الإخوة الكرام حفظكم الله ورعاكم،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وجزاكم الله عني وعن المسلمين خير الجزاء،
وأعاننا وإياكم على قول الحق والجهر به أينما حللنا وارتحلنا.
أرجو أن تقبلوا مني مداخلتي هذه ، فقد أحببت لفت نظركم إلى عدة نقاط :
1)) حكام المسلمين :
ـ لقد توصل الناس خلال الأسابيع الأخيرة إلى استنتاجات حاسمة في شأن الحكام واليهود وفلسطين ومنها:
1ـ أن الحكام العرب لن يقطعوا العلاقات الدبلوماسية مع يهود مهما كانت الأسباب.
2ـ لن يعلنوا الجهاد لا ضد يهود ولا ضد أميركا أو غيرها من الدول.
3ـ لن يفتحوا الحدود للمتطوعين ولو قُطّعوا إرباً إرباً.
4ـ لن يزودوا الانتفاضة بالسلاح مهما كانت الظروف.
5ـ لن يرفعوا سعر النفط ولن يستعملوا سلاح النفط.
6ـ لن يجمعوا على رأي واحد تجاه فلسطين أو العراق أو أية قضية أخرى.
7ـ سوف يتجنبون مجرد ذكر كلمة حرب في أي تصريح أو خطبة أو بيان ختامي.
8ـ لن يقاطعوا السلع الإسرائيلية ولا السلع الأميركية.
9ـ لن يجرؤ الحكام على إعلان وقف المفاوضات نهائياً مع يهود أو رفض السلام معهم.
ـ بعد هذه النتائج لم يبق أمام الناس سوى المراهنة على أنفسهم وجهودهم وتضحياتهم ودمائهم ودموعهم.
ـ كل من يظن خيراً في هؤلاء الحكام عليه مراجعة عقله والتأكد من سلامة هذا العقل بعد كل ما رأى وسمع منذ قيام دولة يهود عام 1948م وحتى هذه اللحظة.
ـ كل من يراهن على خطوة عملية مفيدة جريئة من هؤلاء الحكام عليه مراجعة قدراته العقلية مهما كانت درجة أميته في السياسة.
ـ كل الأسلحة التي اقتناها الحكام منذ عام 1948م وحتى الآن والتي كلفت مئات المليارات من الدولارات كان يعرف الناس أنها لقمع الشعوب ولن تطلق منها رصاصة واحدة على أصدقائهم اليهود المرتبطين معهم بعلاقات سرية وعلنية.
ـ مطالب الناس تتمحور الآن حول قلع هؤلاء الحكام، لأنهم لن يرحلوا طواعية، ولن يتزحزحوا عن كراسيّهم إلا بالقوة، وهذا ما حصل مع جميع الأمم والشعوب التي تحررت من نير العبودية.
2)) انتخاب حاكم المسلمين :
الخلافة -
الخلافة هي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، وهي عينها الإمامة، فالإمامة والخلافة بمعنى واحد. وقد وردت الأحاديث الصحيحة بهاتين الكلمتين بمعنى واحد، ولم يرد لأي منهما معنى يخالف معنى الأخرى في أي نص شرعي، أي لا في الكتاب ولا في السنّة لأنهما وحدهما النصوص الشرعية. ولا يجب أن يلتزم هذا اللفظ أي الإمامة أو الخلافة، وإنما يلتزم مدلوله.
وإقامة خليفة فرض على المسلمين كافة في جميع أقطار العالم. والقيام به ـ كالقيام بأي فرض من الفروض التي فرضها الله على المسلمين ـ هو أمر محتم لا تخيير فيه ولا هوادة في شأنه، والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي يعذب الله عليها أشد العذاب.
والدليل على وجوب إقامة الخليفة على المسلمين كافة: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة.
أما الكتاب، فإن الله تعالى أمر الرسول r أن يحكم بين المسلمين بما أنزل الله، وكان أمره له بشكل جازم، قال تعالى مخاطباً الرسول عليه السلام:]فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق[ وقال: ]وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك[. وخطاب الرسول خطاب لأمته ما لم يرد دليل يخصصه به، وهنا لم يرد دليل فيكون خطاباً للمسلمين بإقامة الحكم. ولا يعني إقامة الخليفة إلاّ إقامة الحكم والسلطان. على أن الله تعالى فرض على المسلمين طاعة أولي الأمر، أي الحاكم، مما يدل على وجوب وجود ولي الأمر على المسلمين. قال تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[ ولا يأمر الله بطاعة من لا وجود له. فدل على أن إيجاد ولي الأمر واجب. فالله تعالى حين أمر بطاعة ولي الأمر فإنّه يكون قد أمر بإيجاده. فإن وجود ولي الأمر يترتب عليه إقامة الحكم الشرعي، وترك إيجاده يترتب عليه تضييع الحكم الشرعي، فيكون إيجاده واجباً لما يترتب على عدم إيجاده من حُرمة، وهي تضييع الحكم الشرعي.
وأما السنّة فقد روى مسلم عن طريق نافع قال: قال لي ابن عمر سمعت رسول الله r يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» . فالنبي r فرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة، ووصف من يموت وليس في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية. والبيعة لا تكون إلا للخليفة ليس غير. وقد أوجب الرسول على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة لخليفة، ولم يوجب أن يبايع كل مسلم الخليفة. فالواجب هو وجود بيعة في عنق كل مسلم، أي وجود خليفة يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده. فوجود الخليفة هو الذي يوجد في عنق كل مسلم بيعة سواء بايع بالفعل أم لم يبايع، ولهذا كان الحديث دليلاً على وجوب نصب الخليفة وليس دليلاً على وجوب أن يبايع كل فرد الخليفة. لأن الذي ذمّه الرسول هو خلو عنق المسلم من بيعة حتى يموت، ولم يذم عدم البيعة. وروى مسلم عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي r قال: «إنما الإمام جُنة يُقاتَل من ورائه ويُتّقى به» .
وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي r قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» . وعن ابن عباس عن رسول الله r قال : «من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية» . فهذه الأحاديث فيها إخبار من الرسول بأنه سيلي المسلمين ولاة، وفيها وصف للخليفة بأنه جُنة أي وقاية. فوصف الرسول بأن الإمام جنة هو إخبار عن فوائد وجود الإمام فهو طلب، لأن الإخبار من الله ومن الرسول إن كان يتضمن الذم فهو طلب ترك، أي نهي، وإن كان يتضمن المدح فهو طلب فعل، فإن كان الفعل المطلوب يترتب على فعله إقامة الحكم الشرعي، أو يترتب على تركه تضييعه، كان ذلك الطلب جازماً. وفي هذه الأحاديث أيضاً أن الذين يسوسون المسلمين هم الخلفاء، وهو يعني طلب إقامتهم، وفيها تحريم أن يخرج المسلم من السلطان، وهذا يعني أن إقامة المسلم سلطاناً، أي حكماً له أمر واجب. على أن الرسول r أمر بطاعة الخلفاء، وبقتال من ينازعهم في خلافتهم، وهذا يعني أمراً بإقامة خليفة، والمحافظة على خلافته بقتال كل من ينازعه. فقد روى مسلم أن النبي r قال : «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» . فالأمر بطاعة الإمام أمر بإقامته، والأمر بقتال من ينازعه قرينة على الجزم في دوام إيجاده خليفة واحداً.
وأما إجماع الصحابة فإنهم رضوان الله عليهم أجمعوا على لزوم إقامة خليفة لرسول الله r بعد موته، وأجمعوا على إقامة خليفة لأبي بكر، ثم لعمر، ثم لعثمان بعد وفاة كل منهم. وقد ظهر تأكيد إجماع الصحابة على إقامة خليفة من تأخيرهم دفن رسول الله r عقب وفاته واشتغالهم بنصب خليفة له، مع أن دفن الميت عقب وفاته فرض، ويحرم على من يجب عليهم الاشتغال في تجهيزه ودفنه الاشتغال في شيء غيره حتى يتم دفنه. والصحابة الذين يجب عليهم الاشتغال في تجهيز الرسول ودفنه اشتغل قسم منهم بنصب الخليفة عن الاشتغال بدفن الرسول، وسكت قسم منهم عن هذا الاشتغال، وشاركوا في تأخير الدفن ليلتين مع قدرتهم على الإنكار، وقدرتهم على الدفن، فكان ذلك إجماعاً على الاشتغال بنصب الخليفة عن دفن الميت، ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان نصب الخليفة أوجب من دفن الميت. وأيضاً فإن الصحابة كلهم أجمعوا طوال أيام حياتهم على وجوب نصب الخليفة، ومع اختلافهم على الشخص الذي ينتخب خليفة فإنهم لم يختلفوا مطلقاً على إقامة خليفة، لا عند وفاة رسول الله، ولا عند وفاة أي خليفة من الخلفاء الراشدين، فكان إجماع الصحابة دليلاً صريحاً وقوياً على وجوب نصب الخليفة.
على أن إقامة الدين وتنفيذ أحكام الشرع في جميع شؤون الحياة الدنيا والأخرى فرض على المسلمين بالدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلاّ بحاكم ذي سلطان. والقاعدة الشرعية (إن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب) فكان نصب الخليفة فرضاً من هذه الجهة أيضاً.
فهذه الأدلة صريحة بأن إقامة الحكم والسلطان على المسلمين منهم فرض، وصريحة بأن إقامة خليفة يتولى هو الحكم والسلطان فرض على المسلمين وذلك من أجل تنفيذ أحكام الشرع، لا مجرد حكم وسلطان. انظر قوله r فيما روى مسلم عن طريق عوف بن مالك «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلّون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف، فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة» . فهو صريح في الإخبار بالأئمة الأخيار والأئمة الأشرار، وصريح بتحريم منابذتهم بالسيف ما أقاموا الدين، لأن إقامة الصلاة كناية عن إقامة الدين والحكم به. فكون إقامة الخليفة ليقيم أحكام الإسلام، ويحمل دعوته فرضاً على المسلمين أمر لا شبهة في ثبوته في نصوص الشرع الصحيحة، فوق كونه فرضاً من جهة ما يحتمه الفرض الذي فرضه الله على المسلمين من إقامة حكم الإسلام وحماية بيضة المسلمين. إلاّ أن هذا الفرض هو فرض على الكفاية فإن أقامه بعضهم فقد وجد الفرض وسقط عن الباقين هذا الفرض، وإن لم يستطع أن يقيمه بعضهم ولو قاموا بالأعمال التي تقيمه فإنه يبقى فرضاً على جميع المسلمين، ولا يسقط الفرض عن أي مسلم ما دام المسلمون بغير خليفة.
والقعود عن إقامة خليفة للمسلمين معصية من أكبر المعاصي لأنها قعود عن القيام بفرض من أهم فروض الإسلام، ويتوقف عليه إقامة أحكام الدين، بل يتوقف عليه وجود الإسلام في معترك الحياة. فالمسلمون جميعاً آثمون إثماً كبيراً في قعودهم عن إقامة خليفة للمسلمين. فإن أجمعوا على هذا القعود كان الإثم على كل فرد منهم في جميع أقطار المعمورة. وإن قام بعض المسلمين بالعمل لإقامة خليفة ولم يقم بعضهم الآخر فإن الإثم يسقط عن الذين قاموا يعملون لإقامة الخليفة ويبقى الفرض عليهم حتى يقوم الخليفة. لأن الاشتغال بإقامة الفرض يسقط الإثم على تأخير إقامته عن وقته وعلى عدم القيام به، لتلبسه بالقيام به، ولاستكراهه بما يقهره عن إنجاز القيام به. أما الذين لم يتلبسوا بالعمل لإقامة الفرض فإن الإثم بعد ثلاثة أيام من ذهاب الخليفة إلى يوم نصب الخليفة يبقى عليهم، لأن الله قد أوجب عليهم فرضاً ولم يقوموا به ولم يتلبسوا بالأعمال التي من شأنها أن تقيمه، ولذلك استحقوا الإثم فاستحقوا عذاب الله وخزيه في الدنيا والآخرة. واستحقاقهم الإثم على قعودهم عن إقامة خليفة أو عن الأعمال التي من شأنها أن تقيمه، ظاهر صريح في استحقاق المسلم العذاب على تركه أي فرض من الفروض التي فرضها الله عليه، لا سيما الفرض الذي به تنفذ الفروض، وتقام أحكام الدين، ويعلو أمر الإسلام، وتصبح كلمة الله هي العليا في بلاد الإسلام، وفي سائر أنحاء العالم.
وأما ما ورد في بعض الأحاديث من العزلة عن الناس ومن الاقتصار على التمسك بأمور الدين في خاصته فإنها لا تصلح دليلاً على جواز القعود عن إقامة خليفة ولا على إسقاط الإثم عن هذا القعود. والمدقق فيها يجدها في شأن التمسك بالدين لا في شأن الترخيص بالقعود عن إقامة خليفة للمسلمين. فمثلاً روى البخاري عن بسر بن عبيد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: «كان الناس يسألون رسول الله r عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله إنّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال نعم، قلت وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال نعم، وفيه دخن، قلت وما دخنه ؟ قال قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت يا رسول الله صفهم لنا، قال هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» فإن هذا الحديث صريح بأن الرسول يأمر المسلم بأن يلزم جماعة المسلمين وأن يلزم إمامهم، ويترك الدعاة الذين هم على أبواب جهنم. فسأله السائل في حالة أن لا يكون للمسلمين إمام ولا لهم جماعة ماذا يصنع بالنسبة للدعاة الذين على أبواب جهنم، فحينئذ أمره الرسول أن يعتزل هذه الفرق، لا أن يعتزل المسلمين ولا أن يقعد عن إقامة إمام. فأمره صريح «فاعتزل تلك الفرق كلها» وبالغ في وصف اعتزاله لتلك الفرق إلى درجة أنه ولو بلغ اعتزاله إلى حد أن يعض على أصل شجرة حتى يدركه الموت وهو على ترك تلك الفرق التي على أبواب جهنم. ومعناه تمسك بدينك وبالبعد عن الدعاة المضلين الذين على أبواب جهنم. فهذا الحديث ليس فيه أي عذر لترك القيام بالعمل لإقامة خليفة ولا أي ترخيص في ذلك، وإنما هو محصور بالأمر بالتمسك بالدين واعتزال الدعاة الذين على أبواب جهنم، ويبقى الإثم عليه إذا لم يعمل لإقامة خليفة. فهو مأمور بأن يبتعد عن الفرق الضالة، ليسلم بدينه من دعاة الضلال ولو عض على أصل شجرة، لا أن يبتعد عن جماعة المسلمين ويقعد عن القيام بأحكام الدين وعن إقامة إمام للمسلمين.
ومثلاً روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله r: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» فإن هذا لا يعني اعتزال جماعة المسلمين والقعود عن القيام بأحكام الدين وعن إقامة خليفة للمسلمين حين تخلو الأرض من الخلافة، بل كل ما فيه هو بيان خير مال المسلم في أيام الفتن وخير ما يفعله للهروب من الفتن وليس هو للحث على البعد عن المسلمين واعتزال الناس.
وعليه فإنه لا يوجد عذر لمسلم على وجه الأرض في القعود عن القيام بما فرضه الله عليهم لإقامة الدين ألا وهو العمل لإقامة خليفة للمسلمين حين تخلو الأرض من الخلافة، وحين لا يوجد فيها من يقيم حدود الله لحفظ حرمات الله، ولا من يقيم أحكام الدين، ويجمع شمل جماعة المسلمين تحت راية لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. ولا توجد في الإسلام أية رخصة في القعود عن القيام بهذا الفرض حتى يُقام به.
الاستخلاف أو العهد
لا تنعقد الخلافة بالاستخلاف، أي بالعهد، لأنه عقد بين المسلمين والخليفة. فيشترط في انعقادها بيعة من المسلمين وقبول من الشخص الذي بايعوه. والاستخلاف أو العهد لا يتأتى أن يحصل فيه ذلك، فلا تنعقد به خلافة. وعلى ذلك فاستخلاف خليفة لخليفة آخر يأتي بعده لا يحصل فيه عقد الخلافة لأنه لا يملك حق عقدها. ولأن الخلافة حق للمسلمين لا للخليفة، فالمسلمون يعقدونها لمن يشاءون. فاستخلاف الخليفة غيره أي عهده بالخلافة لغيره لا يصح، لأنه إعطاء لما لا يملك، وإعطاء ما لا يملك لا يجوز شرعاً. فإذا استخلف الخليفة خليفة آخر سواء أكان ابنه أو قريبه أو بعيداً عنه لا يجوز، ولا تنعقد الخلافة له مطلقاً لأنه لم يجر عقدها ممن يملك هذا العقد، فهي عقد فضولي لا يصح.
وأما ما روي أن أبا بكر استخلف عمر، وأن عمر استخلف الستة، وأن الصحابة سكتوا ولم ينكروا ذلك فكان سكوتهم إجماعاً، فإن ذلك لا يدل على جواز الاستخلاف أي العهد. وذلك لأن أبا بكر لم يستخلف خليفة وإنما استشار المسلمين فيمن يكون خليفة لهم فرشح علياً وعمر. ثم إن المسلمين خلال ثلاثة أشهر في حياة أبي بكر اختاروا عمر بأكثريتهم، ثم بعد وفاة أبي بكر جاء الناس وبايعوا عمر، وحينئذ انعقدت الخلافة لعمر. أما قبل البيعة فلم يكن خليفة، ولم تنعقد الخلافة له لا بترشيح أبي بكر ولا باختيار المسلمين له، وإنما انعقدت حين بايعوه وقبل الخلافة. وأما عهد عمر للستة فهو ترشيح لهم من قبله بناء على طلب المسلمين، ثم حصل من عبد الرحمن بن عوف أن استشار المسلمين فيمن يكون منهم فاختار أكثرهم علياً إذا تقيد بما كان عليه أبو بكر وعمر، وإلا فعثمان. فلما رفض علي التقيد بما سار عليه أبو بكر وعمر بايع عبد الرحمن عثمان وبايعه الناس. فالخلافة انعقدت لعثمان ببيعة الناس له لا بترشيح عمر ولا باختيار الناس، ولو لم يبايعه الناس ويقبل هو لم تنعقد الخلافة. وعلى ذلك لا بد من بيعة المسلمين للخليفة، ولا يجوز أن تكون بالعهد أو الاستخلاف لأنها عقد ولاية وينطبق عليها ما ينطبق على العقود.
طريقة نصب الخليفة
حين أوجب الشرع على الأمة نصب خليفة عليها، حدد لها الطريقة التي يجري بها نصب الخليفة، وهذه الطريقة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة. وتلك الطريقة هي البيعة. فيجري نصب الخليفة ببيعة المسلمين له على كتاب الله وسنة رسوله. أما كون هذه الطريقة هي البيعة فهي ثابتة من بيعة المسلمين للرسول، ومن أمر الرسول لنا ببيعة الإمام. أما بيعة المسلمين للرسول فإنها ليست بيعة على النبوة وإنما هي بيعة على الحكم، إذ هي بيعة على العمل وليست بيعة على التصديق. فبويع r على اعتباره حاكماً لا على اعتباره نبياً ورسولاً. لأن الإقرار بالنبوة والرسالة إيمان وليس بيعة، فلم تبق إلاّ أن تكون البيعة له باعتباره رئيس الدولة. وقد وردت البيعة في القرآن والحديث قال تعالى :]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيَهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فيِ مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ[ وقال تعالى :]إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[. وروى البخاري قال: حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن يحيى بن سعيد قال أخبرني عبادة بن الوليد أخبرني أبي عن عبادة بن الصامت قال : «بايعنا رسول الله r على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنّا لا نخاف في الله لومة لائم» وروى البخاري قال: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد هو ابن أبي أيوب قال حدثني أبو عَقيل زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام وكان قد أدرك النبيr وذهبت به أمه زينب ابنة حُميد إلى رسول الله r فقالت يا رسول الله بايعه فقال النبي r : «هو صغير. فمسح رأسه ودعا له» وروى البخاري قال: حدثنا عبدانُ عن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنياه إن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له، ورجل يبايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا فصدقه فأخذها ولم يُعط بها» . فهذه الأحاديث الثلاثة صريحة في أن البيعة طريقة نصب الخليفة. فحديث عبادة قد بايع الرسول على السمع والطاعة وهذا للحاكم، وحديث عبد الله بن هشام رفض بيعته لأنه غير بالغ مما يدل على أنها بيعة حكم، وحديث أبي هريرة صريح ببيعة الإمام، وجاءت كلمة إمام نكرة أي أيّ إمام. وهناك أحاديث أخرى تنص على بيعة الإمام. ففي مسلم من طريق عبد الله بن عمرو أن النبي r قال : «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» وفي مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله r: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي r قال : «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول» . فالنصوص صريحة من الكتاب والسنة بأن طريقة نصب الخليفة هي البيعة. وقد فهم ذلك جميع الصحابة وساروا عليه. فأبو بكر بويع بيعة خاصة في السقيفة وبيعة عامة في المسجد ثم بايعه من لم يبايع في المسجد ممن يعتد ببيعته كعلي بن أبي طالب y ، وعمر بويع بيعة من المسلمين، وعثمان بويع بيعة من المسلمين، وعلي بويع بيعة من المسلمين. فالبيعة هي الطريقة الوحيدة لنصب خليفة للمسلمين.
أما التفصيلات العملية لإجراء هذه البيعة، فإنها ظاهرة في نصب الخلفاء الأربعة الذين جاءوا عقب وفاة الرسول r مباشرة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم، وقد سكت عنها جميع الصحابة وأقروها مع أنها مما ينكر لو كانت مخالفة للشرع، لأنها تتعلق بأهم شيء يتوقف عليه كيان المسلمين، وبقاء الحكم بالإسلام. ومن تتبع ما يحصل في نصب هؤلاء الخلفاء نجد أن بعض المسلمين قد تناقشوا في سقيفة بني ساعدة وكان المرشحون سعداً وأبا عبيدة وعمر وأبا بكر ليس غير، وبنتيجة المناقشة بويع أبو بكر. ثم في اليوم الثاني دعي المسلمون إلى المسجد فبايعوه، وبهذه البيعة الأخيرة صار خليفة للمسلمين. وحين أحس أبو بكر بأن مرضه مرض موت دعا المسلمين يستشيرهم فيمن يكون خليفة للمسلمين. وكان الرأي في هذه الاستشارات يدور حول علي وعمر ليس غير، ومكث مدة ثلاثة أشهر في هذه الاستشارات. ولما أتمها وعرف أكثر رأي المسلمين أعلن لهم أن عمر هو الخليفة بعده، وعقب وفاته مباشرة حضر المسلمون إلى المسجد وبايعوا عمر بالخلافة، فصار بهذه البيعة خليفة للمسلمين وليس بالاستشارات ولا بإعلان أبي بكر. وحين طُعن عمر طلب منه المسلمون أن يستخلف فأبى، فألحوا عليه فجعلها في ستة، ثم بعد وفاته أناب المرشحون أحدهم وهو عبد الرحمن بن عوف فرجع لرأي المسلمين واستشارهم، ثم أعلن بيعة عثمان، فقام المسلمون فبايعوا عثمان فصار خليفة ببيعة المسلمين لا باستخلاف عمر ولا بإعلان عبد الرحمن ثم قتل عثمان، فبايع جمهرة المسلمين في المدينة والكوفة علي بن أبي طالب فصار خليفة ببيعة المسلمين.
ومن ذلك يتبين أن التفصيلات العملية لإجراء البيعة للخلافة هي أن يتناقش المسلمون فيمن يصلح للخلافة، حتى إذا استقر الرأي على أشخاص، عُرضوا على المسلمين، فمن اختاروه منهم طلب منهم أن يبايعوه كما طلب من باقي المرشحين أن يبايعوه. ففي سقيفة بني ساعدة صار النقاش في سعد وأبي عبيدة وعمر وأبي بكر ثم بويع أبو بكر، فكانت بيعته بمثابة اختيار، ولكنها لم تلزم المسلمين، ثم جرت بيعته من عامة المسلمين.
وأبو بكر تذاكر مع المسلمين في علي ثم أعلن اسم عمر ثم بويع، وعمر جعلها في ستة، وبعد الرجوع إلى المسلمين أعلن عبد الرحمن اسم عثمان، ثم بويع. وعلي بويع مباشرة فقد كان الوضع وضع فتنة، وكان معروفاً أنه لا يدانيه في الترشيح للخلافة عند المسلمين أحد حين قتل عثمان. وبذلك يكون أمر البيعة جارياً على أن يحصر المرشحون للخلافة بعد المناقشة فيمن يصلح لها، ثم يجري انتخاب خليفة منهم، ثم تؤخذ له البيعة على الناس. ولئن كان هذا واضحاً في استشارات أبي يكر فإنه يظهر أوضح في بيعة عثمان. روى البخاري عن الزهري أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن المِسْوَر بن مَخْرمَة أخبره أن الرهط الذين ولاّهم عمر اجتمعوا فتشاوروا. قال لهم عبد الرحمن: " لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولّوا عبد الرحمن أمرهم فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه. ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان. قال المسور: "طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال: أراك نائماً، فوا لله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعداً، فدعوتهما له فشاروهما ثم دعاني فقال: ادع لي عليّاً فدعوته فناجاه حتى إبهارَّ الليَّل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح. فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهّد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا، ثم أخذ بيد عثمان فقال أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون ".
فالمرشحون للخلافة حُصروا في الرهط الذين سماهم عمر بعد أن طلب إليه المسلمون ذلك، وعبد الرحمن بن عوف بعد أن أخرج نفسه من الترشيح للخلافة أخذ رأي المسلمين فيمن يكون خليفة، ثم أعلن اسم الذي يريده المسلمون بعد أن شاور الناس. وبعد إعلان اسم من يريده الناس كانت البيعة له، فصار خليفة بهذه البيعة. وعلى ذلك فالحكم الشرعي في نصب الخليفة هو أن يحصر المرشحون للخلافة من قبل من يمثلون رأي جمهرة المسلمين، ثم تعرض أسماؤهم على المسلمين ويطلب منهم أن يختاروا واحداً من هؤلاء المرشحين ليكون خليفة لهم، ثم ينظر من تكون جمهرة المسلمين أي أكثريتهم بجانبه، فتؤخذ له البيعة على المسلمين جميعاً، سواء من اختاره أو من لم يختره، لأن إجماع المسلمين إجماعاً سكوتياً على حصر عمر للمرشحين للخلافة في ستة أشخاص معينين، وإجماع المسلمين أيضاً على أخذ عبد الرحمن لرأي المسلمين جميعاً فيمن يكون خليفة عليهم، ثم إجماعهم على إجراء البيعة لمن أعلن عبد الرحمن اسمه بأنه هو الذي اختاره المسلمون خليفة لهم حين قال " إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان " كل ذلك صريح في الحكم الشرعي في نصب الخليفة.
بقيت مسألتان، إحداهما من هم المسلمون الذين ينصبون الخليفة ؟ هل هم أهل الحل والعقد أم هم عدد معين من المسلمين ؟ أم هم جميع المسلمين ؟ والمسألة الثانية هي: هل الأعمال التي تجري في هذا العصر في الانتخابات كالاقتراع السري وصناديق الاقتراع وفرز الأصوات، هي ما يأمر به الإسلام أم لا ؟
أما المسألة الأولى: فإن الشارع قد جعل السلطان للأمة وجعل نصب الخليفة للمسلمين عامة، ولم يجعله لفئة دون فئة، ولا لجماعة دون جماعة، فالبيعة فرض على المسلمين عامة «من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية» وهذا عام لكل مسلم. ولذلك ليس أهل الحل والعقد هم أصحاب الحق في نصب الخليفة دون باقي المسلمين. وكذلك ليس أصحاب الحق أشخاصاً معينين، وإنما هذا الحق لجميع المسلمين دون استثناء أحد، حتى الفجار والمنافقين ما داموا مسلمين بالغين، لأن النصوص جاءت عامة ولم يرد ما يخصصها سوى رفض بيعة الصغير الذي لم يبلغ، فتبقى عامة.
إلا أنه ليس شرطاً أن يباشر جميع المسلمين هذا الحق، لأنه حق لهم، وهو وإن كان فرضاً عليهم، لأن البيعة فرض، ولكنه فرض على الكفاية وليس فرض عين، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. إلا أنه يجب أن يمكّن جميع المسلمين من مباشرة حقهم في نصب الخليفة، بغض النظر عما إذا استعملوا هذا الحق أم لم يستعملوه، أي يجب أن يكون في قدرة كل مسلم التمكن من القيام بنصب الخليفة بتمكينه من ذلك تمكيناً تاماً. فالقضية هي تمكين المسلمين من القيام بما فرضه الله عليهم من نصب الخليفة قياماً يسقط عنهم هذا الفرض، وليست المسألة قيام جميع المسلمين بهذا الفرض بالفعل. لأن الفرض الذي فرضه الله هو أن يجري نصب الخليفة من المسلمين برضاهم، لا أن يجريه جميع المسلمين. ويتفرع على هذا أمران: أحدهما أن يتحقق رضا جميع المسلمين بنصبه، والثاني أن لا يتحقق رضا جميع المسلمين بهذا النصب مع تحقق التمكين لهم في كلا الأمرين.
أما بالنسبة للأمر الأول فلا يشترط عدد معين فيمن يقومون بنصب الخليفة، بل أي عدد بايع الخليفة وتحقق في هذه البيعة رضا المسلمين بسكوتهم، أو بإقبالهم على طاعته بناء على بيعته، أو بأي شيء يدل على رضاهم، يكون الخليفة المنصوب خليفة للمسلمين جميعاً، ويكون هو الخليفة شرعاً ولو قام بنصبه خمسة أشخاص إذ يتحقق فيهم الجمع في إجراء نصب الخليفة، ويتحقق الرضا بالسكوت والمبادرة للطاعة، أو ما شاكل ذلك، على شرط أن يتم هذا بمنتهى الاختيار والتمكين من إبداء الرأي تمكيناً تاماً. أما إذا لم يتحقق رضا جميع المسلمين، فإنه لا يتم نصب الخليفة إلاّ إذا قام بنصبه جماعة يتحقق في نصبهم له رضا جمهرة المسلمين، أي أكثريتهم، مهما كان عدد هذه الجماعة. ومن هنا جاء قول بعض الفقهاء: يجري نصب الخليفة ببيعة أهل الحل والعقد له - إذ يعتبرون أهل الحل والعقد الجماعة التي يتحقق رضا المسلمين بما تقوم به من بيعة أي رجل حائز على شروط انعقاد الخلافة - وعلى ذلك فليس بيعة أهل الحل والعقد هي التي يجري فيها نصب الخليفة، وليس وجود بيعتهم شرطاً لجعل نصب الخليفة نصباً شرعياً، بل بيعة أهل الحل والعقد أمارة من الأمارات الدالة على تحقق رضا المسلمين بهذه البيعة، لأن أهل الحل والعقد كانوا يعتبرون الممثلين للمسلمين. وكل أمارة تدل على تحقق رضا المسلمين ببيعة خليفة يتم بها نصب الخليفة، ويكون نصبه بها نصباً شرعياً.
وعلى ذلك فالحكم الشرعي هو أن يقوم بنصب الخليفة جمع يتحقق في نصبهم له رضا المسلمين بأي أمارة من أمارات التحقق، سواء أكان ذلك بكون المبايعين أكثر أهل الحل والعقد، أو بكونهم أكثر الممثلين للمسلمين، أو كان بسكوت المسلمين عن بيعتهم له، أو مسارعتهم بالطاعة بناء على هذه البيعة، أو بأي وسيلة من الوسائل، ما دام متوفراً لهم التمكين التام من إبداء رأيهم. وليس من الحكم الشرعي كونهم أهل الحل والعقد ولا كونهم أربعة أو أربعمائة أو أكثر أو أقل، أو كونهم أهل العاصمة أو أهل الأقاليم. بل الحكم الشرعي كون بيعتهم يتحقق فيها الرضا من قبل جمهرة المسلمين بأية أمارة من الأمارات، مع تمكينهم من إبداء رأيهم تمكيناً تاماً.
والمراد بجميع المسلمين، المسلمون الذين يعيشون في البلاد الخاضعة للدولة الإسلامية، أي الذين كانوا رعايا للخليفة السابق إن كانت الخلافة قائمة، أو الذين يتم بهم قيام الدولة الإسلامية وتنعقد الخلافة بهم إن كانت الدولة الإسلامية غير قائمة من قبلهم، وقاموا هم بإيجادها واستئناف الحياة الإسلامية بواسطتها. أما غيرهم من المسلمين فلا تشترط بيعتهم ولا يشترط رضاهم. لأنهم إما أن يكونوا خارجين على سلطان الإسلام، أو يكونوا يعيشون في دار كفر ولا يتمكنون من الانضمام إلى دار الإسلام. وكلاهما لا حق له في بيعة الانعقاد، وإنما عليه بيعة الطاعة، لأن الخارجين على سلطان الإسلام حكمهم حكم البغاة. والذين في دار الكفر لا يتحقق بهم قيام سلطان الإسلام حتى يقيموه بالفعل، أو يدخلوا فيه. وعلى ذلك فالمسلمون الذين لهم حق بيعة الانعقاد، ويشترط تحقق رضاهم حتى يكون نصب الخليفة نصباً شرعياً، هم الذين يقوم بهم سلطان الإسلام بالفعل. ولا يقال هذا الكلام بحث عقلي، وليس هنالك دليل شرعي عليه. لا يقال ذلك لأنه بحث في مناط الحكم وليس في نفس الحكم، ولهذا لا يؤتى له بدليل شرعي وإنما هو ببيان حقيقته. فأكل الميتة حرام، هو الحكم الشرعي. وتحقيق ما هي الميتة هو مناط الحكم، أي الموضوع الذي يتعلق به الحكم. فقيام المسلمين بنصب الخليفة هو الحكم الشرعي، وأن يكون هذا النصب بالرضا والاختيار هو الحكم الشرعي أيضاً، وهذا هو الذي يؤتى له بالدليل. أما من هم المسلمون الذين يتم بهم النصب، وما هو الأمر الذي يتحقق فيه الرضا والاختيار، فذلك مناط الحكم أي الموضوع الذي جاء الحكم لمعالجته، وانطباق الحكم الشرعي عليه هو الذي يجعل الحكم الشرعي فيه متحققاً. وعليه يبحث هذا الشيء الذي جاء الحكم الشرعي له ببيان حقيقته.
ولا يقال إن مناط الحكم هو علة الحكم فلا بد له من دليل شرعي، لا يقال ذلك لأن مناط الحكم غير علة الحكم، وهنالك فرق كبير بين العلة والمناط. فالعلة هي الباعث على الحكم أي هي الشيء الدال على مقصود الشارع من الحكم، وهذه لا بد لها من دليل شرعي عليها حتى يفهم أنها هي مقصود الشارع من الحكم، أما مناط الحكم فهو الموضوع الذي جاء به الحكم أي هو المسألة التي ينطبق عليها الحكم وليس دليله ولا علته. ومعنى كونه الشيء الذي نيط به الحكم هو أنه الشيء الذي عُلّق به الحكم أي أنه قد جيء بالحكم له أي لمعالجته لا أنه جيء بالحكم لأجله حتى يقال إنه علة الحكم. فمناط الحكم هو الناحية غير النقلية في الحكم الشرعي. وتحقيقه غير تحقيق العلة فإن تحقيق العلة يرجع إلى فهم النص الذي جاء معللاً وهذا فهم للنقليات وليس هو المناط، بل المناط هو ما سوى النقليات والمراد به الواقع الذي يطبق عليه الحكم الشرعي. فإذا قلت الخمر حرام فإن الحكم الشرعي هو حرمة الخمر. فتحقيق كون الشراب المعين خمراً أو ليس بخمر ليتأتى الحكم عليه بأنه حرام أو ليس بحرام هو تحقيق المناط، فلا بد من النظر في كون الشراب خمراً أو غير خمر حتى يقال عنه إنه حرام، وهذا النظر في حقيقة الخمر هو تحقيق المناط. وإذا قلت الماء الذي يجوز الوضوء منه هو الماء المطلق، فإن الحكم الشرعي هو كون الماء المطلق هو الذي يجوز منه الوضوء. فتحقيق كون الماء مطلقاً أو غير مطلق ليتأتى الحكم عليه بأنه يجوز الوضوء منه هو تحقيق المناط، فلا بد من النظر في كون الماء مطلقاً أو غير مطلق حتى يقال أنه يجوز الوضوء منه، وهذا النظر في حقيقة الماء هو تحقيق المناط. وإذا قلت إنّ المحدث يجب عليه الوضوء للصلاة، فتحقيق كون الشخص محدثاً أو ليس بمحدث هو تحقيق المناط وهكذا. وقد قال الشاطبي في الموافقات " فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة " وقال " قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر إلى معرفة علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلاّ به من حيث قصدت المعرفة به فلا بد أن يكون المجتهد عارفاً ومجتهداً من تلك الجهة التي ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى".
فإن تحقيق العلة يرجع إلى فهم النص الذي جاء معللاً وهذا فهم النقليات وليس هو المناط بل المناط هو ما سوى النقليات والمراد به الواقع الذي يطبق عليه الحكم الشرعي، فإذا قلت الخمر حرام فتحقيق كون الشيء خمراً أو ليس بخمر هو تحقيق المناط. وإذا قلت الماء المطلق هو الذي يتوضأ منه كان تحقيق كون الماء مطلقاً أو غير مطلق هو تحقيق المناط، وإذا قيل إنّ المحدث يجب عليه الوضوء كان تحقيق كون الشخص محدثاً أو ليس بمحدث هو تحقيق المناط. فتحقيق المناط هو تحقيق الشيء الذي هو موضوع الحكم، ولذلك لا يشترط فيمن يحقق المناط أن يكون مجتهداً أو مسلماً بل يكفي أن يكون عالماً بالشيء. ومن هنا كان البحث فيمن هم المسلمون الذين تكون بيعتهم دالة على الرضا هو بحث في تحقيق المناط.
هذا من ناحية المسألة الأولى. أما المسألة الثانية وهي ما يحصل في هذه الأيام من إجراء الانتخابات بالاقتراع السري، واتخاذ صناديق اقتراع، وفرز الأصوات وما شاكل ذلك، فإن هذا كله أساليب لأداء الاختيار بالرضى. ولذلك لا تدخل تحت الحكم الشرعي، ولا في مناط الحكم الشرعي الذي هو الموضوع الذي جاء الحكم لمعالجته لأنها ليست من أفعال العباد، ولا هي محل انطباق الحكم الشرعي عليها، وإنما هي وسائل لفعل العبد الذي جاء الحكم الشرعي له، أي الذي جاء خطاب الشارع متعلقاً به، ألا وهو نصب الخليفة بالرضا في حالة من التمكين التام من إبداء الرأي. وعليه ليست هذه الأساليب والوسائل مما يبحث فيه عن الأحكام الشرعية، وهي تدخل في الأشياء التي جاء النص عاماً بإباحتها، ولم يرد دليل خاص بحرمتها، فتبقى مباحة. فللمسلمين أن يختاروا هذه الأساليب، ولهم أن يختاروا غيرها. فأي أسلوب يؤدي إلى تمكين المسلمين من القيام بفرض نصب الخليفة بالرضا والاختيار، يجوز للمسلمين أن يستعملوه ما لم يرد دليل شرعي على تحريمه. ولا يقال إن هذا الأسلوب فعل العبد فلا يجري إلا وفق حكم شرعي فلا بد من دليل يدل على حكمه، لا يقال ذلك لأن فعل العبد الذي يجب أن يجري وفق الحكم الشرعي ولا بد من دليل يدل على حكمه إنما هو الفعل الذي يعتبر أصلاً أو يعتبر فرعاً لفعل لم يأت دليل عام لأصله وإنما جاء دليل أصله خاصاً. وذلك مثل الصلاة فإن دليلها خاص بالقيام بها ولا يشمل كل فعل من أفعالها. أما الفعل الذي هو فرع لفعل ورد دليل عام لأصله فإنه ينجر الدليل العام على جميع فروعه، ويحتاج تحريم الفعل الذي هو فرع إلى دليل يحرمه حتى يخرج عن حكم أصله ويأخذ حكماً جديداً، وهكذا جميع الأساليب.
وفي مسألة الانتخابات هذه، الفعل الأصل هو نصب الخليفة بالرضا والاختيار. أما الأفعال التي تتفرع عن ذلك من مثل الاقتراع واتخاذ صناديق الاقتراع وفرز الأصوات وما شاكل ذلك فإنها تدخل تحت حكم الأصل ولا تحتاج إلى دليل آخر، وإخراجها عن حكم الأصل أي تحريمها هو الذي يحتاج إلى دليل. وهكذا جميع الأساليب التي هي أفعال العباد. أما الوسائل وهي الأدوات مثل الصندوق الذي توضع فيه الأوراق فإنها تأخذ الحكم الذي أخذته الأشياء لا الأفعال وتنطبق عليها قاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم ". والفرق بين الطريقة والأسلوب هو أن الطريقة هي الفعل الذي يعتبر أصلاً من حيث هو، أو فرعاً لأصل لم يأت دليل عام لأصله بل كان دليله خاصاً به. أما الأسلوب فهو الفعل الذي يكون فرعاً لفعل قد جاء له ـ أي للأصل ـ دليل عام. ومن هنا كان لا بد أن تكون الطريقة مستندة إلى دليل شرعي لأنها حكم شرعي، ولذلك يجب أن تلتزم ولا يخير فيها المسلم ما لم يكن حكمها الإباحة، بخلاف الأسلوب فإنه لا يستند إلى دليل شرعي بل يجري عليه حكم أصله. ولذلك لا يجب التزام أسلوب معين ولو فعله الرسول r ، بل كل أسلوب للمسلم أن يفعله ما دام يؤدي إلى القيام بالعمل، فيصبح فرعاً له. ولذلك قيل إن الأسلوب يعينه نوع العمل.
http://www.hizb-ut-tahrir.org/arabic.../htm/14klf.htm
3)) الديمقراطية:
الديمقراطية نظام كفر يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها
فالمصدر الذي جاءت منه الديمقراطية هو الإنسان، والحاكم فيها الذي يرجع إليه في إصدار الحكم على الأفعال والأشياء بالحسن والقبح هو العقل. والأصل في وضعها هم فلاسفة أوروبا ومفكروها، الذين برزوا أثناء الصراع الرهيب بين أباطرة أوروبا وملوكها وبين شعوبها. فكانت من وضع البشر، وكان الحاكم فيها هو عقل الإنسان
أما الإسلام فإنه على النقيض من ذلك فهو من الله أوحى به إلى رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} وقال: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}ـ
والحاكم فيه الذي يرجع إليه في إصدار الأحكام إنما هو الله سبحانه أي الشرع، وليس العقل. وعمل العقل قاصر على فهم نصوص ما أنزل الله. قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ}وقال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فيِ شيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شيء فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ}
أما العقيدة التي انبثقت عنها الديمقراطية فهي عقيدة فصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن الدولة. وهي العقيدة، المبنية على الحل الوسط بين رجال الدين النصارى ـ الذين كان يُسخِّرهم الملوك والقياصرة، ويتخذونهم مطية لاستغلال الشعوب وظلمها، ومصّ دمائها باسم الدين والذين يريدون أن يكون كل شيء خاضعاً لهم باسم الدين ـ وبين الفلاسفة والمفكرين، الذين ينكرون الدين، وسلطة رجال الدين
وهذه العقيدة لم تنكر الدين، لكنها ألغت دوره في الحياة، وفي الدولة، وبالتالي جعلت الإنسان هو الذي يضع نظامه
وكانت هذه العقيدة هي القاعدة الفكرية التي بنى عليها الغرب أفكاره، وعنها انبثق نظامه، وعلى أساسها عيَّن اتجاهه الفكري، ووجهة نظره في الحياة، وعنها انبثقت الديمقراطية
أما الإسلام فإنه على النقيض كلياً من ذلك، فهو مبني على العقيدة الإسلامية، التي توجب تسيير جميع شؤون الحياة، وجميع شؤون الدولة بأوامر الله ونواهيه، أي بالأحكام الشرعية المنبثقة عن هذه العقيدة وأن الإنسان لا يملك أن يضع نظامه، وإنما عليه أن يسير وفق النظام الذي وضعه الله له
وعلى أساس هذه العقيدة قامت حضارة الإسلام وعُيِّنت وجهة نظره في الحياة
http://www.hizb-ut-tahrir.org/arabic...ks/demkrty.pdf
والسلام عليكم
أخوكم في الله
أبو إبراهيم
------------------
((المســـــــــــلمون أمـــــة واحــدة،
يجب عليهم أن يكونوا دولة واحدة،
تحـــــت رايـــــــة خليفــــــــة واحد))