قلدتُ جيد الغانيات زبرجـــــدا
وكســــوتُ عاريــة المــفاخر شالا
وطفـــــــقتُ أنظـم في هواك قصائدي
فرسمتُ في شفة الـهلال هلالا
طفـح الســرور بكل بيت قلتــه
حتى استـــــشاط به الخيال فمالا
فإليـــك من حلـل القصـيد لئآلئا
فخرت بمدحـــك وازدهـت بك حالا
فإذا تقاصر عن مديحك منطقي
فمن الذي يحـــــصي النجوم خصالا
بسم الله الرحمن الرحيم
أحببت أن نقرأ سويا في هذه الرائعة التي أتانا بها المجاهد -حفظه الله-، وكان أول ما قمت به أن وضعت القصيدة في نموذج الشطرين كالمعتاد في قصيدة عمودية، ثم أشبعت فتحة القافية ألفا -كما اعتدنا في مثل هذه القافية- و بعدها نبـّهت إلى موقعين في القصيدة المنقولة فيهما خطأ في النقل؛ الأول هو تكرار الشطر ( فتعـطرت منها البــــقاع كأنــما) والثاني هو تكرار الشطر(كالزهر خامره النـــسيم فســـــالا) ، ولا شك أن هذين الخطأين هما في المنقول لا في الأصل.
لا شك أن الشاعر وفق في المطلع، كما وفق في اختيار البحر الكامل مع روي اللام وألف الوصل اللذين يفرضان على القصيدة إيقاعا سلسا رشيقا، يتناسب مع جو القصيدة الشاعري.
ولا شك أن المطلع يتركنا نتساءل مَن المخاطب في هذا البيت، ويكاد الجواب يفرض نفسه علينا فيقول: المخاطب إما الحبيب، أو الشعر، أو الشاعر نفسه، أو الهوى الذي دفعه لكتابة هذه الأبيات.
فنترك البيت الأول بدون أن نحدد أي الأربعة المخاطب، وننتقل إلى البيت الثاني:
فالآن يحـلو في "عكاظ" وفي فمـي
شعــــري ويحـلو إن ذكـرتُ"نوالا"
يقول الشاعر أنه بمدحه محبوبته فإن شعره يحلو ويبلغ درجة من الجمال تؤهله أن يطرح في عكاظ - وهي سوق كان يجتمع فيها العرب ويتناشدون- ويحلو أيضا في فم الشاعر، أي في نفسه فيصبح أحب شعره إليه، هذا إذا أخذناها على المجاز، وقد يقصد الشاعر أن تفوهه بالشعر يترك حلاوة في فمه، فيصح أن يؤخذ التعبير على حقيقته.
ويذكر الشاعر سبب حلاوة وجمال شعره هذا وتميزه عن باقي أشعاره، وذلك أنه ذكر فيه "نوالا" ويبدو هنا أن نوالا هي محبوبته التي يطريها.
نعود إلى السؤال: من المخاطب في هذه الأبيات؟ لا شك أن البيت الثاني جعلنا نستثني الحبيبة والشعر، حيث لا يعقل أن يخبر الشاعر الحبيبة عن الحبيبة، ولا الشعر عن الشعر، فلم يبقى إلا الشاعر والهوى.
نــزِّه فــــؤادك أن يلــوذ بغـــيرها
واخفــض جفـــونك هــيــــبةٌ وجلالا
نكاد نجزم الآن أن الشاعر يخاطب نفسه، ونستثني مخاطبته الهوى، حيث أن الهوى لا فؤاد له، وإن كان الاحتمال لا يزال واردا مستبعدا، ونجد أن الشاعر يخاطب نفسه الآن محذرا إياها من اللجوء لغير محبوبته، ويعتبر ذلك عائبا قلبه، وسالبا طهره، ويؤكد المعنى بذكره آداب التعامل مع محبوبته حيث أنه من الواجب غض البصر عنها، لسببين؛ خوفه من غضبها، وإجلاله لقدرها.
هيـــفاء لو خطرت بأغصــان الـربــى
يومـــاٌ لأرهــقت الغــصــــــــون دلالا
الهيفاء: هي الفتاة النحيلة، يقول الشاعر أن محبوبته على خفتها ودقة خصرها فإنها إن خطرت بأغصان الربى فإنها ستثقلها وتتعبها من الدلال وصعب المنال.
يذكر الشاعر هنا أربعة تشبيهات، فيشبه رفق الحبيبة بالندى، أو خفيف المطر، وعينها بعين البقرة الوحشية، وجيدا بجيد الرئم، وعطاءها وكرما بكرم السحاب، وفي البيت من المحسنات اللفظية الموازنة.
خُلق الـــهزار مـغـــــرداٌ في عٌــــشِّه
وخُلقــتُ طيـــــــــــبة الأريــج حــلالا
يقول أن البعض يزعم أن محبوبته لا تظهر في الناس إلا متعطرة، ويذكر استنكار المحبوبة لهذه التهمة بقولها تبارك الله وتعالى، وتجيب بأن الله الذي خلق الهزار وهو العندليب مغردا بطبيعته، لا يحتاج في ذلك إلى صنعة، قد خلق فيها أريجا -أي رائحة طيبة- من ذاتها لا تحتاج لعطر ولا لصنعة، وهذا برأيي أجمل بيت في القصيدة، ويدل على تمكن الشاعر من انتقاء الألفاظ، واجتلاب المعاني، وترويضها كيف شاء، وفي البيت من المحسنات المعنوية ما يسمى بحسن التعليل.
فتعــطرت منها البقــاع كأنهـا
( فتعـطرت منها البــــقاع كأنــما)
يقول الشاعر أنه لولا العار -أو ربما يقصد الإثم- باتهامها بالتحكم، لكانت محبوبته أبدلت ببياض جبينها الدجى آصالا، وهو جمع الأصيل، واستخدام الشاعر للجمع هنا مبالغة منه، وقد أحسن.
نكتفي بهذا القدر.... ونتابع في القريب -إن شاء الله-.
بارك الله بكم اخي ابا الغيث على هذا الجهد المبارك فوالله هذا ما قصدته في امنيتي على استاذنا المجاهد من التأني في إنزال قصائده حتى لا تغبن حقها بل نعطى الوقت والمجال الكافي للنقد والتبيان ولنقل للتمتع والإستطراب بما نشاهد من درر وما يعتمل في نفوسنا من صور ومعان ما بين كل صدر وعجز .....
إلى الأمام يا ابا الغيث فأنت لها الربان فأمتعنا ...