مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

المشاركة في الموضوع
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 08-03-2002, 01:14 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي قرأت لك: الثقافة المصرية المعاصرة وطبيعة الطبقة الوسطى الحديثة

الأستاذ جلال أحمد أمين هو في رأيي من أفضل الكتاب العرب في العصر الحاضر.
هو في الأصل اختصاصي اقتصادي جاء من وسط فكري يساري نقدي ثم قاده الإخلاص في التفكير إلى العودة إلى التأكيد على الأصالة وهي سيرورة فكرية كنت وصفتها في مقالات سابقة.
جلال أمين هو الآن من أحسن محللي الثقافة العربية من وجهة نظر نقدية شاملة وله أقران في مصر التي لم تخل قط من صوت ثقافي عميق له جولات في الدفاع عن الهوية الثقافية.مصر التي قدمت سابقاً محمود شاكر تقدم اليوم جلال أمين وليلى عنان وعبد الوهاب المسيري وغيرهم.
المقال هو من جريدة السفير اللبنانية وموقعه على الشبكة:
http://www.assafir.com/iso/today/wee...lture/111.html
وهو في المقال يحلل الثقافة المصرية وما جرى لها منذ السبعينات الميلادية ويبدو أن المقال مقتطع ولم أعثر على نصه الكامل ولكن في اقتطاع السفير كفاية..
توسّعت الطبقة الوسطى من دون أساس علمي وزاد تدخّل المال الخليجي والمؤسسات الأجنبية الثقافة المصرية اليوم .. العملة الرديئة تطرد الجيدة
جلال امين

2002/03/08

السؤال المهم والمثير الآن، هو عما يمكن أن يشعر به رجلان في عنفوان الشباب، ولهما مثل حساسية وحماسة عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم، إزاء حال الثقافة المصرية الآن، وعما يمكن أن يشعرا بضرورة كتابته أو قوله الآن عنها.
الذي لا أشك فيه أن مصادر الشكوي كثيرة، وهي باعثة علي قلق شديد، ولكن مهمة التشخيص ليست بهذه السهولة، بل هي فيما يظهر أصعب بكثير من مهمة التشخيص التي قام بها أنيس والعالم منذ نحو نصف قرن.
يجب أن نلاحظ أولاً ما طرأ من تغيرات كبيرة ومذهلة منذ أوائل السبعينيات علي مصادر دخل الطبقة الوسطي ومعدل نموها. إن معدل نمو الطبقة الوسطي في مصر خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين هو علي الأرجح معدل لم تعرف مصر مثيلاً له في تاريخها الحديث. ولكن هذا النمو كان يرجع في الأساس، وللأسف الشديد، إلي أعمال غير منتجة، فقد عرفت مصر معدلاً مرتفعًا للغاية للتضخّم في السبعينيات والثمانينيات، أعلي بكثير مما عرفته في أي وقت خلال القرن العشرين بأكمله، وأدي هذا إلي نمو الدخول والثروات المفاجئة من المضاربة وأعمال الوساطة ومقاولات وتجارة في العملات وتأجير الشقق. اقترنت السبعينيات والثمانينيات أيضًا بظاهرة جديدة علي المجتمع المصري، وهي الهجرة إلي الخارج، خاصة إلي دول الخليج، التي أدت بدورها فضلاً عن مساهمتها في ارتفاع معدل التضخم، إلي نشوء ثروات مفاجئة وارتفاع معدل الحراك الاجتماعي بشدة. كانت الدخول والثروات الناتجة عن التضخم والهجرة ضعيفة الصلة جدّاً بحجم الجهد المبذول، وكذلك ضعيفة الصلة بمستوي التعليم، وهو ما انعكس في انضمام شرائح واسعة إلي الطبقة الوسطي ذات قدرة شرائية عالية مع مستوي منخفض من الثقافة وضعف القدرة علي التمييز بين العمل الفني الراقي والهابط. زادت خلال هذه العقود الثلاثة أيضًا (1970 2000) الدخول المتولدة من السياحة، وهي أيضًا كثيرًا ما تكون ضعيفة الصلة بالجهد المبذول، وقد تتطلب من الشطارة والقدرة علي اقتناص الفرص أكثر مما تتطلب من جهد مستمر أو تعليم.
بالإضافة إلي الزيادة الكبيرة في هذه المصادر الثلاثة لدخول وثروات الطبقة الوسطي (التضخم والهجرة والسياحة) طرأت أيضًا تغيرات مهمة للغاية علي مصدرين آخرين من مصادر الدخل والثروة للمثقفين بوجه خاص، وهما الدولة المصرية من ناحية والهيئات الأجنبية من ناحية أخري.
أما الدولة، فقد كانت منذ وقت طويل، أحد مصادر الدخل للمثقفين بما تمنحه لمؤسساتهم أو مجلاتهم من معونات، أو ما قد تهيئه لكثيرين منهم من وظائف.
ولكن طرأ تغير مهم ابتداء من السبعينيات علي حجم ونوع هذه المعونات التي تقدمها الدولة، فضلاً عما طرأ من تغير علي طبيعة الدولة نفسها. فمن المدهش من ناحية أن دور الدولة بينما أصابه تقلص ملحوظ في مختلف ميادين النشاط الاقتصادي والاجتماعي، زاد وترعرع في ميدان الثقافة، أو علي الأقل في كثير من فروع النشاط الثقافي.. إن ضغط الجماهير الغفيرة علي الدولة مطالبة إياها بفتح المزيد من المدارس والجامعات أمر مفهوم تمامًا، ولكن الأصعب في تفسيره هو استمرار دور الدولة بالدرجة نفسها التي عرفناها في الخمسينيات والستينيات، بل أحيانًا بدرجة أكبر، في نشر الكتب وإنشاء الصحف والمجلات الجديدة. نعم انخفض بشدة، علي الأقل بالمقارنة بمعدل التضخم، ما تقدمه الدولة من دعم للسينما والمسرح، ولكن زاد بشدة ما تنفقه الدولة علي التلفزيون وعلي التوسع فيه بإنشاء قنوات جديدة.
كانت الدولة طوال الخمسينيات والستينيات تدرك بالطبع أهمية حصولها علي تأييد المثقفين وقيامهم بالترويج لسياساتها، وكان هذا مفهومًا تمامًا من دولة تدشن مبادئ جديدة في السياسة الخارجية والداخلية، وفي السياسة الاقتصادية والاجتماعية، وكان المتوقع أن تضعف قبضة الدولة علي الثقافة عندما ضعفت قبضتها في سائر نواحي الحياة. وقد يكون هذا هو ما حدث بالفعل فيما يتعلق بما يتعرض له المثقف المعارض من خطر التنكيل به وعقابه. ولكن ما لم يحدث هو ترك المثقفين وشأنهم، أو قبض يد الدولة عن الإغداق علي المؤيدين لسياستها والمستعدين للترويج لما ظهر منها من نكوص عن سياسات الخمسينيات والستينيات.
الذي حدث هو العكس بالضبط، فقد فتحت الدولة خزائنها، منذ أوائل السبعينيات، لكل من كان علي استعداد للترويج لسياسات الانفتاح، أو للوقوف في صفها في سياساتها الجديدة إزاء إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. بل لقد أظهر الرئيس السادات طوال السبعينيات ميلاً لتقريب المثقفين الموالين له علي نحو لم يظهره الرئيس عبدالناصر، في أي وقت خلال الخمسينيات والستينيات. كان عبدالناصر وفيما يظهر مستغنياً عن ترويج المثقفين لسياساته أكثر من استغناء السادات عنهم، إذ اعتمد عبدالناصر بدرجة أكبر بكثير علي الآثار المباشرة لهذه السياسات علي الطبقات الدنيا المستفيدة منها، بينما شعر السادات بحاجة أكبر لتزيين سياسات لم تكن تتمتع بوجه عام بشعبية واضحة لا بين الجماهير ولا بين المثقفين.
ولكن بغض النظر عن طبيعة السياسات المراد الترويج لها، كانت التغيرات الاجتماعية التي تحققت في مصر، خلال السبعينيات والثمانينيات تستدعي مثل هذا التوسع الكبير في دور الدولة في الثقافة. ذلك أنه بعد مرور ربع قرن علي قيام ثورة يوليو، كان قد تكوَّن لمصر جمهور واسع من المتعلمين وأنصاف المتعلمين، الذين تخرجوا من جامعات ومدارس تتساهل أكثر من أي وقت في منح الشهادات، ومعاهد متوسطة تخرِّج من الملمين بقواعد القراءة والكتابة والحساب أكبر مما تخرِّج من المتدربين علي حرفة أو مهنة بعينها، أدي هذا التوسع في التعليم إلي خلق طلب جديد وواسع علي أنواع من الثقافة غير المتعمقة، وعلي وسائل للترفيه تستجيب لنوازع وميول بسيطة وبدائية، مما كان يناسبه بشدة أنواع معينة من الصحف (كالصحف المهتمة بشؤون الرياضة والحوادث والجرائم)، وكذلك، وعلي الأخص، أنواع معينة من البرامج التلفزيونية ( من أمثال المسلسلات الخفيفة أو المثيرة ومسابقات الفوازير.. إلخ)، بل وأنواع من الكتب الخفيفة وقليلة العمق، كان من الممكن بالطبع أن يفسح المجال في كل هذا للقطاع الخاص للقيام به، ولكن الدولة رأت لسبب أو لآخر، أن تقوم هي بتلبية جزء كبير من هذا الطلب، عن طريق إصدار صحف ومجلات جديدة من الدور الصحفية نفسها ومن دور النشر نفسها التي كانت قد أممتها الدولة في الستينيات لأهداف مختلفة تمامًا، أو عن طريق التوسع في القنوات وساعات الإرسال التلفزيونية، وكذلك عن طريق التوسع في نشر الكتب التي تطبع منها أعداد كبيرة من النسخ وتقدّم بأسعار زهيدة للجمهور.
هل كان السبب هو مجرد استخدام هذه الصحف والمجلات والقنوات الجديدة كمنابر لمزيد من الترويج لسياسات الحكومة؟ أو كوسائل لإلهاء الناس وصرف نظرهم عما يجري من تحولات خطيرة في هذه السياسات؟ أم كان السبب مجرد تحقيق مغانم شخصية في الثروة والسلطة، للقائمين بأمر هذه المؤسسات الصحفية والتلفزيونية؟ أياً كان السبب فقد أصبحت وسائل نشر الثقافة في نهاية القرن (من إصدار الكتب والصحف والمجلات إلي قنوات الإذاعة والتلفزيون) التي تسيطر عليها الدولة سيطرة تامة، أوسع مدي وأكثر انتشارًا من أي وقت عرفته هذه الوسائل في مصر خلال القرن بأكمله.
هكذا شهدت مصر فترة يزيد عمرها الآن علي ربع قرن، تبدأ من السنوات الأولي للسبعينيات ولا زلنا نعيش في ظلها حتي اليوم، تفاعلت خلالها مجموعة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، البالغة القوة، علي تشكيل المناخ الثقافي. لم تخل ثمار هذا التفاعل من بعض الثمار الطيبة، ولكن الصورة العامة الناتجة عنه كانت بلا شك سيئة للغاية.
تفاعل النمو السريع في الطبقة الوسطي، بسبب الازدياد الكبير والمفاجئ في أنواع معينة من الدخول والثروات أغلبها من مصادر غير منتجة وكثير منها غير مشروع أو غير أخلاقي، مع اتساع كبير أيضًا في عدد المتعلمين تعليمًا متسرعًا بل وعشوائياً، مع زيادة الدور الذي تلعبه الدولة في الحياة الثقافية، ولكنها الآن، بعكس دولة الخمسينيات والستينيات، <<دولة رخوة>> تسمح باستغلال عدد محدود من الأفراد لأموالها ونفوذها. وفي الوقت نفسه تحدث هجرة واسعة النطاق إلي دول الخليج من جانب المتعلمين وغير المتعلمين، بما في ذلك عدد لا يستهان به من المثقفين، ومن لم يهاجر منهم فتحت أمامه فرص الكسب الكبير بالكتابة لصحف الخليج ومجلاتها وإذاعاتها وتلفزيوناتها، أو بالاشتغال مراسلين لها في مصر، أو بإنتاج الأفلام والمسلسلات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، ومن ثم أصبحت سوق دول الخليج عاملاً مؤثرًا في تحديد طبيعة ما ينتج من أعمال ثقافية أو ترفيهية حتي في داخل مصر، سواء في تحديد موضوع الفيلم أو مغزي المسلسل التلفزيوني أو نوع النكات التي يلقيها الممثلون علي خشبة المسرح المصري أمام السائح الخليجي.
كذلك ترك الانفتاح علي إسرائيل أثرًا في المناخ الثقافي المصري، وإن لم يبلغ بعد ما بلغه أثر العلاقة مع دول الخليج. أهم جوانب هذا الأثر هو اتجاه بعض المثقفين المصريين، الذين لايزالون لحسن الحظ قلة نادرة، لقراءة اتجاه الريح في علاقة مصر بإسرائيل، فإذا وجدوا الاتجاه مناسبًا كتبوا بجرأة، أو أخرجوا من الأفلام أو أنتجوا مسرحيات تؤيد وتحبذ المزيد من الانفتاح علي إسرائيل. وإذا رأوا إسرائيل ترتكب من الأعمال ما يفرض علي السلطة المصرية التباطؤ في الانفتاح عليها، التزموا الاعتدال في الكلام عن هذا الموضوع أو انصرفوا إلي موضوعات مختلفة تمامًا.
ولكن أثر الانفتاح علي إسرائيل علي الثقافة المصرية لم ينحصر في هذا الأثر المباشر، بل كان الأهم والأعمق من هذا الأثر المباشر أثره علي صورة العرب بوجه عام في المناخ الثقافي المصري، وعلي موقف عدد كبير نسبياً من المثقفين المصريين (أي عدد أكبر من هؤلاء المعبّرين عن فائدة التقارب مع إسرائيل) من أهداف الوحدة العربية وتقارب مصر مع بقية الشعوب العربية. فقد بدأ يشيع في الثقافة المصرية اتجاه متزايد القوة، منذ أوائل السبعينيات، ينادي بدرجات مختلفة من الصراحة بالتركيز علي مشاكل مصر، خاصة مشاكلها الاقتصادية، واعتبار ما حدث من تقارب بين مصر وبقية العرب في الخمسينيات والستينيات، غلطة كبيرة لا بد من تصحيحها.
هكذا أُنتج من المسرحيات ما حاز شعبية واسعة ولا يفعل أكثر من السخرية ببقية البلاد العربية، والسخرية بشعارات الوحدة والقومية العربية التي رفعت في الخمسينيات والستينيات.
أما الشركات الأجنبية والمؤسسات الدولية فكان أثرها في المناخ الثقافي لا يقل نفاذاً أو أهمية، وإن كان هذا الأثر قد ظهر بأكبر قدر من الوضوح في مجالات بعينها أهمها البحوث التي يقوم بها المثقفون المصريون في العلوم الاجتماعية والإنسانيات، إذ أصبحت هذه الشركات والمؤسسات هي التي تضع <<جدول الأعمال>> أو <<أجندات>> أو أولويات ما يقوم به المثقفون المصريون من بحوث، حتي ولو تعارضت تعارضًا صارخًا مع الأولويات التي تفرضها المصالح الوطنية.
مع الارتفاع الكبير في معدل الحراك الاجتماعي والانتشار الواسع في التعليم بين مختلف طبقات الشعب، لم يكن من المتصور ألا تزيد فرص ظهور مواهب شتي في مختلف فروع الإنتاج الثقافي عما كانت عليه قبل منتصف القرن، بل حتي عما كانت عليه خلال الخمسينيات والستينيات. وقد ظهرت بالفعل خلال الفترة التي نتكلم عنها الآن (1970 2000) مواهب باهرة في مختلف هذه الفروع، من الرواية والقصة القصيرة والشعر، إلي الإخراج والتمثيل السينمائي والمسرحي، إلي الموسيقي والغناء، إلي مختلف أنواع الفن التشكيلي، إلي البحوث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. في كل هذه الأفرع من فروع الثقافة لم يعد الأمر مقصورًا كما كان طوال المائة عام السابقة، علي عدد قليل من القمم المنعزلة وسط صحراء واسعة قاحلة، والتي فرضت نفسها بحكم موهبتها أو لفرصة نادرة أتيحت لها في مجتمع يتسم بقلة ما يتيحه من فرص للغالبية الساحقة من أبنائه، وتنحصر مجالات اهتماماتها في دائرة طبقة اجتماعية معينة يتركز في يدها المال والنفوذ، وهو بالضبط ما شكَّل موضوع الشكوي الأساسية في كتاب <<في الثقافة المصرية>> في منتصف القرن، بل اتسع الميدان اتساعًا كبيرًا، فظهرت المواهب في كل طبقة وفي كل مجال، وصارت الطبقات كلها من أعلاها إلي أدناها، موضوعًا ممكنًا من موضوعات الكتابة وسائر وسائل التعبير، ولم يعد من الممكن الآن أن يشكو المرء من حرمان طبقات بأسرها من فرص التعبير عن مشكلاتها وطموحاتها.
لم تعد هذه هي المشكلة، وإنما أصبحت المشكلة تزايد حدة المنافسة، شيئًا فشيئًا، مع انتهاء الستينيات، بين أنواع من الإنتاج الثقافي يدعمها المال الوفير أو الطلب الواسع أو كلاهما، ودولة تقف وراء هذا المال الوفير والطلب الواسع، وبين أنواع أخري أرقي مستوي وأشد التزامًا، ولكنها لا تتمتع بمثل هذه الوفرة في المال والطلب أو بمثل هذا الدعم الكبير من جانب الدولة. في كل ميدان من ميادين الثقافة إذن، لم تعد المشكلة هي مشكلة ندرة المواهب والكفاءات المعبِّرة عن مشاكل الطبقات الدنيا وآمالها، أو الملتزمة بمختلف جوانب النهضة الوطنية، الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، وإنما أصبحت المشكلة هي ضيق المساحة المتاحة لهذه المواهب والكفاءات في مختلف ميادين الثقافة بسبب طرد الثقافة الرديئة لها. لقد زاد عدد أصحاب المواهب الحقيقية والكفاءات في الثلاثين عامًا الأخيرة زيادة كبيرة عما كان في الخمسينيات والستينيات، ولكن المنافسة التي كان يتعرض لها هؤلاء، في الخمسينيات والستينيات من جانب المتكسّبين من الأعمال الثقافية الخالية من أي موهبة أو كفاءة حقيقية، كانت أقل حدة بكثير، لأن الحراك الاجتماعي وانتشار فرص التعليم (وإن كانا خلال هذين العقدين أعلي بكثير مما كانا من قبل) لم يحققا تلك المعدلات المذهلة التي تحققت لها في الثلاثين سنة الأخيرة، فضلاً عن أن الدولة في الخمسينيات والستينيات وفّرت درجة عالية من الحماية لأصحاب المواهب والكفاءات الحقيقية لم يظفروا بمثلها منذ بداية السبعينيات. اشترك الجميع في المنافسة، وكانت الغلبة للأسف، استثناءات نادرة للغاية، لمصلحة منتجي الثقافة الرديئة.
الثقافة الرديئة
للتدليل علي ذلك فلننظر إلي نسبة الأعمال الثقافية الرفيعة التي نشرتها مثلاً الهيئة العامة للكتاب أو مختلف دور النشر الحكومية الأخري، خلال العقود الثلاثة الأخيرة بالمقارنة بالأعمال الأخري نعم، كان لا بد أن يكون من بين الكم الهائل الذي قامت المطابع ودور النشر الحكومية بنشره بعض الأعمال الرفيعة التي تنشر لأول مرة أو يعاد نشرها، ولكن الأكثر لفتًا للنظر هو النسبة العالية لما أخرجته هذه المطابع ودور النشر من أعمال لا تستحق النشر، بسبب حظوة يتمتع بها الكاتب لدي المسؤولين عن هذه المؤسسات.
شاعت أيضًا في الصحف والمجلات الحكومية ظاهرة غريبة تكاد تكون غير معروفة تمامًا في الخمسينيات والستينيات، وهي احتلال أسماء خالية من أي موهبة، بل وكثيراً ما تكون عاجزة عن نقل أي معني مفهوم للقارئ، لمساحات ثابتة في هذه الصحف، فيفرضون أنفسهم فرضًا علي القراء، أسبوعًا بعد أسبوع، لمجرد تمكنهم لسبب أو آخر من الاقتراب والحصول علي رضا المسؤولين عن الصحيفة أو المجلة.
لم يكن هذا <<النجاح>> بسبب مجرد الحظوة ممكنًا في فنون كالسينما والمسرح، تخضع بطبيعتها، أكثر مما تخضع الصحف، لاعتبارات الإقبال الجماهيري وحسابات الربح والخسارة، ومن ثم لم يكن من الممكن أن تكون <<العملة الرديئة>> التي تطرد <<العملة الجيدة>> في هذه الحالة، أعمالاً خالية تمامًا من أية جاذبية للجمهور. بل كانت العملة الرديئة في حالة السينما والمسرح ذات جاذبية بالفعل لجمهور واسع، وإن كانت جاذبيته تقوم إما علي استغلال موضوعات الجنس أو مواقف هزلية بالغة السطحية، مما يمكن أن يكسب جمهورًا واسعًا من المراهقين أو من أشباه المتعلمين.
كان انتشار استخدام الجنس لترويج بعض المجلات في مصر ظاهرة لافتة للنظر في السنوات العشر الأخيرة مما لم يكن معهودًا بالمرة بهذه الدرجة في أي مرحلة من مراحل تطور الصحافة المصرية. وقد انتشرت الظاهرة إلي درجة اضطرت حتي بعض المجلات المعروفة بتاريخ طويل محترم، أو بالتزام سياسي قديم، إلي الالتجاء إلي الحيلة نفسها لجذب المزيد من القراء، خاصة وقد قلَّت قدرتها علي جذبهم بالكتابة في القضايا السياسية والقومية لأسباب خارجة عن إرادتها. وقد شجع هذا الاتجاه علي اتخاذ الجنس وسيلة لترويج الأفلام أو المسرحيات أو المجلات والصحف، ازدياد فرص تحقيق الكسب من ورائه بسبب ازدياد حجم الطلب الذي تولده جماهير غفيرة من متوسطي التعليم ومحدودي الثقافة ولكنها تملك القدرة الشرائية اللازمة.
حدث شيء مشابه في الموسيقي والغناء، وإن كان استغلال الجنس أقل وضوحًا فيهما بطبيعة الحال، ومع هذا فهو موجود هنا أيضًا في نوع الألحان والإيقاع وكلمات الأغاني وأصوات المغنين ودرجة وسامتهم في نظر جمهور يتكون أساسًا من الشباب. هكذا ظهر نوع من الأغاني أطلق عليه اسم <<الأغاني الشبابية>>، لا يحظي بشعبية تذكر بين المستمعين الذين تزيد أعمارهم علي الأربعين، وهم من وجدوا بعض الفرار في الاستماع إلي ما سمّي <<بأغاني التراث>>، التي أصبحت تشمل، ليس فقط أغاني مطلع القرن العشرين، بل أيضًا كثيرًا من أغاني الخمسينيات والستينيات. وهكذا اتسع معني <<التراث>> في الموسيقي والغناء، بحيث أصبح يشمل أغاني وموسيقي حديثة للغاية، مثل ألحان كمال الطويل والموجي وبليغ حمدي، أو أغاني عبدالحليم حافظ، وكأنها تنتمي لعصر سحيق موغل في قدمه.
حدث أيضًا طرد للعملة الجيدة لحساب العملة الرديئة في ميدان الكتابات الدينية، إذ حدث تدهور مذهل في مضمون ومستوي هذه الكتابات فيما بين عقدي الخمسينيات والستينيات من ناحية، والعقود الثلاثة التالية لها من ناحية أخري. بل ويزيد التدهور وضوحًا إذا قارنّا بين مستوي هذه الكتابات في هذه العقود الثلاثة الأخيرة وبين مستوي الفكر الديني والكتابة الدينية طوال النصف الأول من القرن. وأقصد بهذا التدهور علي الأخص ما شاع في الفترة الأخيرة من تفسيرات لا عقلانية للدين حققت شعبية واسعة عن طريق التلفزيون والإذاعة والصحف، وغلبة التأكيد علي ظواهر الدين وقشوره علي حساب محاولة اكتشاف روح الدين وأهدافه العليا. ويدخل في ذلك تعليق أهمية غير مبررة علي تشابه بعض الألفاظ المستخدمة في النصوص الدينية وبعض النظريات العلمية الحديثة للإيحاء بأن المقصود من هذه النصوص هو ما كان يقصده نفسه عُلماء الطبيعة، وإقحام الدين في مسائل سياسية واجتماعية بقصد الانتصار لمواقف دنيوية أو تحقيقاً لمصالح مادية في معارك جارية كان من الواجب أن يترفع الناس عن استخدام الدين سلاحًا فيها.
الغموض والإبهام
من مظاهر شيوع <<العملة الرديئة>> أيضًا في الأدب والنقد الأدبي، ظاهرتان قد تبدوان لأول وهلة منفصلتين تمام الانفصال ولا يمكن أن تكون بينهما أية صلة، ومع ذلك فقد تكونان في الحقيقة انعكاسًا لنفس سمات المناخ الثقافي الذي نشأتا فيه. الظاهرة الأولي تتمثل في ظهور، وتكرر ظهور، ميل لدي جيل جديد من كتَّاب الرواية والقصة إلي التجرؤ علي بعض المقدسات الدينية، علي نحو لم يكن متصورًا طوال العقود السابقة. وتتمثل الظاهرة الثانية في ظهور أعمال أدبية علي أعلي درجة من الغموض والإبهام، يحار قارئها، مهما حاول وعاود المحاولة أن يفهم معناها أو قصد الكاتب منها. فإذا تجرأ بعض هؤلاء القراء علي نقدها، وُوجهوا، سواء من أصحاب هذه الأعمال الأدبية أنفسهم، أو من بعض المتخصصين في النقد الأدبي، بالقول بأن هذه الأعمال الرائعة في الحقيقة، وإن لم تكن مفهومة بالمرة، تنتمي إلي مدرسة <<ما بعد الحداثة>>، هي مدرسة لا يستطيع فك رموزها إلا الراسخون في العلم أو ذوو الحسّ المرهف القادرون علي الغوص في أعماق النفس البشرية. هاتان الظاهرتان الغريبتان اللتان قد تبدوان علي طرفي نقيض، قد يكون مما ساعد علي ظهورهما وتكرارهما اشتداد الميل إلي تقليد ما يفعله الكتَّاب والنقاد في الغرب، بعد أن فتحنا كل الأبواب الموصدة دونه، مع اشتداد دور <<العلاقات العامة>> في الترويج لبعض الأعمال والموضوعات الأدبية دون غيرها. لقد سبق أن أشرت إلي دور الحظوة الشخصية التي قد يتمتع بها كاتب أو ناقد لدي هذا المسؤول أو ذاك من أصحاب النفوذ في وسائل الإعلام، في الحصول علي درجة لا يستهان بها من الرواج والشهرة. فإذا قُدِّر للكاتب أو الناقد أن يحصل علي هذه الحظوة فإنه قد يضمن لروايته أو مقالاته مكانة أو علي الأقل ذيوع صيت، ما كان يمكن أن يحصل عليهما في عصر أكثر التزامًا ببعض المبادئ العامة والمستقرة.
( تنشر (مقتطعة) بالترافق مع مجلة الكتب القاهرية وجهات نظر)
الرد مع إقتباس
المشاركة في الموضوع


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م