلا وانقضت فترة طويلة وأنا لا أحس بشىء مما يجرى حولى .. ثم فتحت عينى فوجدت المكان قد شغل براكب آخر .. ولعله آثر أن يفعل كما فعلت .. ولكنه لم يكن فى مثل حالى ..كان متيقظا تماما وليس على وجهه أى أثر للإعياء ..

ولما رآنى أفتح عينى وأحدق فيه برهة قال بإنجليزية فيها لكنة .. لقد مرت العاصفة ..

وأشار إلى اللافتة المضيئة التى تحمل فى مضمونها هذا النبأ .. والتى تعلن فك الحزام الذى يربطنا بالكرسى ..

وقدرت من جلسة الرجل وملامح وجهه أنه صينى من هونج كونج أو تاجر من أهل سيام .. ذاهب فى مهمة إلى طوكيو .. ثم ظهر لى من حديثه أنه يابانى من سكان طوكيو نفسها وأنه كان فى مهمة فى الخارج وعاد إلى وطنه .

ولما علم أننى مصرى فى رحلة سياحية إلى طوكيو .. تهلل وجهه .. وقال :

ـ لقد تخلصتم من الاحتلال الإنجليزى بضربة قوية .. وسنفعل مثلها لنتخلص من الأمريكان ..
ـ إن شعبكم قوى ولا يمكن أن يرضى بأى احتلال ..
ـ لقد فرضته علينا الحرب .. وهذا أشد شر فيها ..

وانطلقنا فى فنون الأحاديث .. وكلما مرت دقيقة ازداد الرجـل مودة لى والفة .. وطلب من المضيفة كأسين من النبيذ ..

ثم أخذ يقص علىّ سيرة حياته ويفتح لى من طوايا نفسه .. حتى علمت منه أنه عضو فى جمعية لمقاومة الاحتلال الأمريكى لليابان ، وأنه كان فى مهمة خطيرة ويحمل معه فى هذه اللحظة حقيبة صغيرة .. وفيها أشياء لو ضبطت معه سيعدم ..

وسألته :
ـ أين هى ؟
ـ هناك على الرف ..

وأردف ببساطة :
ـ هل يمكن أن تحملها عنى .. إنى أنمر فيك مذ ركبنا الطائرة .. ولن يفتشوك فى الجمرك ولن يفتحوا حقائبك اطلاقا ..
ـ وإذا فتحوها..
ـ لن يمسوا منك شعرة .. لنا وسائلنا ..
ـ ما دامت الحقيبة تساعد على انهاء الاحتلال فى اليابان .. فإنى احملها كجندى متطوع ..

فتهلل وجهه أكثر .. وقال بابتهاج :
ـ هذا ما قدرته .. إنك باسل ..

وأعطانى بطاقة فيها العنوان الذى أحمل اليه الحقيبة .. إذا حدث شىء يمنعنا من المقابلة فى بوفيه المطار .. بعد أن تتم جميع الإجراءات .. وطلب كأسين من النبيذ ..

وناولنى الحقيبة ولم تكن عليها أية بطاقة فوضعتها بجانبى ببساطة ..

والواقع أننى كنت أتصور أن المسألة سهلة .. ولكن لما هبطت الطائرة على الأرض وأمسكت الحقيبة فى يدى شعرت برجفة هزت كيانى كله .. ولم تكن ثقيلة ولكننى أحسست بها تخلع كتفى ..

وكان معى حقيبة أكبر منها على الرف ومعطف .. فاضطررت أن أرتدى المعطف مع أنه لم يكن هناك برودة .. لأستطيع أن أحمل الحقيبتين ..

ونزل مسيو كوجا أمامى على سلم الطائرة .. ونزلت وراءه .. ولكنه اختفى عن نظرى ..ثم ظهر مرة أخرى فى صالة المطار الكبرى عندما اجتمع جميع الركاب .. وأخذ موظف فى المطار .. ينادى الركاب بأسمائهم وشعرت بالاضطراب الشديد وأنا واقف وحدى .. وقلت لنفسى من يدرى .. لعل الرجل خدعنى بالحديث الوطنى وأشعل فىّ النخوة .. وهو فى الواقع ليس أكثر من مهرب وليس فى الحقيبة سوى مهربات جمركية .. عملة مهربة أو جواهر ..وإذا ضبطت ستكون فضيحة لى .. لقد البسنى الرجل التهمة بكل بساطة وهرب .

وظللت فى دوامة عاصفة من الخواطر أكثر من ثلث ساعة .. وأنا جـالس فى صالة المطار ..

ورأيت أن حركة انجاز أوراق الركاب تتم ببطء ودقة .. مع أننا لم ندخل منطقة الجمرك بعد .. فكيف إذا دخلناها .. وندمت على تسرعى .. وبحثت عن الرجل لأرد له الحقيبة ولكننى لم أجده فقررت أن أتركها .. بجانب الكرسى ..

ولكن عندما دخلت من باب الجوازات كانت فى يدى وتركت الأمر للمقادير تفعل بى ما تشاء ..

ولما دخلت المنطقة الجمركية بعد إجراءات طويلة معقدة .. وجدت حقائبى كلها قد أخرجت من الطائرة ووضعت داخل الحاجز الجمركى مع حقائب الركاب ..

وكان موظفو الجمارك فى الناحية المقابلة لى يفتشون حقائب أخرى .. ولاحظت أنهم يفتشون كل حقيبة تفتيشا دقيقا ..

وجاء دورنا .. رفعوا حقائبنا عن الأرض ووضعوها على الطاولة المستديرة .. ولكننى بقيت فى مكانى لم أتحرك .. ظللت بعيدا وعقلى يشتغل بسرعة ..

وعندما جاء فوج من الأجانب وقدرت أن فيهم بعض الأمريكان وقفت فى زحمتهم وحقائبى كلها وسط حقائبهم ولاحظت أنهم يفتحون جميع الحقائب ويفتشونها بدقة ويسألون دائما عن السجائر والويسكى ..

وهنا أخرجت المفاتيح من جيبى وفتحت جميع الحقائب بما فيها حقيبتى الصغيرة التى كانت فى يدى .. وأبقيت حقيبة الرجـل تحت الحاجز الخشبى بين رجلى ..

وجاء الموظف وفتش حقيبة من حقائبى فقط ثم شغل بمشادة بين زميل له وأحد الركاب وكان قد وجد فى حقيبته سجائر لم يخطر عنها .. وعلا صياح الراكب وتجمع حوله الركاب .. ولما عاد الموظف إلى مكانه .. نظر إلى حقائبى المفتوحة ..

وقال :
- يمكنك أن تغلقها ..

ورأيته قد استدار ليختم مشط سجائر وجده فى بعض الحقائب .. وأخذت أغلق حقائبى .. وأنا أرقبه .. رفعت حقيبة الرجل ووضعتها وسط الحقائب المفتشة دون أن يلحظ ذلك أحد .. وقفز قلبى وأنا أفعل ذلك .. وتصبب العرق ..

ولكن لما وجدت أن أحدا لم يشاهد هذه الحركة طرت من الفرحة ..

وسألنى الرجل عندما واجهنى مرة أخرى ..
ـ كم حقيبة معك .. ؟
ـ سبعة ..
ـ وفتشت كلها .. ؟
ـ أجل ..
ـ وليــس مـعك سجائر .. ولا ويسكى .. ولا أى شىء ممنوع ..؟
ـ إطلاقا ..

وكان فى أثناء كلامه يضع العلامة على كل حقيبة بالطباشير ثم توقف .. وكأنه ارتاب فى حقيبة الرجل .. فنظر اليها قليلا بامعان ..

ثم سألنى :
ـ وهذه هل فتشت ..؟
ـ أجل .. هل أفتحها مرة أخرى ..؟
ـ أظن أنه لا داعى ..

ووضع العلامة على الحقيبة بالطباشير ..

حدث هذا فى سرعة رهيبة .. وكأنما فك حبل المشنقة عن عنقى ..

وتركت الموظف يشير بيده للعمال الذين وضعوا الحقائب كلها على السلم الكهربى .. ليذهب بها سريعا إلى خارج حاجز الجمرك ..

***

واتجهت إلى السلم الذى سيقودنى إلى الخارج وأنا شاعر بفرحـة كبرى .. وقبل أن أبلغ آخر درجة .. رأيت كوجا يسير أمامى .. ولكنه لم يكن وحده كان بجانبه اثنان من البوليس الحربى الأمريكى وجنديان يابانيان وكانوا جميعا يحملون المدافع الرشاشة .. وأدركت أنه وقع فى أيديهم ..

وأسرعت خلفهم .. حتى رأيتهم يدخلونه سيارة مغلقة .. ومضوا به سريعا ..

وشعرت بشىء ثقيل يضغط على قلبى ويكتم أنفاسى .. وعدت إلى الداخل وأنا أخرج من قاعة وأدخل أخرى .. كأنى أدور فى بيت جحا .. حتى وجدت نفسى فى القاعة الكبرى المعدة لراحة المسافرين ..

وجلست على كرسى جلدى وأغلقت عينى .. نصف دقيقة ولما فتحتها كنت أنظر بقوة إلى اللوحة المضيئة لمدينة طوكيو والسهام النارية التى تنطلق منها إلى جميع أنحاء العالم ..

وأخذت أفكر فيما أفعل بالحقيبة بعد أن قبض على صـاحبها بسرعة فائقة .. ورأيت أن ألحق سيارة شركة الطيران قبل أن تتحرك من المطار .. بدلا من ركوب تاكسى إلى الفندق ..

وأخرج عمال الشركة حقائبى ووضعوها فى السيارة .. وحملت حقيبة الرجل فى يدى ودخلنا فى المدينة الحالمة ذات الأنوار على الجانبين والسيارات تنطلق كالسهام ..

وأنسانى جمال المدينة .. وجمال النساء فى الكومينو .. ونظافة الشوارع .. وبهجتها كل ما يتعلق بالحقيبة .. واخترت غرفة فى الدور السابع فى الفندق لأكون بعيدا عن زحمة النـزلاء الذين يتركزون عادة فى الأدوار السفلى .. ولأبعد أيضا عن ضجيج المدينة التى تظل ساهرة إلى الصباح ..

وتعشيت فى الفندق وخرجت إلى المدينة أمشى كما أتفق مستعرضا واجهة الحوانيت ..

ولم يكن الجو شديد البرودة .. وكنت أرتدى المعطف .. وقد ساعدنى هذا على أن أتجول أكثر وأكثر .. وكان عقلى فى الواقع يشتغل وأنا لا أدرى ويحاول أن يبعدنى عن مكان الحقيبة ..


آخر تعديل بواسطة ليلى محمود البدوى ، 29-09-2006 الساعة 06:41 AM.
الرد مع إقتباس
  #2  
قديم 29-09-2006, 05:55 AM
ليلى محمود البدوى ليلى محمود البدوى غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2006
المشاركات: 10
إفتراضي

وجذبتنى الأنوار البراقة فى ملهى على شكل سفينة قريبا من محطة شمباسى فاتجهت نحوه وبجوار كشك التذاكر وجدت ثلاث فتيات يرتدين فساتين سواريه وصدرهن العارى يبرز كل مفاتنهن ..وتطلعن إلى وجهى .. ووجدت واحدة منهن تعرف الإنجليزية فشرحت لى نظام السفينة ..

وحجزت " كمرة " بألفين فى الدرجة الأولى .. وصعدت مع الفتاة إلى الأدوار العليا ..وفى ممشى السفينة الدائرى .. فتحت لى بابا صغيرا .. وأصبحنا وحيدين فى غرفة صغيرة أنيقة على شكل الكاميرا فى عابرات المحيط ..

وكان لابد أن نشرب شيئا وكل كأس بألفين ..

وسألت الفتاة عن الشراب الذى ترغبه فرفضت وقالت إنه لاداعى لأن تشرب هى .. وتحت الحاحى قبلت أخيرا .. وطلبنا كأسين من الويسكى .. ولاحظت ساسا بعد أن فرغنا الكأسين .. أنى شارد الذهن ..

فسألتنى :
ـ ما بك ..؟
ـ لا شىء ..
ـ ألا أروقك ..؟
ـ بالعكس أنت فتنة فى النساء ..

وكان الموقف الطبيعى يقتضينى أن أعانقها وأشرب من رحيـق شفتيها .. ولكننى جلست جامدا ولم تبد منى أية حركة ..

ولما حركتنى بسؤالها .. اكتفيت بأن مددت ذراعى الأيمن اليها وطوقتها .. وأخذت أمسح بيدى على ذراعيها .. فاستراحت إلى هذه الحركة وأخذت تديم النظر إلى وجهى الجامد .. فابتسمت وطلبت من الساقية كأسين آخرين..

وفى خلال الشراب حدثتها بصراحة عن الحقيبة وما حدث من القبض على صاحبها فى المطار ..

ورأيت سحنتها تتغير .. كأنما أصابتها رجفة .. ثم عادت إلى امتلاك أعصابها ..

وسألتنى :
ـ فى أى فندق نزلت ..؟
ـ يوكاهاما .. غرفة 703
ـ إنه بعيد جدا عن هنا ..
ـ نصف ساعة بالسيارة ..
ـ لا .. أكثر من ذلك .. اذهب فى الحال وابعد هذه الحقيبة عن غرفتك ..
ـ وأين أذهب بها ..؟
ـ أترى هذه الترعة .. القها فيها .. أو فى أى مكان من السهل أن تتخلص منها .. لأن هذا يسبب مشكلة ..
ـ ربما يكون الرجل مهربا .. وفيها جواهر

فضحكت .. وقالت
ـ لا داعى لأن تمزح .. أسرع وتخلص منها ..
ـ ماذا تصورت فيها ..
ـ ديناميت .. خرائط .. تصور معسكرات الأمريكان وأماكن احتلالهم فى طوكيو وغيرها .. أنت سائح مسكين .. وستعدم دون ذنب ..

فارتجفت ..
وسلمت عليها وهرولت إلى الخارج ..

***

وركبت تاكسى إلى الفندق وقال لى موظف الاستقبال بأدب زائد .. وأنا أتناول منه المفتاح ..
ـ هل يمكن .. أن تنتظر لحظة يا سيد بدر الدين ..
ـ لماذا ..؟

وقد أحسست بالعاصفة تقترب ..
ـ الظاهر أنه حدث سوء تفاهم منذ القبض على كوجا فى المطــار .. يريدون فقط أن يسألوا الركاب الذين كانوا معه ..
ـ إن هذا حماقة ..
ـ إنهم حمقى هؤلاء الأمريكان ..

وقلت لنفسى أننى أكثر حماقة لأننى مراقب منذ غادرت المطار والعيون ورائى فى كل خطوة .. وأنا لا أدرى ..

وسألته ببلاهة ..
ـ وكيف عرفوا مكانى ..؟
فقال ببساطة :
ـ إن شـركة الطيران .. وزعتكم على ثلاث فنادق معروفة ..

وأدركت مبلغ حماقتى لأنى ركبت عربة الشركة .. فطوكيو مدينة ضخمة كالمحيط وكنت أستطيع أن أغوص فى أعماقها ولا يعرف أحد مكانى لو لم أركب عربة الشركة وأجعل الخيوط فى أيديهم ..

ولمحت ثلاثة رجال فى ملابس مدنية يتقدمون نحوى ببطء .. وكنت أود أن أمرق كالسهم من الباب الدوار وانطلق بأقصى سرعة ولكننى استبشعت هذه الحركة فى فندق كبير كهذا ..

وقال لى أطولهم وهو الأمريكى حتما :
ـ هل يمكن أن نلقى نظرة على غرفتك ..؟

فاستبسلت وسألته بصوت قوى ضخم فيه لهجة الاستنكار ..
ـ لماذا ..؟
ـ إن هناك حقيبة مغلوطة فلتت من المطار ..

وفى تلك اللحظة كان من السهل علىّ جدا أن أقتل أى واحد منهم لو كان معى سلاح ..

ومشينا صامتين إلى المصعد .. وفى الطرقة الطويلة تقدمتهم إلى غرفتى .. وأعطيت فتاة لطيفة من عاملات الفنـدق المفتاح لتفتح لهم الباب .. لأتفادى رعشة يدى وأنا أدير القفل ..

وفتحت الفتاة الباب ودخلوا ودخلت معهم وأنا أحس بقلبى قد توقف عن الخفقان ..وعندما توسطت الغرفة انتابنى احساس من البلادة وفقدان الحساسية عجبت له وأدركت أنه نفس الاحساس الذى ينتاب من يصعد سلم المشنقة ..

ولكن عندما وقع نظرى على الحقائب عاد إلى الإحساس بالموقف أشد وأعظم واضطربت جدا .. ثم كادت أن تفلت من فمى صرخة مدوية صادرة من الأعماق .. فقد اختفت حقيبة الرجل من الموضع الذى وضعتها فيه .. وبحثوا فى كل ركن فلم يجدوا سوى حقائبى .. وفتحتها جميعا وجعلتها تحت أنظارهم وحيوا وانصرفوا ..

وودعتهم على باب الغرفة مزهوا ..

وجلست بعد أن ذهبوا أستريح وأشرب القهوة وأنا أفكر فى الملاك الذى طار بالحقيبة فى اللحظة الحاسمة ..

ونمت نوما عميقا ..

***

وفى الصباح خرجت أتجول فى المدينة وقد كف ذهنى عن التفكير فى اختفاء الحقيبة وقد عللته بأى سبب ..ربما تكون ادارة الفندق قد عرفت الحقيبة لأنها الوحيدة التى لاتحمل بطاقتى فانتزعتها من الحقائب بسهولة وخلصتنى من شرها ..

ونسيت الأمر كلية ..

***

وفى الليل ذهبت إلى ملهى السفينة .. لأرى ساسا .. وقالت وأنا داخل عليها وقد أشرق وجهها ..
ـ جئت مرة أخرى ..
ـ بالطبع ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى أحبك ..
ـ أوه ما أكثر ما سمعت هذا الكلام .. ولماذا تحبنى ..
ـ لأنك جميلة ..
ـ ما أكثر الجميلات فى طوكيو ..
ـ الواقع أننى عاجز عن التعبير .. لايوجـد سبب ملموس لحبى .. هناك ما هو أعظم من الجمال ومن الصفاء اللذين فيك ..
ـ هذا أحسن .. والمهم هل عثروا على الحقيبة ..؟
ـ ابدا .. لقد اختفت من الغرفة ..
ـ اختفت .. ؟

وضحكت بخبث .. وعلمت منها ما حدث .. خشيت ألا أصل إلى الفندق فى الوقت المناسب .. فاتصلت فى الحال تليفونيا بالطابق السابع الذى فيه غرفتى .. وكانت تعرف هناك فتاة من العاملات تدعى نيدا وحدثتها بأمر الحقيبة وطلبت منها أن تخرجها من الغرفة فى الحال .. وكان من السهل أن تستدل نيدا على الحقيبة لأنها الحقيبة الوحيدة التى لا تحمل بطاقة وعليها كتابة باليابانية فأخرجتها فى الحال ..

ـ وأين هى الحقيبة الآن ..؟
ـ فى مكان ما ..
ـ هل عرفت أنهم فتشوا غرفتى .. ؟
ـ أجل .. وكنت أقدر هذا ولذلك أخفيت الحقيبة ..
ـ إن هذا عمل عظيم لن أنساه لك ..
ـ لاداعى لمثل هذا الكلام ..

ونظرت إلىّ فاحتضنتها .. وأنا أقول ..
ـ لابد أن أحمـــل الحقيبة إلى العنوان الذى تركه لى الرجل ..
ـ ليس من الضرورى الآن انتظر اسبوعا ..
ـ لابد من هذا سريعا ..
ـ انتظر اسبوعا .. وسأذهب معك ..
ووافقتها على ذلك ..

***

ومر اسبوع .. واتفقنا على أن نتقابل فى محطة من محطات المترو الذى تحت الأرض .. وتكون معها الحقيبة .. ونركب من هناك إلى المكان الذى عينه لىّ الرجل ..

وفى الموعد المحدد انتظرتها .. وجاءت رشيقة جميلة وبيدها الحقيبة وأخذتها منها .. وذهبنا نضع بضعة ينات فى الآلة الأتوماتيكية .. وتناولت نيدا التذكرتين ..

وفى أثناء دورانى فى فناء المحطة المسقوف رأيت رجلا عرفته من عينه وكان هو كوجا بعينه وكان يرتدى معطفا سميكا ويضع على عينيه منظارا أسود ..وبيده عصا وعلى رأسه قبعة عريضة .. وكان مشوش الهندام غير حليق على غير ما عهدته فى الطائرة ..

وبحركة سريعة تناول منى الحقيبة وشد على يدى وهو يقول :
ـ كنت أعرف أنك ستأتى بها .. إنك شجاع .. لقد أعدت إلى قلبى .. وأقبل المترو .. فأخذها ومضى ..

***

وقلت لساسا وأنا أصعد بها سلم المحطة ..
ـ والآن أين نذهب ..؟
ـ كما تحب ..
ـ هل تذهبين معى إلى الفندق لنشكر نيدا على الأقل .. ؟
ـ فكرة رائعة ..

وفى شارع جنـزا رأيت فى كشك صغير صورة كوجا .. فى صحف المساء وكان تحتها نبأ هروب بخط كبير ..

ولما رأت ساسا الصورة ضحكت .. وضغطت على يدى ..
===============================

نشرت القصة فى صحيفة الشعب 28|4|1958 وأعيد نشرها بمجموعة قصص من اليابان من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2001
========================================




(2)
قصة من روسيا
القطار الأزرق

قصة محمود البدوى


التقيت " بنادية " لأول مرة بفندق أوكرانيا فى مدينة موسكو ، وكانت واقفة فى الصف أمام عاملة المقصف ، وتحاول أن تجعلها تفهم بالإشارة وبكـل وسائل التعبير ما تريده من أصناف الطعام ولم تنفع هذه الوسيلة ، فتلفتت نادية إلى ناحيتى وأشارت إلى الأطباق التى أمامى على المائدة لتأتى لها العاملة بمثـلها تماما ..

ولما تناولت الطعام من فوق الرف واستدارت ، بحثت بعينيها عن مائدة خالية ، فلما لم تجد ظهر عليها الضيق ، فلوحت لها بيدى لتتفضل وتجلس إلى مائدتى ، فجلست تأكل افطارها صامتة بعد أن عبرت لى عن شكرها بهزة خفيفة من رأسها .

وتصادف بعد ذلك ركوبنا المصعد معا وهو صاعد ونازل فى طوابق الفندق ، وكانت تفتح عينيها السوداوين على سعتهما وتحدق فى وجهى كمـا كنت أفعل مثلها فى صمت دون أن نتبادل كلمة واحدة .

وتقابلنا ساعة الظهر فى " الجوم " وكانت مع رفيقة لها فى مثل أناقتها وشبابها وحيويتها ، ومع أن رفيقتها بدت لى روسية خالصة .. ولكنهما تاهتا مثلى فى طرقات المتجر ، فقد كنا نلف جميعا وندور فى هذا التيه دون أن نهتدى إلى باب الخروج .. وكلما تقابلنا ابتسمنا ابتسامة تجمع بين المرارة والعجز ..!

وكنت كلما رأيتها نسيت ما أنا بسبيله .. وأشعر بأنى سأظل على اتصال دائم بها كلما تحركت فى قلب المدينة الكبيرة ، وأن صورتها لن تبرح خيالى أبدا ، وبدا لى جليا أنها تدعونى ولا تستطيع التعبير عن ذلك بالإشارة ولا بالكلام .

وفى صباح يوم وقفت على باب المصعد فى الدور التاسع كعادتى لأنزل إلى الطابق الأرضى وكان السهم يشير بأنه نازل .. فضغطت على النور ، ولما وصل طابقى وفتح الباب ، وجدته ممتلئا كله بالنساء من المضيفات اليابانيـات وغيرهن .. وليس فيه موضع لى .. فبقيت مكانى .. وأشرت للعاملة فى أسف .. بأن تواصل طريقها فى النـزول .. ولكنها لم تفعل وظل الباب مفتوحا ..

وسمــعت صوت نادية من الداخل يردد مع صوت العاملة :
ـ تعال come .. بالإنجليزية ..

فدخلت وسط هؤلاء الفتيات وأنا شاعر بالخجل ، وظللن يضحكن ويزقزقن كالعصافير حتى وصلنا إلى الأرض ..
وخرجت من الفندق بصحبتها فى هذه المرة ، وأصبحنا نتجول فى المدينة معا ، وسرنى أنها تجيد الإنجليزية ، فقد تعبت من الحديث بالإشارة وأنها ذاهبة إلى " ليننجراد " مثلى .

قالت لى أنها " فنلندية " ومسلمة وتشتغل مدرسة علم نفس وجاءت إلى روسيا فى عطلة دراسية لتـزور صديقة لها فى طشقند .. بدعوة منها .. وبعد أن توافر لها المال ..

وحدثتها بأننى التقيت منذ أكثر من ثلاثين سنة ، على التحقيق ، بسيدة "فنلندية " مسلمة وشابة مثلها .. على ظهر باخرة رومانية .. ونزلنا فى "استانبول " .. وقضينا ليلة جميلة على ضفاف البسفور ..

وسافرت هى إلى " فنلندا " .. على أن تكتب لى .. وأعطيتها عنوانى فى كونستنـزا ، وبودابست ، وفينا ..

ولكن بعد وصولى بيومين اشتعلت الحرب فجأة فى أوربا عام 1939 ، فعدت سريعا إلى مصر ، وانقطع بيننا كل اتصال .. ولا شك أنها قدرت موتى كما قدرت موتها ..

وقالت " نادية " بعذوبة :
ـ قد يكون تقديرك مخطئا ..

آخر تعديل بواسطة ليلى محمود البدوى ، 29-09-2006 الساعة 06:01 AM.
الرد مع إقتباس
  #3  
قديم 29-09-2006, 06:11 AM
ليلى محمود البدوى ليلى محمود البدوى غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2006
المشاركات: 10
إفتراضي


وقالت " نادية " بعذوبة :
ـ قد يكون تقديرك مخطئا ..
ـ وقد يكون صائبا .. وقد تذكرت هذه السيدة الآن بحنان وشوق عندما رأيتك ..
ـ الأنى فنلندية ومسلمة مثلها ..؟
ـ أجل .. فكنا نتحدث معا بالإنجليزية أيضا كما نتحدث الآن فى طلاقة وود ..

وكنت أبحث عن أفلام " للكاميرا " فاضطررنا أن نذهب إلى شارع "جوركى " .. وكان البرد شديدا والثلوج تتساقط بغزارة ، فأشفقت عليها فى هذا الجو ونحن نعبر الشارع إلى المتجر ..

ثم خرجنا لنتغدى .. واتفقنا فى ساعة الغداء على أن نسافر فى الغد إلى "ليننجراد " ..

وقضينا نهار السفر معا نتسوق بعض الأشياء ونودع معالم المدينة الجميلة..

وكان القطار المسافر إلى " ليننجراد " يتحرك فى تمام الساعة الثامنة مساء .. فوصلنا المحطة والثلج يتساقط والبرودة تحت الصفر ب 25 درجة .. وكانت " نادية " متدثرة بمعطف سميك وتغطى رأسها بقبعة زرقاء وفى يديها القفاز الصوفى ، ومع ذلك خفت عليها من هذا الجو الثلجى .

ووقفنا على الرصيف نرتعش من البرد ، وكانت المحطة خالية من الركاب تقريبا .. لأننا قدمنا قبل موعد السفر بمدة طويلة .

وأشفقت علينا موظفة مسنة فى المحطة ، فأدخلتنا قاعة انتظار الضيوف ، فوجدنا قاعة فسيحة مكيفة ، وشعرنا على التو بالدفء والراحة ..

وخلعت معطفى وغطاء الرأس والكوفية الصوف ، وخلعت " نادية " معطفها وقبعتها وقفازها ، وبدا شعرها الأسود مرسلا متموجا شديد اللمعان ، وتألقت عيناها بعد أن خلعت القبعة وزاد ما فيهما من صفاء ورقة ، وأسفرت عن فستان كحلى من الصوف جيد النسيج محكم التفصيل ، أضـفى سحرا جديدا على بشرة فى لون المرمر ونعومته ، وزاد الوجه نضارة وحسنا ..

وقدرت سنها بما لايزيد على الثلاثين سنة ، فقد بدت فى الجمال الآسر للمرأة عندما يكتمل عقلها وجسمها معا .. ويزداد بريق عينيها .. وتتفجر أنوثة وحيوية وهى تأخذ من الحياة قبل أن تولى عنها ..

وقد أخذتنا السيدة الروسية المكلفة بغرفة الضيوف فى المحطة على اعتبار أننا صديقان أو زوجان .. رغم ما بيننا من فارق كبير فى السن ، فقد كنت أكبر من " نادية " بعشرين عاما على الأقل .. وقدمت لنا الشاى الساخن وما عندها من مجلات روسية باللغة الإنجليزية ..

ولما أخرجت لها " نادية " علبة من الحلوى فاض وجه العجوز بالبشر وتناولت قطعة صغيرة من الشيكولاته وردت الباقى وهى تردد الشكر بالروسية التى لانعرفها ..

ورأيت فى هذه السيدة من الحنان والأمومة مثل ما شاهدته تماما فى العجوز الأخرى التى كانت تشرح لنا باستفاضة ودقة كل طباع " تشيكوف" وأحواله عندما زرنا بيته فى هذا الصباح فى قلب موسكو ، حتى تصورت أنها هى التى ربته على صدرها ..وهو جيل عطوف صهرته الحياة وأظهرت فيه أجمل صفاته ..

كانت العجوز فى المحطة لاتفتأ تسألنا بالإشارة إن كنا فى حاجة إلى شىء آخر غير الشاى ، فشكرناها بحرارة ، وقلنا لها بالإشارة أيضا أننا أعددنا لليل الطويل فى القطار كل ما نحتاجه من طعام ..

وكانت تنظر الينا فى تمعن وتطيل النظر وتحاول أن تقول شيئا لاتستطيع التعبير عنه بالإشارة ، شيئا كان يدور فى رأسها ويحتل مراكز تفكيرها ..

***

وقبل موعد القطار بربع ساعة ، ودعنا السيدة العجوز وخرجنا إلى رصيف المحطة والثلج لايزال يتساقط وكل منا يحمل حقيبته فى يده ..

ومررنا على صف طويل من العربات ، أنه قطار طويل ، بل أطول قطار رأيته فى حياتى .. قطار أزرق فاخر .. وعلى باب كل عربة وقفت الكمسارية بردائها الأزرق الجميل وكأنها قطعة من جماله ، وقفت ساكنة متهيئة للرحلة الطويلة .

وكانت عربتنا هى الرابعة وراء القاطرة .. وحيتنا الكمسارية على البـاب ودخلنا فى طرقة العربة المفروشة بالسجاد إلى مقصورتنا .

ووضعت حقيبة " نادية " وحقيبتى فى الداخل فى المكان المخصص للحقائب وخرجت من المقصورة أتطلع من النافذة وأعطى الفرصة " لنادية " لتخلع معطفها وقبعتها وكل ما كانت تتقى به البرد فى خارج القطار .

***

وقفت أرقب الرصيف من النافذة وأنوار المصابيح الزاهية قد غشاها الثلج المتساقط فأصبحت شهباء تريح العين ، وبدا شىء أشبه بالستارة الزرقاء قد انسدل فوق كل ما يحيط بنا من أبنية وأشجار ، وكان المسافرون الذين يتحركون على الرصيف قلة من السائحين والروس وبعض الضباط بملابسهم الرسمية ..

وبدا السكون واضحا ، ولم أسمع صفيرا للقطارات ولا زعيقا ولا ضجة ، ورأيت قطارات أخرى وكلها زرقاء واقفة حذاء الأرصفة تنتظر من يأذن لها بالمسير ..

وأحسست " بنادية " تقف بجانبى منشرحة الصدر ، وقد غيرت فستانها وبدت كأنها تلبس رداء أعد للسفر الطويل ، وأخـذنا نتحدث ونتطلع إلى بعيد ، وكان رأسى يشتعل بالليلة " الحالمة " ..

وظللنا نرقب الرصيف بعيون ثابتة بعد أن أزحنا الستارة كلها ، وكانت الحركة قليلة ومن يظهر من حين إلى حين من الركاب يمضى سريعا ويدخل فى جوف العربة الدافىء ومعظمهم أزواج ، رجل وامرأة فمن الذى يقضى اثنتى عشرة ساعة فى القطار وحده دون رفيق أو أنيس ..

وشعرنا بأن القطار بدأ يتحرك ببطء وينسحب على الرصيف ، وظلت عيوننا معلقة بأنوار المدينة المتألقة وبالثلج المتساقط على الأعمدة وأسلاك البرق وفروع الأشجار . وشاهدنا من بعيد شيخا كبيرا يمشى بتؤدة فى طريق صاعد وهو يطلع وسط الثلوج ، ورغم الجهد والتعب البادين على ملامحه وجسمه ، فإنه رفض أن تعينه امرأة كانت بجانبه ..

وقالت نادية وقد تأثرت من منظره :
ـ إنه يتحرك بإرادته وحده ..

فقلت معقبا :
ـ ولعله حارب وانتصر بإرادته أيضا .. وأحسبه فقد ساقه فى الحرب .. ولكنه ظل صلدا ..

وسلطت الكاميرا عليه ..
فسألت نادية :
ـ هل ستظهر الصورة ..؟
ـ أرجو هذا ..

وخـيل إلىّ ونحن فى الممشى أنه لا يوجد ركاب سوانا فى هـذه العربة . وكانت الكمسارية واقفة هناك على الجانب الأيمن من المدخل ، ثم تحركت وأخذت تنـزل ستائر النوافذ الخارجية كلها ، ودخلنا المقصورة وردت نادية الباب .. وحمدت الله على أن السريرين متجاوران ، فلا داعى لأن يصعد أحدنا على سلم وينام فوق سرير الآخر ..

وسحبت " نادية " الطاولة التى بين السريرين وأخذت تخرج من حقيبة اليد بعض الأشياء وتضعها على الطاولة ..

وقالت وهى تدور بعينيها فى جوانب المقصورة :
ـ جميلة .. ؟ !
ـ جدا .. اتفضلين هذا الجانب ، أم تحبين مكانى ..؟
ـ شكرا أننى مستريحة هنا ..

وأخذت تجرى المشط على شعرها الأسود الناعم .. وترسله إلى الوراء وهى ترمقنى بعينيها الواسعتين بنفس النظرة الثابتة المفكرة التى كانت فى موسكو ..

وأخرجت المجلات الإنجليزية والكتب لتتسلى بها فى القطار إن طابت لها القراءة ..

ونهضت وفتحت الباب وأنا أقول " لنادية " :
ـ سأطلب من الكمسارية قدحا من الشاى ، ألا ترغبين ..؟
ـ أرغب .. ولكن الشاى يقدم عادة فى الصباح ..
ـ ولكنى سأحاول ..

وكانت " الكمسارية " جالسة فى مقصورتها بكامل زيها الرسمى ، فطلبت الشاى بالإنجليزية ، وسرنى أنها تعرف هذه اللغة .. فنهضت على الفور لتصنعه ..

وحملت لنا قدحين كبيرين من الشاى ممزوجين بالسكر على عكس الشاى الذى يشرب فى قطارات الصين ، وحيت نادية وهشت وبشت فى وجهها . ودلتنى وهى تنسحب على عربة الطعام .. فشكرناها وكان معنا طعامنا .. تسوقناه من بقالة فى موسكو .. خبز وزبد ولحم بقر صنعت منه " نادية " شطائر شهية ، سنأكل منها كلما أحسسنا بالجوع ، دون أن نتقيد بمواعيد الطعام فى القطار ..

وأخذنا نتحدث ، ونتطلع من النافذة فى جلستنا المريحة عن الليل فى روسيا فى القرى والحقول والمصانع والمدن الصغيرة والكبيرة .. وكان القطـار يمضى كالسهم ، ولكن لانحس بسرعته .

وعجبت لإحساسى نحو " نادية " .. فبعد ساعة كاملة من الانفراد بها فى مقصورة ضيقة مغلقة الباب .. لم المس كتفها ولا خدها ولاشعرها .. ولم أشعر بالرغبة فى ذلك ولم أبادلها كلمة غزل واحدة .. أنا الذى كنت أتحرق شوقا إلى السائحات فى موسكو ، وأشتهى مضيفات الطائرات النازلات فى الفنادق وعاملات المصاعد ، وكل شابة التقى بها وأجد عندها الرغبة لمبادلتى النظر والحديث ..

كنت أتحرق شوقا لأن أضم كل أنثى تستجيب لرغبتى .. ولما جاءت الأنثى وأصبحت على قيد ذراع منى والباب مغلق والسكون يخيم ، وكل شىء يهيىء النفس لإشعال العواطف .. لقيت نفسى باردا ميت الإحسـاس .. ميت العواطف .. لا أحس بأى إحساس مما يشعر به الرجل نحو المرأة عندما يخلو بها .. وتدفقت بدلها عواطف جديدة فى كيانى كله .. أحسست بهـا لأول مرة .. عواطف من الحنان الخالص والعطف الشديد ..

فلما قالت لى بأنها تشعر بصداع خفيف ، وضعت أمامها كل مـا معى من أقراص ومسكنات للصداع .. وكانت الحرارة فى المقصورة قد زادت فخرجت وتركتها لتخفف من ملابسها وتفعل كل ما تحب أن تغيره الأنثى من ملابسها وهى وحدها ولا تضايقها نظرات الرجل ..

وعجبت أنا الرجل الأعزب الذى لم يتزوج قط ويعاشر المرأة ليصورها .. كمصور للصحف .. ويبيع صورتها دون اعتبار لصاحبة الصورة .. أنا بكل صفاتى أصبحت فجأة أحترم هذه السيدة وأجلها ، ولم أفكر قط فى أن آخذ لها صورة ..

وكانت تقرأ خواطرى فى موسكو وتقول لى بعذوبة :
ـ لماذا لاتأخذ لى صورة ..؟

وكنت أجيبها :
ـ سأصورك صورة تذكارية عندما نفترق فى " ليننجراد " أما هنا فلا ..
ـ هل أنت بخيل ..؟
ـ جدا ..!
ـ إذا سأشترى لك الفيلم ..!

أنها تخلق فى كل كلمة من كلمات الحوار جمالا بلاغيا كان يهز مشـاعرى ، وضحكت .. وكانت مسالك تفكيرى تطرد .. وكنت أخاف من شىء لا أعرفه ولذلك لم أحاول تصويرها قط . ولم أفكر فيه مع أن صورتها مغرية .. ومثيرة فى جريدتى .. شابة فنلندية مسلمة رائعة الحسن بكل الملامح الشرقية فى العينين والخدين والأنف والفم والجبين والشفة الرقيقة الحالمة ..أى كسب وأى إغراء بعد هذا .. ولكن كل حلقات تفكيرى كمصور كانت تقف عندها وتصدم بشىء أعزه فيها ولا أعرف مكنونه .

***

كانت " نادية " قد زارت ليننجراد .. قبل مجيئها إلى موسكو وطشقند . لأن ليننجراد أقرب المدن الروسية إلى فنلندا ، ولذلك أخذت تحدثنى عن ليننجراد وما سنشاهده فيها من جمال وبهجة .

وقالت برقة :
ـ وسنقضى يوما بطوله فى " الأرميتاج " ..
ـ يوما بطوله ..؟
ـ واليوم لايكفى .. ألست مصورا ؟ سترى بعينيك أنه لايكفى .. إن فيه أجمل ما صنعه الرسامون فى العالم أجمع ..

وتناولت لفافة الطعام وأخذنا نأكل على مهل ، وكان فى الكيس ثلاث تفاحات كبيرة .. فأكل كل منا واحدة ، واقترحت نادية أن تعطى الثالثة لكمسارية العربة ، وخرجت من المقصورة لتعطيها التفاحة .

وعادت الكمسارية إلينا تشكر ومعها دفتر ، وطلبت أن نكتب لها كلمة تذكارية ، وكتبت نادية كلمة بالإنجليزية أعجبتنى جدا ، ووقعت تحتها باسمها ووقعت أنا باسمى " ابراهيم " بالحروف اللاتينية الكبيرة .

الرد مع إقتباس
  #4  
قديم 29-09-2006, 06:19 AM
ليلى محمود البدوى ليلى محمود البدوى غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2006
المشاركات: 10
إفتراضي

وأرادت الكمسارية أن تعرف منطوق الاسمين فكررته لها نادية .. نادية .. ابراهيم .. والكمسارية تحاول نطق الاسمين وراءها بلكنة وأنا أضحك ..

***

وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة بعد أن فرغنا من العشاء .. واقترحت أن نخرج إلى الطرقة ونتمشى قليلا حتى لا نصاب بالخمول ..

فخرجنا وواصلنا السير إلى العربات الأخرى .. وكانت معظم أبواب المقصورات مغلقة ، وقليل من الركاب كان يقف مثلنا فى الممشى ..

ولكن الوقفة بجوار النافذة والقطار يمضى ويطوى فى الليل كل شىء وراءه .. كان لها فعل السحر فى نفس " نادية " فقد تفتحت نفسها وتطلق وجهها وأخذت تدفع شفتها السفلى إلى جانب .. وتفتح عينيها السوداوين إلى ما وراء الحجب ..

وشعرت أنه القطار الذى يطوى الزمن .. ولم أعد فى فترة الأحلام أشعر بشىء .. ثم تنبهت على يد " نادية " على كتفى ولم أتحرك من مكانى حتى لا أجرح شعورها .. إن السعادة حالة نفسية ، وقد أحسست بها فى هذه الساعة إلى أقصى مدى .. وأحسست بعد ذلك بأنها وضعت خدها على كتفى الأيسر بجانب الصدر .. قريبا من القلب .. ولم أتحرك .. وشعرت فى هذه اللحظة بأن نادية جزء من كيانى .. ولا انفصال لنا بعدها .. ولم أسألها إن كانت متزوجه أم لا .. لأنها لم تسألنى هذا السؤال ..

واستفقت على صوتها :
ـ نرجع ..

وكنا قد تجاوزنا عربتنا بثلاث عربات على الأقل .. فعدنا على مهل ، وبعد أن دخلنا المقصورة بقليل واضطجعنا وأخذت تقرأ .. وأنا أقلب فى صفحات المجلات .

سمعت نقرا خفيفا على الباب فقمت وفتحته ، فوجدت فتاة رشيقة فى الطرقة وناولتنى بطاقة عليها صورة قارئة كف مشهورة موجودة فى القطار !!

وأخذت " نادية " تحاور الفتاة بالإنجليزية وكانت ضاحكة مرحة وفى لباس قصير جدا جعلها شبه عارية ، وقدرت أنها إنجليزية أو دنمركية ، فقد كانت شقراء الشعر وسيمة ..

وسألتها عن العرافة :
ـ أين هى ؟
ـ فى العربة السادسة والمقصورة السابعة ..
ـ وكم الأجر ؟
ـ عشرة دولارات ..
ـ هذا كثير ..
ـ إن الناس تسافر اليها .. وتصرف آلاف الدولارات لتراها .. ولكنها الآن موجودة وفى القطار ..!

وسألت نادية :
ـ هل ترغبين ؟
ـ لا .. أنا أعرف حظى ..!

ثم رأينا أن نذهب لمجرد الفرجة .. وفتحت الفتاة باب المقصورة قليلا لنرى من بعيد .. فوجدنا عجوزا نحيلة تجلس مسترخية على السرير .. وشدنى وجهها بغضونه وتجاعيده .. وكانت فوق الثمانين .. وعيناها تلمعـان فى حدة وقوة أبصار غريبة كعينى العقاب

وبدت فى جلستها قصيرة جدا ونحيفة ، ولكنها كانت تتحدث بالإنجليزية بطلاقة مذهلة ..

وقلت لنادية :
ـ أدخلى ..
فقالت :
ـ لا .. ولكن لنقف ونتفرج ..

ووقفنا مع الواقفين على الباب .. وكان أمر العرافة قد عرف فى القطار وأصبحت تسلية للمسافرين ، ولم يكن تسمح لغير الراغب فى الدخول .. ولم نسمع من كلامها حرفا لأنها تغلق الباب تماما ، وبدافع الفضول دخلت أنا "ونادية " وسألتها إن كنت أستطيع أن أدفع بعملة أخرى ..

فقالت بالإنجليزية :
ـ دولارات فقط ..!
وتلفت نحو نادية لنخرج .. وأنا أقول :
ـ بالعشرة دولارات نقضى يوما ممتعا فى ليننجراد ..
فهمست نادية :
ـ إن منظر المرأة يسحرنى ..

وأخرجت ورقة بعشرة دولارات وناولتها للعرافة ..
وسألتنى :
ـ من الذى سنقرأ كفه أنت أم هى ؟
ـ أنا ..
ـ اذن تخرج السيدة ..
ـ ليس بيننا أسرار ..
وأصرت على خروجها ..

وناولتها كفى ..
فقالت بصوت هادىء :

ـ يدك معروقة .. وطويلة .. وخطوطها واضحة .. أسفار كثيرة .. ومن سن العشرين وأنت تسافر ، والحظ عاثر ، أرى لقاء فى سفينة بين عاشقين ، وأرى بحر مرمرة .. والبسفور ، وهاج البحر ، ودوت القنابل ، وأرى فتاة جميلة ثمـرة لهذا اللقــاء .. عاشت والتقت بوالدها بعد سنين وسنين ..

وذهلت عند سماع قولها .. وأخذت أردد .. بحر .. مرمرة .. والبسفور ..وسفينة .. ولقاء .. وبحر مرمرة بالذات ولم تقل بحرا ككل البحور ..

وسألت وأنا أرتعش :
والأم ما زالت تعيش ؟
ـ أجل ..
ـ أين ..
ـ فى مدينة كبيرة .. وهى غنية وما زالت جميلة ..

وظللت واقفا والعرق يتفصد على جبينى .. كاد وقع المفاجأة أن يصيبنى بدوار .. ثم تمالكت زمام نفسى وخرجت شاحب الوجه .

سألتنى نادية :
ـ ما الذى قالته لك ..؟
ـ لا شىء .. مجرد أكاذيب كالمعتاد ..

وفى المقصورة أخذت أحدق فى وجهها ورجعت أتذكر أمها .. نفس العينين وخط الأنف ونفس البسمة على الشفتين ونفس الطباع ..

وعادت نادية تسأل :
ـ ما الذى قالته لك المرأة ؟
ـ ما الذى تقوله عرافة .. أكاذيب بالطبع ..!
ـ أريد أن أسمعها ..
ـ قالت أنى متزوج .. وخط السعد واضح .. وتنتظرنى ثروة كبيرة .. وسأظل أسافر دوما .. ولو عرفت أننى مصرى لقالت أننا سنهزم إسرائيل فى هذا الشهر

ـ وإذا كنت لاتصدقها .. فلماذا تغير حالك بعد قولها ..؟
ـ هذا يحدث لكل إنسان ..

وخيم بيننا الصمت ، ولم أكن أنام فى القطارات .. وتمددت لتنام هى .. بعد أن خففت الضوء وشمل الظلام المقصورة ..

ثم سمعت صوتها :
ـ هل نمت ؟
ـ أحاول ذلك ..
ـ متى نصل ليننجراد ؟
ـ فى الساعة الثامنة صباحا ..
ـ وأين سننـزل ..؟
ـ فى فندق ليننجراد ..!
ـ حجزت ؟
ـ أجل ..

وخطر على بالى سؤال ، فقلت لها :
ـ نادية .. هل والدك موجود ..؟
ـ لا .. لقد توفى فى أثناء الحرب ..
ـ وأمك ..؟
ـ تعيش معى فى فنلندا .. وهى لا تزال صبية وجميلة مع أنها تقترب من الخمسين ..

ـ وما أسمها ..؟
ـ صفية خير الله ..

وارتعش قلبى ..

وسمعت " نادية " تقول بعد فترة صمت :
ـ إن صورتها معى فى الحقيبة ، هل تحب أن تراها الآن ؟
ـ فى الصباح يا نادية .. لاداعى للتعب فى الليل ..

كنت أود أن أعيش فى ظل الشك .. ولو حتى إلى الصباح ، فالحقيقة السافرة مع كل ما تحمل من فرحة .. فيها وقع الفجاءة التى لم أكن أتوقع حدوثها قط ، فقد شطر كيانى نصفين .. إن القطار الأزرق حملنى عبر السنين إلى بعيد وأنا لا أدرى .. لاشىء ينسى .. وكل ما يحدث فى حياة الإنسان فهو لاصق بوجوده ..

لقد كانت " نادية " أستاذة علم النفس وتقرأ أفكارى ، وتعرف هواجسى ، ومشاعرى ، وما أنا فيه من فرحة واضطراب .. ولكنها لزمت الصمت ..

وبعد ساعة قمت وغطيت " نادية " بالبطانية .. ولم يكن جو المقصورة يحتاج إلى غطاء ..
===========================================

نشرت القصة فى مجلة الثقافة اكتوبر 1973 وأعيد نشرها فى مجموعة عودة الابن الضال 1993
=================================





(3)
"]قصة من هونج كونج
الجـــــــوع

قصة محمود البدوى[/size]


"دخلت مطعم " لينج " لأتغدى بعد" جولة طويلة فى شوارع هونج كونج مدينة الأعاجيب وكان يقع فى شارع " دى فو " شريان المدينة الرئيسى .. واشتهر بأطباقه الشهية .

آخر تعديل بواسطة ليلى محمود البدوى ، 29-09-2006 الساعة 06:49 AM.
الرد مع إقتباس
  #5  
قديم 29-09-2006, 06:25 AM
ليلى محمود البدوى ليلى محمود البدوى غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2006
المشاركات: 10
إفتراضي


واخترت مائدة مفردة فى القاعة التى تميل إلى الاستطالة ولها أربعة أبواب تتحرك بلولب .

وكانت الستائر الحريرية المزخرفة بأجمل الرسوم مسدلة والمطعم فى نصف ظلام .

وأضيئت جوانبه بقناديل حمراء صغيرة حتى فى النهار لأن الستائر حجبت عنه الضوء الخارجى كلية .

وكانت الموائد يغطيها نسيج أرجوانى موشى بالزهور .
والقاعة غاصة بالزبائن من مختلف أجناس الأرض .. وثلاثة من الخدم يتحركون بين الموائد فى ستراتهم البيضاء الزاهية .

وجذب انتباهى رجل صينى فى حوالى الأربعين من عمره .. كان يجلس فى نفس الصف ويأكل بشراهة مذهلة وكل القرائن تدل على أنه يتناول هذه الوجبة بعد أن تمزقت أحشاؤه وعانى طويلا من سعار الجوع .

وكان الشحوب الذى يتركه الجوع على وجه الإنسان لايزال بارزا على وجهه المستدير وعيناه قد انطفأ ما فيهما من بريق ..

وبدت جيوب سترته منتفخة بما فيها من أشياء .. وشعره قد نبت بغزارة على عارضيه كما أنه لم يكن يعنى بملابسه .

وكان مظهره كله يدل على أنه جواب آفاق .

وأخذ يأكل فى صمت وبصره مركز على الصحون وذراعاه تطوقان ما فوق المائدة من طعام كأنه يخشى أن ينتزع منه .

ومرت فتاة صينية حلوة بين الموائد حاملة صندوقا من السجائر .. فاستوقفها الرجل وتناول منها علبة .. وأرجأ دفع الثمن حتى يفرغ من الطعام .

ودفعت الفتاة بابا صغيرا جانبيا وتركته مفتوحا .. فسمعت على أثر ذلك موسيقى خفيفة وعرفت أن الباب يفضى إلى ملهى فى نفس البناية .

وكان الملهى يعمل فى الليل ولكن بعض فتياته كن جالسات هناك فى استرخاء وعيونهن لاتزال تشعر بالحاجة إلى النوم .

ولمحت من بينهن غانية شابة جميلة جدا .. وكانت تجلس وحدها وعلى وجهها الشرود .. وما لبثت أن نهضت .. ودخلت قاعة الطعام .. واختارت مائدة جانبية خالية .. وطلبت قدحا من النبيذ تناولت منه جرعات ثم أشعلت سيجارة .

وكانت ممتقعة الوجة وعلى خديها شحوب بارز .. وشعر رأسها أسود غزير وقد تركته ينسدل على جبينها ليخفى بقايا دموع فى عينيها .

وكانت ترتدى الجونلة الصينية المشقوقة عند الفخذين وفوقها صديرية حريرية حمراء .. وبدت ضجرة وحزينة .

ولم تستطع نضارة وجهها أن تخفى أحزان قلبها .. فقد كان فمها الصغير تتفتح شفتاه قليلا .. كما تتفتح الوردة فى رعشة خفيفة عندما يمسها الطل .

ورغم الستائر المسدلة على أبواب المطعم ونوافذه .. فقد أحسست بشىء حدث فى الخارج .. فقد أخذ المطر يتساقط وهبت الريح فى شدة .. ولم يكن الجو باردا حتى فى ديسمبر ولكن جهاز التكييف كان يعمل .

وتحركت السيدة السمينة صاحبة المطعم من مكانها عند " البنك " لما رأت الخدم يقدمون الحساء وهو آخر الصحون فى المطاعم الصينية .. وأخذت تحيى الزبائن وتسألهم عن المزيد من الرغبات .

وفى أثناء جولتها حدث فجأة شىء رهيب .

فقد أراد الرجل الصينى " جواب الآفاق " الذى كان يأكل بشراهة .. أن يتسلل من المطعم دون أن يدفع ثمن الطعام .. لأنه لم يكن معه نقود على الاطلاق .

وأحس به الخدم فأوقفوه ودفعوه بعنف إلى الداخل وأعادوه إلى مائدته ليكون بجانب قائمة الحساب .

وأخذت العيون كلها تحدق فيه بوحشية .

وتطلعت إلى الرجل فإذا هو صامت يدير عينين مذعورتين وأصابعه تعجن طرف سترته .. تخاذل الرجل وانهار كلية .

وأخذت النظرات الوقحة تعرى هذا البائس من ثيابه .. حتى بلغ به التأثر مبلغه .. فارتعشت شفتاه وعبر وجهه عن أقصى حالات الألم البشرى .

وعلى اثر كلمة سمعها رأيته يقلب جيوبه ويفرغ كل ما فيها .. وبعد هذه الحركة .. غامت عيناه تماما وتصلب فكاه .. وحسبته قد أصابه الصرع .

وصاحبة المطعم التى كانت توزع ابتسامتها وتفيض من عذوبتها على الزبائن .. انقلبت فى لحظة إلى نمرة متوحشة .. وأخذت تهدد بالصينية وتصدر أوامرها للخدم .. ثم أدارت قرص التليفون وهى فى حالة غضب .

وتسرب الخبر إلى العابرين فى الطريق فأخذوا ينظرون إلى الداخل من خلال الستر .. ولولا أن باب المطعم كان مغلقا ووقف عليه حارس ليمنع الرجل من الهروب .. لدخلوا وأشبعوا الرجل سخرية .

وتألمت لحاله .. ولكننى لم أغفر له خضوعه المطلق وذلته .. وكنت أود لو يتصارع معهم ويتضارب وهو يبدو قويا ..

وخيم الوجوم على من فى القاعة عندما دخل رجل البوليس .

وفى وسط الصمت المخيم رأيت الغانية الشابة التى كانت جالسة هناك وحدها وأمامها قدح من النبيذ .. تقترب من الرجل المسكين ..

وتقول وهى تشير بيدها :
ـ هناك ورقة ساقطة من السيد .. وانحنت والتقطت ورقة بمائة دولار هونج كونجى .. ناولتها للرجل .

وكأنما بصقت بهذه الكلمات الندية على وجوه الموجودين فى القاعة جميعا ..

وتناول الرجل الورقة ولم ينبس ..

وكبرت المرأة فى نظرى وكبرت حتى حجبت كل من فى القاعة .

وأدركت يقينا وأنا أنظر فى عينيها .. أنها ذاقت أكثر من مرة عذاب الجوع ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم بالعدد 1071 فى 15|5|1965 وأعيد نشرها بمجموعة " مساء الخميس 1966 وبمجموعة "قصص من هونج كونج " تقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2001
=================================



(4)
قصة من صعيد مصر
الـطبـيـب

قصة محمود البدوى


حدث منذ سنوات بعيدة .. أن سطا ثلاثة من عتاة اللصوص ـ فى ليلة شتوية مظلمة ـ على قصر ثرى من أثرياء الصعيد ..

وتنبه لهم خفراء القصر رغم شدة الظلام .. أحس بهم الخفراء قبل أن يصلوا إلى الخزانة .. واشتبكوا معهم فى معركة نارية ..

ولكن اللصوص كانوا أشد مراسا وأقوى سلاحا ..

فاضطر صاحب القصر لنفوذه أن يستنجد بعساكر المركز والمديرية وأسرعت قوة كبيرة وحاصرت اللصوص وقبضت عليهم .. ولكنهم كانوا فى ساعة الاشتباك قد قتلوا اثنين من العساكر وجرحوا ثلاثة .

وسيق اللصوص الثلاثة إلى المركز فتلقفهم العساكر بالضرب المبرح والركل انتقاما لما حدث لزملائهم فى المعركة واشفاء لغل صدورهم .

***

وحول اللصوص والدماء تنزف منهم إلى السجن .. وخشى مدير السجن المغبة لشدة الاصابات وأكثرها ظاهرة للعيان .. فحولهم إلى المستشفى الحكومى .

وكشف عليهم الطبيب المختص ودون كل ما وقع عليه نظره ولمسه كطبيب خبير من إصابات وجروح فى اللحم والعظم .. كتب هذا فى تقرير دقيق مفصل .

وشاع كل ما كتب فى التقرير فى أرجاء المستشفى بعد ما رفعه الطبيب إلى رئيسه مدير المستشفى .
الرد مع إقتباس
  #6  
قديم 29-09-2006, 06:27 AM
ليلى محمود البدوى ليلى محمود البدوى غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2006
المشاركات: 10
إفتراضي


وكان حكمدار البوليس فى مكتب مدير المستشفى بسبب ما وقع .. فاطلع على التقرير وهاله ما دون فيه ونهض مسرعا إلى حجرة الطبيب وفى عينيه شرر الغضب ..

وابتـدره بقوله فى غلظـة :
ـ ما هذا .. يا دكتور ..؟!

ولوح بالتقرير ويده ترتعش غضبا .

ورد الطبيب بهدوء مالكا أعصابه
ـ تقرير من طبيب مختص عن اصابات حدثت للناس .
ـ ولكن هؤلاء الناس لصوص .. وقتلة .
ـ القتلة ستحاكمهم المحكمة يا سعادة الحكمدار على جريمتهم ولا أحد غير القضاء هو المختص بمحاكمتهم .. فلا أحاكمهم أنا ولا سعادتك .

ـ ولكن التقرير فظيع .. وواضح الإدانة على العساكر .
ـ دونت الحقيقة خالصة من كل غرض .
ـ لم يحدث مثل هذا فى تقرير يكتبه أطباء الحكومة .
ـ لكنه حدث ..
ـ تقول هذا بكل هوء وأنت لاتعرف العواقب .
ـ لو فكرت فى العواقب .. ما زاولت هذه المهنة قط .

ولانت ملامح الحكمدار وغير من لهجته تحت إصرار الطبيب وعناده .

ـ يا دكتور .. أنت فى سن ابنى مراد .. وأنا أنصحك الآن كما أنصح ابنى .. وأرى لصالحك أن تغير من بعض ما كتبته فى هذا التقرير .
ـ هذا لايمكن أن يحدث .
ـ هل فكرت أن هذا سيذهب بهيبة السلطة .. ويشل حركتها .. وإذا ضاعت الهيبة ضاع الأمن فى البلد .. وبهذه الهيبة نحميك أنت قبل أن نحمى غيرك .
ـ ليس الأمر على النهج الذى تصورته سعادتك .. ولو اتبع من بيده القانون لاستراحوا وأراحوا .
ـ يعنى نترك المجرمين والقتلة وقطاع الطرق يعيثون فى الأرض فسادا .. وإذا وقعوا فى أيدينا نربت " نطبطب " على ظهورهم .
ـ لم أقل هذا ولا أقبل أن أدافع عن مجرم ولا سفاح .. ولكنى أقرر الحقيقة كطبيب .. فى عمل من أخص خصائص مهنتى .. فمن الذى يكشف عن الجريح . الطبيب أو غيره ..؟ انه عمل الطبيب وحده .
ـ ولكن ما كتبته سيجر .. إلى أمر لاتدركه أنت فى هذه الساعة سيجر إلى ضياع السلطة وشيوع الفساد .

وأشعل الحكمدار سيجارة .. واستطرد :

ـ طيب عدم بعض العبارات .. مثل جرح عميق بطول .. وتهتك فى قفص الصدر .. وكسر فى الترقوة .. ومثل هذا كثير يحتاج إلى التعديل .
ـ ولا حرف .
ـ يابنى .. تعبت معك .. سأرى مدير المستشفى وقد يثنيك عن عزمك .. وتقبل منه النصح .

وجاء مدير المستشفى ولكن الدكتور " اسماعيل " ظل على إصراره ورفض .

وأخيرا قال له المدير :
ـ يا بنى أنت متزوج حديثا .. وأصبحت أبا لطفل .. وعليك مسئولية الأبوة .. وأرجو أن تقدر المئولية .. وأنت لاتعرف ما يجرى تنقصك التجارب .

وسقط مدير المستشفى فى نظر الطبيب الشاب .. سقط سقطة أبدية .

وسأل الطبيب الشاب مديره :
ـ وما الذى تريده منى ..؟
ـ تغير من لهجة التقرير الحامية ..!
ـ أغير الحقيقة .. وأكتب الباطل .. أزور .. هل هذا هو ماتعلمته من الدكتور عبد العزيز اسماعيل .. والدكتور على ابراهيم .. والدكتور محمد صبحى .. والدكتور أحمد شفيق .. هل تعلمت من هؤلاء الأفذاذ التزوير .. حتى أكتبه .. حرام عليكم حرام .. وحرام أن يصل الهوان بنا إلى هذه الدرجة .
ـ يعنى تصر على رأيك ..؟
ـ إلى يوم القيامة ..

وتناول المدير التقرير وخرج غاضبا .. وعلم زملاء الدكتور اسماعيل بما حدث .. فانقسموا قسمين قسم رأى التغيير .. وقسم رفض .

وشاع أمر التقرير فى المستشفى بين المرضى والجرحى والممرضات والأطباء .. كان ما فعله الدكتور إسماعيل بقوله الحقيقة هو شىء شاذ وغير مألوف فى حياة المستشفيات .

***

وعندما رجع الدكتور إسماعيل إلى بيته .. لاحظت زوجه حاله .. وعلمت بالخبر .. فظهر على وجهها الألم .. وحاولت كتمان آلامها فى تحركاتها فى الشقة وانشغالها بطفلها وعملها البيتى .

ثم لما سألها عن رأيها قالت له :
ـ من رأيى أن تنزل عند رغبتهم .
ـ هكذا بكل بساطة ..!
ـ نعم ..
ـ يا لخيبتى فيك .. كان يسعدنى أن أسمع عن سيدة مصرية من هذا الجيل وقفت بجانب زوجها فى وجه العاصفة حتى تمر .
ـ أنت تعيش بخيالك وبعيدا عن عذاب العيش ولقمة العيش وهو الشىء الذى تشعر به المرأة .. وتعمـل له الحساب قبـل الرجـل .
ـ ولماذا هذا المنظار الأسود .. وتتوقعين الشر ..؟

ـ لأنى أرى فى كل ما حولى .. انتصار الشر .. وسيبقى صراع الخير والشر أزليا .. سيبقى الصراع أبديا إلى قيام الساعة ، وتلك إرادة الله وحكمته .

ـ ولهذا علينا أن نقاوم الشر بكل ما أعطانا الله من قوة .. حتى نقضى عليه .

ـ لو أراد الله الخير الخالص فى هذه الدنيا .. لما أبقى الشيطان فى الأرض بعد أن عصاه وأخرجه من الجنة .. أبقاه يعيش مع الإنسان فى الأرض لأنه جل وعلا هو الذى خلق الإنسان ويعرف طبيعة تكوينه عندما ينزع إلى الخير .. وعنـدما يكون شرا من الوحش فى ضراوته إذا نزع إلى الشر ..

ـ يعنى أبقى الشيطان على الأرض لأن الحياة الدنيا لاتستمر فى مسيرتها بغير شيطان وشياطين ..!

ـ نعم .. والا فكيف تختلف عن الجنة .. فى الجنة النعيم المقيم .. وفى الأرض الخير والشر وإذا قاومت الشر وحدك وأنت ضعيف ستخذل حتما .. تلك سنة الحياة .

ـ ولكن أشعر بكل الناس معى .

ـ أين هم .. أنى لا أرى حتى زميلا لك من أطباء المستشفى .. جاء ليزورك ..؟
ـ سترينهم .

وسمعت قرعا على الباب فمشت اليه وهى تتوقع زيارة صديق ممن يزورنه فى بيته .. ولكنها وجدت خالة لها قادمة بزيارة من الريف فانشغلت بها .. ودخل إسماعيل إلى حجرته بعد أن حيا الضيفة ورحب بها .

وفى اليوم التالى زاره وكيل الحكمدار فى بيته .. وكان الدكتور اسماعيل يتصور أنه جاء ليرجوه كغيره تغيير ما كتبه فى التقرير .. ولكنه وجده يشجعه على شجاعته ووقوفه فى وجه العاصفة التى أثيرت حوله .

وأخيرا قال له وكيل الحكمدار فى حماسة وهو يبتسم :
ـ يابنى أنت لم تر جدك " عبد المنعم " ولكنى رأيته .. فيك كل طباعه وكل صفاته .. أنا كنت ضابطا صغيرا فى النقطة ببلدكم .. وطوال مدة خدمتى فى النقطة والمركز لم يدخل فلاح واحد من أهل قريتكم نقطة ولا مركز .

عاش جدك عبد المنعم ومات وهو عمدة ولم يذهب فى حياته فلاح واحد من أهل القرية نقطة ولا مركز .. وكان يقول لى :

ـ أهين أهل بلدى .. وأجرهم إلى سجن المركز .. لا .. قد يخرج الطيب منه شريرا فى يوم وليلة .. لا لن يحدث هذا وأنا بصحتى أن وظيفتى كعمدة فى حسم الأمور هنا .. وإلا فلا خير فينا للناس المساكين الذين لاحول لهم ولا قوة ..

كان يعالج الأمور بطريقته الفذة .. سرقت جاموسة من " شريفة " وجاءت تشكو له ..

فيقول لها بابتسامته الوضاءة :
ـ طيب روحى يا شريفة .

وفى الصــباح التــالى تعــود الجاموسه إلى بيت " شريفة ".

وهكذا ما يحدث من سرقة وعراك مع الفلاحين .. وما يحدث فى سوق القرية .. وفى غيطانها ونجوعها .. وفى زمن الفيضان وفتح الخزانات .. والنزاع على الرى .. وجنى القطن .. وضم المحصول .. وحراسة الأجران والجسور ..

مئات الأشياء التى كان ينهيها بقوة مراسه وهيبته وتجاربه ومعرفته بخلق الفلاحين وطباعهم .

وكانت قريتكم أول قرية أضيئت شوارعها بالفوانيس وأول قرية لم تحدث فيها حادثة قتل واحدة طوال مدة حكمه التى جاوزت عشرين عاما .. كنا نسميها القرية الآمنة .. فأنا يا بنى لم أدهش لفعلتك ولم أستغرب كما فعل غيرى فأنت خليفة والدك وجدك .

وشكر الدكتور اسماعيل وكيل الحكمدار وسره أن يكون من رجال القوة فى المديرية من هو على هذه الصفات الحميدة .

***

وبعــد ثلاثة أســابيع نقـل الدكتــور إسماعيــل إلى " أرمنت " .

ولما علمت زوجته بأمر النقل تركته إلى أهلها .. ووقف هو على رصيف المحطة وحده ينتظر القطار الذى سيقله إلى مقر عمله الجديد .

ولمح شبحا يتحرك فى سكون الليل .. والسنافورات تتحرك والريح تعوى وتصفر فى الأسلاك ..

ولمــا اقتــرب عرف الدكتور إسماعيل أنه معاون المحطة ..

وقال المعاون وفى صوته رنة الأسى :
ـ جئت أودعك يا بنى وأسلم عليك وأحيى شجاعتك فى هذا الزمن النكود ..

ـ شكرا يا عم " سمعان " فيك الخير ..

ـ لا تتصور أنهم انتصروا عليك بنقلك .. أبدا أنت المنتصر والناس تتصور دائما لغباوتها .. أن الحق مطموس وضائع .. والشر ينتصر على طول الخط .. وهذا خطأ .

اذهب الآن إلى المدينة بعد ما عرفوا فعلتك تجد الجميع يفخر بك ويصفق لك .. دخلت فى قلوب الملايين .. وسترى هذا الأثر فى عملك لو فتحت عيادة خاصة .. الناس لاتنسى الشجاعة أبدا ولا موقف البطل .. ولا تغفر قط للجبان الرعديد .. حتى وان كانوا هم فى أعماقهم جبناء لأنهم يقدرون من عبر عن شعورهم وما عجزوا هم عن فعله .. ومن هنا تكون صفات البطولة للبطل . أنه الفرد الذى تكلم وعبر عن خلجـات الجماهير الضائعة فى تيه الحياة .

ولا تفكر بطريقتهم ولو ضربنا وعذبنا كل مجرم وسفاح .. ما كانت هناك محكمة ولا محاكم فى الأرض .

ـ شكرا ياعم " سمعان " ملأتنى ثقة فى جوانب نفسى .. ولكن أشد ما يؤلمنى الآن ألا أجد زميلا واحدا جاء ليودعنى على المحطة .

ـ اعذرهم .. يا بنى .. قد يكون لهم عذرهم .. وقد يعوضك الله فى مقرك الجديد من هو خير منهم .

ـ شكرا لكلماتك الطيبة .. شكرا ..
ـ جاء القطار .. وقد حجزت لك أحسن المقاعد .. وخذ منى هذا التذكار البسيط .

وتناول الدكتور اسماعيل التذكار من المعاون وعيناه مخضلة بالدمع ..

وكان القطار وهو يدخل المحطة يصفر وأنوار عرباته تتوهج فى الظلمة .
=================================
نشرت القصة بصحيفة أخبار اليوم المصرية فى 26|11|1983 وأعيد نشرها فى كتاب " الغزال فى المصيدة " لمحمود البدوى 2002
=================================
الرد مع إقتباس
  #7  
قديم 29-09-2006, 06:31 AM
ليلى محمود البدوى ليلى محمود البدوى غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2006
المشاركات: 10
إفتراضي



(5)
البائع الجوال

قصة محمود البدوى


خرجت من مستشفى الدكتور حسنى فى حى عابدين ذات ليلة من ليالى الشتاء .. وركبت الترام رقم 17 الذاهب إلى السيدة زينب لأصلى ركعتين لله فى المسجد الكبير تعبدا وشكرا له فى عليائه .. على نجاة والدى من العملية الجراحية الخطيرة التى أجريت له فى العصر واستمرت أربع ساعات كاملة .. وكان الأمل فى النجاة ضعيفا .. إلى حد أن الطبيب نفسه كان مترددا .. ثم توكل على الله وصلى ركعتين قبل أن يرتدى المعطف الأبيض .. ويدخل من باب حجرة العمليات .

وقد ركبت الترام .. وقلبى يتجه إلى الله .. لأصـلى ركعتين مثـله فى المسجد الكبير .

وكانت الليلة شديدة البرودة فاحتبس الناس فى البيوت من الغروب .. وكان ركاب الترام متفرقين فى المقاعد الخشبية .. وقليلين جدا إلى حد أننى كنت الراكب الوحيد فى المقصورة المخصصة للدرجة الأولى .

ووقف مع الكمسارى فى خارج المقصورة مما يلى السلم مباشرة .. رجل كبير الجسم عظيم الكرش أخذ يثرثر معه حتى استغرق الكمسارى فى الحديث مع الرجل .. ونسى الركاب وقطع التذاكر .

ولما نزل الرجل الضخم من الترام فى الدوران .. تحرك الكمسارى إلى نهاية العربة ثم ارتد .. وهو يقرع على حاملة التذاكر الخشيبة لينبه الركاب بقلم من الرصاص فى يده .. وكان بادى المرح رغم البرد الشديد ومشقة العمل و" زوغان " بعض الركاب دون دفع الأجر .

وفى شارع الشيخ ريحان ركب من السلم الخلفى القريب منى رجل عجوز ووقف فى المكان المخصص للوقوف .. فأسرع إليه الكمسارى وهو يقرع بالقلم على ظهر حاملة التذاكر .

ـ تذاكر .. يا عمى الشيخ ..

ـ والله .. يا ابنى مـــا اسـتفتحت .. وسأركب محطة واحدة ..
ـ محطة واحدة .. يا شيخ ابراهيم ..؟

ـ أجل .. وما ركبت يا ابنى إلا بعد أن مزقنى التعب ..
ـ اخرج من الزلع المدفونة تحت البلاط .. يا شيخ ابراهيم .. اخرج !

ـ الزلع ..؟
ـ نعم الزلع .. وانك لتمتلك .. أربع عمارات فى الحى ..

ـ أنا ؟
ـ أى .. والله ..انت ..

ـ سمع الله منك .. وأعطانى .. من الذى يكره الغنى ..
ـ وضحك الشيخ إبراهيم حتى بدت نواجذه ..

وكان ناحلا رقيق الحال .. وقد بدت عظـامه وذهب لحمه .. وأحنت السنون ظهره .. ويلبس جبة سمراء من الصوف المغزول .. وقفطانا أخضر من الحرير المخطط بخطوط خفيفة ..

وكان الثوبان اللذان على جسمه مهلهلين وأكمامهما واسـعة وممزقة ..وظاهر جدا من اتساع الطقم أنه لم يصنع له .. ولم يفصل على قد جسمه ..

وكان يرتعش من الشيخوخة .. وقد بدا من عينـيه الكليلتين أنه يرى بصعوبة ..

وكان ممسكا ببعض المصاحف الصغيرة وكتب الاوراد .. والأدعية الدينية .. وواضعا هذا كله فى محفظة بالية عليها آثار العرق القديم ..

وتأثرت لرقة حال الشيخ العجوز وأشفقت على شيخوخته .. وكنت أود أن أدعوه للجلوس .. بجانبى لولا أننى وجدته يهم بالنـزول ..

فأخرجت ورقة بخمسة وعشرين قرشا بسرعة من جيبى وكورتها .. ثم وضعتها فى يده .. فردها بقوة بكل جسمه .. وعيناه مخضلتان بالدمع ..

فأعدت الورقة المالية ووضعتها فى يده .. وفى هذه اللحظة تحرك الترام بى وبعدت عنه .. وأبقى العجوز الورقة فى يده وهو ينظر إلى ما حوله فى حيرة .. وظل واقفا فى مكانه على المحطة بضع ثوان ثم تحرك فى تثاقل ..

وبعد أن سار الترام فى طريقه بضعة أمتـار توقف لعطلة فى الطريق .. فخطر ببالى سريعا أن أتبع الرجل العجوز .. وأعرف إلى أين يمضى فى الليل .. هل سينام فى جدار إحدى عماراته .. أم فى جدار مسجد ..

وأسرعت راجعا حتى بصرت به من بعيد .. ماشيا فى تثـاقل كعادته ..

ومشيت وراءه وهو لايشعر بى فى شارع الخليج حتى وجدته ينحرف إلى اليمين فى حـارة قواوير إلى زقاق ضيق مسـدود .. لاتزال بيوته القديمـة بمشربياتها وشرفاتها الخشبية بادية للعيان ..

وقرع بابا قديما ووقفت على مبعدة منه أراقبه .. والظلام لايجعلنى أتبينه بوضــوح .. فلم يرد عليه أحد .. فعاود الطرق ..

وبعد لحظات برزت من الداخل امرأة عجوز تلبس السواد .. خرج معها متعلقا بثوبها طفلان .. ينظران إلى الطارق .. وقد برقت أساريرهما .. ورأيت فى نظرات الثلاثة المعرفة والسرور .. بلقاء الرجل ..

وأمد الشيخ إبراهيم للمرأة العجوز .. بالورقة المالية التى أعطيتها له .. من ربع الساعة ..

ـ ما هذا كله .. يا شيخ ابراهيم ؟
ـ رزق الأولاد ساقه الله اليهم ..
ـ وأنت .. هل تعشيت ..
ـ نعم .. تعشيت والشكر لله ..

وشكرته المرأة .. بقلب حار .. معترف بالفضل .. وحيـاها الرجل وانصرف فى الطريق .. منكسا رأسه وحاملا المصاحف والكتب الدينية ..

وعندما اقترب من مسجد السيدة زينب جلس على البـاب يعرض بضـــاعته على الداخلـين والخارجين من باب المسجد ..

واشترى منه عابر طريق مصحفا .. ووضع خمسة قروش فى يده ..

ورأيت العجوز يتحرك فى الميدان بسرعة .. ويشترى رغيفا واداما .. ويجلس فى جدار المسجد يتعشى ووجهه يفيض بالسرور ..

وعندما دخلت المسجد لأصلى كانت صورة العجوز الإنسان لاتزال فى ذهنى .. ودعوت الله أن يمد فى عمره لأنه ينبوع خير للإنسانية .
=================================
نشرت القصة عام 1966 فى المجموعة القصصية " مساء الخميس " لمحمود البدوى
=================================
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م