ففي هذا الحديث العظيم تشبيهان بليغان:
التشبيه الأول: تشبيه العلم والهدى الذي جاء به الرسول بالغيث؛ أي بالمطر، بجامع أن كُلاًّ منهما تحصل به الحياة وتنشأ عنه المنافع:
فالماء تحصل به حياة الأرض كما قال جل وعلا عن الغيث: " فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا " [فاطر:9]، وقال تعالى: " وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا " [البقرة:164].
كما أن العلم والهدى تحصل به حياة الروح كما قال الله عز وجلأَ: " وَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا " [الأنعام:122]، وقال تعالى: " اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " [الأنفال:24]. فهذا هو التشبيه الأول.
التشبيه الثاني: تشبيه القلوب بالأراضي؛ بجامع أن كُلاًّ منهما محل للتَّقَبُّل: فالأرض ينزل عليها المطر، كما أن القلوب يقع عليها العلم، فهذا محل للعلم، وهذا محل للماء.
ثم قسَّم النبي الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظ وفهم العلم الذي أرسل به النبي :
القسم الأول: من جمع بين الفضيلتين؛ بين الحفظ للشريعة الإسلامية والفهم فيها، فهو يحفظ نصوصها؛ يحفظ القرآن والسنة، وهو في الوقت نفسه يفهم مراد الشارع من هذه النصوص، فيُوفَّق لموافقة الصواب، وهذا القسم هو الذي أشار إليه الحديث بقوله: (فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ)، وقوله: (قَبِلَتِ الْمَاءَ) هذا كناية عن الحفظ، (فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ) وهذا كناية عن الفهم، وعن النفع فهو منتفع في نفسه نافع غيره.
القسم الثاني: من حصل على فضيلة من الفضيلتين، وهي الحفظ فقط، رزقه الله تعالى حافظة قوية، فحفظ القرآن والسنة، لكن لم يؤتَ فهما لمعانيها، ولاستنباط الأحكام منها، وهذا القسم هو الذي أشار إليه الحديث في قوله: (وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللّهُ بِهَا النّاسَ).
فهذان القسمان هُمُ السعداء، وهم أرفع درجة وأعلى قدْرا، " وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " فلهم الفضل الكبير على الناس بما حفظوا عليهم من دينهم، وبما استنبطوا من الأحكام الشرعية ما يحتاج إليه الناس في دينهم ودنياهم، فكانوا كما قال الشاعر:
متى يمت عالم منها يمت طرف ** وإنْ أبى عاد في أكنافها التَّلف
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها ** كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها
يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: " الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس ".
القسم الثالث: من حُرم الفضيلتين؛ فلم يُعط حفظا ولم يُعط أيضا فهما، فهُم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء الذين رضعوا ثُدِيَّ الجهل، ورضوا به، فهو وصف الذين لا يوصفون بسواه، حتى ولو تتوجوا بالزَّبَرْجَدِ ولبسوا أنعم اللباس، وركبوا أهنى المراكب.
هذه هي الأقسام التي ذكرها الحديث، ثم بعد ذلك بيَّن أحكامها.
فأما القسمان الأول والثاني فالإشارة إلى حُكمهما في قوله: (فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللّهِ, وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلّمَ) أي علم في نفسه أولا، ثم أبدى علمه إلى الناس فانتفعوا به في تبيين الحلال من الحرام.
أما القسم الثالث فالإشارة إلى حكمة في قوله: (وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)، فظهر بهذا التشبيه في هذا الحديث فضل العلماء ومكانتهم وعموم نفعهم.
ومما ورد في ذلك أيضا: ما رواه أبو داوود والترمذي، وهو حديث صحيح، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله يقول « مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي بِه عِلْماً سَلَكَ الله له طَرِيقاً إِلَى الْجَنّةِ, وَإِنّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ بِمَا يَصْنَعُ, وَإِنّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السّمَواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ حَتّى الْحِيتَانُ في المَاءِ, وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ, كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ, وإِنّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ, وإنّ الاْنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً, وإِنّمَا وَرّثُوا الْعِلْمَ, فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ» فهذا الحديث العظيم يبين فضل العلماء بيانا كافيا من وجوه عديدة منها:
• تعظيم الملائكة لأهل العلم وحبها لهم، ولذا فإنها تضع أجنحتها لهم رضى عنهم وتوقيرا لعملهم هذا وتعظيما لهم، وقد فُسِّر قوله (تَضَعُ أَجْنَحِتَهَا) ببسطها بالدعاء لطالب العلم بدلا من الأيدي كما قاله الإمام مالك، وذهب آخرون إلى أن هذا الوضع حقيقي؛ وهو تواضع وتوقير وتبجيل.
• ومن أوجه بيان فضل العلماء من هذا الحديث: أنه أخبر أنّ كل مخلوق في السماوات وفي الأرض يستغفر لهذا العالِم، حتى أن الحوت الذي في الماء لينطق بالاستغفار؛ فيطلب المغفرة لهذا العالِم، والحكمة في ذلك -والله تعالى أعلم- أنّ العالم هو سبب نجاة العباد بما يأمرهم به من معروف وينهاهم عن منكر، وفعله هذا يعود على كل مخلوق بالنفع والبركة؛ فالحيوانات تُصيبها بركة طاعة العُبَّاد والعباد، كما تُؤَثِّر عليها معاصي العباد، وكذلك الأرض والشجر، ونحو ذلك، فلمّا كان فِعْل العالم بتعليم العلم والدعوة إلى الهدى، يَعُمُّ نفعه كل موجود جُوزِيَ من جنس عمله؛ فجُعِل مَن في السماوات ومن في الأرض ساعيا في نجاته من أسباب الهلكات باستغفارهم له.
• ومن أوجه بيان فضل هذا الحديث بيان هذا الحديث لفضل العلماء: أنّه قارن بين العالم و العابد، وهذه المقارَنة تبين منزلة كل واحد منهما؛ فالعالم بالنسبة للعابد يُشَبَّه بالقمر بالنسبة إلى الكواكب، وبهذه المقارنة يتميز ويتجلى فضل العالم على العابد، فكيف بمن سوى العابد؟ فالعالم بمنزلة القمر الذي يضيء الآفاق كلَّها، ويمتد نوره في أقطار العالم، أما العابد فهو بمنزلة الكوكب -وتعرفون أن الكوكب لا يتجاوز نوره نفسه أو ما يقرب من محيطه- ولذا قال ابن عباس وغيره من السلف ولا يصح مرفوعا: " فقيه واحد أشَدُّ على إبليس من ألف عابد " ويبين هذه الحقيقة ما ذكره ابن عبد البر رحمه الله تعالى في"جامع بيان العلم وفضله" عن ابن عباس أنه قال: " إن الشياطين قالوا لإبليس: مالنا نراك تفرح بموت العالم ما لا تفرح بموت العابد؟ فقال: انطلقوا، فانطلقوا إلى عابد قائم يصلي، فقالوا: له إنا نريد أن نسألك، فانصرف فقال له إبليس: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ فقال: لا. فقال: أترونه كفر في ساعته. ثم جاء إلى عالم في حلقة يضاحك أصحابه ويحدثهم، فقال: إنا نريد أن نسألك. فقال: سل. فقال: هل يقدر ربك أن يجعـل الدنيا في جوف بيضة. قال:نعم. فقال: وكيف؟ قال: يقول لذلك(كن فيكون). قال إبليس: أترون ذلك لا يعدو نفسه، وهذا يفسد عليَّ عالَما كثيرا. " انتهى. فمن هذا الأثر يظهر لنا البَوْنُ الشاسع بين العالم والعابد، ويظهر لنا ما للعالم من فضل بعد الله سبحانه وتعالى على الناس.
__________________
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
|